توطئة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا كثيرا، والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله المنتجبين الغر الميامين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
فإن علم أصول الفقه علم كثير نفعه غزيرة فائدته، لا يستغني عنه مجتهد يقرع أبواب الاستنباط لأنه أداته اللازمة وعدته الملازمة.
وقد عرف هذا العلم بأنه «العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية».
وصنف علماؤنا - جزاهم الله كل خير - أسفارا ضخمة وكتبا قيمة في هذا الفن، ونقحوا وزادوا في أبوابها كل بحسب ما وصل إليه رقي هذا العلم في عصره، وما أبدعه فكره... حتى جاء عصر الوحيد البهبهاني الذي بلور الأصول، ووقف أمام المد الأخباري، وتمكن من وضع اللبنة الأصولية الجديدة وأقام على أساسها مدرسته PageV0MP005
العلمية الرصينة الكبرى، وتخرج على يديه المئات من العلماء، وأنتجت تلك المدرسة عشرات الكتب القيمة كمفاتيح الأصول والفصول والضوابط وغيرها.
وكان حصيلة هذه المدرسة هو شيخنا الأنصاري الذي كتب فرائده ليكون بذلك رائدا لمدرسة أصولية جديدة، فأجهد نفسه لبث أفكاره وآرائه في تلاميذ مدرسته والتي بقيت مستمرة إلى يومنا هذا.
ومن تلامذته المتأثرين بأفكاره هو سيدنا الإمام المجدد الشيرازي الكبير الذي أخفى جميع ما كتبه من جهود علمية احتراما لشيخ العظيم.
وقد وفقنا الله تعالى فحصلنا على هذا الكتاب - الذي بين يديك - من خزانته المحفوظة عند حفيده آية الله السيد رضي الشيرازي والذي تفضل مشكورا بإرساله إلينا، وهو تقريرات درسه في الأصول كتبها تلميذه العلامة المولى علي الروزدري، والذي، توفي في حياة أستاذه.
وهو تقرير جيد السبك، عميق المطالب، جزل العبارة، سهل التناول، فيه الكثير من الآراء الجديدة والأفكار القيمة الفريدة.
وكانت مقدمة الكتاب - بعد أن ظهر محققا - بقلم سماحة الدكتور حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد بحر العلوم، ترجم فيها للمؤلف وللحركة العلمية، فلله دره وعليه أجره.
هذا ونشكر أصحاب السماحة حجج الإسلام الشيخ محمد رضا خراشادي والشيخ محمد جواد أنصاريان للجهد الذي بذلاه في تحقيق هذا الكتاب وتصحيحه وتخريج أحاديثه، زاد الله في توفيقهم وحشرهم مع الأئمة الأبرار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. PageV0MP006
المقدمة الإمام المجدد الشيرازي بقلم: د. السيد محمد بحر العلوم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين رسول الله محمد وآله الغر الميامين وعلى أصحابه المنتجبين.
وبعد:
فقد طلب إلي أن أقدم هذا الكتاب القيم الذي مع القراء الكرام اليوم، وهو تقريرات الإمام المجدد السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي - رضوان الله عليه - نظرا لما لهذه الشخصية العظيمة من مركز مرموق لدى المسلمين، فأرجو أن أوفق لوضع دراسة عنه تتناسب ومكانته العلمية ومنزلته الاجتماعية، والله ولي التوفيق. PageV0MP007
الفصل الأول جامعة النجف العلمية تتحدى الزمن اقترن اسم النجف الأشرف - كمدينة جامعية يبحث فيها علوم الشريعة الإسلامية - باسم شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن حسن الطوسي، الذي انتقل إليها بعد الحوادث الطائفية الدامية التي نشبت في بغداد عام 449 ه، والتي أدت إلى قتل ودمار واضطهاد المسلمين الشيعة الذين يسكنون بغداد. واعتبر هو المؤسس الأول لهذه الجامعة العلمية الشامخة عبر القرون والأيام. كما بقيت مستمرة بين شدة وضعف تقطع أشواطا بعيدة في مسيرتها الجامعية، وهي تسجل لمؤسسها دور القيادة والزعامة بكل تقدير وإكبار.
وجامعة النجف مرت في ثلاثة أدوار:
الأول - بدأ بانتقال الشيخ الطوسي عام 449 ه - إلى النجف، وأسس فيها الحوزة العلمية، وبقيت من بعده تدار من قبل تلامذته الأعلام، وترى بعض المصادر أن الفترة التي تلت وفاة الشيخ الطوسي من أنشط العهود بالنسبة للحركة العلمية في الجامعة النجفية، وإن الوضع الدراسي قد بلغ أوجه وشدة عنفوانه في عصر ولده الشيخ الحسن بن محمد بن الحسن المعروف بأبي علي الطوسي المتوفى سنة 515 ه، ويمكن أن تكون امتدادا لعهد الشيخ والده ().
وإذا ما جاء عهد الشيخ محمد بن أحمد بن إدريس في القرن الخامس حتى نقل الحوزة العلمية من النجف إلى الحلة وقد تكاملت عناصر هذا الانتقال في أوائل القرن السابع الهجري، ونشطت الحركة العلمية فيها إلى حد كبير.
وزعم هذا الانتقال العلمي من النجف، فإنها بقيت محتفظة بطابعها العلمي PageV0MP008
وإن كان على نحو ضيق، ولقد دفع هذا الانتقال بعض الكتاب إلى البحث عن أسباب ذلك، وانتهوا إلى نقاط عديدة أهمها، بروز زعيم حلي للحركة العلمية وهو الشيخ ابن إدريس، والذي وصف بأنه مثل ثورة علمية حول الأنظار إليه، وقصده المشتغلون في علوم الشريعة للاستفادة منه في موضع سكناه، والذي أصبح مركزا علميا من بعده، تناوب على زعامة المركز العلمي في الحلة من بعده الأعلام الحليون أمثال:
المحقق الحلي المتوفى عام 676 ه والعلامة الحلي المتوفى عام 727 ه - وغيرهما من أعلام البيوتات العلمية التي اشتهرت هناك بالفضل والاجتهاد والزعامة الدينية، كآل إدريس، وآل شيخ ورام، وآل فهد، وآل طاوس، وآل نما ()، وغيرهم.
الثاني - ويبدأ في النصف الأخير من القرن العاشر الهجري وقد استعادت الجامعة النجفية مركزها العلمي بعد أن احتضنتها الحلة مدة ثلاثة قرون، وذلك في عهد المحقق الأردبيلي أحمد بن محمد، الذي برز في النجف الأشرف علما شامخا، التف حوله أهل العلم من كل الأطراف، وصارت الجامعة النجفية من أعظم مراكز العلم في عهده ().
وذكر من أسباب عودة الحياة العلمية إلى الجامعة النجفية - بعد انتقالها إلى الحلة - هي:
أن السلطة الجلائرية والإيلخانية - واللتين حكمتا بغداد زمانا ليس بالقصير - كانتا على قصد في إحياء الحركة العلمية في الجامعة النجفية، وجعلها قوة دفاعية للشيعة، ومركزا مهما يقابل بغداد.
ففي بغداد حركة علمية سنية تدار من قبل السلطة الحاكمة حينذاك في العهد العباسي ذات عروق وأصالة، والسلطتان المتقدمتا الذكر هما القوة المقابلة PageV0MP009
للخلافة، كما كان الأمر في عهد البويهيين.
ولهذا كان لهاتين السلطتين أثر في دعم الجامعة النجفية، واهتمامهم بها كمصدر للإشعاع العلمي المعبر عن علم أهل البيت عليهم السلام.
وذهبت بعض المصادر إلى أن المدة التي عاشتها الجامعة النجفية في دورها الثاني هو من عام 750 - 1150 ه، غير أن الدلائل تشير إلى أن العهد بدأ في عهد المقدس الأردبيلي الذي هو من أعلام القرن العاشر الهجري، وحتى نهاية القرن الثاني عشر، حيث انتقلت إلى كربلاء نتيجة عوامل عديدة أهمها بروز مدرسة الوحيد البهبهاني، المولى محمد باقر بن محمد أكمل المتوفى عام 1208 ه، وتصفها المصادر بأنها افتتحت عصرا جديدا في تاريخ العلم، والتي اكتسبت الفكر العلمي في العصر الثاني الاستعداد للانتقال إلى عصر ثالث ().
وعاشت هذه المدرسة قرابة السبعين عاما، وهي تكاد تفتح آفاقا جديدة في الكيان العلمي الكربلائي، كان له صدى حافل بالإكبار والتقدير.
الثالث - وهو - كما تصفه المصادر - عصر الكمال العلمي وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدمته من جهود متضافرة في الميدانين: الأصولي والفقهي.
وقد تمثلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمة ().
وعادت النجف إلى ميدانها العلمي كمركز أول - من بعد هذه الفترة - للحركة العلمية التي تمثل مدرسة الوحيد البهبهاني على يد تلميذه السيد محمد مهدي PageV0MP010
بحر العلوم الطباطبائي بعد أن عاشت زمانا وهي تتفاعل بتأثيرات المدرسة الفكرية في كربلاء.
ولنا أن نسمي هذا العصر بعصر النهضة العلمية لكثرة من نبغ فيه من العلماء والفضلاء، ولكثرة تهافت الناس على العلم فيه، وازدياد الطلاب ().
وكانت مظاهر هذا الدور بارزة في مجالي الفقه والأصول إلى جانب بقية العلوم التي دللت النجف على اختصاصها بها، بالإضافة إلى الطابع الأدبي.
ففي حقل الفقه: نرى أنه تطور في هذا الدور تطورا محسوسا لما دخله من عنصري البحث والنقد، ولما تحلى به من قابلية النقض والإبرام، والتعمق والتحليل، وخاصة في ملاحظات الروايات من حيث السند والدلالة والفحص عن مدى وثوقها عند الماضين من العلماء الأعلام، وعرض المسائل الفقهية حسب الأدلة الاجتهادية والفقهية.
فالتجربة العلمية التي عاشتها النجف في دورها الثالث في حقل الفقه كان لها الأثر الكبير في إبراز عطاء ناضج يدل على سعة في الأفق، ووفرة في الاطلاع، ولذا وصف بدور التكامل والنضوج.
أما في حقل الأصول: فقد يكون من الواقع أن يطلق على هذا الدور، دور الكمال العلمي، فإن المرحلة الجديدة التي دخلها علم الأصول كان نتيجة أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمة.
وما أن بلغ العهد بالمحقق الشيخ مرتضى الأنصاري المتوفى 1281 ه، حتى اعتبر رائدا لأرقى مرحلة من مراحل الدور الثالث التي يتمثل فيها الفكر العلمي PageV0MP011
منذ أكثر من مائة سنة حتى اليوم ().
وتعهد الحركة العلمية بالعطاء والتجديد من بعده عدد من ألمع أقطاب المدرسة العلمية النجفية أمثال: المجدد السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، وتلاميذه مثل: الملا الشيخ محمد كاظم الخراساني، والميرزا حسين النائيني، وتلاميذ الخراساني مثل: الشيخ محمد حسين الأصبهاني، والشيخ آقا ضياء العراقي، وغيرهم إلى عصرنا المعاش من أقطاب هذه المدرسة وقدر لهم أن يرتفعوا إلى القمة العلمية، ويوفروا للأجيال تراثا ضخما يستنير به العاملون في هذا الحقل، ويستفيد منه رواد المدرسة الفقهية والأصولية على مر الزمان.
ولقد مرت على الجامعة العلمية ظروف قصيرة انتقلت فيها المرجعية الدينية إلى كربلاء أو الكاظمية أو سامراء أو قم أو غيرها، بسبب عوامل سياسية أو اجتماعية أو دينية وغير ذلك، ولكن ما كان وجود هذه الجامعة ينعدم بسبب عامل الانتقال، وإذا تقلص إلى حد ما فان ظلال الشموخ العلمي يبقى الطابع المميز لها - كما هو الحال في العصر الحاضر -. PageV0MP012
الفصل الثاني الإمام المجدد الشيرازي من بعد وفاة علم النهضة الفكرية المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري وزعيم الحوزة النجفية الفقهية والأصولية تعالت الاستفسارات عمن يشغل مركز الزعامة العلمية والدينية ويكون مرجعا للمسلمين عام 1281 ه، وبقيت الأمة المسلمة تبحث عمن يسد هذه الثلمة، ويكون مرجعا لها في تبليغ الأحكام الشرعية، وتبقى الأنظار مشرعة إلى النجف الأشرف وإلى الصفوة المؤمنة من خاصة المرجع الراحل ورائد المدرسة الفكرية في الجامعة النجفية، لتقول كلمتها بشأن المرجع الجديد، وهل في خاصة الشيخ الأنصاري من يسد الشاغر ويغطي منطقة الفراغ؟ كما هناك من غير خاصة الشيخ الأنصاري من يملك المؤهلات التي توصله لهذا المنصب الذي له في نفوس الجماهير القداسة والاحترام، بصفته القيادية والروحية.
والمرجعية عند المسلمين الشيعة تختلف عن غيرهم، فهي لم تكن بأمر من حاكم، ولا بتعيين من سلطان، إنما هي الامتداد الطبيعي لمسلك الأئمة الهداة الميامين من العترة الطاهرة، الذين هم عدل الكتاب جملة وتفصيلا، والذين نص عليهم النبي صلى الله عليه وآله مبتدأ بعلي وخاتما بالمهدي عليهم السلام وإذا ما انتهى الدور إلى المهدي عليه السلام أسند الدور إلى الفقهاء الرساليين الذين يتصفون بالمؤهلات التي توصلهم إلى قيادة المرجعية، والتي هي بمعناها الواسع قيادة الأمة في أمور دينها ودنياها، لا تخضع لإرادة السلطان، ولا بحاجة إلى تعيين الحاكم، إنما هي منصب ديني تشهره المؤهلات العلمية المرتبطة بالعقيدة الإسلامية فقها وتشريعا، وتسدده العصمة الشخصية من الانزلاق في مهاوي الذات ودوافع الدنيا، وخوف الله سبحانه من التدني فيما لا يرضيه ولا يحمده (). PageV0MP013
وهذا المنصب الديني العلمي لا يمكن أن يبقى شاغرا في قيادة الأمة، لأنها بحاجة إلى من يرشدها إلى طريق الصواب، ويأخذ بيدها إلى ما يبرر عملها وحاجتها الآنية التي يترتب عليها الثواب والعقاب.
وحين لبى الزعيم الروحي، ورائد الجامعة العلمية النجفية الشيخ الأنصاري نداء ربه، كان من الطبيعي أن يلمع اسم من يملأ هذا المنصب، فالأمة لا تبقى بدون مرجع، وكان اسم السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي هو الأول من بين الأسماء اللامعة المرشحة لهذا المنصب، وفعلا تم الاتفاق عليه، وسد الشاغر، وأصبح المرجع الروحي للشيعة الإمامية. ولنتعرف على هذا الإمام، الذي عرف فيما بعد بالمجدد الشيرازي.
1 - من هو السيد الشيرازي، ونشأته؟
السيد أبو محمد معز الدين الميرزا محمد حسن بن ميرزا محمود بن محمد إسماعيل بن فتح الله بن عابد بن لطف الله بن محمد مؤمن الحسيني، المنتهي نسبه إلى الإمام الحسين عليه السلام.
وقد وصفته المصادر ب: الشيرازي المولد، الغروي المنشأ، العسكري المهاجر، النجفي المدفن (). PageV0MP014
وقد اشتهر ب الميرزا الشيرازي ()، كما عرف ب المجدد الشيرازي ().
ولد رحمه الله في شيراز عام 1230 ه، وتولى تربيته خاله المرحوم السيد ميرزا حسين الموسوي، لأنه فقد والده المرحوم السيد محمود وهو طفل صغير ().
وكان بيته معروفا بشيراز، وله في ديوان دولة شيراز شأن ()، ولكن خاله أراد ان ينشئه خطيبا، فوجهه إلى ذلك منذ نعومة أظفاره، كما وجهه لتعليم القراءة والكتابة وحفظ النصوص، وكان سريع التعلم إذ تشير المصادر المترجمة له بأنه قطع شوطا مميزا في هذا المضمار وهو لم يكمل السابعة من عمره، ولقد شرع بدراسة العلوم العربية ومن بعدها في علمي الفقه والأصول وهو في السادسة من عمره ().
والظاهر أن السيد - قدس سره - كان يتمتع بقابلية جيدة من الذكاء والفطنة، مما ساعده على تقبل هذه العلوم وتلقيها بصورة أهلته لدراسة كتاب شرح «اللمعة الدمشقية» () وهو في الخامسة عشرة من سنيه (). PageV0MP015
حتى إذا أكمل دراسة الكتب الأولية المقررة للدراسة الحوزوية وهي ما تسمى ب «السطوح» انتقل إلى أصبهان عام 1248 ه - لأنها كانت مركزا مشهورا لدراسة علوم الشريعة - حينذاك - لما تضم من أعلام الفقه ومدرسي الأصول، وقد وصفتها المصادر - حينذاك - ب «دار العلم» ()، وكان عمر السيد لم يصل الثامنة عشرة ().
فقرأ - هناك - على الشيخ محمد تقي، مؤلف حاشية «المعالم»، ثم حضر على مير السيد حسن البيد آبادي الشهير بالمدرس حتى حصلت له الإجازة منه قبل بلوغه العشرين من العمر (). كما حضر درس الشيخ محمد إبراهيم الكلباسي فترة من الزمن.
2 - الهجرة إلى الجامعة النجفية:
أغلب طلاب العلوم الدينية الشيعة في الأقطار الإسلامية يضعون نصب أعينهم، وهم يشتغلون في الخط العلمي الحوزوي أن يقضوا جزءا من شوطهم العلمي في الجامعة النجفية، يستفيدوا من أساتذتها، وينتهلوا من معرفة أعلامها، ويتبركوا بزيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام.
هذه الجامعة الدينية، والتي اعتبرت المركز العلمي الأول للدراسات الإسلامية الشيعية من مدة تزيد على عشرة قرون، من اليوم الذي هبط فيها شيخ الطائفة، أبو جعفر الطوسي - رحمه الله... وليس من الصدفة، أو من باب الاتفاق أن يختارها شيخ الطائفة مركزا علميا، وإنما اختارها ليستمد علماؤها من روحانية الإمام الصافية - حياة روحية تلتقي فيها خطوط حياته، ويكمن فيها سر عظمته، وليعود العلم إلى منبعه ومصدره، فتلتقي فيها النهاية بالبداية، تلاحقها في صفائها، PageV0MP016
وتتابعها في مسلكها ().
ومترجمنا - أعلى الله مقامه - وهو قد أكمل الدراسات الأولية للعلوم الإسلامية، خاصة المتعلقة بالفقه والأصول، أصبح مؤهلا لتحصيل الدراسات العليا، والتي تعتمد التلقي المباشر من الأستاذ دون واسطة كتاب وهي ما تسمى في عرف الحوزويين ب: «بحث الخارج» ()، قرر الانتقال إلى الجامعة النجفية، والتي كانت تزخر بأعلام الفقه والأصول - حينذاك - في مقدمتهم: المرحوم الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، مؤلف الموسوعة الفقهية الإمامية «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام».
والمحقق المجدد الشيخ مرتضى الأنصاري الذي يعتبر رائد المدرسة الأصولية الحديثة.
وفي عام 1259 ه - حقق أمله العلمي حيث انتقل من أصبهان إلى النجف الأشرف متبركا بالتشرف بزيارة مرقد الإمام علي عليه السلام، ثم التحق بدرس المرحوم الشيخ صاحب الجواهر، فقيه الطائفة وشيخ حوزة النجف العلمية، كما استفاد من غيره في بداية وصوله إلى النجف، كالمرحوم الشيخ مشكور الحولاوي، والشيخ PageV0MP017
حسن الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء مؤلف كتاب «أنوار الفقاهة»، كما تتلمذ لفترة قصيرة على السيد إبراهيم بن محمد القزويني الحائري المتوفى عام 1263 ه - المقيم في كربلاء، صاحب كتاب «ضوابط الأصول».
غير أنه استقر على ملازمة درس شيخ الطائفة المرتضى الأنصاري، وكانت عمدة استفادته منه، فقد لازم أبحاثه فقها وأصولا حتى وفاة الشيخ في عام 1281 ه - وفي خلال ملازمته لدرس الشيخ الأنصاري توطدت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه إلى درجة أن أخذ الشيخ يعظمه بمحضر طلابه، وينوه بفضله، ويعلي سمو مرتبته في العلم، كما أشار إلى اجتهاده أكثر من مرة، في حين لم يشر إلى اجتهاد أحد من قبل - كما يقال - ().
ولعل أهم إشارة في هذا الصدد من الشيخ الأنصاري ما ذكر أنه قال مرارا:
بأني أباحث لثلاثة (أشخاص) الميرزا حسن الشيرازي - المترجم - والميرزا حبيب الله الرشتي، والآغا حسن الطهراني ().
كما أن الشيخ الأنصاري كان إذا ناقشه الميرزا الشيرازي أثناء الدرس يصغي إلى كلامه، ويأمر الحاضرين بالسكوت، قائلا إن جناب الشيرازي يتكلم ().
وكان يحاول أن يعيد نقاشه أو إشكاله على عامة الطلاب، نظرا لأهميتها، وتعميم الفائدة منها ثم كان يرد عليها أو يناقشها بأصالة وعمق.
من هذه المفردات التي تبدو صغيرة، لكنها في واقعها كبيرة، كانت تؤشر إلى شهادة ضمنية من الشيخ الأنصاري إلى المكانة العلمية التي وصل إليها السيد الشيرازي. PageV0MP018
الفصل الثالث الرئاسة والمرجعية وحين انتقل الشيخ الأنصاري إلى جواز ربه عام 1281 ه، ثلم في الإسلام ثلمة كبيرة، وخسرت المدرسة النجفية العلمية رائدها الكبير ومجدد أفكارها العلمية، وكان على أعلام هذه المدرسة أن تحدد المرجع الديني الذي يجب أن يسد الشاغر بوفاة شيخ الطائفة الأنصاري، والعيون مشدودة - بطبيعتها - إلى النجف الأشرف، موئل العلماء، ومركز الثقل الديني في العالم الإسلامي الشيعي.
وتشير المصادر بأن تلامذة الشيخ الأنصاري اجتمعوا في دار الشيخ ميرزا حبيب الله الرشتي () - من مبرزي تلاميذ الشيخ - قدس سره - وتدارسوا أمر المرجعية العامة، وترشيح من هو أهل لها، واتفقت كلمتهم على تقديم الميرزا الشيرازي لرئاسة المرجعية لما له من المؤهلات والخصائص التي تجعله أن يكون المرشح الأكثر قبولا لدى الأمة، وكانت العلامة التي أوضحت هذا المعنى أن قدم للصلاة والدرس بعد وفاة شيخهم الكبير المرتضى الأنصاري، وحين توفي الحجة الكبير السيد حسين الكوهكمري، المعروف بالسيد حسين الترك، الذي رجع إليه أهالي «أذربيجان» في التقليد بعد الشيخ الأنصاري، ثنيت الوسادة للسيد الشيرازي وأصبح المرجع الوحيد للإمامية في سائر البلاد الإسلامية ()، والمشار إليه في إصدار الإفتاء وشؤون المسلمين. PageV0MP019
أ - مميزات مرجعية الشيرازي:
وعن أهم مميزات شخصية السيد المجدد () الشيرازي كمرجع للأمة وزعيم للحوزة العلمية، يمكن حصرها بالآتي:
1 - إن إجماع تلاميذ المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري قام على اختياره لمنصب المرجعية دون أن ينازعه أحد في هذا المركز.
2 - انحصار المرجعية العامة للإمامية بعد وفاة الشيخ الأنصاري، ولم يشذ عن ذلك إلا أهالي أذربيجان، لأنهم قلدوا علما من أعلامهم، هو السيد حسين الترك - كما أشرنا -، وبعد وفاته قلد الأذربايجانيون السيد الشيرازي، ولم تبرز مرجعية أخرى في عهده إلى جانب مرجعيته (). PageV0MP020
3 - إن مرجعية السيد المجدد الشيرازي، بالإضافة إلى سعتها في البلاد الإسلامية، كان لها مركزية في الحوزات العلمية، ونفوذ كلمة في الأمة، وانقياد إيماني بشخصيته الكبيرة، يقول المرحوم الطهراني: (ولم يتفق في الإمامية رئيس مثله في الجلالة، ونفوذ الكلمة، والانقياد له) (). وسوف يمر علينا الحديث في الجانب السياسي عن تأثيره الروحي ونفوذ كلمته في الأمة عند التحدث في قضية «التنباكو».
والواقع أن انقياد الجماهير للزعامة الدينية، وإن كان نابعا من الإيمان العقائدي، لكن الانشداد والانقياد يتبع شخصية الزعيم الذي يتولى هذه المسؤولية الخطيرة، ومدى تأثيرها الروحي على الأمة.
4 - ان السيد المجدد الشيرازي - رغم اهتماماته الكبيرة في متطلبات المرجعية، كان لا يغرب عن باله تفقد العلماء في العراق وخارجه، وطلاب الحوزات العلمية، والتعرف على أحوالهم المعاشية، والاهتمام بسد حاجاتهم المادية، وحل مشاكلهم أينما كانوا. إذ كان له عيون ورقباء يوصلون له الأخبار عن ذلك في الخارج، وكانت الأخبار تصل إليه باستمرار، ويهتم بمعالجتها، ووضع الحلول لها، والإيعاز لوكلائه وممثليه في البلاد الإسلامية بما يقتضي لتلكم القضايا.
أما الحوزات العلمية في العتبات المقدسة، فكانت موضع اهتمامه بصورة خاصة، اعتقادا منه أن البلدان التي تضم المراقد المقدسة يجب أن تطغى فيها الواجهة العلمية الدينية، تشويقا لطلاب العلوم المهاجرين الذين يرغبون في التحصيل العلمي الديني والتبرك بمجاورة مراقد أئمة الهدى من آل بيت المصطفى عليهم السلام، وهذا التشجيع لم يقتصر على طلاب العلوم الدينية، انما امتد إلى بعض العلماء المشاهير ()، بغية إبقائهم في أماكنهم، وعدم انتقالهم إلى بلدانهم، التي تتوفر لهم فيها سبل العيش أكثر من أي مكان آخر. ولا شك أن وجودهم وسط الحوزات العلمية في العتبات PageV0MP021
المقدسة في العراق خاصة يساعد كثيرا على حضور طلاب العلم إليها، والالتفات حولهم واستفادة من التتلمذ عليهم.
5 - وهو إلى جانب مكانته العلمية، وزعامته العامة، كان يجب الأدب والشعر، ويجيز الشعراء على قصائدهم ، ولهذا قصده الشعراء من سائر البلاد، فكان يجلس إليهم، ويستمع لهم، ويستحسن الجيد منه، (كما راجت في أيامه بضاعة الأدب، واشتهر بإكرامه للشعراء ، وهباته لهم، ولأكثر معاصريه من أعلام الأدب مدائح فيه) ().
ولعل القصد من إحياء المجالس الأدبية هو ما كان يرمي إلى تردد الناس وأصحاب الحاجات إلى سامراء التي سكنها، وعدم قصرها على طلاب العلوم.
ب - خصائص لها علاقتها بشخصية المرجع:
إلى جانب تلكم المميزات الهامة التي تقدم الحديث عنها والتي تتصل مباشرة بمركز المرجعية الدينية والعلمية، فان جوانب أخرى لها أثرها في التفات الجماهير حول المرجع، وصياغة شخصيته الإنسانية بما يقرب الناس إليه، ويشدهم نحوه. منها:
1 - إن مسؤولية الزعامة الدينية التي تحملها السيد المجدد الشيرازي لم تقتصر على الاهتمام بشؤون طلاب العلوم الدينية وتأسيس حوزاتهم وتهيئة ما يقتضي من استمراريتها، بل يتعدى الأمر إلى عامة الناس، فرعايته لا بد أن تكون أشمل وأوسع أفقا، ومن هذا المنطلق نلحظ أن السيد الشيرازي عند ما ألمت أزمة الغلاء في النجف عام 1288 ه لم تقتصر معالجته لها على جهة معينة بل شملت كل من كان ساكنا فيها، أعم من كونه طالب علم، أم لم يكن، فإن موجة الغلاء في أسعار المواد الغذائية تضر الجميع، ونتج عن ذلك عوز كبير فيها، مما يشبه القحط، ويهدد سلامة الناس، فما كان من السيد الشيرازي إلا أن قام بما يخفف الضغط عن الناس جميعا بتهيئة المواد الغذائية حتى العام المقبل الذي كان فيه عائد الزراعة العراقية متوفرا بما رفع عنهم أزمة الشحة والقحط. PageV0MP022
تقول الرواية بهذا الشأن:
وفي سنة 1288 ه وقع الغلاء العظيم بل القحط في النجف وسائر البلاد العراقية، فقام هو قدس سره في أمر الفقراء، وأهل العلم الذين في النجف بأحسن قيام وأتم نظام، عين للعرب أناسا في كل محلة، ولأهل المدارس أناسا، وللفقراء أناسا... حتى جاء الحاصل الجديد وحصل الرخاء، وارتفعت عن الناس ().
2 - اهتمامه بالواردين عليه، فبالرغم من أنه كان مهيبا ووقورا - بحيث ينقل عن أحد الأعلام المعروفين، وهو الشيخ فضل الله النوري، أنه قال: اني أستعد في منزلي لملاقاة السيد الآقا الأستاذ، وأهيئ نفسي لذلك، وأعين ما أريد أن أطلعه عليه من أموري، وما أريد أن أكتمه عنه، فأدخل عليه، فإذا خرجت التفت أن كل ما كنت أريد كتمانه عنه قد أخبرته به، وأخذه مني، وأنا غير ملتفت، كل ذلك لهيبته وفطانته () - فانه كان متواضعا مع زواره والوافدين عليه، وخاصته، مرحبا بهم ومكرما لهم كل حسب رتبته ومكانته، ولم يكن في ذلك تصنعا منه، إنما هي سجيته، وطبعه، حتى تحدث المتحدثون () بأن:
سيرته في مدة رئاسته لم يكن أحسن من أخلاقه، وحسن ملاقاته، وعذوبة مذاقه، وحلاوة لسانه، يعطي من لاقاه حق ملاقاته حسبما يليق به ولا يفارقه إلا وهو في كامل السرور والرضا منه، كل على حسبه كائنا من كان.
كان يضرب بحسن أخلاقه المثل ولا أشرح صدرا منه تتكاثر عليه الزوار والواردون، وفيهم الغث والسمين، والخائن والأمين، والصالح والطالح، والإنسان وخبث اللسان، والمؤمن والمنافق، وكل يتكلم على شاكلته، فلا والله لا يسمع منه كلمة سوء لغير مستحقها، ولا غبر في وجه أحد قط، ولا جازى مسيئا إلا بالإحسان، ولا خاطبه PageV0MP023
إلا بأحسن لسان، مع التبسم في وجهه والاعتذار منه. وهذا والله هو الخلق العظيم الذي ورثه من جده سيد المرسلين، وقد أحسن وأجاد السيد حيدر الشاعر الحلي () حيث يقول في مدح سيدنا الأستاذ:
كذا فلتكن عترة الأنبياء وإلا فما الفخر يا فاخر () ومما نقل عن سعة صدره وكظم غيظه أن أحد زواره من النجف وفد عليه في سامراء ولم ينحله ما كان يأمله، فكتب إليه كتابا فيه من الكلام الغليظ الشيء الكثير، وختم كتابه بقول القائل:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل () يقول الراوي: ولما قرأ السيد الكتاب أمر له بمبلغ من المال إضافة لما وصل PageV0MP024
إليه من قبل ().
ولا شك أن هذه الحادثة تدل على روحية خاصة يتمتع بها أمثال المرحوم المجدد الشيرازي، الذين هم مصداق قوله تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) ().
3 - نظرته الشمولية للأمة، فقد وضع التعرف على وضع المسلمين من اهتماماته الأولية، ومن تلكم القضايا التي أعطاها الأهمية وتعامل معها بحسن تصرف، توزيع ما يرده من الحقوق الشرعية على مستحقيها في البلد الذي جمع منها المال، يقول الراوي:
كان له في كل البلاد وكلاء تجار يكتب إليهم فهرس أسماء فقراء تلك البلدة ويعين ما يدفع لهم... ولا يترك بلدا فيه الفقراء والمعوزون من المسلمين إلا ووصلهم بإحسانه ().
المهم أن الإمام المجدد الشيرازي أوعز إلى ممثليه في البلاد الإسلامية أن ما يقبضونه من الحقوق الشرعية تصرف على المستحقين من أهل تلك البلاد، وكان يقول:
ليس من الإنصاف أن نقبض حقوق أهل بلد ونترك فقرائها، فإن الناس لا يعطون أحدا شيئا كل ما عندهم من الحقوق يرسلونها إلينا ().
ويضيف السيد المرحوم الأمين:
وللسيد الشيرازي (عناية بالمجاورين في المشاهد الشريفة، ويعول سرا جماعات من أهل البيوتات، ومن التجار أخنى عليهم الدهر فينفق عليهم بدون أن PageV0MP025
يعلم بذلك أحد، فلما توفي فقدوا ذلك، وضاقت بهم الحال) ().
أما بالنسبة لأهل العلم فكان - رضوان الله عليه - حريصا على ألا يدعهم بحاجة، فيرسل لهم مبالغ ليقوموا بتوزيعها على خاصتهم ومعارفهم لعلمه بأن عالم البلد ينتظر منه المحتاجون المساعدة وكي لا يبقى أهل العلم في حراجة كان يوصلهم بالمساعدات المالية ما أمكن.
4 - والشيء الأخير الذي أود الإشارة إليه من خصائصه أنه بالرغم مما عرف عنه من حصافة الرأي وبعد النظر والتفكر برؤية في الأمور العامة التي تخص البلاد سياسية كانت أو اجتماعية، فانه كان يدعو أهل الرأي والمشهورة من وجوه تلاميذه وغيرهم ويعرض عليهم القضية، ثم بعد أن يجمع آراءهم ويناقشها يبت فيما يقتضي ذلك الأمر، يقول الراوي:
(وكان زمام أموره الداخلية والخارجية بيده عدا الوقائع العرفية العامة، والسياسية فانه يعقد لها مجلسا يحضره وجوه تلامذته الأعلام، وأهل التدبر) ().
وهذه قضية جديرة بالاهتمام، فالإنسان مهما سما فكره وعلا رأيه، وبعد نظره، فان في الآخرين من هو أعلى نظرا، وأقرب للحقيقة، وما الضير للرجل المسؤول أن يجعل له مجلسا استشاريا في القضايا المهمة التي لها علاقة مباشرة بشؤون الأمة أو المجتمع، والرأي الجماعي خير من الفردي، لما فيه من البحث والمناقشة والتدبر ورجاحة الرأي. ولذا نرى الإمام السيد الشيرازي مع ماله من سعة أفق كان يستشير في القضايا العامة أو التي تتصل بالعرف الاجتماعي. PageV0MP026
الفصل الرابع هجرته إلى سامراء () ومدينة سامراء تضم مرقد الإمامين: علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام ()، وفيها غيب الإمام محمد المهدي الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، ويقصدها على مدار السنة عدد غير قليل من المسلمين الإمامية من داخل العراق وخارجه لزيارة الإمامين العسكريين والتبرك بمرقدهما الطاهر، وسكان هذه المدينة من المسلمين السنة منذ عهد العباسيين الذين أسسوها واعتبروها عاصمة لهم في عهد من عهودهم.
وعنده رسخت مرجعية الإمام المجدد الشيرازي في الأقطار الإسلامية قرر الانتقال من النجف إلى سامراء، ولم يعلن عن تصميمه في بداية الأمر لأنه كان يخشى ضغط العلماء وهيجان الجماهير عليه مما يضطره لترك الفكرة، وهو مصمم على إنجازها لما فيها من مصلحة للأمة، وذلك عام 1291 ه. PageV0MP027
وحين ألقى عصا الترحال في سامراء، وعرف عنه الرغبة في الإقامة الدائمة بمدينة الإمامين العسكريين، توافد عليها العلماء الأعلام وتبعهم الأصحاب والطلاب والتلاميذ، والكثير من المسلمين الشيعة الذين يرغبون في البقاء إلى جنب زعيمهم الديني الميرزا الشيرازي، والتشرف بمجاورة مرقد الإمامين العسكريين عليهما السلام، والاستفادة من فضله وتوجيهه.
تحدثنا المصادر في هذا الصدد فتقول:
وفي عام 1291 ه تشرف السيد المجدد الشيرازي إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين عليه السلام في النصف من شعبان، وبعد الزيارة توجه إلى الكاظمية لزيارة الإمامين: موسى بن جعفر، ومحمد الجواد عليهما السلام، ثم توجه إلى سامراء فوردها أواخر شعبان، ونوى الإقامة فيها لأداء فريضة الصيام، ولئلا يخلو الحرم الطاهر للإمامين العسكريين من الزوار في ذلك الشهر - فإن الحرم يغلق إذا جاء الليل ولم يكن فيه أحد من أمثال المترجم، ويحرم منه سائر الزوار، وكان يخفى قصده، ويكتم رأيه، وبعد انقضاء شهر الصيام كتب إليه بعض خواصه من النجف الأشرف يستقدمه ويسأله عن سبب تأخره، فعند ذلك أبدى لهم رأيه، وأخبرهم بعزمه على سكنى سامراء، فبادر إليه العلامة ميرزا حسين النوري، وصهره الشيخ فضل الله النوري، والمولى فتح علي السلطان آبادي، وبعض آخر، وهم أول من لحق به، وبعد أشهر اصطحب الشيخ جعفر النوري عوائل هؤلاء إلى سامراء أوائل عام 1292 ه ثم لحق بهم سائر الأصحاب والطلاب والتلاميذ، فعمرت به سامراء ().
ويقول الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في حديثه عن السيد الشيرازي:
وفي سنة 1291 ه - هاجر إلى سامراء فاستوطنها في جم غفير من أصحابه وخريجيه، فكانت سامراء شرعة الوارد، ونجمة الرائد، أخذ عنه من فحول العلماء عدة PageV0MP028
لا تسع هذه العجالة استقصاءهم، وتخرجوا على يديه راسخين في العلم، محتبين بنجاد الحلم، فإذا هم:
علماء أئمة حكماء يهتدي النجم باتباع هداها وقد نشروا علمه الباهر على صهوات المنابر، وسجلوه في مؤلفاتهم الخالدة، جزاه الله وإياهم عنا خير جزاء المحسنين ().
ويقول المرحوم المحقق الحجة آغا بزرگ الطهراني في هذا الصدد: وحين علم الناس عزمه على البقاء انتقلت الصفوة من تلامذته إليه، حتى صارت سامراء مثل الجزيرة الخضراء في الروحانية، وأعلى الله فيها ذكره، وأعز نصره، وصارت سامراء (دار العلم) وبيضة الإسلام، والمرجع العام لأهل الدين والدنيا، وانتشر ذكرها ().
وأخذت الناس تردد إلى سامراء، وقصدها ذوو الحاجات زرافات ووحدانا، والكل ينتجع فضله، ويستمطر معروفه، وكان يجزل لهم العطاء، ويسبغ عليهم النعم، وكانت الأموال تنهمر عليه من شتى نقاط العالم الإسلامي ().
ولقد أخذ الكتاب ممن ترجموا سيدنا الشيرازي في تعليل دواعي انتقاله من النجف الأشرف إلى سامراء، وبذلك نقل معه الحوزة العلمية، أو على الأقل الصورة الظاهرة منها، وكلها لا تخلو من مناقشة، فمثلا:
1 - يرى البعض أن السبب رغبته في الاعراض عن الرئاسة، وتخلصا من قيودها، وطلبا للانزواء والعزلة عن الخلق ().
2 - وقيل أن سبب ذلك أنه لما صار الغلاء في النجف سنة 1288 ه - وصار يدر العطاء على أهلها، ثم جاء الرخاء عن قريب جعل الناس يكثرون الطلب عليه، PageV0MP029
وجعل بعض أعيان النجف يفتل في الذروة والغارب لينفر الناس منه، فتضايق من ذلك، وخرج إلى كربلاء في رجب سنة 1291 ه، ثم توجه إلى الكاظمية فسامراء، ودخلها في شعبان من تلك السنة، وأقام فيها أياما، ثم عزم على الإقامة فيها، وأرسل على كتبه، وأثاثه، وتبعه أصحابه ().
3 - وقيل أنه تضايق من وجود بعض الفرق الجاهلة فيها (). ولعله يقصد بعض العشائر النجفية، التي كانت المعارك بينها مستمرة، ونتيجة لذلك يتعرض الكثير من المقيمين، وخاصة أهل العلم الأجانب - لأنهم ضعفاء أمام أهل البلد - إلى الإيذاء والسلب.
4 - وقيل تعود الناس على طلب المال منه، وصاروا يتوقعون منه كل شيء حتى فكاك أولادهم من العسكرية ببذل البدل النقدي عنه، وكان بدل الواحد يومئذ مائة ليرة فضاق به الأمر، وعرف أن لهذه التوقعات محركا من بعض أعيان النجف، وهذا لا علاج له إلا بالفرار ().
5 - ويقول البعض: (والذي يغلب على الظن أن السبب الوحيد الباعث له على الهجرة أمر وراء ذلك، هو أدق وأسمى وأبعد غورا مما يظن. وهو إرادة الانفراد، لانحياز سامراء وبعدها عن مجتمع العلماء، ومن يدعي العلم، فيتم له فيها ما لا يتم له في غيرها. والقرب من الخاصة فيه العناء والتعب، وفي البعد عنهم الراحة، واجتماع الأمر، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في عهده للأشتر: إنه ليس أشد مئونة على الوالي من الخاص ().
هذه أهم الأسباب والدواعي التي ذكرت واضطرته إلى الهجرة إلى سامراء، ولكن أرى جميعها قابلة للمناقشة، ولا يمكن أن تكون سببا أساسيا لأن يترك السيد PageV0MP030
الجامعة النجفية وحوزتها العلمية وينتقل إلى سامراء وهو يعلم بأن ذلك سيؤدي حتما إلى تضعضع الجامعة النجفية عبر تاريخها الطويل، وجهادها العلمي المتوارث.
والذي أراه وأستنتجه من خلال دراستي لحياة سيدنا المترجم أن مقصده من هجرته وحدة المسلمين، وبث روح التآلف بين السنة والشيعة، وإماتة العصبيات والنعرات الطائفية والتي كانت مشتعلة - حينها - في العراق بسب الحكم العثماني والذي كان يترنح هنا وهناك بسبب غزو الإنكليز على المنطقة، ومحاولة إخراج النفوذ العثماني المنهار منها.
وحيث أن غالبية سكان مدينة سامراء من عشائر السنة، فكانت الأقلية الشيعية فيها تعاني من البعض التعدي والإيذاء وخاصة من جهلة الناس، وأوباش المواطنين، وكذلك الزوار الشيعة الذين كانوا يقصدون سامراء لزيارة مرقد الإمامين العسكريين عليهما السلام فكانوا يقابلون من بعض الأفراد بما لا يليق بروح الأخوة الإسلامية، والتعاطف الوطني، مما سبب انكفاء من الزوار لحرم الإمامين، حفاظا على أرواحهم وأعراضهم.
وكان تخطيط مركز من السيد الشيرازي حين شد الرجال، وحط موكبه في سامراء، والتف الشيعة من حوله، وكثر التردد من المسافرين عليها من شتى الأقطار الإسلامية، وخفت تلك الوحشة التي كانت تلف المدينة من قبل.
تقول المصادر:
(فعمرت سامراء به وصارت إليها الرحلة، وتردد الناس عليها، وأمها أصحاب الحاجات من أقطار الدنيا، وعمر فيها الدرس، وقصدها طلاب العلوم، وشيد فيها المدارس والدور... وكانت قبل سكناه فيها بمنزلة قرية صغيرة، فلما سكنها عمرت عمرانا فائقا وبنيت فيها الدور والأسواق، وسكن فيها الغرباء، وكثر إليها الوافدون، وصار فيها عدد من طلاب العلم والمدرسين لا يستهان به... وكانت في أكثر الأوقات PageV0MP031
محتشدة بالوافدين والزائرين) ().
وحين نرجع إلى أعمال السيد الشيرازي - قدس سره - في تعمير المدينة، نرى أنه عمد إلى معالجة دقيقة لحالة سكان هذه المدينة ليؤكد لهم ما يكنه المسلمون الشيعة لهذا البلد وأهله من الاهتمام والمحبة والتقدير، فكان من أهم إنجازاته العمرانية:
1 - بناء سوق كبير للمدينة يجمع فيه المحلات التجارية والحوانيت التي توفر حاجات الناس، وخدماتهم اليومية.
2 - تقع مدينة سامراء شرقي دجلة، وكان الناس الذين يقطنون خارج المدينة في الجانب الثاني من النهر يعبرون النهر بواسطة (القفف) وكذلك الزوار والمسافرون من بغداد وغيرها، وكان أصحاب المعابر (القفف) يشتطون في الأجرة ويلقى منهم الزوار أذى كثيرا، وحل المرحوم السيد الشيرازي المشكلة إذ بنى جسرا محكما على دجلة من السفن بالطريقة التي كانت متبعة في بقية جسور العراق حينذاك تسهيلا للعبور، ورفقا بالزوار والواردين، وكما تحدد المصادر أنه أنفق عليه عشرة آلاف ليرة عثمانية ذهبا، ثم بعد إتمامه سلمه للدولة تتقاضى هي أجورا زهيدة مقابل العبور عليه وذلك لغرض صيانته ودوامه.
3 - بنى عدة دور للمجاورين والزوار، وكانت تؤجر بقيم رمزية مما ساعدت على تشغيل أيدي ضعفاء وفقراء المدينة وعمالهم.
4 - بنى مدرستين كبيرتين لطلاب العلم الدينيين غير المتزوجين، أنفق في سبيل بنائهما أموالا طائلة وشغل عددا من العمال في إشادة ذلك البناء.
إن هدف المرحوم سيدنا المترجم كان ينصب في إطار الوحدة الإسلامية، وتصفية الأجواء بين الأمة الواحدة من آثار الطائفية المقيتة، ورفع الحيف عن الذين يعتدى عليهم، لا لشيء إلا لكونهم من غير مذهب سكان البلد. PageV0MP032
ويؤكد هذا الرأي ما أشار إليه المرحوم السيد محسن الأمين العاملي في ثنايا ترجمة الميرزا الشيرازي، إذ يقول:
(ومع ما بذله المترجم من الجهود في عمران سامراء، ودفع المشقات عن الزوار، والإحسان إلى أهل سامراء الأصليين، وما أسداه من البر إليهم، وما أدر عليهم عمرانها، وكثرة تردد الناس إليها من الرزق، لم يتم له ما أراده، وعادت البلدة بعد وفاته إلى سيرتها الأولى.
بل في أواخر أيام وجوده كثر التعدي حتى وصل إليه، وكان ذلك بتحريك ممن لهم الحكم، ومن يمت إليهم، إذ تيقنوا أنها ستنقلب عن حالها إلى حال أخرى، فهيج ذلك من نفوسهم، فوقعت عدة تعديات على الطلاب والمجاورين، وعليه، والحاكمون يظهرون المدافعة في الظاهر، ويشجعون في الباطن، فوقع لأجل ذلك اضطراب شديد، وفتن وتعد على النفوس والأموال وغيرها، وسافر لأجل ذلك إلى سامراء فقهاء النجف وعلماؤها وطلبوا إليه الخروج منها فأبى، ولم تطل المدة حتى مرض وتوفي هناك) ().
من هذا النص يتضح هدف السيد الشيرازي من انتقاله إلى سامراء، وكان يحسب أن المحاولة الإنسانية قد تغير في طباع من جبلت نفسه على الإيذاء والشغب وإثارة النعرات الطائفية وعلى كل حال فإن عمله الإنساني هذا أكد على واقع الإنسان المسلم المسؤول، الذي يدفعه همه الاجتماعي أن يفعل في سبيل وحدة الأمة مهما أمكن، ولكن تقدير النتائج لم تكن من صنعه، فللظروف أحكامها، وللنفوس نوازعها، والأمراض الدفينة لا يمكن برؤها بسهولة، وتبقى كامنة لا تكتشف إلا بمجاهر حساسة، وكما يقول المثل (تحت الرماد نار مخبية، ان هيجتها توهجت وحرقت) وللأسف أن هذه النزعة الهدامة لم تمت بمرور الزمن، بل بالعكس - كما نراها - تستعر حقدا، وتشب ضراما. PageV0MP033
الفصل الخامس الجانب السياسي في حياة الشيرازي كل شخصية كبيرة دينية وغير دينية لا بد ان تحدث له قضايا ضمن فترة رئاسته تعكس أثرها في حياة المرجعية وتحدد معالم الشخصية التي عاشتها.
وبالنسبة لسيدنا المترجم فقد حدثت قضايا خلال فترة مرجعيته أشارت بوضوح إلى دور المرجعية وقيادتها في مسيرة الأمة وتاريخها الطويل، وقد تحدث الدكتور علي الوردي عن هذا الدور الذي مثل الزعامة الدينية والسياسية في آن واحد، حيث توطأ هذا الدور واثره بعد أن تولى السيد الشيرازي منصب المرجعية العليا للشيعة في العالم، إذ جرت في عهده أحداث هامة كان لها أثرها الاجتماعي في العراق وإيران ().
وفي ضوء هذه الأحداث اعتبر (أعظم مجتهد شيعي في العهد الحميدي العثماني) ().
ووصف بأن عقله السياسي كان محيرا للسياسيين وأن أهل العلم والسلاطين يرجعون إليه في الأمور السياسية ().
لقد اتسمت مرجعية السيد الشيرازي بثلاثة مواقف رئيسية بارزة، حملت دلالات دينية - سياسية كبيرة الأهمية، وهي بإيجاز:
أ - رفضه لاستقبال الشاه ناصر الدين:
في عام (1287 ه - 1870 م) زار الشاه ناصر الدين القاجاري العتبات المقدسة في العراق، وكان الوالي العثماني على بغداد مدحت باشا، فلما قصد الشاه PageV0MP034
كربلاء، خرج لاستقباله علماؤها جميعهم إلى المسيب فسلم عليهم، ومضى.
ولما ورد النجف الأشرف خرج أيضا لاستقباله بعض علمائه إلى خان الحماد - في منتصف الطريق -، وبعضهم إلى خان المصلى - على ثلاثة فراسخ من النجف - ولما دخل النجف زاره العلماء، إلا المترجم إذ لم يخرج لاستقباله كما لم يذهب لزيارته.
ثم أرسل الشاه إلى العلماء مبالغ نقدية، فقبلت منه، إلا السيد الشيرازي فقد رفض قبولها مما اضطر الشاه أن يرسل وزيره حسن خان إليه معاتبا، وطالبا منه ان يزوره، فأبى السيد - رحمه الله - وبعد الإلحاح الشديد عليه والوسائط المتعددة، قبل السيد أن يلتقي به في الحضرة الشريفة العلوية، وتم الاجتماع بينهما ولم يطلب السيد من الشاه شيئا ().
هذا الموقف الرائع رفع من مكانة السيد الشيرازي في أوساط العامة، وزاد في عدد مقلديه ()، وشكل كسرا للتقليد الذي كان يتبعه المجتهدون في استقبال الملوك المسلمين ().
ويرى المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية أن موقف السيد الشيرازي والتقليد الذي استحدثه أصبحت هذه الطريقة سنة متبعة عند كبار العلماء منذ السيد الشيرازي حتى السنين المتأخرة، فإذا جاء إلى النجف ملك من ملوك المسلمين، أو من هو في منزلته أحجموا عن استقباله وزيارته، وإذا دعت الضرورة إلى الاجتماع التقوا به في الحضرة المقدسة ().
وللتاريخ نضيف أن المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محسن الحكيم رفض استقبال بعض رؤساء الجمهورية العراقية حتى في بيته. PageV0MP035
ويرى الأستاذ الرهيمي: أن دلالة هذا الموقف تمثلت في الحط من هيبة الشاه، وإيحاء السيد الشيرازي له بتأييد المؤسسة الدينية الشيعية المعارضة التي بدأت تتأسس في إيران منذ 1826 م ().
وذكرت بعض المصادر موقفا مشابها لما سبق. وذلك في العالم الذي تشرف به إلى حج بيت الله الحرام (1287 ه) وكان في ذلك الوقت الشريف عبد الله الحسني شخصية مكة، فأخبر الشريف بوروده فعين وقتا لمواجهته، ولما أخبر بذلك - وهو لم يطلب مقابلة أحد - رد على الرسل بالمقولة المشهورة: إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك، فقولوا: بئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فقولوا:
نعم العلماء ونعم الملوك، فلما وصل الجواب إلى الشريف بادر إلى زيارته ().
وكيف ما كان فان سيدنا المترجم مصداق للحديث الشريف: (لا تجهل نفسك فان الجاهل بمعرفة نفسه جاهل بكل شيء ().
ب - معالجته للفتنة الطائفية:
كما أشرت سابقا إن مهمة السيد الشيرازي في انتقاله إلى سامراء هي إماتة الطائفية الرعناء أو توحيد كلمة المسلمين الشيعة والسنة، وكان باعتقاده أن توفير الحركة الاقتصادية والعمرانية في سامراء من قبل إخوانهم الشيعة قد تخفف سعير النعرات الطائفية التي تثيرها طبقة المنتفعين من الفريقين، والذين لا تهمهم المصلحة العامة بقدر ما تهمهم مصالحهم الشخصية، ومنافعهم الدنيوية.
ورغم ما عمله السيد الشيرازي في سامراء من مشاريع وخدمات أدت إلى تعمير المدينة وبصورة فائقة، من حيث السكن والأسواق وتحريك اليد العاملة، إلا أن أصحاب المطامع، وعمال الاستعمار بدؤا في إثارة القلاقل والفتن ، والتعدي على PageV0MP036
النفوس والأموال (). وكادت تؤدي للاقتتال بين أهالي سامراء والمناطق المجاورة وذلك عام 1311 ه.
وذكر في منشأها أن الوالي حسن باشا العثماني زار السيد الميرزا الشيرازي فلم يعتن به - جريا على عادته في عدم الاهتمام بالمسؤولين الحكوميين - فحقد على الميرزا، وأوغر بالشيعة في سامراء بعض المتعصبين من الأهالي والوجوه ممن ثقل عليهم توطن الميرزا في بلدهم، وعندئذ وقعت الفتنة في سامراء، واتسعت حتى وصلت إلى بغداد، وتثاقل الوالي عن سماع شكوى العلماء وطلاب العلوم في سامراء، بل منع من إعلام السلطان عبد الحميد، مما اضطر السيد الشيرازي أن يرسل من يمثله إلى إيران لإعلام السلطان من هناك، ووضع الشاه ناصر الدين بالصورة المأساوية التي حلت بطلاب العلوم المهاجرين وسكان سامراء من الشيعة.
وتغاضى الشاه بادئ الأمر من إثارة الموضوع والنصرة لهم، وأرسل لهم بعض الإسعافات معتقدا أن ذلك سيخفف وطأة الأمر، ولكن ممثل السيد الشيرازي أوصل الخبر إلى السلطان، فأقام الدنيا وأقعدها - على حد قول الرواية -، حتى إطفاء النائرة، وقمع الفساد وعاقب المسؤولين بعقاب صارم ().
وحاول القنصل الإنكليزي في بغداد أن يستغل الموقف لصالح دولته، وليثيرها عجاجة على الحكم العثماني فسافر إلى سامراء لتسعير الفتنة، ومقابلة السيد لعرض خدماته ونصرته له، فما كان من الميرزا الشيرازي أن رفض مقابلته، ورد عليه:
أن لا حاجة لدس أنف بريطاني في هذا الأمر الذي لا يعنيها، لأنه والحكومة العثمانية على دين واحد، وقبلة واحدة، وقرآن واحد.) ().. PageV0MP037
(ويبدو واضحا أن أهمية هذا الموقف كانت تتجلى آنذاك بتجاوز الفتنة، وإبداء الحرص على وحدة الجماعة الإسلامية، رغم الخلاف المذهبي مع الدولة العثمانية، وقطع الطريق على تدخلات القناصل الأوروبيين، وخاصة الإنكليز الذين كانوا ينشطون لإقامة أوسع العلاقات مع القيادات الاجتماعية والأعيان في المدن والريف) ().
ج - قضية التنباكو:
هذه القضية من أهم القضايا الساخنة التي تعرضت لها مرجعية الإمام الشيرازي، وكان موقفه الجريء يمثل انتفاضة عارمة ضد السلطة حينذاك، وأكدت أن (سلطان الدين أقوى من كل سلطان) ().
تحدثنا المصادر: بأن ناصر الدين شاه القاجاري عقد اتفاقية مع شركة إنگليزية باحتكار (التبغ الإيراني)، وأثر هذا الامتياز للشركة الأجنبية على الحركة التجارية الداخلية والسوق المحلية، وكلما حاول الأهالي انثناء الشاه عن عقد هذه الاتفاقية لم يجد نفعا، وأصر على إبرامها وتنفيذها. وتنص هذه الاتفاقية على أن تتولى الشركة زراعة التبغ وبيعه وتصديره لمدة خمسين عاما بدءا من سنة 1890 م، كما حدث في الهند ().
وعلى أثر ذلك اندلعت انتفاضة شعبية عام 1890 م بقيادة العلماء في إيران، وكان من أبرز المجتهدين في طهران الذين قادوا الانتفاضة آية الله الميرزا محمد حسن الآشتياني - قدس سره -، وأدرك علماء إيران أن توفير فرصة أكبر لنجاح الانتفاضة الشعبية من أجل إلغاء الاتفاقية يتطلب دعم وتأييد المرجع الأعلى للشيعة السيد الشيرازي، فأرسل عدد منهم برقيات إليه طالبين منه دعمهم، فرد عليهم طالبا منهم PageV0MP038
توضيحا أكثر لمطالبهم ().
كما أرسل السيد الشيرازي - في الوقت نفسه - رسائل عديدة إلى الشاه يطالبه فيها ب (الاستجابة للرعية في إلغاء الاتفاقية) (). غير أنه عند ما يئس من إقناعه بإلغائها، أصدر فتواه الشهيرة، والتي كان نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم «استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومن استعمله كمن حارب الإمام عجل الله فرجه. محمد حسن الحسيني الشيرازي» ()، وتحدثنا المصادر بأن هذه الفتوى كانت بمثابة (القنبلة) من حيث تأثيرها على المجتمع الإيراني فقد تم استنساخها بمائة ألف نسخة، وزعت في مختلف أنحاء إيران وتليت من على المنابر في المساجد والحسينيات ().
أما أثر هذه الفتوى فتقول الرواية:
إن جميع أهالي إيران تركوا التدخين، وكسروا (النارجيلات) وكل آلة تستعمل للتدخين في بلاد إيران، حتى أن نساء قصر الشاه كسرن آلات التدخين في القصر، وعرف الشاه هذه الحقيقة التي لم يتصورها لحظة ما، بأن قوة المرجع الديني أقوى من سلطته. PageV0MP039
إن ملايين من المتعاطين للتنباك - حينذاك - في إيران تركوا التدخين امتثالا لأوامر الإمام الشيرازي، وكانت النتيجة المباشرة للفتوى والانتفاضة إرغام حكومة الشاه على إلغاء الاتفاقية، فإن نتائجها الفكرية والسياسية في إيران والعراق كانت بعيدة الأثر، واضطر الشاه إلى فسخ الاتفاقية، ودفع خسارة الشركة ().
وبالرغم من أن قضية (التنباك)، قد حصلت في إيران، وأن ما أسفر عنها من تفاعلات ونتائج أثرت بشكل أساسي في المجتمع الإيراني، فقد كان لها صدى قويا في العراق، ولا سيما في المناطق والمدن الشيعية، الذي كانت من بين أسبابه تشابك العلاقات بين هذه المناطق والمدن وإيران، وانعكاس الأحداث عليها، وكذلك بسبب التدخل للمرجع الأعلى - الذي مقره في العراق - في القضية، وتزعمه للانتفاضة.
وقد تابع العراقيون، وخاصة في المناطق الشيعية تلك الأحداث باهتمام كبير. وأما داخل الحوزات والحلقات والمدارس العلمية فإنها أثارت جدلا فكريا وسياسيا عاما... وهكذا مثلت الفتوى التي أصدرها الإمام الشيرازي، وتدخله المباشر في قضية التنباك، والانتفاضة المتولدة عنها، إحدى أهم المواقف والنشاطات الفكرية والسياسية للعلماء المسلمين الشيعة في العراق في أواخر القرن التاسع عشر، وشكلت مظهرا رئيسيا من مظاهر الاتجاه الثقافي الفكري السياسي الإسلامي الذي مهد لقيام الحركة الإسلامية في العراق أوائل القرن العشرين ().
د - استغاثة الأفغاني بالسيد الشيرازي:
وقبل أن أختم الحديث عن قضية التنباكو لا بد من الإشارة إلى أن بعض المصادر تشير بقولها ولعل مما زاد في تأثير هذه القضية على العراق الدور الذي قام به PageV0MP040
السيد جمال الدين الأفغاني () مع أحد قادة الانتفاضة في إيران ()، أثناء وجودهما في العراق ().
ثم تضيف: فخلال تلك الأحداث، كان الأفغاني الذي أبعد حديثا من إيران، قد وصل البصرة، ومن هناك كتب بالتعاون مع المجتهد السيد علي أكبر الشيرازي - أحد زعماء الانتفاضة - الذي كان قد تسلل إلى البصرة من إيران رسالة موجهة إلى الإمام السيد حسن الشيرازي في سامراء ()، يذكران له فيها مظالم الشاه الكثيرة للشعب الإيراني، لكن ما أن شاع أمر هذه الرسالة - بسبب مضمونها التحريضي - بين الناس في العراق حتى سارعوا إلى استنساخها وتداولها وتوزيعها على كثير من المدن العراقية، ولا سيما العتبات المقدسة، وقد كان لها تأثير كبير بشكل خاص في مدينة النجف ().
ويرى الأمير شكيب أرسلان (): ان النداء الذي أرسله الأفغاني إلى الإمام الشيرازي من أعظم أسباب الفتوى التي أفتاها الإمام ببطلان امتياز الاتفاقية PageV0MP041
الإنكليزية - الإيرانية بشأن احتكار التبغ الإيراني.
ويقول المرحوم السيد محسن الأمين في تعليقه على قول أرسلان:
ولكن الحقيقة أن الميرزا الشيرازي أفتى بتحريم تدخين التنباك حينما بلغه إعطاء الامتياز إلى الدولة البريطانية قبل أن يرسل له السيد جمال الدين هذا الكتاب، ولم يكن إفتاؤه بتأثير كتاب جمال الدين، ولو لم يكن له مؤثر ديني من نفسه عظيم لم يؤثر فيه كتاب جمال الدين ولكن الناس اعتادوا إذا مالوا إلى شخص أن يسندوا كل وقائع العالم له (). PageV0MP042
الفصل السادس حياته العلمية حين وصل الإمام الشيرازي بعد وفاة أستاذه شيخ الطائفة المحقق الأنصاري إلى مركز المرجعية والرئاسة العامة، لم تشغله عن ممارسة عمله العلمي، ومركزه كفقيه، ومجتهد، ومقلد، وكان يحرص - رضوان الله عليه - أن لا تشغله الرئاسة العامة عن ممارسة واجبه العلمي، وإعطاء الوقت الكافي لهذا الجانب. وفعلا تمكن من ذلك، واستطاع أن يجمع بين العمل الرئاسي الاجتماعي والسياسي، وبين واقعه كعالم يعيش بين تلاميذه وكتبه ومحاضراته.
وحين نحاول أن نقدم للقراء صورة عن هذا الجانب، فإننا نحاول أن نحصرها في الجوانب التالية:
أولا - مكانته العلمية من خلال أقوال العلماء فيه:
حين ندرس شخصا ما لغرض تكوين فكرة عنه، لا بد أن نقرأه من خلال معاصريه، ونتاجه العلمي، وتلامذته الذين حملوا تراثه فكرا علميا رائعا.
والآن ونحن في صدد قراءة ما قيل عنه في صدد مكانته العلمية ليكون مدخلا لنا في هذا الفصل.
قال المرحوم الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين: ثنيت لهذا الإمام (الهاشمي) العظيم وسادة الزعامة والإمامة وألقيت إليه مقاليد الأمور، وناط أهل الحل والعقد ثقتهم بقدسي ذاته ومرسوخ علمه، وباهر حلمه وحكمته، وأجمعوا على تعظيمه وتقديمه، وحصروا التقليد به، فكان للأمة أبا رحيما تأنس بناحيته، وتفضي إليه بدخائلها، وكان للدين الإسلامي والمذهب الإمامي قيما حكيما ().
وقال المرحوم الحجة المحقق السيد حسن الصدر عنه: PageV0MP043
أفضل المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء والمحدثين، والحكماء والمحققين من الأصوليين، وجميع المتفننين حتى النحويين والصرفيين فضلا عن المفسرين والمنطقيين ().
ويتحدث المرحوم الحجة المحقق الشيخ آغا بزرگ الطهراني عن المجدد الشيرازي، فيقول:
أعظم علماء عصره وأشهرهم، وأعلى مراجع الإمامية في سائر الأقطار الإسلامية بوقته ().
من النصوص المتقدمة في حق سيدنا الإمام الشيرازي نستنتج - الآتي:
أ - إن مكانة السيد الشيرازي العلمية بلغت درجة الاعتقاد من لدن علماء عصره، وخاصة أقرانه ممن تتلمذ على الإمام الراحل المحقق الأنصاري، وأنه هو الطليعة والمقدم بين علماء عصره، ولا يغرب عن بالنا شهادة أستاذه المحقق الأنصاري في حقه حين قال لأحد خاصته أنه يدرس لثلاثة أشخاص، أولهم السيد الشيرازي.
وقبل هذا تشير المصادر أن المرحوم الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر أشار إلى اجتهاد الميرزا الإمام الشيرازي ضمن كتاب أرسله إلى حاكم مملكة فارس، ونصه:
باسم الله والحمد لله تعالى شأنه، ثم السلام على ولدنا وقرة أعيننا، فخر الأقران، وجوهرة الزمان، وإنسان عين الإنسان جناب الأعظم حسين خان سلمه الله تعالى وأبقاه، وزاد في عمره وعلاه.
أما بعد: فالمعلوم لدى جنابك أن ولدنا، وقرة أعيننا الأمين المؤتمن جناب الميرزا محمد حسن سلمه الله تعالى وأبقاه، ممن يهمنا أمره، ومن أولادنا وتلاميذنا الفضلاء الذين وهبهم الله سبحانه ملكة الاجتهاد، مقرونة بالرشاد والسداد، وممن اختاره علما للعباد، وأمينا في البلاد، ومروجا لمذهب الشيعة، وكفيلا لأبنائهم، فالمرجو PageV0MP044
الاعتناء بأموره وملاحظة جميع متعلقاته، فإنه أهل لذلك، بل فوق ما هنا لك، مضافا إلى رجوع أموره إلينا، ونحن أوقفناه في هذه الأماكن ليكون لك من الداعين، ولينتفع به كافة الطلبة والمشتغلين، فاللازم كمال الاعتناء بأموره، وإدخال السرور عليه وعلينا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واننا لا ننساك من الدعاء عند مرقد سيد الأوصياء عليه السلام.
الراجي عفو ربه الغافر خادم الشريعة محمد حسن بن المرحوم الشيخ باقر ().
هذه الرسالة لم نعثر على تاريخ صدورها، ولكن إذا عرفنا أن السيد الشيرازي ورد النجف الأشرف عام 1259 ه - للتحصيل المؤقت، لعزمه على العودة إلى بلاده في إيران، ولكنه التحقق بدرس المرحوم الشيخ صاحب الجواهر وبقي معه فترة من الزمن يستفيد من مجلسه، وينتهل من صافي علمه، والظاهر أن السيد الشيرازي بلغ أستاذه المعظم برغبته في العودة إلى بلاده لإفادة الأمة، فكتب له هذا الكتاب، وإذا عرفنا أن الشيخ صاحب الجواهر قد توفي عام 1266 ه - فلا شك أن الكتاب صدر قبل وفاته بقليل، والظاهر أن السيد الشيرازي عدل عن السفر بعد ذلك، وانتقل إلى درس المحقق الأنصاري، ولازمه واختص به حتى وفاته، ثم انتقلت المرجعية له من بعده. وكيف ما كان فالمرحوم الشيخ صاحب الجواهر شهد له بالاجتهاد، وكذلك المرحوم المحقق الأنصاري.
ب - إن كبار علماء النجف الأشرف - حينذاك - اجتمعوا واختاروا سيدنا المرحوم الإمام السيد الشيرازي مرجعا دينيا، وإماما للجماعة، وأستاذا للدرس، وقد مرت الإشارة إليه، ومعنى ذلك أن الأسس الثلاثة للزعامة الدينية العامة قد عهدت إليه.
ج - إن الكلمات القصار من العلماء الأعلام والمراجع العظام تحمل في طياتها PageV0MP045
أكثر من دلالة على عظم مكانة الإمام الشيرازي في المجتمع الإسلامي الشيعي حين (أصبح المرجع الوحيد للإمامية في سائر القارات () الإسلامية كما سيمر معنا.
ثانيا - رجوع المسلمين الشيعة له بالتقليد:
عند المسلمين الشيعة: من الضروري أن يرجع الإنسان الذي يصل إلى سن البلوغ لذوي الاختصاص وأهل الخبرة، والأعلم من المجتهدين في فقه الشريعة الإسلامية، لأخذه أحكام دينه من الحلال والحرام والمكروه، فهو واجب على كل مكلف لا يتمكن من الاجتهاد، أو الاحتياط.
وهذه الرتبة - الوصول إلى درجة رجوع المقلدين له - لا يمكن بلوغها إلا بالأعلمية - وفسرت الأعلمية هنا: أن يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط ()، ولا شك أن الأخذ بفتوى الأعلم يحصل فراغ الذمة من الأمر المكلف به يقينا بعد العلم بانشغال الذمة اليقيني بالتكاليف الإلزامية ().
وسيدنا المترجم نرى أنه اختير - بعد وفاة أستاذه المحقق الشيخ مرتضى الأنصاري - لمركز التقليد، والتدريس والصلاة من قبل مبرزي تلامذة الشيخ الأنصاري الذين شهد لهم الشيخ بالمرتبة العلمية، كما مر علينا -، ثم ثنيت له الوسادة بعد وفاة المرحوم السيد حسين الترك مرجع أذربيجان، فرجعت له الطائفة الإمامية في الأقطار الإسلامية، يقول المرحوم الإمام شرف الدين:
واختص (السيد الشيرازي) بإمام المحققين المتبحرين الشيخ مرتضى الأنصاري، ففاق جميع أصحابه، ولازمه ملازمة ظله حتى قضى الإمام الأنصاري نحبه، واضطرب الناس في تعيين المرجع العام بعده، فكان هو المتعين في نظر الأعاظم الأساطين من تلامذة ذلك الإمام أعلى الله مقامه (). PageV0MP046
ويوضح المرحوم الحجة المحقق السيد محسن الأمين هذا الحدث الهام بقوله:
وانتهت إليه رئاسة الإمامية الدينية العامة في عصره، وطار صيته، واشتهر ذكره، ووصلت رسائله التقليدية وفتاواه إلى جميع الأصقاع، وقلد في جميع الأقطار والأمصار في بلاد العرب، والفرس، والترك، والهند، وغيرها، وكان في عصره من أكابر العلماء المجتهدين المقلدين من العرب، والفرس، والترك أمثال: الشيخ محمد حسين، والشيخ محمد طه نجف، والسيد حسين الكوهكمري، والشيخ حسن المامقاني، والملا محمد الشربياني، والملا محمد الإيرواني، والشيخ زين العابدين المازندراني الحائري، والميرزا حسين بن الميرزا خليل الطهراني، وغيرهم، لكن جمهور الناس كان مقلدا له ().
إن المرجعية العامة التي ينقاد المسلمون الشيعة لها في الأقطار الإسلامية فيها مغزى كبير في العرف الاجتماعي الديني، فالشيعة الإمامية ترى المرجع الأعلى، هو القائد الذي يمكنه تحديد سياسة الأمة، وتعيين مصلحتها الدينية، وهو الذي يملأ منطقة الفراغ في الأمور التي تحتاج إلى موقف شرعي يضمن حقوق الأمة وسلامة البلاد. ومن هنا فهو منصب ديني تمتد جذوره للإمامة الحقة في العقيدة الإسلامية.
وسوف نلحظ انعكاس مكانة الإمام المجدد السيد الشيرازي، حين أعلن موقفه من القضايا الوطنية السياسية الساخنة التي اجتاحت الأمة الإسلامية خلال مرجعيته الرائدة.
ثالثا - آثاره العلمية، ونتاجه الفكري:
الوجه الآخر للجانب العلمي من حياة سيدنا الإمام الشيرازي هو إنتاجه الفكري الذي يمثل طابعه الفقهي والأصولي، وهما النقطة المركزية التي يلزم الوقوف عندها، ولغرض إبراز معالمها العلمية وقيمها الفنية.
ومن المعلوم أن انشغال الإمام الشيرازي بالزعامة العامة والرئاسة PageV0MP047
الاجتماعية، شغلته عن كتابة المؤلفات الفقهية أو الأصولية بما يتناسب ومكانته العلمية، رغم اشتهاره بالمركز العلمي، الذي رشحته - الأكثرية المطلقة من أعلام الحوزة العلمية في النجف بعد وفاة شيخه الأنصاري - بأن يعلو منصة المرجعية العامة، الذي يشترط فيها (الأعلمية) لغرض توفر القدرة الفائقة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
وكما تحدثنا الروايات بأن درس الإمام الشيرازي كان يحضره فحول العلماء وكبار المحصلين، بحيث أصبحت حوزته العلمية تضاهي حوزة أستاذه المحقق الإمام الشيخ مرتضى الأنصاري، وحتى بلغ الحال بأن يقول هو لأحد خاصته من العلماء أن حوزة درسنا أحسن من حوزة درس شيخنا الأنصاري ()، وهذا القول - إذا صح منه - لا يمكن أن يطلقه مثل السيد الشيرازي ما لم يكن واثقا من أن الذين يحضرون درسه من الطبقة الفاضلة، والمشار إليها في الميدان العلمي بالبنان.
والحقيقة حين نرجع إلى قائمة أسماء تلاميذه الذين يصلون إلى قرابة الأربعمائة ونرى فيهم - حسبما تترجم المصادر - من علية الفضلاء، وبعضهم من المراجع المشهورين المعروفين بالحوزة العلمية وممن تسنموا مركز الزعامة والمرجعية من بعده، وكان من المنتظر أن تكون - على الأقل - أفكاره العلمية مضمنة تقريرات وبحوث هذا العدد الغفير من طلابه، ولكن ويا للأسف لم نحصل إلا على القليل منها - كما سنذكرها - مع أن المصادر تشير إلى أن حلقة درس المجدد الشيرازي كان يحضرها المحصلون الكبار من العلماء «ولذلك كثر المقررون لدرسه على الطلاب الآخرين المتوسطين وغيرهم» ().
وكيف ما كان فإن ما وصلنا من ذكر مؤلفاته وتقريراته التي كتبها طلابه هي الآتي: PageV0MP048
أ - مؤلفاته:
المصدر الرئيسي لهذه المؤلفات هو المرحوم السيد محسن الأمين ()، وهي:
1 - كتاب في الطهارة إلى الوضوء - فقه - 2 - رسالة في الرضاع - فقه - 3 - كتاب من أول المكاسب إلى آخر المعاملات - فقه - 4 - رسالة في اجتماع الأمر والنهي - أصول - 5 - تلخيص إفادات أستاذه الأنصاري في الأصول من أوله إلى آخره.
6 - رسالة في المشتق - مطبوعة - وسماها المرحوم الطهراني باسم «التقريرات» في مسألة المشتق لبعض تلاميذ المجدد الشيرازي، طبعت ضمن مجموعة صغيرة في إيران عام 1305 ه - ().
7 - حاشية على نجاة العباد، وعلى حاشية الشيخ مرتضى لعمل المقلدين، مطبوعة معها ().
8 - تعليقته على معاملات الآقا البهبهاني لعمل المقلدين مطبوعة بالفارسية.
هذه هي المؤلفات التي انفرد بها السيد الأمين بذكرها ونسبها إلى سيدنا المترجم، في حين لم أر المحقق الطهراني يشير في كتابه الجليل «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» إلى أي من هذه الكتب عدا السادس. في حين ورد ذكرها في كتابه «ميرزا شيرازي» بعنوان «ملحقات» وليس من أصل الكتاب، والظاهر ان الجهة التي ترجمت الكتاب من الأصل العربي أضافت القسم الأول من الملحقات، وهو ما يخص تأليفات الإمام الشيرازي، وقد أشير إلى أنه مقتبس عن ما كتبه المرحوم الحجة السيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة: 5 - 308) - وقد مرت الإشارة إلى ذلك أكثر من مرة -. PageV0MP049
ب - تقريراته:
وتحت عنوان «ما جمع من فتاوى (السيد الشيرازي) وتقريرات أبحاثه» كتب المرحوم السيد محسن الأمين ما يلي:
«اصطلح العلماء في عصرنا، وما قاربه على أن يقرر بعض التلاميذ المتميزين ما يلقيه الشيخ في درسه الخارجي على بقية التلاميذ بعد فراغ الشيخ من الدرس ليقر ذلك في أذهانهم، وليفهم بعضهم ما فاته فهمه أثناء الدرس.
وكان الملا محمد الشربياني (من تلاميذ الإمام الشيرازي في النجف) يقرر درس أستاذه السيد حسين الترك، حتى عرف بالملا محمد المقرر.
وجملة منهم يكتب ما قرره الشيخ في الدروس، ويدونه كتابا كما فعل الميرزا أبو القاسم الطهراني فدون ما كان يلقيه شيخه الشيخ مرتضى الأنصاري في كتاب طبع وعرف بالتقريرات.
ودون غيره كثيرون ما كان يلقيه مشايخهم، وكذلك جملة من تلاميذ المترجم فعلوا مثل هذا، وأول من فعل ذلك قبل عصرنا (السيد محمد جواد العاملي) صاحب مفتاح الكرامة، فدون درس أستاذه (السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي المتوفى عام 1212 ه) في الحديث حينما كان يدرس في كتاب الوافي».
ثم أضاف المرحوم السيد الأمين:
«وهذا تعداد ما دون من فتاوى المترجم وأبحاثه:
1 - مائة مسألة من فتاواه الفارسية، جمعها الشيخ فضل الله النوري، مطبوعة.
2 - مجموعة من فتاواه بالعربية، عندي نسخة منها.
3 - بحثه في الأصول من أوله إلى آخره دونه الشيخ علي الروزدري، وسماه PageV0MP050
الطهراني ()، (آخوند مولى علي دزدري). ووصفه من أعاظم تلاميذ الميرزا.
4 - بحثه في الأصول، دونه السيد محمد الأصفهاني بنمط متوسط. وقال عنه المرحوم الطهراني: انه توفي 1316 ه - في النجف وكانت حلقة درسه في حدود 500 شخص من أفاضل الحوزة العلمية ().
5 - بحثه في الأصول والفقه دونه السيد إبراهيم الدامغاني في مجلدين. وقال المرحوم الطهراني عنه: التقريرات للسيد إبراهيم الدامغاني الخراساني، المتوفى بالنجف 1291 ه - في مجلدين: أحدهما في الفقه، والمهم من مباحث العبادات والمعاملات.
والآخر في كثير من مباحث الأصول. كلاهما من تقرير بحث أستاذه آية الله السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي.
وكان من قدماء تلاميذه في النجف، وفي سنة وفاته هاجر آية الله الشيرازي إلى سامراء.
رأيت مجلده الفقهي في خزانة كتب سيدنا أبي محمد الحسن صدر الدين والمجلد الآخر المختص ب «أصول الفقه» انتقل بالبيع إلى السيد محسن السيد حسين السيد رضا السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي ().
6 - بحث في الأصول دونه الشيخ حسن بن محمد مهدي الشاه عبد العظيمي وسماه ذخائر الأصول.
قال المرحوم الطهراني:
ذخائر الأصول: للشيخ حسن بن محمد مهدي الشاه عبد العظيمي النجفي، المتوفى بها حدود 1290 ه - كتبه من تقرير بحث أستاذه الأنصاري في 1262 ه - من مباحث الألفاظ والأدلة العقلية. PageV0MP051
رأيت نسخة خط المؤلف في مكتبة سيدنا الصدر ().
7 - تقارير من أبحاثه للشيخ باقر حيدر. وهو كما جاء في وصفه من أفاضل طلاب الإمام الشيرازي، وقد توفي عام 1333 ه - وهو في طريقه للجهاد ضد الإنكليز ().
8 - تعريب معاملات الوحيد البهبهاني، للشيخ حسن علي الطهراني، مطبقا لها على آراء أستاذه المترجم ().
وأضاف المرحوم الطهراني بعض الأبحاث إلى ما تقدم () نذكرها توخيا للفائدة.
9 - التقريرات: للشيخ الميرزا إبراهيم بن المولى محمد علي بن أحمد المحلاتي الشيرازي، المتوفى بها في 1336 ه -. مجلد في المهم من مباحث الفقه والأصول، من تقرير بحث أستاذه آية الله المجدد الشيرازي كان من أجلاء تلاميذه ().
10 - التقريرات: للسيد حسن بن السيد إسماعيل الحسيني، القمي الحائري، المتوفى بعد 1315 ه - من جملة تصانيفه تقرير بحث أستاذه المجدد الشيرازي في قاعدة السلطة، والأحكام الوضعية، وقاعدتي التسامح والضرر، كلها في مجلد بخطه PageV0MP052
فرغ منه في عام 1303 ه، وعلى ظهره تقريظ السيد أبي القاسم الإشكوري.
يقول المرحوم الطهراني: رأيت هذا المجلد عند السيد حسين خير الدين الهندي بكربلاء ().
11 - التقريرات: لصاحب مصباح الفقيه شيخنا الحاج آقا رضا بن المولى محمد هادي الهمذاني النجفي، المتوفى بسامراء في 1322 ه - هو من تقرير بحث أستاذه سيدنا آية الله الشيرازي من أول البيع إلى آخر الخيارات، مجلد كبير.
يقول المرحوم الطهراني: رأيته عند الشيخ أسد الله الزنجاني، وحكي عنه أنه قال قد ضاع مني في أواسط تقريراتي هذا جزءان، فأخذت ما كتبه الحاج الشيخ حسن علي الطهراني من هذه التقريرات، وجدتهما عن كتابته.
ومجلد آخر من التقريرات بحث أستاذه المذكور في أصول الفقه موجود عند ولده الآقا محمد بهمدان ().
12 - تقرير بحث سيدنا آية الله المجدد الشيرازي، للسيد محسن بن السيد هاشم بن الأمير شجاعت علي الموسوي الرضوي النقوي الهندي، المتوفى عام 1323 ه -. يقع هذا التقرير في مجلدين: أحدهما في الطهارة والقضاء، والآخر من أول بيع العبد الآبق إلى آخر الخيارات، ثم الرهن، ثم الكبائر، ثم تداخل الأغسال، ثم الزكاة، ثم الحيض والاستحاضة.
يقول المرحوم الطهراني: رأيت الكتاب في مكتبته الموقوفة والمتولي عليها ولده الجليل السيد رضا الهندي ().
13 - التقريرات: للسيد هاشم بن السيد علي بن السيد رضا بن السيد آية الله بحر العلوم، المتوفى قبل وفاة والده السيد علي صاحب كتاب «البرهان القاطع» عام 1298 ه. PageV0MP053
يقول المرحوم الطهراني: كان تلميذ سيدنا آية الله المجدد الشيرازي، وكاتب تقريراته. منها:
تقرير بحث مقدمة الواجب استحسنه آية الله، وأمر تلميذه المولى محمد تقي القمي باستنساخه، رأيت النسخة بخطه في مكتبة آية الله.
ويوجد أيضا فيها (في مكتبة آية الله الشيرازي) مجلد من تقريره لأكثر مباحث الأصول، الأجزاء، الضد، المفاهيم، العموم والخصوص، وبعض مباحث الظنون، والأصول العملية.
وكانت نسخة منها عند السيد جعفر بن السيد محمد باقر بن أخ السيد هاشم، اشتراها منه ().
14 - تقريرات السيد الشيرازي في التعادل والتراجيح كتبها المرحوم الشيخ حسن بن الشيخ كاشف الغطاء ().
15 - تقريرات درس السيد الشيرازي، كتبها المرحوم السيد محمد الهندي النجفي ().
16 - التعادل والتراجيح: للشيخ عباس بن الشيخ حسن بن الشيخ الأكبر كاشف الغطاء النجفي المتوفى بها في 18 رجب عام 1323 ه - كتبه من تقرير بحث آية الله الشيرازي قبل مهاجرته إلى سامراء ().
وينقل السيد الأمين بأنه ما وردت عليه (أي السيد الشيرازي) مسألة أو أراد الخوض في بحث إلا وكتب تلك المسألة، وما يمكن أن يقال فيها من نقض وإبرام قبل أن يجيب عنها أو يباحثها، فكانت تجمع تلك الأوراق من مجلسه في كل أسبوع، وتلقى PageV0MP054
في دجلة ().
ويعقب السيد الأمين على ذلك:
«ولا ندري لما ذا لم تكن تحفظ، ولو حفظت لاستفاد منها الناس بعد.
ولعل الأوراق التي كانت تلقى في دجلة كانت في غير المسائل العلمية» ().
رابعا - حلقة درسه:
ومفردة أخرى لها حسابها في عالم التقييم العلمي، تلك هي الواجهة الدراسية، فكلما كانت واسعة تجمع أكبر عدد من طلاب العلوم تدل دلالة واضحة على مركزية الأستاذ المحاضر، - كما يقول المثل -: (والموارد العذب كثير الزحام).
وحين نرجع إلى المصادر التي تترجم الإمام الشيرازي نراها تصل بعدد تلاميذه إلى قرابة أربعمائة شخص، وكلهم من مختلف الأقطار الإسلامية ولهم مكانتهم العلمية والاجتماعية.
وقسمهم المرحوم الحجة المحقق الشيخ آقا بزرگ الطهراني إلى ثلاثة أقسام:
الأول - طلاب العلوم الذين أدركوا عهد المحقق الإمام الشيخ الأنصاري، وبعد وفاته حضروا درس السيد الشيرازي، لتكميل علومهم الدينية.
الثاني - الطلاب الذين اختصوا بالميرزا الشيرازي في النجف الأشرف، وانتقلوا إلى سامراء معه، ودرسوا عليه، الثالث - الطلاب الذين حضروا إلى درس السيد الشيرازي في أواخر أيامه بسامراء، وحملوا تراثه العلمي من بعده.
وأغلب هؤلاء انتشروا بعد وفاة الإمام الشيرازي في الأقطار الإسلامية من أجل التبليغ والإرشاد، وتسلموا مناصب الإمامة في بلدانهم، وبعضهم نال مرتبة الزعامة الدينية ومرجعية التقليد في الأمة الإسلامية (). PageV0MP055
ومع مكانته العلمية فانه - رضوان الله عليه - ما كان يقدم محاضراته لطلابه إلا ويعد لها، ويكتبها ويعلق عليها ما يمكن أن يقال فيها من نقض وإبرام قبل أن يباحثها، ويقدمها لطلابه.
والخصلة الأخرى التي كان يتبعها مع رواد مجلسه من أهل الفضل والعلم، وخاصة تلاميذه أن المسائل التي يستفتى بها، في الغالب يطرحها للمناقشة والمذاكرة، ويحرص على أن يعرف رأي كل واحد من الحاضرين فيها، وهو بذلك يستفيد أمرين:
الأول - الاطلاع على مقدراتهم العلمية، وأفكارهم من خلال المناقشات التي تدور بين الحاضرين حول المسائل المستفسر عنها.
الثاني - لعل في آرائهم وأفكارهم شيئا جديدا يستفيده منهم، ولم يخطر بباله، وهذه منتهى الدقة العلمية ().
ومما ينقل أنه كان يظهر الاهتمام الكثير بحلقة درسه أمام بعض خاصته، لأنها تضم عددا كبيرا من أهل الفضل والعلم، حتى حكي عنه أنه قال مرة لأحد المقربين له: بأن حوزة درسنا أحسن من حوزة درس شيخنا الأنصاري ().
وترى بعض المصادر: أن عددا كبيرا من الأئمة والأعلام قد تخرجوا على يده، فقد ربي خلقا كثيرا، منهم جماعة من المجتهدين وصلوا لمنصب الزعامة والتقليد والرئاسة العامة من بعده، حتى قيل: أنه اتفق له من هذا القبيل ما لم يتفق لشيخه الأنصاري ().
ولكن المرحوم السيد الأمين يرى أن الذين تخرجوا على الشيخ الأنصاري من فحول العلماء يعسر عدهم، مع امتياز الشيخ الأنصاري بكثرة التأليف. لأن الشيخ الأنصاري لم يكن له من مشاغل الرئاسة ما كان للمترجم التي صدته عن PageV0MP056
التأليف ().
وخلاصة القول في هذا الصدد:
فان مجلس بحث السيد المجدد الشيرازي كان مزدحما بالعلماء والمدرسين، وكان يختار مما يستفتى به من المسائل الشرعية من سائر الأقطار الإسلامية موضوعا يباحث به تلاميذه ().
بالإضافة إلى المواضيع الرئيسة من أبواب الفقه، والتي كانت مدار حديثه اليومي.
ولم يكن مبعثه هذا إلا الاهتمام بطلابه، ورغبته في اطلاعهم على المسائل الهامة التي تبتلى بها الأمة، وتضطر للاستفسار عنها، كما أن رغبته الأكيدة أن يبنى جوابه على دراسة وبحث. كل ذلك تورعا، ووثوقا بإصدار الفتوى ().
خامسا - قبس من تلاميذه:
ولقد أشرت فيما سبق أن المرحوم الطهراني ذكر أسماء (372) شخصا ممن تتلمذ على السيد الإمام الشيرازي سواء في النجف الأشرف، أو سامراء ().
وإذا حاولنا ذكرهم بالتفصيل، فقطعا سوف يخرجنا عن الالتزام بالإيجاز الذي توخيناه في هذه الدراسة، ولذا سوف نعرض قائمة الأسماء التي أوردها المرحوم السيد محسن الأمين ()، ولعل اختياره لها نابع من الشهرة، أو البروز من بين ذلك العدد الغفير، وهم: PageV0MP057
1 - السيد إبراهيم الدامغاني الخراساني المتوفى عام 1291 ه - وهو من قدماء تلاميذه، وقد ألف من تقرير بحثه مجلدين: أحدهما في الفقه والآخر في الأصول.
2 - السيد إبراهيم بن مير محمد علي الدرودي الخراساني الكاظمي المتوفى عام 1328 ه - وكان من الملازمين لدرس السيد حتى آخر عمره، وأقام أخيرا في الكاظمية.
3 - الميرزا إبراهيم الشيرازي.
4 - الميرزا إبراهيم بن مولى محمد علي بن أحمد المحلاتي الشيرازي المتوفى بعد عام 1316 ه - من العلماء الأجلاء.
5 - ملا أبو طالب كزازي السلطان آبادي، المتوفى عام 1329 ه، وصف بأنه عالم فاضل متقي.
6 - ميرزا أبو الفضل ابن ميرزا أبو القاسم، المعروف ب - كلانتري نوري طهراني، من أهل الفضل والعلم والتاريخ والرجال والأدب، توفي عام 1317 ه -.
7 - الشيخ إسماعيل الترشيزي المشهدي، المتوفى بعد عام 1320 ه - من العلماء الأجلاء.
8 - السيد إسماعيل السيد رضي الحسيني الشيرازي، المتوفى عام 1305 ه، ابن عم سيدنا المترجم من العلماء الأجلاء، وكان من مستشاري السيد الشيرازي، وكان له درس خاص عنده.
9 - الشيخ إسماعيل بن الملا محمد علي المحلاتي النجفي المتوفى عام 1343 ه، وبعد وفاة السيد الشيرازي أقام في النجف وهو من العلماء الأجلاء.
10 - الشيخ محمد باقر بن عبد الحسن الإصطهباناتي الشيرازي استشهد عام 1326 ه - في شيراز من أكابر وأعلام شيراز، ومن مبرزي طلاب السيد جامع العلوم العقلية والنقلية.
11 - الشيخ باقر بن علي بن حيدر، المتوفى عام 1333 ه، من فضلاء تلاميذ السيد الشيرازي، بعد وفاة والده، انتقل إلى سوق الشيوخ في العراق وكانت له فيها PageV0MP058
زعامة دينية ورئاسة اجتماعية.
12 - الميرزا حبيب الله بن ميرزا هاشم بن حاج ميرزا هدايت الحسيني الموسوي، المتوفى عام 1320 ه. ق، من الفضلاء والأعلام.
13 - السيد حسن السيد هادي السيد محمد علي الموسوي الشهير بالصدر المتوفى عام 1354 ه، من أعاظم علماء عصره ومن أركان بحث الميرزا الشيرازي. له مؤلفات شهيرة، توفي ببغداد، ودفن في صحن الكاظمين عليهما السلام.
14 - الشيخ حسن علي الطهراني، المتوفى في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) عام 1330 ه، من العلماء المشهورين.
15 - الشيخ حسن الكربلائي، الأصفهاني الأصل في حدود عام 1300 ه هاجر إلى سامراء والتحقق بحوزة السيد الشيرازي، توفي عام 1320 ه بالكاظمية.
16 - السيد إسماعيل بن السيد صدر الدين محمد العاملي المتوفى عام 1263 ه، من مبرزي تلاميذ السيد الشيرازي، ومن المهاجرين الأوائل إلى سامراء تبعا للسيد الشيرازي، ثم سكن كربلاء وصار من مراجع تقليدها.
17 - الشيخ حسن الشيخ محمد القابجي الكاظمي المشهدي المتوفى عام 1345 ه، التحق بالسيد الشيرازي في سامراء بعد عام 1300 ه، وانتقل بعد وفاة السيد إلى خراسان للقيام بالواجبات الدينية والتبليغ.
18 - الشيخ حسن بن محمد مهدي الشاه عبد العظيمي، المتوفى بحدود 1292 ه ().
19 - الميرزا حسين السبزواري، وذكره السيد الأمين في ترجمته أنه الميرزا PageV0MP059
حسين بن الميرزا حسن بن علي أصغر السبزواري المتوفى عام 1353 ه -. حضر درس السيد الشيرازي في سامراء، ورجع عام 1300 ه إلى سبزوار، وتوفي فيها ().
وأورد اسمه الطهراني ب (سيد حاج ميرزا محمد حسن سبزواري علوي) ().
20 - المحدث الشهير الشيخ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري الطبرسي المتوفى عام 1320 ه - في النجف. إمام في الحديث والرجال، وعالم في الفقه، ومن أكابر علماء الإمامية.
21 - الشيخ آغا رضا بن الشيخ محمد هادي الهمداني النجفي المتوفى عام 1322 ه، من أكابر العلماء المحققين، ومن مشاهير عصره، ممن تتلمذ على السيد الشيرازي وكتب تقريراته، وكان مرجعا للتقليد بعد أستاذه الشيرازي.
22 - الشيخ شريف الجواهري () ابن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، المتوفى عام 1314 ه، من أعلام الفضل والصلاح.
23 - الشيخ عباس بن الشيخ حسن بن شيخ كاشف الغطاء الكبير، المتوفى بعد عام 1320 ه، من تلاميذ السيد الشيرازي في النجف، وذكر الطهراني أنه كتب تقريرات السيد الشيرازي في التعادل والترجيح من بحث الأصول ().
24 - الشيخ عباس بن الشيخ علي من آل الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء المتوفى عام 1315 ه. ذكره الطهراني أنه كان فقيها كبيرا، ومرجعا جليلا، وذكر أنه حضر درس السيد المجدد الشيرازي في النجف ().
25 - الشيخ عبد الجبار الجهرمي. وسماه الطهراني الشيخ عبد الجبار الشيرازي، ووصفه بأنه فقيه كبير، وعالم جليل، وعاد إلى شيراز وأصبح مرجعا للأمور PageV0MP060
الشرعية فيها إلى أن توفي بها سنة 1319 ه - ().
26 - السيد عبد المجيد الكروسي، توفي في همدان عام 1320 ه - من تلاميذ السيد الشيرازي في سامراء، وبعد وفاته انتقل إلى همدان وشغل مرجعيتها الدينية.
27 - الشيخ عبد النبي الطهراني، ويعرف بالحاج قاضي، وكان من علماء طهران الأفاضل، ورجالها المشاهير في النصف الأخير من القرن الثالث عشر، حضر في أوائل عام 1300 ه - إلى سامراء، وحضر على درس السيد المجدد، ثم بعد مدة قصيرة رجع إلى طهران، وتوفي بعد عام 1332 ه.
28 - الشيخ علي بن الشيخ حسين الخيقاني الحلي النجفي، المتوفى عام 1334 ه - في النجف، وصفه السيد الأمين بأنه: عالم رباني فقيه، كان على جانب عظيم من الزهد والورع والتقشف في الدنيا، تتلمذ على السيد الشيرازي في النجف الأشرف.
29 - الشيخ علي الرشتي اللاري، المتوفى عام 1295 ه - في لار، تتلمذ على يد السيد المجدد الشيرازي في النجف وسامراء، ثم انتقل بأمره إلى لار حيث يبلغ ويرشد الناس، ويمثله في تلك المدينة.
30 - الشيخ علي الروزدري ()، وصفه الطهراني بأنه من قدماء تلاميذ سيدنا آية الله الشيرازي، ومن المبرزين المعتمدين عنده، أرسله إلى تبريز، وتوفي بها عام 1290 ه.
31 - الملا فتح علي ابن المولى حسن السلطان آبادي المتوفى بحدود 1312 ه، من أوائل الذين التحقوا بالمجدد الشيرازي في سامراء، ولازمه حتى وفاته حيث انتقل إلى كربلاء ومات فيها، ودفن في النجف. PageV0MP061
32 - الميرزا فضل الله الفيروزآبادي، وزاد الطهراني (الشيرازي) تتلمذ على السيد في النجف وسامراء، ثم انتقل إلى شيراز وتوفي فيها بعد عام 1300 ه، ونقل إلى النجف الأشرف ودفن فيها.
33 - الشيخ فضل الله بن ملا عباس النوري، أعدم في عام 1327 ه - في طهران بقضية المشروطة والمستبدة. كان من تلاميذ السيد المجدد، ومن ثم انتقل إلى طهران وأصبح من الأعلام الذين يشار إليهم بالمكانة والعلم.
34 - الآخوند ملا محمد كاظم الخراساني المتوفى عام 1329 ه، من أعلام المدرسة الأصولية، والمجدد فيها، كانت حلقة درسه تضم قرابة ألف طالب من فضلاء الحوزة العلمية.
35 - السيد محمد كاظم بن السيد عبد العظيم الطباطبائي اليزدي المتوفى عام 1337 ه، من مشاهير علماء المدرسة النجفية ورئيسها المبرز، رجعت إليه الأمة بالتقليد، تتلمذ على السيد الشيرازي في النجف.
36 - الميرزا محسن بن الشيخ محمد علي بن أحمد المحلاتي الشيرازي المتوفى بعد 1320 ه، من طلاب السيد في سامراء، ثم التحق بدرس آية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي، وبعد فترة عاد إلى شيراز.
37 - السيد محمد السيد أمير قاسم فشاركي الحائري الأصفهاني الطباطبائي المتوفى عام 1316 ه، من أوائل المهاجرين مع الإمام الشيرازي إلى سامراء ومن خاصة تلاميذه.
38 - الشيخ محمد تقي الآقا نجفي، قال الطهراني: أن ابن أخيه الشيخ محمد رضا بن محمد حسين عده في كتابه (حلي الدهر العاطل) من تلاميذ السيد الشيرازي في النجف الأشرف.
39 - الميرزا محمد تقي الشيرازي، المتوفى عام 1338 ه، أحد أعلام تلاميذ السيد المجدد، وزعيم الثورة العراقية عام 1920 م، ويعتبر القائد والموجه لثورة PageV0MP062
العشرين العراقية ضد الإنكليز، وقد أفتى بوجوب محاربة الإنكليز ().
40 - الملا محمد تقي القمي، من قدماء تلاميذ سيدنا الشيرازي في النجف وسامراء، ويقول الطهراني: أنه ممن حصل على إجازة اجتهاد من السيد الشيرازي ().
41 - الحاج محمد حسن كبة البغدادي بن الحاج محمد صالح بن الحاج مصطفى الربيعي المتوفى عام 1336 ه، وصفته المصادر بأنه عالم جليل، وفقيه بارع، وأديب كبير.
42 - الشيخ محمد حسن الناظر بن الملا محمد علي الطهراني، يقول الطهراني أنه من تلاميذ السيد المجدد الشيرازي في النجف، وحصل على إجازة اجتهاد منه.
43 - السيد محمد شرف البحراني نزيل لنجة.
44 - الميرزا محمد بن فضل الله الفيروزآبادي المتوفى عام 1309 ه - ممن تتلمذ على سيدنا آية الله الشيرازي في سامراء.
45 - السيد محمد الهندي بن السيد هاشم بن أمير شجاعت علي الموسوي الرضوي الهندي النجفي المتوفى عام 1323 ه، تتلمذ على سيدنا المجدد في سامراء زمنا وكتب دروسه.
46 - الميرزا مهدي بن المولى محمد كريم بن حسن علي بن الميرزا محمد علي الشيرازي، المتوفى عام 1308 ه، وهو ابن أخت الإمام ميرزا محمد تقي الشيرازي، من تلاميذ السيد الشيرازي.
47 - الشيخ هادي المازندراني الحائري.
48 - السيد علي آغا نجل السيد المجدد، قال السيد محسن الأمين في المجلد الثامن من أعيان الشيعة ص 330 نقلا عن السيد محمد الأصفهاني انه تربى في حجر خمسين مجتهدا - قرأ على والده وعلى غيره وهو مقيم في النجف مقلد معدود من الرعيل PageV0MP063
الأول ولد في النجف الأشرف سنة 1287 ه، وتوفي سنة 1355 ه ().
هذه قائمة الأسماء التي اعتمدها المرحوم السيد محسن الأمين لتلاميذ سيدنا آية الله الشيرازي، وهناك بعض الشخصيات العلمية التي لم يرد لها ذكر في القائمة المشار إليها، ومن الضروري أن نمر عليهم نظرا لمكانتهم العلمية، وهم:
49 - السيد باقر بن السيد محمد بن السيد هاشم الموسوي النجفي الهندي المتوفى عام 1329 ه، وصف بأنه عالم نحرير وشاعر شهير.
50 - الشيخ محمد تقي بن الشيخ حسن بن الشيخ أسد الله الكاظمي المتوفى عام 1320 ه - من علماء الكاظمية، وشخصياتها الدينية.
51 - الشيخ حسن بن الشيخ عيسى الفرطوسي النجفي المتوفى بحدود عام 1321 ه، وصف بأنه كان عالما فاضلا فقيها، له كتاب في الفقه في تسع مجلدات (مخطوط).
52 - الميرزا محمد حسين بن عبد الرحيم النائيني النجفي المتوفى عام 1355 ه، من أكابر المحققين، وله شأن في علوم الكلام والفلسفة والأدب واللغة، وتوحد في الفقه والأصول، وكان من خاصة الإمام الشيرازي.
53 - السيد محسن بن السيد حسين السيد رضا بن السيد بحر العلوم الطباطبائي المتوفى عام 1318 ه، من العلماء المعروفين في الأوساط العلمية والأدبية في النجف الأشرف.
54 - الشيخ محمد بن الشيخ علي، المنتهى نسبه إلى الشيخ أحمد الجزائري صاحب كتاب (آيات الأحكام) المتوفى عام 1303 ه.
55 - السيد مرتضى السيد أحمد السيد حيدر، المتوفى عام 1300 ه - من أعلام الكاظمية وشخصياتها. PageV0MP064
56 - الشيخ هادي الشيخ محمد صالح الشيخ علي الشيخ قاسم محيي الدين العاملي النجفي، ممن تتلمذ على يد السيد المجدد زمنا ليس بالقصير.
57 - السيد الحاج ميرزا هادي الهمداني المتوفى عام 1304 ه، كان من مراجع همدان.
58 - السيد هاشم السيد علي بحر العلوم، صاحب كتاب (البرهان القاطع).
59 - السيد هاشم محمد علي القزويني الحائري الموسوي المتوفى عام 1327 ه، له مؤلفات عديدة في الفقه.
60 - حاج ميرزا هدايت الله الأبهري وصف بأنه عالم فاضل وفقيه وأصولي مجاهد.
61 - السيد ياسين بن السيد طاهر النجفي المتوفى عام 1342 ه - من سادات الكوفة، تتلمذ على السيد الشيرازي زمنا ().
ولم يكن اختيارنا لهؤلاء الأعلام ممن تتلمذوا على سيدنا المجدد الشيرازي سواء في النجف الأشرف أو سامراء من بين الحشد الهائل الذي أوصله البعض إلى قرابة خمسمائة شخص نابعا من أولوية، انما اعتمدنا السيد الأمين حتى رقم 48 والباقي اخترناهم على أساس الشهرة في ذكرهم لدى بعض المصادر، وإلا فحين نرجع إلى تراجمهم في قائمة المرحوم المحقق الطهراني نجد كلا منهم علما في حد ذاته، ينتهل منه نمير العلم، ويرجع إليه في شؤون الدين. PageV0MP065
الفصل السابع لم يمت العالم، ويبقى حيا في خضم عمر مديد يقرب من الثمانين عاما، كان سيدنا الإمام المجدد الشيرازي في خلاله قمة شامخة في الزعامة العامة ومثالا رائعا للتقى والورع، ومرجعا دينيا للأمة الإسلامية، حصل له في دنياه قل أن يحصل لغيره من مكانة في العلم، وسعة في الزعامة، وسلطة عليا في الدين.
وحقق ما أراد، حين أدخله خاله الذي تولى تربيته سلك الخطابة، فلم يطل به المقام فيها، إلا واكتشف في نفسه قابلية ليكون من أهل العلم والفضل والشأن، فتوجه تلقاء بغيته العلمية متنقلا من شيراز إلى أصفهان، ثم إلى كربلاء والنجف، أينما صادف موردا صافيا للعلم حط عليه، وربض فيه، حتى ينال منه بغيته، وإلى أن وصل النجف الأشرف، محط العلماء، وبغية الطلاب، به يستقرون، ومن جامعتها الشامخة يرفدون.
ثم من حق المرجعية الدينية الإمامية أن تعتز بمثل هذه الشخصية الفريدة، التي جمعت كمال العلم، إلى ورع النفس، إلى طموح الرقي، وكان لها من هذه وتلك ما قوم به الخط المرجعي الإمامي، الذي استمر طوال القرون الشاسعة ينبض حيوية، ويتنامى ازدهارا، فإنه لم يجمد، ولم يخمد، فحركة الاجتهاد إحدى مفاخره ومسايره التطور الحضاري من أهم مميزاته.
إذا لا نستغرب إذا سمعنا ما قاله القائلون عنه: وبلغ من الرئاسة وجلالة الشأن مبلغا لم يكن لأحد من الأمراء والملوك في أيامه () ما كان له من رئاسة وزعامة وتوفيق.
ثم أيضا لا تعلونا الدهشة حين نسمع ما يتحدثون عن سيدنا الإمام المجدد PageV0MP066
الشيرازي قدس سره: كما لم يتفق في الإمامية مثله في الجلالة، ونفوذ الكلمة، والانقياد له ().
وبعد ذلك ، فلا مبالغة حين يدعي المدعي أنه كان زعيما عظيما تخشع أمامه عيون الجبابرة، وتعنو له جباه الأكاسرة، كما قال في رثائه بعض الأفاضل من السادة الأشراف:
قدت السلاطين قيود الخيل إذ جبنوا * ما سوى طاعة الباري لها رسن لك استقيدوا على كره لما علموا * بالسوط أدبارهم تدمى إذا حزنوا لا خوف بعدك أمسى في صدورهم * فليفعلوا كيف شاؤوا أنهم أمنوا ().
هذه الشخصية الثرة العطاء لبت نداء ربها في ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان سنة 1312 ه في سامراء التي أرسى فيها حوزته العلمية قرابة واحد وعشرين عاما، وأضفى على هذا البلد من جلال أجداده الأئمة الميامين هيبة هاشمية، وعزا علويا، ومجدا محمديا ما طاول الأيام.
وكان حرص المسلمين على توديع سيدهم الإمام المجدد، وزعيمهم الديني الفذ متجليا في الأكف الممدودة لحمل النعش من بلد إلى بلد، من سامراء إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف، ليكون بجوار جده الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبالعيون الدامعة التي تروي الثرى الذابل من وطأة الثكل بالمصاب الجلل، وبالقلوب المفجوعة بهول الخسارة التي مني الإسلام بوفاة هذا الطود الشامخ، والعلم الخفاق، والكلمة المعطاة، والعقل المتوقد.
وكانت الجماهير المثكولة تستقبل الجثمان وتودعه من مشارف بلدها، إلى مشارف المدينة الأخرى لتأخذه بالقلوب والدموع، والأكف تجدد به عهدا، وتودع به عهدا، وهكذا حتى حط نعشه في مرقد جده الإمام علي عليه السلام ليقضي ليلته PageV0MP067
الأخيرة في دنياه الفانية في حرم أبي الأئمة الأطهار، عبر سامراء والكاظمية، وبغداد والمحمودية، والمسبب وكربلاء، وخان الحماد فالنجف، أكف مرفوعة وعيون دامعة، وقلوب مفجوعة من أهالي المدن وعشائر دجلة والفرات.
ولم تكن الأمة المفجوعة في مدى الأسبوع الأول الذي كان الجثمان مودعا بين أكفها - من عشية الثلاثاء 24 شعبان حتى يوم الخميس الثاني من رمضان عام 1312 ه - إلا وتكاد تؤكد أن تكون قلوبها لحدا لإمامها الراحل، ولو لا أمر الله بأن يتوسد الجثمان ملحود قبره لآثرت أن يبقى مرفوعا أمامها، وفي سواد أعينها، ولكن لا بد أن يكون القبر المثوى الأخير للجسد الطاهر، وهكذا كان، فقد دفن في مدرسته التي تقع في جنب الصحن الحيدري. ولم تترك قلوب تلامذته وعار في فضله جثمان أستاذهم الكبير، فقد أنزله - وهو يمثل كل تلك القلوب الدامية حسرة عليه - علم الأمة من بعده وشيخها المحقق السيد أبو محمد الحسن الصدر، فوسده في ملحود قبره، وخرج وهو يحمل هم الفراق، وعزاء الإيمان، ما أثقل به الدهر، وكل عنه الوصف، وعجز من ذكره البيان، فإنا لله وإنا إليه راجعون (). PageV0MP068
وأقيمت الفواتح على روحه الطاهرة من قبل العلماء الأعلام في كل الأقطار الإسلامية، ونقلت المصادر: أن عزاءه دام في البلاد ما يقرب من سنة كاملة ()، ورثاه جمع كبير من الشعراء، حتى ذكر أن كتابا وضع من قبل الشريف العلامة السيد محمد رضا آل فضل الله الحسني العاملي، تناول فيه وصف تشييع المجدد الإمام الشيرازي من سامراء إلى النجف، والفواتح التي أقيمت له، كما ضم قصائد الرثاء في تأبينه ().
ومن تلكم القصائد:
1 - قصيدة المرحوم الشاعر السيد جعفر الحلي، المتوفى سنة 1315 ه، قال في مطلعها:
بمن يقيل عثارا بعدك الزمن * ومن سواك على الإسلام يؤتمن تقوم لدين الله قائمة * وليس فيها الإمام السيد الحسن () 2 - وقصيدة للمرحوم الشاعر السيد إبراهيم بحر العلوم الطباطبائي المتوفى 1319 ه قال في مطلعها:
من صاح بالدين والدنيا * إلا اعتبرا جرى المقدر محتوما * خذا وذرا إلى ان يقول:
هذا محمد محمول له جسد * واروا به صحف إبراهيم والسورا () 3 - وقصيدة للمرحوم السيد محسن الأمين العاملي المتوفى 1371 ه - قال في مطلعها: PageV0MP069
سطا فما أخطأ الأكباد والمهجا * خطب أحال صباح العاملين دجى رزء به ثلم الإسلام وانطمسا * علامه وبه باب الهدى رتجا إلى أن يقول:
محمد الحسن الحبر الذي سمكت له * مفاخره فوق السما درجا قد كنت في وجه هذا الدهر * غرته حتى مضيت فأمسى كالحا سمجا () 4 - وقصيدة ذكرها المرحوم السيد محسن الأمين عن مجموعة شعرية ضمت ما رثي به الإمام المجدد الشيرازي، ولم يسم قائلها () ذكر منها أبياتا يقول:
مصابك طبق الدنيا مصابا * ورزؤك هون النوب الصعابا إذا وردوا نداك رأوك بحرا * ولو وردوا سواه رأوا سرابا ملأت بذكرك الآفاق حمدا * ونحن اليوم نملؤها انتحابا بسامراء غبت وليس بدعا * ففيها قبلك المهدي غابا () أبو المهدي عنك اليوم نابا * عن المهدي نبت لنا، وهذا () ويمر علينا قرابة قرن، وذكرى هذه الشخصية العلمية الكبيرة حية شامخة، لم تطوها الأيام، ولا أخفاها زمن، لأن العالم الرباني لم يمت، ولا يخمد ذكره، ما دامت آثاره تلهج بذكره، وتاريخ عهده يعج بما يخلد، وهكذا حياة العظماء عظة ومدرسة يقتدى بها، ويستفاد من عطائها، انها الشلال الهادر بكل مكرمة، يعبر السنين ولا يشيخ، PageV0MP070
ويطوي الفيافي ولا يكل، وستبقى هذه الذكرى تفجر البقاء، لأنها عاشت لله، وفي سبيل إعلاء كلمته، فخلدت مع الخالدين. PageV0MP071
الفصل الثامن مع الكتاب هذه الدراسة التي قدمناها عن سيدنا المجدد الإمام السيد الشيرازي مقدمة للتعريف بالكتاب الذي نقدمه للقراء الكرام وأصحاب البحث العلمي في أصول الفقه الإسلامي، وما ينطوي من أفكار وآراء في هذا البحث يكشف لنا عن مستوى فكري له كل العلاقة بالمدرسة النجفية الأصولية الحديثة، والتي يعتبر رائدها الأول المرحوم المحقق الإمام الشيخ مرتضى الأنصاري، وسيدنا المترجم كان من تلامذة المرحوم الأنصاري، وأخذ عنه أفكاره العلمية، وكان الشيخ يصغي إليه إذا ناقشه في مسألة أثناء الدرس، بل كان يأمر الحشد الهائل من تلاميذه أن ينصتوا لمناقشة السيد الشيرازي، وينوه بفضله، ويعظمه في مجلس الدرس () وهذه مفردات تؤشر بمجموعها إلى نتيجة مهمة، وهي أن المحقق الأنصاري كان يرى في السيد الشيرازي الشخص الذي يحمل أفكاره العلمية في الغد المرتقب، وأنه سوف يكون المحور العلمي لدراسات بحث الخارج للحوزة العلمية، وتطويرها.
والظاهر أن أفكار الميرزا الشيرازي وآراءه العلمية، الفقهية والأصولية لم تنشر في الأوساط العلمية - كما ينبغي - بالرغم من أهميتها، لأنها تمثل مرحلة الوسط، بين طرح الأفكار، وبين بلورتها العلمية، حيث مثلت النضوج العلمي للمدرسة العلمية النجفية - كما أشرنا إليه سابقا -.
وقبض الله سبحانه من يتمكن من إخراج تراث هذه المرحلة إلى ميدان البحث العلمي، ووضعه بين يدي القراء بغية اكتشاف الحقيقة العلمية المتجددة، والتطور الفكري الذي يتناسب ومرحلة النضوج والإثراء.
ومن أجل هذا التراث الضخم في مادته نقدم التعريف الآتي بالكتاب ومقرره PageV0MP072
ومحققيه، وأرجو أن أكون على صواب من هذا التقييم، ولا أجانب الحق من خلال هذا العمل المجهد.
أولا - مع الكتاب:
1 - الكتاب الذي نحن بصدد تعريفه للقراء هو (تقريرات المرحوم الإمام السيد الشيرازي في أصول الفقه). والظاهر أنها المحاضرات التي كان يلقيها على طلابه في النجف الأشرف، وقبل هجرته إلى سامراء بدليل:
أ - أن المرحوم الطهراني نقل في ذكر هذه التقريرات أن الشيخ علي الروزدري كان من قدماء تلاميذ سيدنا آية الله الشيرازي ومن المبرزين المعتمدين عنده، فأرسله إلى تبريز فتوفي بها حدود 1290 ه -. وعند عزمه على السفر أودع تقريرات أستاذه عنده مخافة الضياع في الطريق، فطالعها آية الله واستحسنها، وأمر الطلاب باستنساخها، وكلها في الأصول من أول مباحث الألفاظ إلى العام والخاص ().
ب - أن تاريخ الفراغ من تحرير نسخة التقريرات الأصل وهي بخط التلميذ المقرر الشيخ علي كان يوم الخامس عشر من صفر عام 1281 ه -.
ونخلص من هذا أن التقريرات المذكورة انتهى من كتابتها قبل هجرة السيد الشيرازي إلى سامراء بعشر سنوات تقريبا، إذا ما علمنا أن هجرة السيد كانت بعد زيارته لضريح الإمام الحسين عليه السلام في منتصف شعبان عام 1291 ه، ووصلها في 21 منه ().
2 - كما يستفاد بأن بحوث هذه التقريرات كانت قبل وفاة المحقق الأنصاري بثلاثة أشهر، حيث ورد في إحدى صفحات نسخة الأصل بخط كاتبها الشيخ علي الروزدري النص التالي: «وتم الكلام في هذا المقام... في يوم الأربعاء الخامس عشر PageV0MP073
من شهر صفر المظفر من سنة 1281 ه» وعند ملاحظتنا بأن المرحوم الأنصاري لبى نداء ربه في 18 جمادى الآخرة سنة 1281 ه، فيكون الفرق بينهما ثلاثة أشهر.
3 - وجدت ثلاث نسخ خطية لهذا الكتاب:
أ - نسخة بخط المقرر الشيخ علي الروزدري، كما أشار إلى ذلك هو نفسه في آخر صفحاتها بقوله: (انا الراجي الروزدري) وهي في مجلد واحد أكثرها خال من التنقيط، وقد اعتمدت - لدى الأخوين الكريمين المحققين - أصلا في تحقيقها. وقد أشرنا إلى أن خط هذه النسخة كان في سنة 1281 ه.
ب - نسخة بخط الشيخ محمد الحائري الخراساني ()، تم استنساخها في سامراء، وتشير الصفحة الأخيرة من المجلد الثاني بأن الفراغ من نسخها تم في يوم الأحد 23 شهر ربيع الثاني سنة 1305 ه. ولذا اعتبرت هذه النسخة الفرعية الأولى.
ج - نسخة بخط السيد عبد الحسين اللاري الدزفولي - وهو من تلاميذ السيد الشيرازي المتوفى سنة 1342 ه (). وتقع في مجلدين، الأول في مباحث الألفاظ، والثاني من مبحث القطع إلى آخرها، وقد سقط عنها مبحث الاستصحاب.
وقد وصفها الأخوان المحققان بأنها اشتملت على أخطاء كثيرة بالرغم من الجهد البالغ الذي بذله كاتبها.
ولما كان الاهتمام منصبا على تكميل دورة أصولية جامعة للمحقق الشيرازي، فقد بذل الجهد من قبل المحققين - حفظهما الله - على التصحيح والتلفيق بين هذه PageV0MP074
النسخ الثلاث.
ثانيا - المقرر:
الشيخ علي الروزدري ()، أو الآخوند المولى الروزدري () هو أحد تلامذة المرحوم الإمام السيد الشيرازي - قدس الله روحه الزكية - ومن قدمائهم، وكان من المعتمدين لديه، وقد أرسله إلى تبريز ممثلا عنه، وتوفي بها حدود عام 1290 ه (). ومن هذا يفهم أن سفره كان قبل هجرة سيدنا المترجم إلى سامراء.
وقد كتب بحث الأصول للإمام الشيرازي حينما كان يحاضرها في حوزته العلمية بالنجف، وقبل وفاة أستاذه الكبير المحقق الأنصاري، - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك - ويضيف المرحوم الطهراني: أن الشيخ علي حينما عزم على السفر إلى تبريز امتثالا لأمر أستاذه ليكون ممثلا له هناك ومرجعا لشؤون الأمة، أودع تقريرات بحث أستاذه في الأصول عند السيد الإمام، مخافة ضياعها في الطريق، وحين اطلع عليها السيد الأستاذ استحسنها، وأمر الطلاب باستنساخها () لتعميم الفائدة منها، نظرا لمتانة كتابتها واستيعابها المضامين والأفكار التي أودعها في تلك الدروس. وتضمنت تلك البحوث من أول مباحث الألفاظ إلى العام والخاص. وكتب المشتق - أيضا - مستقلا، ومر له التعادل والتراجيح ().
وحين رجوعنا إلى الذريعة لم يظهر لنا أن المرحوم الشيخ علي الروزدري PageV0MP075
كتب بحث المشتق، وكلما جاءت الإشارة إليه هو الآتي:
أ - التقريرات في مسألة المشتق ، لبعض تلاميذ آية الله المجدد الشيرازي، طبع ضمن مجموعة صغيرة في إيران في 1305 ه ().
ب - رسالة في المشتق، وهي تقرير بحث السيد المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي، المتوفى 1312 ه - مطبوعة عام 1305 ه، والمقرر هو الشيخ فضل الله ابن المولى عباس النوري، نزيل طهران، ابن أخت شيخنا العلامة النوري، وصهره على ابنته. صلب في الشهر الحرام رجب 1327 ه، وحمل إلى مقبرته في الصحن الجديد بقم ().
ان سياق الحديث الذي ذكره الطهراني يفهم أن بحث المشتق أيضا للشيخ الروزدري، ولكننا عند مراجعتنا نلحظ أنه لغيره بدليل أنه صرح في ذكر التعادل والتراجيح، وأصل البراءة للمقرر نفسه. ننتهي من هذا إلى أن المرحوم الطهراني قصد في النص السابق ذكر بحوث السيد الأستاذ في الأصول، وان كان على أساس من التلفيق. ولعل هناك شيء آخر لم أتوصل إليه.
المهم أن كاتب البحث الشيخ علي الروزدري من العلماء الأجلاء، ومن المبرزين في عصره خاصة بين تلامذة السيد الشيرازي، يؤكد هذا:
أ - اختياره لتمثيله في تبريز، والقيام بواجبات الشؤون الدينية هناك.
ب - ان السيد الإمام الشيرازي عند اطلاعه على تقريرات درسه أمر طلابه باستنساخها لتعم الفائدة بعد أن تأكد من متانة كتابتها، واستيعابه لآرائه. وهذا مؤشر على مكانته العلمية (). PageV0MP076
3 - ميزة الكتاب:
لعل من المرجح أن يدون الأستاذان الجليلان المحققان ميزة هذا الكتاب، فهما أخبر واطلع على ذلك، نظرا لأنهما قرءا، وقارنا بين آراء المرحوم السيد الشيرازي، وأفكار أستاذه المحقق الأنصاري، ومدى تفاعل المدرسة الأصولية الحديثة بهذه الأفكار من بعدهما.
وكيف ما كان فان بعض الميزات التي أستطيع أن أثبتها يمكن تلخيصها بالآتي:
1 - ان البحوث الواردة في هذا الكتاب متكفلة ببيان المطالب الأصولية بنحو دقيق ومبرهن.
2 - وأنها مشتملة على أفكار قيمة وجامعة لآراء الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي، والمقرر نفسه - الذي يظهر من ترجمته أنه على مكانة محترمة من العلم والفضل -.
3 - حسبما يستفاد من بعض المباحث - كمبحث التعادل والتراجيح - عند طرحه لمسلك المصلحة السلوكية، يتبين أنه يحاول أن يخرج برأي جديد فيها مستلخصا من أفكار الشيخ الأنصاري، وآراء الميرزا الشيرازي.
4 - إضافة إلى ما سبق أنه ذكر هوامش وتعليقات دقيقة ومتينة من المقرر نفسه بغية الفائدة.
5 - يتضمن الكتاب ذكر بعض الآراء الأصولية لمن تأخر عن أستاذه الميرزا الشيرازي، أو معاصريه، وتستحق أن تذكر نظرا لأهميتها.
6 - ان مهمة المقرر - قدس سره - تتجلى بصورة جدية في محاولة تقديم دورة أصولية متناسقة لأستاذيه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي، والتلفيق بينهما بحيث تكون الدورة متكاملة للقراء، وهو جهد كبير له أهميته وقيمته العلمية.
7 - حرص المقرر على ربط الفكر الماضي بالحاضر من خلال رأي أستاذيه العلمين: الأنصاري، والشيرازي، وإظهار تقدم هذا العلم بالمستوى المرحلي في ميدان PageV0MP077
الفقه الإسلامي ومدى الاستفادة منه. وهو عمل علمي مهم، يؤكد على تطوره في الفقه الإمامي الأصولي.
رابعا - مع المحققين:
ولا شك أن الأخوين الجليلين فضيلة الشيخ محمد جواد أنصاريان، وفضيلة الشيخ محمد رضا خراشادي قد بذلا جهدا كبيرا، وعملا مقدرا في سبيل تحقيق هذا الكتاب الجليل، وإخراجه سليما من كل شائبة، ويمكن حصر مهمتهما بالآتي:
1 - جمع النسخ الثلاث المخطوطة، المقارنة فيما بينها، ثم استخراج نسخة منها اعتمد عليها في الطبع.
2 - تقديم دورة أصولية كاملة للقراء الأفاضل من تقرير الإمام الشيرازي من مجموع هذه النسخ، وإتمام الناقص في نسخة الأصل من النسختين الفرعيتين، اللتين أشرنا إليهما.
3 - الاستعانة بأساتذة الاختصاص في الحوزة العلمية لحل بعض العبارات المبهمة أو الممسوحة، وكذلك بالاستعانة ببعض الكتب الأصولية المخطوطة والمطبوعة، مع الإشارة لكل ذلك في الهوامش.
4 - رتبت المباحث حسب ترتيب النسخة الفرعية (نسخة الحائري) لأن نسخة الأصل كانت مضطربة الترتيب بالتقديم والتأخير، وجاء ترتيب نسخة الحائري هكذا:
المجلد الأول يضم:
1 - مبحث الوضع وما يرتبط به.
2 - الحقيقة الشرعية.
3 - المشتق.
4 - الصحيح والأعم.
5 - دلالة الأمر على الوجوب. PageV0MP078
6 - الفور والتراخي.
7 - المرة والتكرار.
المجلد الثاني - ويضم:
1 - مبحث الأجزاء.
2 - مقدمة الواجب.
3 - اجتماع الأمر والنهي 4 - في دلالة النهي عن الفساد.
5 - المفاهيم.
6 - تداخل الأسباب.
المجلد الثالث - ويضم.
1 - مبحث القطع.
2 - الظن.
3 - البراءة.
4 - الاشتغال 5 - التعادل والتراجيح.
وقد جعل ترتيب المجلدات هكذا، لأن النسخة الفرعية (نسخة الحائري) كاشفة عن أن نسخة الأصل كان ترتيبها هكذا حين استنسخ الحائري نسخته عنها.
5 - ولما كان مبحث الصحيح والأعم ناقصا في نسخة الأصل (الروزدري) وكان هذا النقص في أول المبحث، فقد قدم ما في نسخة اللاري، ثم اتبع بما هو موجود منه في نسخة الأصل.
6 - أما في مبحث البراءة فقد كان الأمر بالعكس حيث تمم المبحث بما ذكره اللاري في نسخته. PageV0MP079
7 - اسناد المطاليب إلى قائليها، أو إلى المصادر المذكورة فيها، ولأجل التوضيح ذكر في بعض الأحيان نص عبارات الكتب أو القائلين.
ان هذا الجهد الذي بذله المحققان له أهميته الخاصة في إبراز معالم الكتاب سليما ومفيدا، وهو في الوقت نفسه جهد مرهق، خاصة إذا اطلعنا على نسخة الأصل، ونسخة الحائري، ورداءة الخط، وكثرة التشطيب فيهما، وما إلى ذلك من الأمور التي تضر بقيمة المخطوطة، وتقلل من أهميتها، ولكن العمل الرائع الذي أسداه الأخوان المحققان أكمل هذه النواقص وأتحفا المكتبة الأصولية العلمية بفكر جدير بالإثبات، لأنه يعتبر حلقة الوصل بين المدرسة الأصولية القديمة والحديثة.
فلهما كل تقديري واعتزازي، راجيا من الله سبحانه أن يوفقهما وأمثالهما من العاملين في إحياء التراث الإسلامي، انه سميع مجيب.
خامسا - مع مؤسسة آل البيت لإحياء التراث الإسلامي:
هذه المؤسسة الفتية، والتي قامت على سواعد شابة، وأفكار حية، وهمة عالية، حققت الكثير في فترة في حساب الإنشاء والتركيز قصيرة جدا، قد يصعب على الكثيرين ممن لهم طول الباع، وسعة الإمكانات، إنجاز مثل هذا العمل التراثي الرائع، والذي نحن بحاجة شديدة إليه.
حين سمعت بقيام المؤسسة كنت أشك أن تتمكن الإدارة الشابة أن تحقق أهداف مؤسسيها، لأنها واسعة إلى درجة يصعب تصورها، ثم بعد زمان توفقت لزيارتها وشاهدت ما لم يكن بالحسبان، لجانا متعددة، تعمل كل واحدة في جهة، ورأيت استعدادا لدى الإخوة العاملين فيها على اختلاف أعمالهم روح التعاون والإصرار على إنجاح العمل، وتحقيق أهداف المؤسسين لها، وقابلت كل ذلك ومن الجميع باعتزاز وافتخار وإعجاب، ويشهد الله أكبرت العمل وقدرت الجهد، وغمرتني الفرحة كل الفرحة أن الشيء الذي تمنيته منذ زمان في طريقه للتحقيق، وكل مولود ينمو ويكبر حتى يكون في يوم ما عملاقا يباهل به.
ليس هذا العمل التراثي الفكري حكرا على فئة، أو جهة، أو دولة، كلا، PageV0MP080
فالمعيار القابلية، والاستعداد، والمثابرة، يحقق الإنسان الهادف ما يريد. خاصة وأن هذه المؤسسة ليست تجارية، ولا للاستفادة الشخصية، ولا لعمل يراد منه منصب، إنما هو للعقيدة، للفكر الحر، للعلم، للإنسانية.
وإذا كنا حريصين على إبقاء هذه المؤسسة حية نامية، علينا أن ندعمها ونسندها كل حسب إمكاناته ومساعداته. وقد دلل الإخوة العاملون فيها جميعا على أن ما ظهر لهم من إحياء التراث الفكري الإمامي، قد يربو على المائة مشروع - كما أتصور - وأرجو أن يكون أكثر.
واني على ثقة - وكما أعرف المؤسسين جيدا - أن السواعد التي تبني هذا الصرح الفكري، سوف تخلد، ولن تبلى، وتستحق التكريم والتقدير، فلهم مني كل الإكبار والدعاء إلى العلي القدير أن يوفقهم ويوفقنا لإعلاء كلمة الإسلام، وجعلها هي العليا، وهو ولي التوفيق.
في: 1 رجب 1409 ه - محمد السيد علي بحر العلوم. PageV0MP081
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي في تقسيمات الألفاظ في تقسيم اللفظ باعتبار المعنى الموضوع له أصل قد ينقسم اللفظ - الموضوع باعتبار المعنى الموضوع له - إلى متحد المعنى، ومتكثره.
والمتكثر إلى المشترك، والمبهمات، والمنقول، والمرتجل لأن الموضوع له فيهما متعدد، وإن كان المنقول مهجورا عن المعنى الأول على المختار، لأن النظر في التقسيم على الموضوع له، مع قطع النظر عن بقاء استعمال اللفظ فيه وعدمه.
وأما الحقيقة والمجاز، فهما صفتان عارضتان للفظ، بملاحظة الاستعمال، لا بملاحظة الموضوع له، ومن جعله من أقسام متكثر المعنى، كصاحب المعالم، فأراد بالمعنى المستعمل فيه.
ويشكل ما صار إليه رحمه الله من حيث انحصار الألفاظ - على ما ذهب إليه - في متكثر المعنى، إذ ما من لفظ متحد الموضوع له إلا ويصح استعماله في معنى مجازا، حتى قيل بذلك - أعني بجواز استعمال كل لفظ في معنى آخر مجازا - في الأعلام الشخصية إلا في لفظ الجلالة، للنهي الشرعي عنه، مع أن الأعلام ليست من اللغات، ولا تنسب إلى لغة دون أخرى على المختار.
ثم المشترك - أي المشترك اللفظي - له تعريفات، أجودها ما في غاية المرام، من أنه هو اللفظ الموضوع لمعنيين ابتداء، والأولى زيادة قيد (تفصيلا) لإخراج
Sayfa 3
المبهمات، فان الموضوع له فيها متكثر، إلا أن اللفظ لم يوضع لكل واحد تفصيلا بل وضع للجزئيات إجمالا، وزاد بعضهم قيد عدم المناسبة، فان أراد عدم وجود المناسبة رأسا، فهو سهو، إذ لا يجب ذلك في المشتركات، بل توجد المناسبة بين كثير من معاني المشتركات، وإن أراد عدم ملاحظتها فهو جيد، إلا أنه لا حاجة إليه لأن قيد (ابتداء) يغني عنه.
وأما المنقول والمرتجل فيشاركانه في التعريف عدا القيد الأخير، أعني قيد ابتداء لأن الوضع فيهما على الترتيب، والتراخي عن الوضع الأول للمعنى الأول، وهما يتفارقان في اعتبار الهجر عن المعنى الأول، بحيث يحتاج إلى نصب قرينة إذا أريد استعمال اللفظ في المعنى الأول، أي المنقول على المختار، دون الثاني، وهو المرتجل وأيضا ملاحظة المناسبة بين المعنى الأول والثاني معتبرة في المنقول دون المرتجل.
ثم إن غرضنا من الترتيب حصول الوضع في المعنى الثاني، في آن مغاير لآن وضع اللفظ للمعنى الأول، بحيث يعد العرف هذين الآنين زمانين متغايرين. ومن الابتداء حصول الوضع لكلا المعنيين في آن واحد عرفا، فإنه لا يمكن حصوله لهما في آن واحد حقيقي، وبعبارة أخرى بحيث يعد العرف آنيهما آنا وزمانا واحدا.
ثم إن جعل المنقول والمرتجل قسمين للمشترك، وللحقيقة والمجاز، بناء على المختار عندنا، وإلا فظاهر الأكثر، وصريح التفتازاني - في شرح الشرح - والقوانين دخول المرتجل في المشترك، وظاهر المعالم دخولهما في المجاز، حيث إنه - رحمه الله - جعلهما، والحقيقة والمجاز مما يختص فيه الوضع بواحد.
والتقسيم الذي ذكرنا لا ينطبق على ما صار إليه صاحب المعالم، إلا بملاحظة المستعمل فيه، كما أشرنا إليه سابقا، وأما على ما صار إليه الأكثر فهو وإن كان منطبقا إلا أنه لا بد من تعميم تعريف المشترك بحيث يشمل المرتجل.
ويمكن انطباق ما ذكرنا من تعريفه عليه على ما صاروا إليه بزيادة قيد (من غير مناسبة) وإسقاط قيد الابتداء، بأن يقال المشترك: هو اللفظ الموضوع لمعنيين تفصيلا من غير مناسبة، فقيد (تفصيلا) لإخراج المبهمات كما عرفت، وقيد (من غير مناسبة) لإخراج المنقول، والمراد بعدم المناسبة عدم ملاحظتها لا عدمها رأسا.
ويمكن انطباق التعريف المذكور عليه من دون زيادة، ونقصان فيه، بأن يراد بالابتداء عدم ملاحظة المناسبة فلا حاجة إلى زيادة لفظ (من غير مناسبة) وهذا أجود.
Sayfa 4
ثم إنه أورد سلطان المحققين على صاحب المعالم - حيث جعل المرتجل والمنقول من أقسام المجاز () - بوجهين:
الأول: إن ذلك خلاف تصريح القوم، بأنهما من المعاني الحقيقية الموضوع لها الألفاظ.
الثاني: إن استعمال المرتجل حينئذ - غير صحيح، لأن الاستعمال الصحيح ناشئ: إما عن الوضع، فالمفروض اختصاصه بالمعنى الأول الموضوع له اللفظ أولا، ولا وضع للفظ في ذلك المعنى المرتجل له بالفرض، حتى يجوز الاستعمال لأجله. وإما عن ملاحظة المناسبة فالمسلم المعروف اعتبار عدمها في المرتجل حتى أن بعضهم اعتبروا عدم وجود المناسبة رأسا، فيكون الاستعمال حينئذ غلطا (1).
ويمكن الجواب عن الوجهين، بأن مراد صاحب المعالم من اختصاص الوضع بواحد، هو الوضع التخصيصي الذي هو فعل الواضع، كما هو الظاهر من الوضع عند الإطلاق لا مطلقا، حتى التخصص، بل استعماله فيه مجاز باعتبار بعض العلائق بينه وبين التخصيصي، فإن الوضع التخصصي إنما هو مجرد العلقة الحاصلة من كثرة الاستعمالات المجازية بغير قرينة متصلة، والظاهر من الوضع هو فعل الواضع الذي يصير سببا للعلقة بين هذا اللفظ وذلك المعنى، فكأن العلاقة في التعييني هي السببية والمسببية، والوضع التخصيصي وإن كان يوجد في بعض أفراد المنقول، إلا أن الغالب فيه هو التخصص، فجمعه - رحمه الله - المنقول والمرتجل والحقيقة والمجاز، في حقيقة واحدة لاشتراكهما معه في اختصاص الوضع التخصيصي بواحد منهما أيضا نظرا إلى الغالب فيهما، لا لعده إياهما مجازا، ولا ريب أن الحقيقة لا تستلزم الوضع التعييني بل ظاهر قوله - رحمه الله - أو صريحه وإن غلب كون المنقول حقيقة، لأن المراد بالغلبة باعترافه - رحمه الله - هو هجر المعنى الأول، ومن الواضح أن هجر الأول يستلزم اختصاص اللفظ بالثاني.
هذا، لكن الإنصاف أن هذا الجواب لا يدفع السؤال عنه - رحمه الله - بالنسبة إلى
Sayfa 5
المرتجل إذا الظاهر أن وضعه لا يكون إلا على سبيل التخصيص، لأن الوضع التخصصي - كما عرفت - حاصل بالاستعمالات المجازية المبنية على ملاحظة المناسبة، وهي متعذرة في المرتجل لأن المعروف من تعريفه أخذ قيد اعتبار عدم المناسبة، أو عدم اعتبارها فيه، وعلى التقديرين يجب أن لا تلاحظ فيه المناسبة مطلقا، حتى ملاحظة علاقة التضاد، فلا يجدي ما يتوهم من جعل عدم المناسبة علاقة للتجوز، فيجب أن يكون وضعه تخصيصا، فاختصاص الوضع بواحد في المرتجل يدل على نفي الوضع بالنسبة إلى المعنى الثاني، لأن الواحد الذي يختص به الوضع، لو كان هو المعنى المرتجل إليه يلزم نفي الوضع من المعنى الأول، وهو خلف، فحينئذ يتجه الوجه الثاني من الإيراد.
هذا، ثم إن جعل المرتجل من أقسام المشترك مبني على عدم اعتبار هجر المعنى الأول في المرتجل لوضوح عدم مساعدة الاصطلاح على صدق المشترك على ما هجر أحد معنييه، وإلا لدخل المنقول أيضا، وهو خلاف ظاهر الأكثر، وإن أدرجه التفتازاني في تعريف الحاجبي للمشترك، وحينئذ فلا يبقى فرق بين المشتركات، حتى يسمى بعضها بالمرتجل دون بعض.
نعم لو قيل باعتبار عدم المناسبة بين المعنيين - في المرتجل صح تقسيم المشترك إلى مرتجل وغيره، وأما إذا قيل بكفاية عدم اعتبار المناسبة فلا.
وكيف كان فإدخاله في المشترك بعيد عن كلمات القوم.
أما أولا: فلأن المرتجل في كثير من الكلمات قسيم للمشترك.
وأما ثانيا: فلأنهم يفرقون بين المنقول والمرتجل باعتبار المناسبة في الأول، دون الثاني، كما اعترف به المحقق القمي - رحمه الله - حيث جعل أخذ عدم المناسبة في تعريف المرتجل تعسفا.
وقد يقال في الفرق بين المرتجل وسائر أقسام المشترك التي هي المشترك بالمعنى الأخص: إن المرتجل ما كان أحد وضعيه من الواضع، والآخر من العرف، مع بقاء المعنى اللغوي، بأن كان اللفظ في اللغة موضوعا لمعنى، ثم طرأ له في العرف وضع آخر لمعنى آخر ابتداء ، من دون ملاحظة مناسبة للمعنى اللغوي، فالمشترك على قسمين:
أحدهما: ما كان جميع أوضاعه من الواضع.
والثاني: ما كان أحد الأوضاع من أهل العرف. فالأول هو المشترك بالمعنى الأخص، والثاني هو المرتجل وهذا ظاهر التفتازاني وهو حسن.
Sayfa 6
ويرد على تعريف المنقول دخول المشترك المشهور في بعض معانيه، لأن غير المشهور يحتاج في إرادته إلى نصب قرينة.
ويدفع أولا: بمنع صلاحية الشهرة لهجر بعض المعاني، إلا على القول بالتوقف في المجاز المشهور، أو الحمل على المعنى المجازي.
وثانيا: بأن المراد بالهجر ما يحوج () إلى نصب القرينة الصارفة، لا مطلق القرينة.
وكيف كان فالمنقول ينقسم إلى تخصيصي وتخصصي، وقد سبق في تقسيم الوضع أن منشأ التخصص هو الاستعمالات المجردة عن القرائن، خلافا لبعض المحققين.
ثم إنه قال في القوانين (): والثاني - أعني التخصص - يثمر مع معلومية تاريخ التخصص. وفيه نظر.
أما أولا: فلأن ثمرة النقل إنما هي حمل اللفظ على المنقول إليه، وهذه تترتب على النقل التخصصي مطلقا، أما مع معلومية التاريخ فواضح.
وأما مع عدمها فلأن أصالة تأخر استعمال المعصوم عليه السلام ذلك عن زمان حصول التخصص تقتضي حمل اللفظ على المعنى الثاني، ولا تعارضها أصالة تأخر التخصص عن زمان الاستعمال، كما هو الوجه في حكمه - رحمه الله - بالإجمال حينئذ على الظاهر، فان التخصص ليس من الأمور الأصلية والحوادث المستقلة في عرض الاستعمال، حتى يكون بنفسه موردا للاستصحاب، فيعارض استصحابه أصالة تأخر الاستعمال، بل هو من الأمور التبعية، ومن قبيل لوازم الماهيات التي جريان الأصل فيها يتبع جريانه في ملزوماتها، والمفروض عدم جريانه في ملزوم التخصص الذي هو الاستعمال، لأن بلوغه إلى درجة النقل مقطوع به.
اللهم إلا أن يقال إن مقطوعية الاستعمال تمنع من جريان الأصل في نفس الاستعمال بالنسبة إلى زمان القطع. لكن نقول إن ملزوم التخصص، وسببه ليس إلا الاستعمال الأخير من سائر الاستعمالات المجازية، الذي بلغ اللفظ عنده إلى درجة التخصص، والاستغناء عن القرينة، وهو مشكوك فيه بالنسبة إلى زمان صدور هذا
Sayfa 7
اللفظ من المعصوم عليه السلام، فيجري فيه أصالة تأخره عن زمان صدور.. هذا اللفظ واستعمال الإمام عليه السلام إياه، فيقع التعارض بينها وبين أصالة تأخر استعمال المعصوم عليه السلام عن زمان حصول التخصص.
وأيضا إن الأصل في اللوازم والأمور التبعية إنما لا يجدي إذا جرى في ملزوماتها، فإذا فرضنا عدم جريانه فيما نحن فيه في الملزوم الذي هو الاستعمال، فيجري في اللازم الذي هو التخصص، فيقع التعارض أيضا لذلك.
هذا، لكنه مدفوع بأن تعارض الأصلين فيما نحن فيه، قد ينتج التوقف بل يقتضي التقارن، لما ثبت - في مبحث تعارض العرف واللغة - من أن الأصل في مجهول التاريخ التقارن، وعليه عمل الأكثر، فإذا ثبت التقارن بالأصل، فهو يقتضي أن يكون آخر استعمال يتحقق به التخصص، هو ورود هذا اللفظ من المعصوم عليه السلام واستعماله له، لأن الاستعمال المقارن لحصول النقل لا يتصور في النقل التخصصي، إلا في المعنى المنقول، فيحمل على المعنى المنقول إليه.
هب أن يكون ذلك الاستعمال مجازا، لعدم تحققه بعد حصول التخصص، لأن الغرض حمل اللفظ على المعنى الثاني، سواء أريد منه مجازا أو حقيقة، وليس هذا الأصل من الأصول المثبتة، لأنها في الأحكام الشرعية، وإثباتها باللوازم العقلية والعادية، والغرض هنا ترتيب الآثار الشرعية عليه فإن كون استعمال المعصوم عليه السلام ذلك - هو الاستعمال الذي يتحقق به التخصص - ليس من الأحكام الشرعية، كيف وجميع الأصول اللفظية كأصالة الحقيقة، وأصالة عدم القرينة وغيرها من الأصول مثبتة لأمر آخر.
وكيف كان فالأصول المثبتة لأمر معتبرة في مقام الألفاظ مطلقا.
والسر فيه أنها معتبرة هنا من باب الظن، وأما الأصول الجارية في إثبات الأحكام، فعدم اعتبار المثبت منها - أيضا - على القول بالتعبد وأما على اعتبارها من باب الظن فهي كالأصول اللفظية.
وأما ثانيا: فلأن ورود الإشكال في النقل التخصيصي - عند الجهل بالتاريخ - أوضح منه في التخصصي، الذي خصه به، إذ مع ثبوت التقارن فيه أيضا لا يثبت استعمال هذا اللفظ في المعنى المنقول إليه، لإمكان اتحاد وضع أحد من العرف ذلك اللفظ للمعنى المنقول إليه، حين استعمال هذا اللفظ في هذا الاستعمال الخاص في
Sayfa 8
المعنى المنقول منه، الذي هو المعنى الأول.
هذا، ويمكن توجيه كلام المحقق المذكور من وجهين:
الأول: أن يقال بتغليط النسخة بأن يكون عبارته رحمه الله التخصيصي مكان التخصصي، ويكون مراده إيراد الإشكال في التخصيصي، فيكون إشكاله في محله.
الثاني: أن يقال: إنه رحمه الله لم يعتن بأصالة التعارض، بل الإشكال كان عنده واردا في كلا القسمين من قسمي المنقول أولا وبالذات، إلا أنه لما كان الغالب والعادة والطريقة على ضبط تاريخ المنقول التخصيصي، فلم يتعرض للإشكال فيه لدفعه لذلك، وتخصيصه الإشكال بالقسم الثاني، الذي هو النقل التخصصي، لعدم الضبط في تاريخه، فيكون التقييد بهذا القسم من باب تحقيق مورد الإشكال فعلا، لا للتحرز عن القسم الآخر، وهذا من قبيل سائر القيود التي يذكرونها لتحقيق موضوع الحكم، ولا يقصدون به الاحتراز عن شيء، مثل قولهم: إن رزقت ولدا فاختنه، وإن قدم زيد من السفر فزره.
وهكذا ينقسم اللفظ باعتبار الاستعمال إلى الحقيقة والمجاز، والكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة: الأول في تعريفهما، والثاني في بيان أقسامهما إيماء، والثالث في ذكر أحكامهما.
أما المقام الأول، فقبل الشروع فيه نقول: إن الحقيقة فعيلة من حق يحق حقا إذا ثبت، والتاء فيها ناقلة، إن كانت بمعنى المفعولة، لعدم مراعاة علامة التأنيث في الفعيل، إذا كان بمعناها. وإن كانت بمعنى فاعلة فالظاهر أنها أيضا ناقلة، إذ معنى الحقيقة الآن إنما هو نفس اللفظ المستعمل وجوهره، بحيث سلبت منها جهة الوصفية التي كانت فيها في الأصل.
هذا، مع إمكان أن يكون مراعاة أحكام تأنيثها على أن أصلها بمعنى فاعلة.
وأما المجاز فهو مصدر ميمي من جاز يجوز جوازا، ونقل في الاصطلاح إلى الكلمة الجائزة عن معناها الحقيقي إلى غيره بواسطة أو بواسطتين. أما الأول فواضح، وأما الثاني فبنقله عن معناه المصدري إلى مطلق الجائز من حمل إلى آخر، ثم بنقله منه إلى الكلمة الجائزة. وكيف كان فهذا معناهما في الأصل.
وأما في الاصطلاح فقد عرفوهما بتعاريف:
Sayfa 9
منها: ما عن الحاجبي (1) من أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في وضع أول.
ومنها: ما عن جماعة منهم المحقق (2) القمي - رحمة الله عليه - من أنها هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التخاطب (3).
ومنها: ما عن آخرين منهم الشيخ (4) محمد تقي من أنها هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له من حيث إنه ما وضعت له.
ويعرف تعريف المجاز على كل منها بقرينة المقابلة.
ثم إن في المقام كلمات من هؤلاء الأقوام من النقض والإبرام، إلا أن غرضنا لما كان الاقتصار بما يقضى به المرام فلم نطل الكلام في ذكرها، وتفصيلها، ثم جرحها، وتعديلها.
وكيف كان فلا بأس بكل واحد من تلك التعاريف الثلاثة عندنا، وإن أورد على الأول بإيرادات كثيرة.
لكنها مدفوعة بأسرها: بحمل كلمة (في) في قوله (في وضع أول) على السببية كما لا يخفى على المتأمل في تلك الإيرادات، والشاهد على هذا الاستعمال تتبع استعمالات العرب، ومنه قوله: امرأة دخلت النار في هرة حبستها أي بسببها.. لكن الإنصاف عدم سلامته من السؤال، حيث أن كلمة (في) وإن كانت تستعمل في السببية، لكن الظاهر أن هذا الاستعمال مجاز، لأن الظاهر منها عند الإطلاق هي الظرفية، ولا ريب في عدم جواز الاستعمالات المجازية في الحدود سيما مع عدم القرينة الصارفة للألفاظ المعينة له في المراد، لأن اهتمامهم في الحدود كاهتمام الشرع في البيوع
Sayfa 10
وسائر العقود، فكما أن العقود مبنية على المغابنة فيجب منها الإتيان بالألفاظ الصريحة في المقصود، الرافعة للجهالة عما تعلقت به العقود، فكذلك الحدود مبنية على المماكسة في حفظ القيود، الدخيلة في توضيح المحدود، حيث ان كل ذي علم واضعه إنما كان غرضه من التعريف تحديد مسائل هذا العلم، بجامع بينها لفائدة السهولة في التعبير عنها بسبب التعبير عن هذا الجامع، فلا بد من الإتيان بألفاظ صريحة في الكشف عن هذا الجامع بما هو عليه من كونه حاويا لأفراده، ومانعا من غيرها. ولأجل ما ذكرنا من فائدة سهولة التعبير تراهم يعتبرون قلة مباني ألفاظ المعرف بها، وخفتها على اللسان أيضا.
فإن قيل: لا يصح استعمال كلمة (في) في السببية مجازا، بعد فرض كونها حقيقة في الظرفية، لعدم العلاقة الظاهرة بينهما.
قلنا: سلمنا، فتكون مشتركة مستعملة في أحد معنييها بلا قرينة معينة، فيعود المحذور.
وأما التعريف الثاني، فهو وإن كان مساويا للثالث، من حيث وضوح الدلالة، لكنه لما كانت كلماته أخف على اللسان فهو الأولى والأرجح فتأمل.
نعم قد استشكل فيه السيد بحر العلوم - رحمه الله - في شرحه للمبادئ العراقية من وجهين:
أحدهما: أنه يختل التعريف، لصدق كل من تعريفي الحقيقة والمجاز على ما يصدق عليه الآخر، لأنه إذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي، ثم استعمل في معناه المجازي يصدق على هذا اللفظ أنه كلمة مستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التخاطب، ويصدق عليه أيضا أنه كلمة مستعملة في خلاف ما وضعت له كذلك. ثم قال اللهم إلا أن يقال: إن نظر القوم في التعريفين إلى الخصوصيات المتشخصة بالأزمان، فيدفع عنهم هذا الإيراد، لأن هذا اللفظ باعتبار خصوصية استعماله في الأمس غير هذا اللفظ باعتبار خصوصية استعماله في الغد.
وكأنه - قدس سره - استظهر - من كلمات القوم - أن نظرهم إلى نوع الألفاظ من حيث الزمان، كما أن نظرهم إلى نوعها - من حيث خصوصيات المستعملين - وأنت ترى ما فيه، من بعد نسبة ما استظهره، بل عدم إمكانها على القوم،
Sayfa 11
إذ لا ريب أن اتصاف اللفظ بوصفي الحقيقة والمجاز إنما هو باعتبار استعمال اللفظ فيما وضع له، أو في غيره، فما لم يتحقق الاستعمال لا يتصف بشيء منهما، ولا ريب أن الاستعمال لا يتحقق إلا في ضمن الخصوصيات، فالمتصف بهذين الوصفين هي، لا الكلي الذي لا يمكن استعماله إلا باستعمالها، بل نسبة الاستعمال إليه - حينئذ - مجاز جدا.
وبعبارة أخرى أحسن: إن نظرهم في التعريفين للحقيقة والمجاز إنما هو إلى الكلمة المستعملة، وهي لا تكون إلا جزئيا من الجزئيات المتشخصة الخارجية، وهي لا يمكن صدق بعضها على بعض فيختل التعريف.
الثاني من وجهي الإشكال أنه يختل التعريف أيضا ، وينتقض بما إذا كان اللفظ مشتركا بين معنيين بينهما علاقة، فاستعمل في أحدهما لعلاقة بينه وبين الآخر، لا لكونه أحد معنييه، إذ لا ريب أن ذلك الاستعمال مجاز، مع أنه لا يصدق عليه تعريفه، لأنه لم يستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح يقع به التخاطب، ويصدق عليه تعريف الحقيقة، مع أنه ليس من أفرادها، فلا بد من الإتيان بقيد الحيثية كما في التعريف الثالث، فيندفع الإشكال.
ثم إنه - قدس سره - أورد على نفسه، بأنه ما فائدة هذا الاستعمال والتعويل فيه على العلاقة مع وجود السبب المجوز له، وهو الوضع، فأجاب بأن فائدته حصول الفرق بين كلام هذا المستعمل الملتفت إلى المناسبات والعلائق بين المعاني، وبين كلام العامي المبتذل الذي لا يعرف شيئا من تلك الوجوه. انتهى.
وفيه منع جواز مثل هذا الاستعمال من وجهين:
أحدهما: كونه لغوا إذ بعد ما كان غرض المتكلم إفهام هذا المعنى، هو ينادي بإرادته من اللفظ بإطلاقه مع القرينة المعينة، فلا حاجة إلى العدول عنه إلى ما ذكره، فالفائدة التي ذكرها من حصول الفرق، ففيها: أن استعمال اللفظ فيما يمكن فيه للعلاقة بين المعنيين، وداعيها مما لا يمكن اطلاع المخاطب عليه حين الخطاب، بل الذي يفهمه حينئذ إنما هو إرادة هذا المعنى، فإن أراد المتكلم إفهامه أيضا أني قصدت بالكلام إفهام هذا المعنى بملاحظة المناسبة لحصول الفرق المذكور، فهو من أقبح الأمور التي لا يرتكبها إلا السفهاء، بل إلا المجانين.
وثانيهما: إن الاستعمال المجازي لا بد أن يترتب عليه ما ذكروا له من
Sayfa 12
البديعية، التي منها انتقال السامع من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، فإنه إذا قيل رأيت أسدا يرمي، فعند إطلاق الأسد ينتقل السامع إلى الحيوان المفترس، فإذا ذكر لفظ يرمى ينتقل إلى الرجل الشجاع، ولا ريب أن هذه الفائدة ممتنعة الوجود فيما فرضه - قدس سره - إذ لا شبهة أن اللفظ المشترك إذا أطلق بلا قرينة فهو مجمل، لا ينتقل السامع منه إلى معنى، فإذا اقترن بالقرينة المعينة فيظهر للسامع أن المراد منه ذلك المعنى، لا أنه ينتقل من شيئين إلى هذا المعنى، ويدل على ما ذكرنا أيضا أنهم اعتبروا في المجاز اقترانه بالقرينة الصارفة، ولا ريب أنه لا يمكن الإتيان بها فيما نحن فيه، إذ لا يتحقق وصف الصارفية إلا بعد ظهور اللفظ في معناه الحقيقي.
المقام الثاني في أقسامهما، فنقول: إنهما ينقسمان بملاحظة الواضع إلى الحقيقة اللغوية، والمجاز كذلك، وإلى العرفية كذلك، عاما، وخاصا، وبملاحظة كثرة استعمال اللفظ في الموضوع له، أو في غيره إلى الراجحين، أو المرجوحين، وهكذا إلى سائر التقسيمات الملحوظة على حسب الاعتبارات التي ليس التعرض لذكرها بمهم.
وإنما المهم التعرض لحال الكناية، وتحقيق أنها من أقسام الحقيقة، والمجاز، أو واسطة.
ويقع الكلام هنا في مقامات ثلاثة:
الأول في تعريفها، إنها على القول بكونها من أقسام الحقيقة، فهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في وضع أول، أو في اصطلاح يقع به التخاطب، أو من حيث إنه ما وضعت له - على اختلاف التعاريف للحقيقة - للانتقال منه إلى لازمه، وعلى القول بكونها من أقسام المجاز فهي مندرجة في تعريف المجاز، حسب ما عرفوه على اختلاف تعاريفه قبال تعاريف الحقيقة.
وأما على القول بكونها واسطة، كما يظهر من متن المطول، فهي على ما عرفه الماتن: هي اللفظ المراد منه معناه وغير معناه معا، فإنه قال: اللفظ إن أريد منه معناه وحده فهو الحقيقة، وإن أريد منه غير معناه وحده فهو المجاز، وإن أريد منه معناه وغير معناه فهو الكناية.
ثم إن خير الأقوال أوسطها، لما سيظهر لك من ضعف طرفيها، فنقول: إنه يرد على الماتن المذكور وجوه:
الأول ما ترى فيه بين تعريفه للكناية وبين تقسيمه إياها إلى قسمين:
Sayfa 13
أحدهما ما عرفها به، والآخر الكلمة المستعملة في اللازم وحده، فإن تعريفه إنما هو للقسم الأول، وهو الكلمة المستعملة في الموضوع له ولازمه معا، ولم يكن له شمول بالنسبة إلى القسم الآخر الذي زاده في التقسيم.
الثاني: عدم بقاء الفرق حينئذ بين المجاز والكناية إذا استعمل اللفظ في اللازم وحده لصدق تعريفهما عليه حينئذ.
فإن قيل: إن الفرق بينهما ما قالوا بأن المجاز ملزوم للقرينة المعاندة للمعنى الحقيقي بخلاف الكناية.
قلنا أولا: إن هذا الفرق لفظي جئنا بفرق معنوي.
وثانيا: إنا نمنع هذا الفرق أيضا، لأنه لا يعقل استعمال الكناية أيضا بلا قرينة بكلا قسميها، إذ لا ريب أن اللفظ بوضعه لا يدل على اللازم، ولا ينصرف إليه بوجه، بل يفهم منه مجردا عن القرينة الملزوم وحده، ولا يصرف ذهن السامع إلى اللازم بوجه، فإنه لو لا القرينة لفهم من قوله: (زيد كثير الرماد) معناه الحقيقي، فيحتمل كونه حماميا، أو طباخا، أو غير ذلك من أرباب الحرف التي يحصل منها الرماد كثيرا، وكذلك يفهم من قوله: (زيد جبان الكلب) معناه الحقيقي لا غير.
وكيف كان، فالانصراف من اللفظ إلى لازم معناه لا يمكن إلا بالقرينة.
ثم إذا ثبت الاحتياج إلى القرينة، فنقول: إنها إما ملائمة للمعنى الحقيقي، أو معاندة له، ومانعة من إرادته من اللفظ، فإن كانت ملائمة لا يجوز كونها صارفة لذهن المخاطب إلى غير الموضوع له، مع أن الوضع يقتضي ظهور اللفظ في إرادة الموضوع له، ولا يعقل ذلك، فإذن وجب كونها معاندة لإرادة الحقيقة، فلا نعني بالقرينة المعاندة إلا هذه، ولا بالمجاز إلا ما كان ملزوما لها، فانتفى الفرق.
ومن هنا ظهر ضعف القول الأول أيضا، إذ لا يعقل الانتقال إلا باستعمال اللفظ في اللازم مع القرينة المعاندة، فيكون اللفظ مجازا.
الثالث: منافاة ما ذكره في تعريف الكناية - من أنها الكلمة المستعملة في الموضوع له ولازمه معا - لما أجمع العلماء ظاهرا عليه، من عدم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، حقيقة كان الزائد، أو مجازا، والمخالف في المسألة ضعيف جدا. بحيث يقطع بالاتفاق.
أقول يمكن دفع المنافاة بأن محل النزاع هناك في جواز استعمال اللفظ في
Sayfa 14
المعنيين، أو في المعنى الحقيقي والمجازي، بحيث كان كل منهما موردا للحكم ومتعلقا للإثبات والنفي، ولا ريب أن النظر في باب الكناية إلى إثبات الحكم للازم، وهو المقصود به، ولو فرض استعمال اللفظ في المعنى ولازمه معا من باب الكناية، فهو خارج عن المتنازع فيه هناك، إذ المقصود في باب الكناية إثبات الحكم أو نفيه بالنسبة إلى اللازم وحده. فافهم.
المقام الثاني - في أن الكناية هل يعامل معها معاملة الحقيقة، أو معاملة المجاز من حيث اقترانها بالقرينة الصارفة وعدمه، ونحن بعد ما بينا آنفا في الإشكال على القول الثالث، من وجوب الإتيان بالقرينة المعاندة، فلا بد من الالتزام بالاحتمال الثاني لا غير.
المقام الثالث - في تعارض احتمال الكناية لاحتمال غيرها من الحقيقة والمجاز.
فنقول: إذا وقع التعارض بين احتمالها مع احتمال الحقيقة، فالراجح هو إرادة الحقيقة، أما على القول الثاني فواضح، وعلى القول الأول فلأن الكناية لا بد فيها من ملاحظة خصوصية زائدة على ما يلاحظ في الحقيقة، فالأصل عدمها فيتعين الحقيقة.
وأما إذا وقع التعارض بين احتمالها واحتمال المجاز، فعلى القول الأول يرجح احتمالها على المجاز، وهكذا على القول الثالث، بناء على ما قيل من الفرق بينها وبين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه دونها، إذ المجاز حينئذ خصوصية زائدة نشك في حصولها، فالأصل عدمها فيتعين الكناية.
وأما على ما اخترنا من القول الثالث، فسنفصل الكلام فيه في باب تعارض الأحوال إن شاء الله، وإن لم يذكره أحد هناك.
ثم إن القول بكون الكناية من أقسام المجاز لا نعرف له قائلا، وإنما ألجأنا إلى اختياره للإشكالات الواردة على غيره.
ويزيد الإشكال الوارد على الماتن إشكال آخر، وهو أن الحصر - في الحقيقة والمجاز - عقلي لا يمكن فيه الواسطة، وإنما هو فيما إذا كان الحصر حاصلا من الاستقراء، إذ لا ريب أن الحقيقة والمجاز قد عرف كل منهما بنقيض الآخر، فلا يمكن فيهما الواسطة، فينحصر المقسم فيهما عقلا، فلا بد من دخول الكناية في أحدهما.
هذا، ولكن الإنصاف عدم ورود شيء من الإشكالات على هذا القائل، أعني
Sayfa 15
ماتن المطول، إذ الظاهر أن غرضه ليس إثبات الواسطة بين الحقيقة والمجاز.
وتوضيح ذلك أن اللفظ قد يلاحظ فيه قصد المعنى منه عند إطلاقه، بمعنى إخطار ذلك المعنى بالبال عند إيجاده، فهو من هذه الحيثية منحصر في الحقيقة والمجاز عقلا، ولا يمكن الواسطة بينهما لأن ما يخطر بالبال عند إيجاده إما معناه الموضوع له، أو غيره، فعل الأول حقيقة، وعلى الثاني مجاز، سواء كان ذلك الغير، المعنى المباين للموضوع له، أو المركب منهما، فحينئذ لو كان مراد الماتن من قوله: اللفظ إن أريد منه معناه وحده إلخ، هذا المعنى، فيرد عليه الإشكالات المتقدمة، مضافا إلى أن قصد المعنى الموضوع له مع غيره من اللفظ من حيث المجموع بهذا المعنى مجاز اتفاقا أو على سبيل الاستقلال، فلا يجوز جدا، لما عرفت من عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى. وقد يلاحظ باعتبار الإرادة بمعنى الغرض المطوي في نظر المتكلم الداعي له لإيجاد الكلام، فهو بهذا الاعتبار لا ينحصر في القسمين، فإنه لا يكون حينئذ أحدهما نقيض الآخر حتى لا يتعقل لهما الواسطة فإن غرضه، إما إفادة المعنى الموضوع له مع غيره وحده، بمعنى كون ذلك الغير مقصودا من اللفظ بالمعنى المذكور وتعلق غرضه بإفادته وحده أيضا، وإما إفادة المعنى الموضوع له مع غيره بأن يكون المعنى الموضوع له مقصودا من اللفظ بالمعنى المذكور، لكن الغرض لم يتعلق بإفادته وحده، بل بإفادته وإفادة غيره معا، وإما إفادة غير الموضوع له وحده بمعنى أن يقصد من اللفظ المعنى الموضوع له، لكن الغرض تعلق بإفادة غيره وحده، وإما إفادة غير الموضوع له، بأن استعمل اللفظ، وقصد منه غير الموضوع له، وتعلق الغرض بإفادة غير ذلك الغير المناسب له، إما وحده أو معا، وهذا الأخير بناء على جواز كون الكناية من المجاز.
وكيف كان، فعلى الأول: اللفظ حقيقة بالمعنى الأخص، يعني قبال الكناية، وكذلك مجاز على الثاني.
وعلى الثالث: فهو، وإن كان حقيقة بالمعنى الأعم، لكنه بالاعتبار الثاني ليس حقيقة، ولا مجازا على الاعتبارين، بل كناية.
وكذلك الرابع () وعلى الخامس بكلا قسميه مجاز بالمعنى الأعم، وكناية بالمعنى الأخص الذي لوحظ بالاعتبار الثاني، لكن إطلاق الكناية على ما إذا تعلق الغرض بغير المقصود من اللفظ حقيقة أو مجازا فيما إذا وقع اللفظ في سياق الاخبار، وكان ذلك الغير
Sayfa 16
من لوازم المخبر به، لا الخبر فإن اللفظ إذا أريد منه غير المقصود منه، بمعنى تعلق غرض المتكلم بغيره، فذلك اللفظ: إما في مقام الإنشاء، أو في مقام الإخبار، فعلى الأول يسمى إكراها، وعلى الثاني إما أن يكون ذلك الغير من لوازم الخبر، فيسمى تورية أو من لوازم المخبر به فيسمى كناية.
ثم إنا إن قلنا بجواز الكناية من المجاز أيضا، فتكون نسبة الكناية مع كل من الحقيقة والمجاز بالاعتبار الأول عموما من وجه.
وان قلنا بعدمه واختصاصها بالحقيقة فيكون نسبتها معها العموم المطلق لأنه كلما صدقت عليه الكناية تصدق عليه الحقيقة بالمعنى الأعم ولا عكس كليا.
وكيف كان فالحقيقة والمجاز بهذا الاعتبار قد عرفت ما بينهما من الواسطة، فحينئذ قول الماتن: إن اللفظ إن أريد منه معناه وحده إلخ، ناظر إلى هذا الاعتبار فإنه أراد بالإرادة الغرض، كما ذكرنا، ولا ينبغي الاستيحاش في استعمال الإرادة في هذا المعنى لاستعماله فيه في كلام الفقهاء - رضوان الله عليهم - في بيع المكره حيث إنهم حكموا بصحة بيعه إذا لحقه الإجازة بعد الإكراه، مع تصريحهم بأن المكره لم يرد من العقد التمليك، فإنها لو لم تحمل على ما ذكرنا لا وجه لصحة بيعه حينئذ أصلا، إذ الإجازة بنفسها ليست ناقلة، بل هي شرط الصحة، فلو كان المكره لم يقصد شيئا أصلا من اللفظ لم يترتب على الإجازة شيء، فيكون غرضهم أنه قصد مدلول اللفظ، لكنه لم يرد ترتب أثره عليه، ولم يكن غرضه الرضا بذلك.
وكيف كان، فإذا عرفت ذلك كله تقدر على دفع الإشكالات الواردة عليه.
ولا بأس بالتعرض لدفع كل منها مفصلا.
فنقول: أما الجواب عن الإشكال الأول، فبأن تعريفه للكناية بما ذكره في المتن، إنما هو نظرا إلى الغالب منها، فلا منافاة بينه وبين تقسيمهم إياها إلى القسمين، على أن القسم الثاني منها وهو اللفظ المراد به لازم المعنى وحده قد أنكره بعضهم .
وأما الجواب عن الإشكال في الفرق المذكور، فبأنه لا وجه لمنع الفرق، فإن الكناية وإن كانت لا بد فيها من القرينة أيضا، كما في المجاز، إلا أنه فرق بين القرينتين، بأن قرينة المجاز معاندة لقصد المعنى الموضوع له، بالمعنى الذي ذكرنا، بخلاف قرينة الكناية، فإنها ليس معاندة لذلك بوجه، بل هي معاندة لتعلق الغرض بغير اللازم، وهو المعنى الموضوع له في الصورة المفروضة.
Sayfa 17
وأما في الصورة الأولى، وهي ما إذا أريد من اللفظ معناه وغير معناه، بمعنى تعلق الغرض بإفادة كليهما، فلا معاندة لها لتعلق الغرض بالمعنى الموضوع له أصلا، بل فائدتها حينئذ إفادة أن الغرض تعلق بإفادة غير المعنى أيضا.
وكيف كان فقرينة الكناية يؤتى بها بحسب الأغراض المطوية في نفس المتكلم، وبمقدار رفع الحاجة من إفادة هذه الأغراض، وقرينة المجاز يؤتى بها بحسب عدم قصد المعنى الموضوع له بالمعنى الذي ذكرنا.
ومن هنا ظهر ما في كلام سلطان المحققين في الفرق بينهما بأن قرينة المجاز، هي التي تعاند إرادة المعنى الموضوع له على وجه الإطلاق، وقرينة الكناية إنما هي تعاند إرادته وحده.
وأما الجواب عن الإشكال الثاني، فبأنه إذا استعمل اللفظ في اللازم وحده بمعنى أنه قصد منه ذلك كذلك، فلا تصدق عليه الكناية، لما عرفت من اعتبار التغاير بين المستعمل فيه اللفظ وبين الغرض.
وأما الجواب عن الإشكال الثالث فبما عرفت، من أن غرضه من الإرادة هو تعلق الغرض، ولا ريب أن تعلق الغرض بالمعنى وبغيره غير استعماله فيهما. هذا، مع أنك علمت أن المستعمل فيه في تلك الصورة هو المعنى الموضوع له لا غير.
وأما الجواب عن الإشكال الرابع الذي زدناه أخيرا، فبأن تقسيم اللفظ بهذا الاعتبار ليس دائرا بين النفي والإثبات بالنسبة إلى الحقيقة والمجاز كما عرفت.
هذا، ثم إنه قد يستشكل في أنه إذا كان الغرض إفادة اللازم، فلم لا يستعمل اللفظ فيه ويقصد منه؟ فما فائدة قصد المعنى الموضوع له اللفظ منه، مع أن الغرض إفادة غيره؟ لكنه يندفع لما سيجيء في محله - إن شاء الله - من أنه شبهة في مقابل البديهة.
المقام الثالث من المقامات المرسومة للحقيقة والمجاز في أحكامهما.
ويقع الكلام هنا في جهتين:
إحداهما: نظير الشبهة الحكمية لرجوعها إلى الشك في فعل الواضع.
والأخرى: نظير الشبهة الموضوعية لرجوعها إلى الشك في مراد المتكلم بعد إحراز الجهة الأولى.
فلنقدم الكلام في الجهة الأولى، فنقول: إنه إذا شك في وضع لفظ لمعنى فطريق معرفته أمور:
Sayfa 18
منها: ما يفيد القطع كتنصيص الواضع، والنقل المتواتر، أو نقل الواحد المحفوف بقرائن قطعية.
ومنها: ما يفيد الظن كنقل الآحاد الغير المحفوف بالقرائن، والعلائم المعروفة التي سيجيء، تفصيلها من التبادر، وعدم صحة السلب، وغيرهما من العلائم.
أما الطائفة الأولى فالنزاع فيها صغروي، إذ بعد إحراز صغرياتها لا يعقل المنع من العمل بها.
وأما الطائفة الأخرى فالنزاع فيها كبروي راجع إلى حجيتها وعدمها بعد إحرازها، ولما كان بيان حال الصغريات في الطائفة الأولى موكولا إلى ملاحظة الخصوصيات اللاحقة للموارد الشخصية، ولم تكن لمعرفتها ضابطة كلية يرجع إليها، لاختلافها باختلاف الموارد والأشخاص، إذ ربما يطلع أحد على التواتر، أو تنصيص الواضع، أو القرائن القطعية، ولم يطلع عليها غيره، فلم يكن للتعرض لها مجال فيما نحن فيه من المقام المعد لبيان كلية يعول عليها في الموارد الشخصية، ولذلك فلنعرض عنها فنوجه الكلام ونسوقه إلى الطائفة الثانية.
ولنقدم الكلام في القسم الأول منها، وهو نقل الآحاد، وقبل الشروع في الاستدلال، وذكر الأقوال لا بد من تحرير محل النزاع.
فنقول: إن اللفظ الذي ينقل وضعه الآحاد، إما من موضوعات الأحكام الشرعية الكلية كألفاظ الكتاب والسنة، وإما من موضوعات الأمور الخارجية المتضمنة للأحكام الشرعية الجزئية، كالألفاظ الواردة في مقام الأقارير والدعاوي وأمثالهما، كما إذا أقر أحد لآخر بشيء، ولم نعلم مراده من جهة الاشتباه والشك في وضع اللفظ الدال على المقر به، كأن أقر بأن لزيد عندي دينارا مثلا، ثم عبر عنه بمقدار من الدرهم لا ندري أن الدينار موضوع لهذا المقدار، أو لأزيد منه، فترجمه أحد بمقدار ناقلا أن الدينار موضوع في لغة العرب لكذا.
وعلى التقديرين، الناقل للوضع، إما أن يكون جامعا لشرائط حجية الخبر، المقررة في بحث خبر الواحد، أو لا يكون فيكون الصور أربعا.
إحداها وهي - ما إذا كان الناقل جامعا لشرائط الحجية وكان اللفظ الذي ينقل وضعه من موضوعات الأحكام الشرعية الكلية - خارجة عن محل النزاع فيما نحن فيه هنا، لأن البحث عن خبر الواحد يغني عن البحث فيها بخصوصها هنا، لأن أدلة حجية
Sayfa 19
خبر الواحد الدالة على قبول قول العادل مثلا، وترتيب الأحكام الشرعية عليه، لا تفرق بين الأحكام المترتبة على قوله مطابقة، أو التزاما والبواقي داخلة فيه، وأيضا النزاع فيها فيما إذا كان الناقل ناقلا عن حسه، لا عن حدسه ورأيه، إذ لا عبرة برأيه إجماعا، فلذا قدحوا في نقل أبي عبيدة حيث إنه كان ينقل بعض الأوضاع عن رأيه، مع أنه من الأجلاء، وأهل الخبرة وكان خبيرا غاية الخبرة.
فإذا عرفت محل النزاع، فالمشهور حجية الظن بالوضع الحاصل من خبر الواحد في الجملة، قبالا لما ادعى بعض من السلب الكلي وللأول وجوه:
الأول الإجماع محصلا قولا، وفعلا.
وطريق تحصيل الأول الرجوع إلى أقوال العلماء، وإلى الإجماعات المنقولة من أصحابنا، ومن المخالفين أيضا، بحيث يحصل بملاحظة كثرتها القطع باتفاق كلمة جميع العلماء على حجية قول الناقل للغة، ولو كان واحدا لا يحصل من خبره القطع.
فمن الناقلين للإجماع من أصحابنا السيد المرتضى قدس سره على ما حكي عنه في بعض كلماته، بل ظاهر كلامه المحكي اتفاق جميع المسلمين، ومنهم الفاضل السبزواري، ومنهم السيد البغدادي (1) رحمه الله في المحصول، ومنهم العلامة () قدس سره في النهاية، ومنهم المدقق الشيرواني ()، ومن المخالفين الذي ببالنا الآن العضدي، قال: إنا نقطع أن العلماء في الأعصار، والأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد، كنقلهم عن الأصمعي، والخليل، وأبي عبيدة.
وطريق تحصيل الثاني التتبع في أحوال السالفين إلى زماننا هذا، فإن المتتبع يراهم عاملين وآخذين بخبر الواحد الغير المفيد للعلم من دون نكير من أحدهم على الآخر، حتى أنه لو اتفق التشاجر ، والجدال في لفظ، وأخذ أحد المتخاصمين بكلام
Sayfa 20
لغوي لارتفع النزاع، ولا يدعي صاحبه أنه من الآحاد ولا يجوز عليه الاعتماد.
الثاني: من الوجوه تقرير المعصوم عليه السلام تدوين كتب اللغة المدونة في عصره، مع أن أكثر اللغات المدونة فيها بل جلها - إن لم نقل كلها - كانت منقولة بنقل الآحاد، فإن أول تدوينها كان في ذلك الزمان.
الثالث: قياس ما نحن فيه بخبر الواحد في الأحكام الشرعية لاشتراكهما في مناط الحجية.
الرابع: أولوية حجية خبر الواحد فيما نحن فيه منها في الأحكام الشرعية، إذ الاهتمام فيها أكثر منه عند الشارع فيما نحن فيه. هذا الوجه ذكره الشيخ محمد تقي قدس سره.
الخامس: إن خبر الواحد في الأحكام الشرعية التي هي الأصل حجة، فلو لم تكن حجة فيما نحن فيه لزم مزية الفرع على الأصل.
هذا، وفي كل واحد من تلك الوجوه نظر.
أما الإجماع القولي فلأن طريق تحصيله ليس بحيث نقطع منه باتفاق جميع العلماء، فان العلماء القائلين بحجية الخبر فيما نحن فيه، فهم أولا: ليسوا بحد يحصل من كثرتهم القطع بذلك، فإنهم طائفة من الأصوليين الذين هم أمثالنا، وذهبوا إلى ذلك من باب اجتهادهم.
وثانيا: إن الذي يفيد الفائدة فيما نحن فيه، إنما هو اتفاق قول الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
وأما الإجماعات المنقولة فنقول:
أولا: إنه لم يتحقق لنا أن معاقد إجماعاتهم خبر الواحد، ولو لم يفد العلم.
وفيه نظر لتصريح بعض الناقلين بالظن في كلامه.
وثانيا: إن هؤلاء الناقلين للإجماع هم طائفة من الأصوليين، وقد عرفت ما فيه، مع أنهم ليسوا بحد في الكثرة بحيث نقطع بأن الصحابة والتابعين أيضا كانوا متفقين مع جميع علماء الأمة، حتى يكشف عن رضا المعصوم عليه السلام.
وأما الإجماع فعلى تسليمه جهته مجملة، إذ لم نعلم من حال المجمعين أن عملهم كان لقيام الدليل عندهم على حجية الخبر، أو كان من جهة اللابدية وانسداد باب العلم.
Sayfa 21
وهكذا الجواب عن التقرير لعدم العلم بجهته.
وأما الوجه الثالث والرابع، فالجواب عن أولهما بعد منع كليهما من جهة بطلان القياس، بإبداء الفارق بين خبر الواحد - فيما نحن فيه - الذي هو محل النزاع وبينه في الأحكام الشرعية، إذ الذي ثبت حجيته فيها إنما هو خبر الواحد الجامع لشرائط الحجية، مع كون متعلق خبره الحكم الشرعي الكلي، والذي فيما نحن فيه فاقد لأحد القيدين لا محالة، فإنه إما فاقد لشرائط الحجية، أو القيد الثاني.
وعن الثاني منهما بأن هذه أولوية ظنية، لا يعتمد عليها، سيما في المسألة الأصولية.
وأما الوجه الخامس: ففيه: ان الأحكام الشرعية ليست أصلا بالنسبة إلى اللغات التي هي من المبادئ، بل الأمر بالعكس، فإن الأصل ما يبتني عليه شيء، وهذا المعنى موجود فيما نحن فيه بالنسبة إلى الأحكام الشرعية، ويكون الأحكام الشرعية فروعا لما نحن فيه لكونها من نتائجه، ولا ريب أن النتيجة فرع المقدمات.
وإن كان مراده من كون الأحكام الشرعية أنها أهم وأشرف عند الشارع، فهو مع أنه خلاف وضعه، واصطلاح جديد في الأصل، يرجع إلى الوجه الرابع، وقد عرفت ما فيه، وهذا الوجه لعله من صاحب المناهل (قدس سره). هذه أدلة المثبتين.
وأما أدلة النافين الذين نحن منهم تبعا للشيخ الأستاذ (قدس سره)، الأصل أعني أصالة حرمة العمل بالظن إلا ما أخرجه الدليل، ثم إن هذا كله بناء على حجية خبر الواحد فيما نحن فيه بالخصوص، مع قطع النظر عن مقدمة الانسداد، وإلا فبملاحظتها على فرض جريانها فالظاهر، بل الحق حجيته.
ثم إن دليل الانسداد، كما يتصور جريانه في نفس الأحكام الشرعية، كذلك يتصور في الأدلة، والطرق الشرعية، وكذلك في الموضوعات الصرفة، وهكذا في الأمور المستقبلة كالظن بالسلامة، وبقاء المكلف على شرائط التكليف في الآن اللاحق، فإنه مما انسد فيه باب العلم، فيجري فيه دليل الانسداد، فيجب على المكلف البناء على إتيان المأمور به في أول وقته، مع الظن بسلامته، وبقائه على شرائط التكليف إلى آخر الوقت كما في الحائض، حيث إنها مع احتمالها لكونها حائض في الغد يجب
Sayfa 22