يقول «علي صفا» بلهجة المنتصر: شفت؟
أفتح عيني على سعتهما. يرد أبي في صوت هادئ: أنا حبيتها. مصباح الصالة يضيء سطح المائدة. مزدحمة على غير العادة. رائحة كبدة محمرة. زيتون. فستق. زجاجة صغيرة بها سائل في لون الماء. صوتها يأتي من غرفة النوم. تردد أغنية «أسمهان»: «إمتي حتعرف إمتى. إني باحبك إنت.» ضحكات. صوتها مرة أخرى بنبرة مختلفة: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي.» صوت أبي ببقية الأغنية: «غرامي هالكني». - إنت عرفتها إزاي؟
يسكت أبي أسمعه يشعل سيجارته. - جابها لنا الدكتور لما «أم نبيلة» الله يرحمها قعدت في السرير. كانت بتشتغل عنده في العيادة. تنضف وتقابل الزباين. معاها الابتدائية. الدم بيفط من خدودها. أبوها صاحب ورشة. متجوز على أمها. الأم صفرا وقاسية مبترحمش. دايما تضربها ... «نبيلة» وأخوها كانوا اتجوزوا وسابوا البيت. لقيت حد يتكلم معايا. كانت بتقرا الجرايد وتكلمني في السياسة. وتتنبأ بحاجات كتير. قالت لي «هتلر» نهايته وحشة و«غاندي» حيتقتل. لحست عقلي. ولأول مرة في حياتي أحب. تصور؟ واحد عنده 55 سنة ويحب؟ قلت لها نتجوز. وافقت. أبوها قال فرق السن كبير. قالت له: وما له. أنا باحبه. اتجوزتها في السر.
أنصت مبهورا. يستطرد أبي: أجرت شقة قريبة. اللي أنت عارفها قدام مدرسة اليهود. راعيت الله في كل شيء. أنام جنب «أم نبيلة» كل ليلة. أقوم الصبح على الديوان. الضهر أجري على الشقة الثانية. يظهر عند باب الشقة في بزته البيضاء الكاملة وطربوشه. المظلة البيضاء في يده اليمنى. يضم ذراعه الأيسر علي كيس فاكهة من الورق. وجهه الأسمر متهلل. ينحني علي ويحتويني بين ساعديه. - أول ما الدنيا تليل ألبس عشان أروح البيت الأولاني. تمسك في. تترجاني أقعد لغاية ما تنام. تقول إنها بتخاف تبقى لوحدها. تقفل الشبابيك وتولع أنوار الشقة. تنكمش في السرير. تقعد تقرا قرآن لغاية ما تنعس. تقوم مفزوعة في نص الليل. تسمع أصوات بتنده عليها بشويش. تلزق في السرير. تسد ودانها لغاية ما النهار يطلع.
ألمح بقة تقترب من رأسي. لا أريد أن أتحرك كي لا يكتشف أبي أني مستيقظ. أعرف أنها ستقرصني عندما ينطفئ النور وتحرمني من النوم. أتابعها ببصري لأرى أين ستختفي. - أخيرا ماتت «أم نبيلة». خلصنا الميتم فقالت لي «نبيلة» تيجي عندي بأه يا بابا. قلت لها إني متجوز وعندي بيت تاني. زعلت وأخوها اتنرفز علي وقال لي إنت حتقعد تزرب لنا. نقلت على الشقة التانية. وبدأت أدوق معنى السعادة.
يسكت. يشعل سيجارته مرة أخرى: لما خلفت «نبيلة» وأخوها كنت لسه شاب وأغلب الوقت بره البيت. المرة دي اتمتعت بالخلفة. خصوصا بعد ما طلعت المعاش. يلتفت نحوي فأغمض عيني. - عمري ما حانسي منظره وهو بيحبي ويفتح الأدراج ويقطع الكتب. كان كل ما يشوف حاجة يشاور عليها ويسألني: ده؟ وبعدين بقت: إيه ده؟ يحاول يوريني إنه بيفهم. لا يمكن أنسي منظره لما وقف على رجليه أول مرة. مشي خطوتين وبص لي وصقف. حس إنه عمل حاجة كبيرة.
أنعس وأستيقظ على أزيز بعوضة بجوار أذني. أدعو الله ألا تقرصني. صوت «علي صفا»: حتجنن. بالليل أتقلب وأنا نفسي إنه يكون فيه جسم طري في حضني. مش ضروري أعمل حاجة.
يقول أبي: وتعمل إيه يا خي؟ مفضلش غير البص. - على رأيك. وأنا جاي لعندك شفت واحدة بتجري في الشارع. بزازها بيترجرجوا. أتهيألي إني سامع صوت فلقتيها وهما بيخبطوا في بعض. كل حاجة الوقت تفكرني باللي كان. ملاية لف محبكة على طيز مقلوظة. شفتين تخان من البرقع. دراع مربرب في نص كم أو كتف عريان من بلوزة جابونيز.
يرين الصمت على الاثنين. صوت الراديو من غرفة الكونستابل. «فريد الأطرش». ألمح بقة مسرعة على الحائط. تريد أن تختفي من النور. أمد إصبعي وأفعصها. أكتم تنفسي كي لا أشم رائحتها الكريهة.
صوت أبي: أول الشهر رحت أقبض المعاش. كان فيه واحد عجوز لابس جاكتة كاروهات وقميص غامق وكرافتة دايبة. حرف طربوشه مسود من العرق. كان واقف مسنود على عصاية. لابس نضارة مقعرة. متعرفش بيبص فين. دوره جه متحركش. فضل واقف ساكت زي ما يكون سرحان ومستعد يفضل مستني لتاني يوم. موظف الخزينة يعرفني. بياخد مني البواقي. مد لي إيده ياخد السركي. قمت شاورت للعجوز يسبقني. قال حاجة بصوت مش واضح. الموظف أشار له على شباك تاني. بدأ يتحرك بصعوبة. ساعدته يوصل للشباك التاني. لا شكرني ولا بص لي. كأني مش هنا. لما خرجت لقيته واقف مسنود على عمود النور. فضل واقف مدة طويلة باصص قدامه. زي ما يكون نسي هو فين. مقدرتش أقرب منه. كلها سنتين تلاتة وأبقى زيه.
Bilinmeyen sayfa