دكان الخردواتي يشع بالنظافة وتتصاعد منه رائحة الفنيك. باترينة زجاجية رصت داخلها قطع الشكولاتة والحلوى. أجذب يد أبي ناحيتها فينهرني. الجزمجي، المقاعد المرتفعة وأسفلها ماسحو الأحذية. حامل الصحف في المدخل والراديو الضخم في المؤخرة. كواء الطرابيش. القاعدة النحاسية المستطيلة وفوقها القوالب النحاسية الضخمة. وأخيرا الميدان.
الأنوار باهتة في لحظة أول الليل. صورة الملك مضاءة بالمصابيح. لافتات تهنئه بعيد ميلاده. لوحات الإعلانات السينمائية. فيلم «الشاطر حسن» به قسم بالألوان الطبيعية. «الفارس الأسود» بسينما «ميامي» والترجمة العربية على نفس الفيلم. أشعر بلسعة هواء باردة أحسها في ركبتي المكشوفة بين حافة البنطلون القصير والشراب الصوفي الطويل. يدي اليسرى دافئة في قبضة أبي القوية. الترام رقم 22 بعربتيه المكشوفتين ودككه الخشبية. أسابقه مع الأولاد من جهة اليسار لنقفز إليه ونثبت بذلك قدرتنا على التهرب من الكمساري. أوشك أن أقع تحت عجلات الترام المعاكس.
نستقل العربة الثانية. يزنقني في الركن لأبدو أقل من سني. يستخرج من جيب الصديري ثمانية مليمات للتذكرة. نغادر في ميدان «السيدة» الحافل بالأضواء. عربة «سوارس» يجرها بغلان ضامران. يملأ الركاب دكتين متقابلتين ويقف بعضهم على السلم الخلفي. سوط السائق يلسع ظهر الحيوانين. عجوز سمينة تفترش الأرض خلف صينية من أعقاب السجائر. مكان ضيق في نهايته طاولة صغيرة يعلوها حاجز زجاجي. عجوز محني الظهر ذو لحية كثيفة. يخرج أبي ساعة جيبه المستديرة من جيب صديريته. يتفحصها العجوز بدقة ثم يضعها جانبا. يعطي أبي بعض النقود.
الشارع من جديد. بائع يانصيب علق أوراقه على الحائط. يخرج أبي ورقتين من جيبه ونظارة القراءة. يقارن أرقامهما بدفاتر البائع. يكمش الورقتين ويلقي بهما في الطريق. يشتري ورقتين جديدتين؛ واحدة باللون الأزرق والثانية بالأحمر.
صف من باعة الأشياء القديمة وماسحي الأحذية. كوم من النظارات القديمة فوق جريدة على الأرض. البائع يرتدي نظارة طبية مكسورة من المنتصف وملحومة بقطعة بارزة من الصفيح. ينحني أبي ويقلب بين النظارات. يختار واحدة ويطلب مني أن أرتديها . أضع النظارة فوق عيني وأتطلع حولي. أجرب نظارة أخرى. ثالثة بيضاوية في إطار رفيع من معدن مذهب. أشعر بتحسن في الرؤية. يفاصل أبي في ثمنها. يشتريها.
أرتدي النظارة وأتبع أبي حتى دكان عطارة يشتري قرفة وفلفلا أسود مطحونا وقرنفلا. أرى الآن بوضوح.
مرة أخرى في عربة الترام المكشوفة. نصعد القمرة الأخيرة المسقوفة التي تحوي دكة واحدة موضوعة بعكس الاتجاه. نمر كالسهم بمحطة اختيارية خالية. ينبعث الشرر من السنجة. أضع يدي على نظارتي خوفا من أن تطير. ندلف إلى ميدان «الظاهر». سينما «فاليري» الصيفية مغلقة. أمي في فستان ملون. رأسها مغطى بإيشارب حريري يحيط بوجهها. في قدمها حذاء بكعب متوسط الارتفاع مقفول من الأمام. لونه أزرق مع أبيض. تجلس في مقعد بذراعين من القش. أهم بالجلوس فوق فخذيها فتبعدني عنها. يأخذني أبي بين ساقيه. يمر بنا بائع في جلباب نظيف علق في ذراعه سبتا مغطى بالقماش. يشتري أبي لكل منا سميطة بالسمسم. يعطينا البائع معها شريحة من الجبن الرومي فوق ورقة في حجم الكف.
تتأرجح العربة يمينا ويسارا. يضمني أبي إليه ليحميني من الهواء البارد. أنكمش في حضنه. تغمرني رائحته المشبعة بدخان التبغ. أقاوم النعاس. أود أن أقوم لأدير يد الفرملة وأرى أثرها على دائرة التروس أسفلها. أتمنى لو أجد نفسي في الفراش، فوق مرتبة على سجادة حجرة «المسافرين» إلى جوار الخادمة. الغرفة مظلمة وبابها مفتوح تبدو منه الفسحة. شعاع من ضوء المصباح الكهربائي لغرفة الطعام. الخادمة تغني مع الراديو: «يا أبو العيون السود.» ينطلق صوتها خافتا قريبا من أذني. يدها تعبث بشعري وتتحسس جلد رأسي. تنتهي الأغنية فتحكي لي قصة الشاطر حسن. تتحول المقاعد القابعة في الظلام إلى جبال وجياد وقصور. يرضع الشاطر حسن من ثدي الغولة فتقول له: «أخدت قطة من بزي اليمين بقيت زي ابني سماعين، وخدت قطة من بزي الشمال بقيت زي ابني سليمان.»
يبطئ الترام عندما يشرف على الميدان. نغادره ونعبر الطريق. يتوقف أبي عند الجزار. ضخم الجسم ذو شارب رفيع شديد السواد. يرتدي جلبابا أبيض ملوثا ببقع الدماء. يطلب أبي رطلا مشفى يصلح لعمل «كمونية».
يشمر الجزار كمي جلبابه كاشفا فانلة صوفية يميل لونها إلى البني. ينقل البصر بين قطع اللحم المعلقة في خطاطيف. ينتزع إحداها. يلقي بها فوق «أورمة» خشبية مستديرة. ينهال عليها بساطور عريض. يستبدله بسكين قصيرة يفصل بها اللحم عن العظام. يرفع قطعة من اللحم في الهواء أمام عيوننا. يطلب منه أبي إزالة الأختام والشغت. يضع القطعة في كفة الميزان النحاسي. ينقلها إلى الأورمة الخشبية. يتناول سكينا طويلة ذات نصل لامع. يقطعها أجزاء متساوية.
Bilinmeyen sayfa