يلفحني الهواء البارد بمجرد أن أخرج إلى الطريق. أدفن عنقي في الكوفية وأنكمش في ملابسي. أجر قدمي في صعوبة. أمضي فوق رصيف المدرسة وأؤجل عبور الشارع الرئيسي حتى الميدان. ألمح قطعة مستطيلة من الحديد. أهم بشوطها بقدمي. أتذكر تحذيرات أبي من القنابل التي تنفجر بمجرد لمسها، وتكون على شكل علبة دواء أو قلم أبنوس أو لعبة. أتأمل القطعة جيدا ثم أبتعد عنها.
رصيف من الحصى الملون. فيلا مسورة بالقضبان الحديدية. أتلصص النظر من بين القضبان. مائدة خشبية ومقعدين في جانب من الحديقة. الباب الداخلي مغلق. أواصل السير. مدرسة اليهود مبنية من الطوب الوردي اللون. لا يحيط بها سور خارجي مثل مدرستنا. ملصق يدعو إلى إغاثة اللاجئين الفلسطينيين. عبارة بطلاء أسود تقول: «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء.» أخرى: «شرم برم». نوافذ المدرسة في مستوى الشارع. تظهر منها قاعات كبيرة صفت بها موائد الطعام. التلاميذ يأكلون في ضوضاء. أواصل السير حتى الناصية ثم أستدير يسارا. أمضي بجوار جدار المدرسة. يبدأ الطريق في الصعود تحف به الأشجار. تتفتح زهورها الحمراء والصفراء في بداية الصيف ثم تتساقط وتغطي الرصيف في الخريف. نهاجمها بالنبال لنصيد العصافير دون أن ننجح ولا مرة.
أصبح في مواجهة منزلنا السابق. من الطوب الوردي اللون هو الآخر. يتصدره باب حديدي. بجواره منازل قديمة متهالكة. أمامه منخفض أحدثته قنبلة أسقطتها طائرة ألمانية. أضع حقيبتي على الأرض وأستند إلى جدار المدرسة.
يقع المنزل عند مفترق شارعين تفصل بينهما أرض فضاء مهملة مسيجة بقضبان معدنية. كانت في السابق مخزنا للترام. ترتبط قضبان السياج من أسفل بقضيب عرضي مرتفع عن الأرض بمقدار شبر. نقف على القضيب ونحشر أنفسنا بين الأعمدة ثم نصفر ونسوق.
يتجه الشارع الأول إلى منطقة من العشش والثاني إلى مصنع طرابيش والساحة التي يقام بها المولد النبوي. عند نقطة الملتقى تصطف عربات الكارو ورءوس جيادها مدفونة في أجولة التبن. يتوحد الشارعان في واحد تنحدر أرضه قليلا بعد منزلنا حتى تلتقي بالشارع المؤدي إلى الميدان. عند الناصية مشتل يبيع الورد.
يشغل مسكننا الطابق الأول وتطل نافذتان له على الشارع؛ إحداهما مغلقة الشيش والأخرى بالزجاج فقط. تنعكس عليه الأشجار والسماء الزرقاء. أخط بإصبعي اسمي واسمي أبي وأمي في البخار الذي يغطي زجاج النافذة المغلقة. أتأمل العمال المسرعين في اتجاه المصنع وقد حمل كل منهم غذاءه في منديل. بينهم أولاد صغار. تدوي صفارة المصنع الصباحية فأغادر المنزل. تستقبلني رائحة دخان المواقد والأفران. أرفع رأسي إلى النافذة فأري أبي بطاقيته البيضاء المستديرة يتابعني من خلف الزجاج. أعبر الطريق إلى رصيف مدرسة اليهود. أمر بعجوز ذي عمامة حمراء كبيرة يعتمد على عصا في يده ويستند بظهره إلى جدار المدرسة. أعطيه مليمين كما علمني أبي. ألتفت إلى النافذة لأراه لآخر مرة. أعدل وضع شنطتي على ظهري وأدس يدي الباردتين في جيبي سترتي. أشق طريقي بين التلاميذ اليهود المتدافعين. صبيان وبنات بملابس زرقاء. أدلف إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى مدرستي. تلفني الشبورة التي أحبها.
أحمل حقيبتي وأستدير متابعا طريقي. أخترق ممرا صغيرا. دكان تخديم. ساتر من الخشب يترك فتحة صغيرة. تبدو دكة عليها فتيات. واحدة معصوبة الرأس ترتدي جلابية. بجوارها واحدة في ملابس الفلاحات. أصبح في شارع «فاروق». أنتظر إشارة عسكري المرور. أسير من أمام مخبز «عبد الملاك» وأجزخانة «السبيل». أقرأ لافتتها: «المدير المسئول حلمي روفائيل». بضع خطوات ثم أدخل شارع «النزهة» المؤدي إلى منزلنا الجديد.
3
يرتدي أبي الروب. يفتح باب البلكونة الزجاجي. يدفع المصراع الخشبي إلى الخارج. يثبته في الجدار بالشنكل. يتسلل ضوء الصباح الضعيف إلى الغرفة. يغلق المصراع الزجاجي وهو يتأمل البلكونة المقابلة.
أسعل وأشكو من التهاب حلقي. يجس جبهتي . يتحسس أسفل صدغي متلمسا اللوزتين. يغادر الغرفة وينهمك في إعداد طبق من الفول المدمس بالزيت الحار.
Bilinmeyen sayfa