يضع الصورة جانبا ويتناول صورة أخرى. شاطئ مزدحم. أبي بوجه ضاحك في بزة بيضاء وطربوش وكرافتة. يمسك سيجارة عادية. إلى جواره أشخاص لا أعرفهم بينهم أخي في برنس حمام.
ينهض واقفا ويذهب إلى مدخل الغرفة. يتابع «فاطمة» وهي منحنية فوق الممسحة. تكومها بيدها. يشير إليها أن تبسطها ثم تطويها طية واحدة مستقيمة. تنتهي من تنظيف الغرفة. تجلس على حافة السرير لتغير أكياس المخدات المعروقة. أنتظر في ضيق حتى تنهض وتبتعد عن السرير. يهش أبي الذباب بفوطة. تقول إن زوجها اشترى للدكان من محطة البنزين علبة «موبيلتوكس» لإبادة الحشرات. يقول أبي: وعرفتي كمان «الموبيلتوكس»؟ تقول: هو اني عشان فلاحة أبقى جاهلة؟ تجلب السجادة المنشورة فوق سور البلكونة. تسأل أبي: أفرشها يا سيدي؟ يجيب: لا، الدنيا حر، طبقيها وحطيها تحت السرير.
يرتفع في الخارج صوت بائع بطيخ. يخرج أبي إلى البلكونة. يناديه: ع السكين؟ - أيوه يا بيه. يتناول البائع بطيخة ويدق عليها بكفه. يضعها ويتناول واحدة أخرى. يكرر الدق. يهم أبي بالكلام فيطعنها بالسكين. يحدث فتحة مربعة في جانبها. يميلها ويستقبل بيده قطعة شديدة الحمرة. يعيدها إلى الفتحة. يضعها جانبا ويتناول بطيخة أخرى. يصيح به أبي: كفاية واحدة. ينحني ويتناول منه البطيخة المفتوحة. يعطيه ثمنها. يحملها إلى الحوض ويغسل سطحها محاذرا أن تسقط المياه في فتحتها. يضعها في صينية فوق البوفيه. يجلب من الدولاب قطعة من الشاش يبسطها فوقها.
نستعد لتناول طعام الغداء. يكتشف أبي أن «البامية» حامضة. تقول إنها نسيت غليها بالأمس. أترقب في لهفة ثورة أبي لكنه لا يفوه بشيء. يرسلها لشراء لحمة رأس من مسمط «الحسينية». أقول: أروح أنا. يقول لا. تذهب إلى المخزن. تعود متسربلة بالملاءة اللف السوداء. يعطيها نقودا. يكرر عليها: جبهة وجوهرة ومخ وكرشة. يلحق بها على السلم قائلا: متنسيش الطرشي والجرجير.
يحمل مظروف الصور إلى الغرفة ويلقي به فوق المكتب. ألتقط منه صورة لشخص مجهول في معطف ضخم متهدل يصل إلى قرب حذائه. الطربوش يغطي جبهته ويكاد يصل إلى عينيه. شاربه الصغير مبروم إلى أعلى. يده اليمنى خلف ظهره وقبضته اليسرى فوق مائدة. فازة كبيرة على الأرض يعلوها طرف من ستارة. الصورة بالية وظرفها مقطوع. أقلب ظهر الصورة. لا شيء. أريها لأبي: مين ده؟ يتناولها ويتأملها طويلا. يقول: أنا. - إنت؟ - أيوه لما كان عندي 18 سنة.
أريه صورة ثانية لرجل في بزة شتوية. الطربوش على نفس المسافة من العينين والشنب مبروم إلى أعلى. جالس في مقعد مرفقه الأيسر فوق مسند ينتهي برأس أسد. إبهام يده مستند إلى خده. اليد الأخرى تمسك بمبسم سيجارة بين الإبهام والسبابة. يبدو منها كم قميص مطوي بزرار عند الرسغ. يقول: أنا كمان بعد ما اتجوزت «أم نبيلة». كان عندي حوالي سبعة وعشرين سنة. أقلب الصورة وأقرأ اسم أبي الكامل بقلم رصاص أحمر اللون. الخط لأمي.
أتعرف عليه بسهولة في صورة أخرى. في بزة أنيقة معتمدا بيده على مقبض عصا. مستندا بظهره إلى سور حجري. يبدو شديد الوسامة. إلى جواره صبي جميل في بزة بصفي زراير. يتدلى منديل مطوي من جيب سترته العلوي. البنطلون قصير ينتهي أسفل الركبة عند حافتي جورب. أقلب الصورة فأقرأ: «حضرة المحترم «خليل» أفندي مع نجله في عيد سنة 1928». أسفل ذلك إمضاء باسم أخي.
الصورة الأخيرة تشبهه كما هو الآن. جالسا يقرأ في بزته الكاملة. طربوشه منزاح إلى الخلف. النظارة منحدرة فوق أنفه. أوداجه متهدلة فوق حافة قميصه. على ظهر الصورة بخط يده: «سنة 1945».
تعود «فاطمة» بلفافة لحم الرأس. تضعها في طبق فوق المائدة. تحمل الجرجير إلى المطبخ. يصيح فيها أبي: اغسليه كويس. يشير إليها أن تجلس لتأكل معنا. أمتعض وأفكر في عدم الأكل لو فعلت. تقول إنها يجب أن تعد طعام الغداء لزوجها. يضع لها قطعة من اللحم في نصف رغيف. تأخذها شاكرة.
أغادر مقعدي وأجره إلى الطاولة. ألمح صورة صغيرة الحجم فوق الأرض. لا بد وقعت من الظرف. طفلة ترتدي فستانا بنصف كم. وجهها مستدير وشعرها أكرت. في قدميها بوت قصير. تضم يدها إلى بطنها واليسرى فوق سور حجري. في عينيها نظرة غريبة. خائفة؟ متوجسة؟ غاضبة؟ أتعرف على خط أبي الجميل في ظهر الصورة: «منتصف 1921». أناولها لأبي متسائلا: صورة مين دي؟
Bilinmeyen sayfa