Mısır ve Batı Tercümeleri

Muhammed Hüseyin Haykal d. 1375 AH
79

Mısır ve Batı Tercümeleri

تراجم مصرية وغربية

Türler

غادر شلي إنجلترا قاصدا إيطاليا في مارس سنة 1818، غادرها مستصحبا زوجه ماري وابنيهما وليم وكلارا، ومستصحبا كذلك جين كليرمون التي كانت تطمع في أن ترى ابنتها من بيرون فتروي غلة قلبها الظمئ شوقا لها، ومروا بليون فجبال الألب حتى نزلوا ميلانو، ومن هناك قصدوا البحيرات الإيطالية التي كانت منذ القدم مغنى الشعراء وملهمة الموسيقيين والمصورين ورجال الفن جميعا، وأعجب شاعرنا بهذه البحيرات و«بكومو» منها بنوع خاص، حتى رأى أن ليس يعدلها أو يزيد عليها جمالا غير بحيرات كلارني الأرلندية، على أنهم لم يجدوا في منطقة البحيرات الدار التي تعجبهم فعادوا إلى ميلانو حيث وجد شلي في كنيستها ملجأ تطمئن له روحه التي كانت ثائرة من قبل على كل كنيسة وعلى كل دين، وكنيسة ميلانو جديرة بأن تطمئن النفس لجمال ظاهرها وهيبة داخلها هيبة تبعث إلى النفس طمأنينة الإسلام للحياة ولما بعد الحياة، لكن أمر شلي لم يقف عند حد الإعجاب بجمال كنيسة ميلانو وهيبتها، بل إن نفسه التي كانت جموحا ثائرة على كل شيء قد وجدت في آلام الحياة وصدماتها المتوالية ما هد من ثورتها وما أراها ضعف الإنسان وعجزه التام أمام الوجود، فعاد إلى نوع من الإيمان بعظمة الوجود ممثلا في الكنائس والبيع وبيوت الله جميعا، وجعل يرى فيه ملجأ يحتمي به الإنسان من ضعفه، بل يستريح فيه إلى هذا الضعف ويطمئن له.

ومن ميلانو كتب شلي إلى بيرون في شأن اللجرا منبئا إياه بوجود أمها معهم، ورد عليه بيرون معلنا - في صراحة وقحة - أنه لن يرى لجين وجها ولن يسمح أن تعرف إليه طريقا، ورأى شلي أن لا وسيلة للتخفيف ولو بعض الشيء من حدة صاحبه إلا أن يذهب إليه في البندقية، وغادر ماري وابنيهما وذهب مستصحبا جين التي ألحت في السفر رجاء أن ترى ابنتها ولو خلسة من غير أن يعلم بيرون بوجودها، وتقابل الشاعران وتحادثا في الأمر حديثا انتهى بيرون معه إلى السماح بأن تقيم الطفلة مع أمها وشلي في دار بناحية «إست» شهرين كاملين على ألا يكون لجين بعدهما مطلب عنده أو رجاء فيه، وأعجب شلي بالمدينة السابحة غرقى في لجة الإدرياتيك وبجزرها وكنائسها وبهوائها العطر بأريج الحب المتغني والها فترات من الليل بأناشيده، الذاهب في المتاع به إلى حدود الاستغفار عنه بإقامة الكنائس الكثيرة علها تسع ذنوب أهل المدينة جميعا، وعل إحداها تكون أقرب من الأخرى إلى دعاء مستجاب.

ورأى بعد الذي عرضه بيرون وبعد ذهابه وجين وابنتها إلى إست أن المكاتبة بينه وبين ماري أصبحت لا تكفي فدعاها لتقيم معهما، ومن هناك عرفت ماري البندقية وتعلقت بها وبرمال الليدو ومصيفها، على أنها ازدادت من بعد بهذه الرمال تعلقا أن خلفت فيها ذكرى فاجعة هي الأولى في حياتها، فإن شهري «إست» ما كادا يقاربان التمام ليعود شلي ورهطه إلى ميلانو حتى كانت ابنته كلارا قد مرضت، وبرغم ما بذلت أمها من عناية بها ظل المرض متابعا سيره حتى رأوا ضرورة الذهاب إلى البندقية لاستشارة طبيب رجوا أن يكون أكثر من طبيب «إست» حذقا ومهارة، لكنهم ما لبثوا أن وصلوا هناك حتى كانت الفتاة في آخر لحظاتها وحتى أسلمت روحها البريئة الطفلة قبل أن يحاول طبيبها الحيلولة بينها وبين بارئها، وذهب شلي وذهبت ماري يحملان الجسم الصغير إلى الليدو فدفناه في رماله المختلطة صفرتها البهيجة بزرقة الموج المحيطة بها والدائمة الصفو برغم ما تحوي من أجداث ورموس يخلع عليها جلالها جمالا.

وجرحت أمومة ماري جرحها الأول وعرف الحزن إلى قلبها السبيل، لكنها سرعان ما تعزت وظهرت بمظهر القوي الذي لا يتزعزع حتى تمر به أعاصير القدر، وكان مظهرها هذا بعض تعاليم أبيها، فنحن في الحياة نؤدي للحياة واجبها بالبر بالإنسان والعطف عليه، وبتخليد النوع والقيام على تربيته، وبنشر العرفان والنور والعمل لتمتلئ بها القلوب جميعا ، وبالجهاد في سبيل الحرية كي تتمتع بها البشرية كلها، وما أحسنا أداء هذا الواجب فمن حقنا أن نكون سعداء أيا كانت النتيجة التي يسفر عنها عملنا، وكل شر لا سلطان لنا عليه ولا قوة لنا في دفعه لا موضع للأسى من أجله، وثكل الوالد ولده بعض ما لا سلطان لنا عليه من أعاصير القدر، فليكن موقفنا منه موقف إباء وكرامة لا موقف ضعف وحزن، ليكن موقفنا منه موقفنا من خصم يناوئنا ليبتز مالنا، أفترانا إذا ابتزه فأتلفه خاضعين له متخاذلين أمامه؟ أم أنا على العكس من ذلك نزداد أمامه كبرا وأنفة؟ كذلك ظهرت ماري أنوفا لم يعرف الهم ولا عرفت الدموع إلى عينها ولا إلى قلبها سبيلا، ولعل هذه التعاليم لم تكن وحدها مصدر شجاعتها ومبعث قوتها، فهذا ولدها وليم ما يزال في أحضانها فلها فيه عزاء، وها هي ذي ما تزال - كما لا يزال شلي - في مقتبل العمر وقوة الشباب، فما يزال لهما في المستقبل وأبنائه وبناته وسعادته رجاء، وكلارا التي فقدت كانت ما تزال بعد طفلة يعد عمرها بالشهور، فلا موضع للأسى عليها حتى عند أشد الناس تخاذلا أمام الحزن إلا بمقدار.

فأما شلي فقد احتمل موت طفلته في سكينة، ثم احتمل نفسه وأهله وسافر وإياهم من البندقية، وكان يشعر بأن المقام في شمال إيطاليا - وبخاصة عند مقدم الشتاء - ليس مما يبعث إلى نفسه السكينة وإلى صدره دوام ما يرجو له من عافية وبرء، فساروا منحدرين جنوبا حتى وصلوا إلى روما حيث زار شلي من آثار المدينة الخالدة ما زاده قدرا لشعر فرجيل ولشعر دانتي، وبعد إقامة قصيرة بها قصدوا إلى نابولي، وهناك على شاطئ خليجها الساحر البديع ألقى شلي عصا تسياره آملا أن يجد فيها الطمأنينة التي تيسر له الانخراط في خيالاته وتأملاته وتتيح له أن يتم قصيدته (بروموتيه الطليق) ينادي فيها كما نادى في قصيدة (الملكة ماب) بمبادئ الحرية والفضيلة، ويضع فيها الإنسان بإزاء قوى الطبيعة وما وراء الطبيعة، وقد قيدته كلها بقيودها، فإذا هو يحاول من طريق إرادته ومن طريق حرية فكره أن يحطم هذه القيود، وأن يتغلب على هذه القوى، وأن يقف منها جميعا موقف المتحكم فيها المسير لها، ثم إذا محاولته تنتهي به إلى الفوز على القوى جميعا بفضيلة صدق العزيمة والإيمان بالحرية وتقديس الحياة والجمال فيها وبالحب الطاهر الذي لا يعرف الأثرة، وإنما يشترك فيه الإنسان وسائر ما في الكون إجلالا وتقديسا لما أبدعت الحياة في الكون من جمال وجلال، وهو يضع قصيدته هذه في صورة الرواية التمثيلية جاعلا أشخاصها آلهة الأولمب وعلى رأسهم جوبتر، ومن حولهم الأرض والمحيط وعذاراه والكون وأرواحه والكواكب وأفلاكها والوقت وانسيابه، و(بروموتيه) بإزاء ذلك كله يجاهده وينتصر عليه، وهو هنا يخالف الأسطورة القديمة التي تجعل هذا البطل وقد كبلته الآلهة وألزمته قيده بسبب محاولته مناجزتها والتغلب عليها بالعقل والحيلة، وإن كثيرين من النقاد ليذهبون إلى تفضيل هذه القصيدة من قصائد شلي على كل ما سواها ويعتبرونها الدرة من شعره، فأما آخرون فيذهبون إلى تفضيل رواية (سنسي) إذ يرتفعون بها إلى مقام روايات شكسبير، على أن (بروموتيه) قد نسجت على غير طراز (سنسي)، فبينا هذه الأخيرة - على ما سترى - تعبر عن حب آثم يقع في الحياة بين أب وابنته إذا بتلك تتخذ من الكائنات كلها ومن الوجود وما فيه بعض مسرحها، وهي في هذا قد سارت على طراز قصيدة ملتون (الفردوس المفقود) وإن اختلفت عنها قوة بأن ارتفعت عليها في بعض المواضع ولم تصل إلى رفعتها في مواضع أخرى.

ولم يطل بشلي المقام في نابولي، وكأنما كانت يد القدر التي قست به حين مقامه على أرض وطنه، فجعلته لا يطيل المكث فوقها إلا ليعود إلى الارتحال عنها محملا هموما وآلاما ما تزال لم يهدأ ثائرها عليه برغم ما كان يبدع في الشعر من آيات ليست القصائد الكبرى إلا بعضها، فلقد مرض ولده وليم أثناء كانوا في طريقهم عائدين إلى روما، وخيل إلى ماري أن الأمر يسير وأن القدر لن يفجعها فجيعتين متواليتين ولن يسلبها هناءة الأمومة، وهي - بعد حب الصبا - كل ما للمرأة في الحياة من عزاء، وعاد الطبيب الطفل فنصح إليهم أن ينتقلوا به شمالا، لكنهم لم يكادوا يتهيأون للرحيل حتى أصابت الطفل نوبة من الدوسنطاريا ألزمتهم المكث إلى جانبه، وبقي شلي ستين ساعة ممسكا بيد طفله خائفا أن يفر الطفل منه إلى غيابات الأبد، ذلك بأنه كان طفلا ذكيا عطوفا رقيقا، وكان جميل الصورة إلى حد سحر النسوة الإيطاليات بزرقة العينين زرقة جذابة وبشعره الذهبي المتموج تموج الحرير الناعم نعومته، ثم إنه كان قد أصبح وحيد ماري بعد موت أخته كلارا، فالفجيعة فيه تحيي من قلبها الفجيعة الأولى وتسدل على وجهها الضحوك وعلى ثغرها العذب الابتسام سحابة كآبة وهم يصيب شلي منهما حظ غير قليل، وكان لشلي في القدر رجاء التصرف بحكمته إزاء طفل لم يقترف ذنبا يجزى من أجله بالموت بله المرض وآلامه وتباريحه، لكن المرض والموت وكل ما يصيبنا في هذا العالم من خير وشر ليس في نظر القدر جزاء عمل من أعمالنا، ولكنه لوح كتابنا لا مفر لنا من الإذعان له والسير في خطواته؛ لذلك لم يعبأ بما كان مرجوا عند شلي ومات الطفل ودفن في مقابر الإنجليز بروما، هذه المقابر التي أعجب بها شلي وتمنى لو يدفن فيها، ولم يكن يومئذ يعلم أن ما بقي من رفاته سيرقد هناك إلى جانب جثمان طفله.

مات وليم فانهارت عند ماري كل تعاليم أبيها وأسلمت للألم نفسها ولم تطق للوجود جلادا، سكب الهم ظلمته في قلبها واتشح الوجود كله بالسواد أمام بصرها ورسم الحزن على ثغرها وفي نظرتها صورة اليأس والبؤس وشرد لبها إلى قفار الانتحار، وصورت لنفسها خاتمة كخاتمة أختها فاني أملاي، وعبثا حاول شلي تعزيتها بالترويح عنها بأن انتقل بها إلى الريف من روما وأسكنها قصرا جميلا يحيط به الزهر والشجر، وما بهجة الزهر وخضرة الشجر أمام قلب كسير وبصر حزين؟! إنها كلها تنقلب سوادا وتزيده على همه هما وأسى، بل تصبح ضحكات الزهر بعض سخرية القدر، وابتسامة الخضرة شماتة بنا في مصابنا، وعبثا حاول أبوها لما علم عمق حزنها أن يردها إلى صوابها وإلى تعاليمه، فالصواب والتعاليم والمنطق والعقل أوهام وصور ما تلبث أن تطير وتتلاشى إذا هي ارتطمت بقسوة الواقع، وأي واقع أشد قسوة من الموت، بل من الثكل، ثكل الأم لوحيدها ولأمومتها؟ وشلي وحبه وحنانه أصبح هو الآخر مملولا، ثم نسي كما نسي غيره أن لم يبق من الوجود أمام ماري إلا حزنها مجسما في ذلك القبر الذي أوت إليه رفات وليم، فإذا ناداها شلي قائلا: «أين ذهبت يا عزيزتي ماري تاركة إياي وحيدا في هذا العالم القفر؟ إن صورتك الساحرة ما تزال هنا إلى جانبي، لكنك أنت قد فررت عن طريق الوحدة المؤدي إلى صوامع الحزن المظلم.» إذا ناداها شلي هذا النداء لم تزد على أن تمعن في التماس صوامع الحزن تاركة إياه يبحث عن عزائه في خير دواء لكل ألم وخير بلسم لأبلغ جرح، في العمل المتصل لأداء ما ألقت عليه الأقدار رسالته كي يشدو بها إلى العالم أنغاما سماوية، وأعانته سماء إيطاليا الصفو على متابعة تفكيراته وشدوه، على أن القدر الذي قسا كل هذه القسوة بماري لم يلبث أن دس إليها من عنده بلسم عزاء، فقد حملت وأحست في أحشائها روح الأمومة من جديد، لكنها كانت في خشية من معابثة القدر فظلت على عبوسها وإن زالت سحابة الهم التي كانت تظلها مما جعلها تنظر للحياة مرة أخرى نظرة رجاء، ولما اقترب موعد وضعها ارتحل بها شلي إلى فلورسنا لتكون في رعاية طبيب صالح، ثم إن في جو فلورنسا الجميل ما يضاعف الرجاء لمن لديه ولو قبس من رجاء، فيها أجمل ما في إيطاليا من الآثار، ويضوع ريحها بأسماء دانتي، وسافانارولا، وجيوتو، ودونانلو؛ لذلك كانت للزوجين خير موئل، فيها وجد شلي خير ما يلهم شاعريته التواقة للجمال تلتمسه في كل مظاهر الفن والطبيعة، وفيها وجدت ماري مزيدا من رجائها، حتى إذا وضعت وألفت نفسها أما من جديد في ذراعيها طفل حملته أحشاؤها عاودت ثغرها أول ابتسامة من يوم مات وليم، ودعت الوليد برسي فلورنس شلي، اعترافا بفضل زوجها في تقويتها على اجتياز محنتها، وبفضل فلورنسا التي عادت إليها فيها أمومتها وحياتها ورجاؤها.

ولما جاء الشتاء وقرس البرد في المدينة «الجميلة» نصح الطبيب إلى شلي بالسفر إلى بيزا، فذهب بأهله إليها وأقاموا بها، وهنا تألفت حول شلي جماعة يعيش كل منهم عيش العزلة، فلما وجدوا هذا الدائم الترحال استقر بينهم أحاطوا به، وانضم إليهم قسيس لقبه أهل البلد بشيطان بيزا واسمه الأستاذ المبجل باكشياني، وكان قسيسا قليل الدين وأستاذا لا يعلم الناس شيئا وزير نساء ومحبا خدمة معارفه، وكل من يمر ببيزا كان يصبح من معارفه، وقد قص هذا الشيطان على شلي قصة استدعت كل التفاته، ذلك أن للكونت فيفياني - أحد كبار أعيان بيزا - فتاتين من زواج أول، وأنه لما تزوج ثانية بعد وفاة زوجه الأولى ذهب بفتاتيه إلى الدير أن كانت زوجه شديدة الغيرة منهما لفرط جمالهما، وكان جمال كبراهما (إميليا) رائعا روعة جمال الملائكة، كما كان ذكاؤها حادا وخيالها متوقدا بما يبعث إلى كل نفس أشد الإعجاب بها والإشفاق عليها، وكان قصد أبيها من الذهاب بها وبأختها الدير أن يقيما فيه حتى يتزوجهما من شاء من غير أن يمهره الأب عنهما شيئا، فلما سمع شلي بالقصة هاجت في نفسه كل عواطفه القديمة، أليس هو يريد الكمال مجسما في أنثى لها جمال المرأة وعقل الرجل؟ وهذا هو قد ضل تقديره الكمال في هاريت جروف وهاريت وستبروك، وها هي ماري جدوين وإن كانت ما تزال من خير النسوة اللواتي عرف إلا أنها أصبحت أمامه جسما محسوسا ذا حدود وأبعاد وذكاء متجليا له كل ما فيه من حكمة وشعر، فلم يبق إذا فيها المجهول الذي يبحث هو دائبا في الكشف عنه والوصول إليه، فلنر إذا ما عسى أن تكون إميليا فيفياني هذه من صور الكمال وما عسى أن تلهمه من رائع الشعر والحكمة.

ولمح القسيس الشيطان هذه النوازع في نفس شلي فعرض عليه أن يصحبه إلى الدير، وما لبثت الفتاة أن دخلت عليهما المنظرة حتى سحر شلي وذهب به قوام رخص في لدونة واعتدال تخلع عليه ثياب الدير البسيط زينة وانسجاما وتزيد بهاء ما فيه من جمال في كل انثناء ونتوء، ومشيهة هي للعين أنغام تموج في النفس والخيال فتهزهما وتبهرهما، وشعر فاحم السواد ملقى على أكتافها ليزيد وجهها البديع القسمات وضوحا وبهرا، وعيون دعجاء تفيض نظراتها حبا شهيا فيه قوة تلتهم من تقع عليه التهاما، وجبين مصقول، وأنف أقنى، وثغر عذب، وشفاه تحدث عن فيض الرغبة، وإلى هذه الأنوثة القوية الجذابة بريق ذكاء يبدو بصيصه من حدق عيونها السوداء قويا ملتهبا، وألفت الفتاة ساعة دخولها المنظرة عصفورا في قفص، فتوجهت إليه بهذه الكلمات: «أيها الصغير المسكين، إنك لتموت اكتئابا، فما أشد إشفاقي عليك! ألا كم تتألم حين تسمع أسراب أمثالك تناديك ثم تطير مع الرياح من غيرك إلى بلاد مجهولة! أنت مثلي محتوم عليك أن تقضي هنا في سواد حظك، أواه لو كنت أستطيع إنقاذك!» وانطلقت مرتجلة مثل هذه العبارات بصوت عذب ساحر تزيده اللغة الإيطالية بموسيقاها سحرا وعذوبة، وزادت أنشودتها للطائر الحبيس بهر شلي فاستأذنها أن يعود إليها وأن يستصحب زوجته وأختها، فرضيت طيبة النفس.

وتزاوروا وتكاتبوا وأبدت ماري إعجابها بجمال إميليا وتقدير شلي إياه على أنه الجمال الأسمى، أما شلي فانطلق من فوره يضع قصيدته (إببسشديون) يصف فيها الجمال والحب ويدعو فيها إميليا لتذهب وإياه إلى قصر قديم في جزيرة أبدعها خياله بين جزر الإدرياتيك ليعيشا هناك وليسبحا بين جمال تلك الجزيرة وأشجارها وأنهارها في عزلة لا ينغصها عليهم أحد من الإنس، وإنك لتقرأ القصيدة وتبلغ أبياتها أربعة وستمائة بيت فلا ترى فيها أكثر من هذا الذي ذكرنا، لكنك تراه أثيريا يطير بك في عالم الجمال وينسيك نفسك بموسيقاه وحلاوة صوره وبديع خياله وينساب إلى روحك عذبا سلسبيلا، فلا تزداد إلا تعلقا به وتقديرا إياه، وفي ختام القصيدة يقول: «اذهبي أيتها الأبيات الضعيفة فاسجدي عند قدمي سيدتك وقولي: إنني سيدة عبدك فمري أمرك فينا وفيه، ثم تنادين مع أخواتكن من سائر شعري واسجعن متغنيات: «عذب في الحب حتى ألمه، لكن جزاءه في هذا العالم قدسي لأنه إن لم ينلنا في الحياة تبعنا إلى ما وراء قبرنا»، وأنت لا ريب ستحيين في حين أكون أنا قد أويت إلى هناك، فأسرعي فوق قلوب العباد حتى تقابلي ماريتا وفانا وبريموس وسائر صواحبك، ثم أهيبي بهن أن يحب بعضهن بعضا وأن يبارك بعضهن بعضا، ودعي فيما وراءك قطيع الخاطئين الطاعنين على غيرهم بخطاياهم وتعالي فكوني ضيفي، فإنما أنا ضيف الحب.»

Bilinmeyen sayfa