Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Türler
هو من قبيلة الداناقلة، ولد في جزيرة اسمها (نبت) مقابل دنقلا (وقال آخرون في حنك) سنة 1848 ويقال إن نسبه ينتهي إلى الشيخ القرفي صاحب كتاب الفروق، اشتهرت عائلته باصطناع سفن سودانية يضرب المثل بدقة صنعها ومتانتها، وكان اسم والده عبد الله، هاجر إلى شندي بأولاده كلهم، ومحمد أحمد لا يزال طفلا، فقضى محمد أحمد حداثته في صناعة السفن ولم يكن ميالا إليها، على أنه كان يختلف في أثناء ذلك إلى المدرسة، فحفظ القرآن وهو في الثانية عشرة، ويقال إنهم عهدوا بتربيته وتدريبه في إتقان صناعة السفن إلى عمه شريف الدين في جزيرة شبكة بالقرب من سنار، فاتفق أن عمه هذا ضربه مرة ففر إلى الخرطوم وانتظم في سلك طلبة طريقة الفقراء، وهي من الطرق الشهيرة في السودان بمدرسة خوجلي بالقرب من الخرطوم، وخوجلي هذا مقام شهير هناك يؤمه أهل الخرطوم وضواحيها يتبركون به، فقضى في هذه المدرسة بضع سنين ثم انتقل إلى بربر فدخل مدرستها، ثم انتقل منها إلى قرية أرداب وتناول العلم فيها على الشيخ نور الدايم، وعنه تناول سر طريقة الفقراء سنة 1871، ويقول الإمام السيد الميرغني: إنه أخذها عن القرشي هذا؛ كان عنده فرس لا تلد، فقال: إن فرسي هذه ستلد ويركب نتاجها المهدي فأخذها محمد أحمد فولدت عنده.
وكان قوي الذاكرة فحفظ القرآن وشيئا من الحديث، وجاء جزيرة آبا جنوبي الخرطوم وأقام فيها، وكان حسن الأسلوب لين العريكة، فطنا حاد الذهن، فصيحا قوي الحجة، إذا خطب أثر في السامعين، فمال الناس إليه وأحبوه، فكان يذكر ويعظ ويصلي ويظهر التقوى والزهد والاعتزال عن العالم ، والناس يتقاطرون إليه أفواجا، وأكثرهم من قبيلة البقارة المشهورين بالقوة والشدة، فكانوا يلتفون حوله حلقات يذكرون وينشدون.
وقد قال سلاطين باشا في حداثة هذا المهدي ما يخالف هذا القول؛ من ذلك قوله: إنه ولد في جزيرة أرقو قرب دنقلة، وأنه سار إلى بربر وانتظم في حلقة محمد الخير ثم ذهب إلى الخرطوم وانتظم في حلقة الشيخ محمد الشريف من شيوخ الطريقة السمانية، ثم انتقل إلى جزيرة آبا، واتفق أن بعض التلامذة احتفل بختان أولاده فاجتمع في الحفلة جماعة كبيرة غنوا ورقصوا، فنهاهم محمد أحمد عن ذلك لأن الشريعة لا تجيزه، وأن شيخ الطريقة نفسه لا يقدر أن يجيزه، فبلغ الشيخ محمد الشريف ذلك فغضب واستحضر محمدا فجاء ذليلا والتمس العفو فلم يعف عنه، بل وبخه ومحا اسمه من سجل الطريقة، فخرج محمد أحمد مطرودا ثم عاد وقد ذر الرماد على رأسه، وجعل في عنقه الشعبة وهي عود ذو شعبتين توضع في العنق علامة التذلل والاستعطاف، فانتهره محمد الشريف وطرده وأهانه، فلم يعد محمد يستطيع الكظم فالتجأ إلى شيخ آخر من الطريقة المذكورة اسمه الشيخ القرشي، وكان بينه وبين الشيخ الشريف منافسة فخاف هذا عاقبة الأمر فاستقدم محمد أحمد واستدناه فأبى، وكان الإباء رنة في آذان أهل السودان، وعظم محمد أحمد في عيني الناس وانتقل إلى جزيرة آبا، وبعد قليل مات الشيخ القرشي فبنى محمد على قبره قبة، وبالغوا في إكرامه نكاية بالشيخ الشريف، وازداد الرجل شهرة بالتقوى والكرامة في معظم أنحاء السودان، وهو إلى ذلك الحين لم يدع المهدوية.
وكان استبداد جباة الأموال ضاربا أطنابه وحال السودان كما تقدم من القلاقل والاضطراب، فكان محمد أحمد إذا ذكر الضيق الذي أصابهم من ظلم الجباة نسب ذلك إلى خطية بني الإنسان وأن العالم قد فسد والناس قد ضلوا عن سواء السبيل فنالهم ما نالهم من غضب الله، وأن الله سيبعث رجلا يصلح ما فسد ويملأ الأرض قسطا وعدلا هو المهدي المنتظر، وقد كان ذلك حديث الناس في سائر أنحاء السودان فحينما اجتمعوا تحدثوا فيما يقاسونه من الضنك وما ينتظرونه من الفرج على يد ذلك المنتظر حتى أصبح لفظ «المهدي» يدوي في سائر مجتمعاتهم ومنازلهم، في الأكواخ، والأسواق، والمساجد، والزوايا، على الطرق وفي العطمور، وحيثما وجد اثنان أو ثلاثة فلا حديث لهم إلا الفرج المنتظر على يد المهدي.
فلما رأى محمد أحمد ذلك وآنس من الناس ارتياحا إلى أقواله وإصغاء إلى مواعظه خطر له أن يكون هو صاحب ذلك الأمر، على أنه لم ينطق به حتى سألوه: ألعلك المهدي المنتظر؟ فقال: «أجل، أنا هو» فأخذ يبث تعاليمه والناس يقدمون إليه ويسلمون له، فانتشر خبره رويدا رويدا من جزيرة آبا على ضفاف النيل حتى وصل الخرطوم وما والاها، فآمن بدعوته قبائل البقارة ورئيسها علي ولد حلو، ولم يكن إيمان البقارة به لمجرد اعتقادهم بمهديته، ولكن أكثرهم من النخاسين الذين نقموا على الحكومة لمنع الرقيق. ومكن هو علاقته معهم بعد ذلك بالتزوج ببنات كثيرين من كبارهم.
وكان في جملة الذين يجتمعون عليه عبد الله التعايشي من قبيلة التعايشة، وكان يشتغل بالتنجيم وكتابة الأحجبة، وله شأن كبير في قبيلته، فقال له محمد أحمد: أنت وزير المهدي، فقال عبد الله: إني في انتظار مجيئه، فإذا كنت إياه اظهر وأنا ناصرك. فقال: نعم أنا هو، فآمن به فاستوزره، فكان هو وقبيلته أنصارا له، واتفق ظهور نجم ذي ذنب سنة ظهوره، فاعتقد أهل السودان أن ذلك النجم إنما هو راية المهدي تحملها الملائكة.
ووصل خبر هذه الدعوة إلى الخرطوم سنة 1881 وحكمدارها رءوف باشا فأنفذ إليه رجلا من خاصته اسمه أبو السعود ليستقدمه إلى الخرطوم، فسار في أربعة من العلماء على باخرة حتى أتوا جزيرة آبا، فلما نزلوا على الشاطئ نادوا بأعلى أصواتهم: أين المهدي؟ فجاء محمد أحمد ويداه مخبأتان في ثوبه وجلس على عنقريب (مقعد سوداني) بجانب أبي السعود، فقال له أبو السعود: «ما هذا الذي قمت به؟» فأجابه محمد أحمد بلطف ودعة: «أنا هو المهدي.» فقال أبو السعود: «ولكن يجب أن تذهب.» فنهض محمد مغضبا ويده على قبضة حسامه، وصاح به: «لا، لا أذهب.» فخاف أبو السعود وترك الرجل للحال، وأخذ علماءه وعاد بباخرته إلى الخرطوم فوصلها ليلا، فأيقظ رءوف باشا من فراشه، وأنبأه بما كان، وقال له: أعطني خمسين رجلا وأنا آتيك بهذا المنافق، فأذن له فسار بهم حتى أتوا الجزيرة فنزلوا إليها، وبقي أبو السعود في الباخرة، وهم يفكرون في كيفية الهجوم على المتمهدي، هجم رجاله عليهم بغتة، وقتلوهم عن آخرهم، فاشتد أزر المهدي وتمكن اعتقاد أتباعه بدعوته.
على أنه أدرك خطر مقامه بالقرب من مركز الحكومة فرأى أن يوغل في السودان ريثما تتكاثر أحزابه فولى مكانه رجلا اسمه أحمد المكاشف، وغادر آبا قاصدا جبل كردوفان، وسمى انتقاله هذا «الهجرة».
وكان في كاوا على النيل الأبيض على مسافة خمسين ميلا من آبا شمالا قوة عسكرية مصرية مؤلفة من 1400 رجل تحت قيادة محمد سعيد باشا، فاقتصت آثار محمد أحمد فأوغل هو في جنوبي كردوفان، فتعقبته شهرا حتى هلكت ولم تدرك منه وطرا، ثم انتقل محمد أحمد إلى جبل قدير فحارب رشيد بك حكمدار فشودة وتغلب عليه في 9 ديسمبر سنة 1881 وكتب إلى القبائل يدعوهم إلى الاعتقاد بدعوته والأخذ بناصره.
فلما علم رءوف باشا بفشل سعيد باشا ورشيد بك هاله أمر المتمهدي وأخذ يجمع الجند من دنقلة وبربر ودار الشايقية، والثورة آخذة في الانتشار، فانضم إلى المهدي عرب الشلك وأصبحت قبائل الكبابيش في شمالي كردوفان، والرفاعة في سنار، والبشارين بين سواكن وبربر تتردد بين الطاعة والعصيان.
Bilinmeyen sayfa