طور الحكومة، يسودها قانون مستمد من شريعة سماوية، مسيحية كانت أو إسلامية.
وينتهي هذا الطور في عصر الثورة الفرنسية.
أما الطور الثالث أو الحالي فهو:
طور الحكم على قواعد من وضع العقل البشري.
وهذا التمييز مفيد، وإن كان مما يحتمل الجدل أن مجتمعا ما أو حكما ما يخضع خضوعا خالصا للعقل وحده، ويكون كل تصرف فيه مما يمكن وصفه بأنه تصرف معقول، فلنتبع - بعد هذا التقديم - أطوار المجتمع والحكومة على وجه الإجمال، ولنحاول أن نحذو حذو «أرسطاطاليس» في منهجه التحليلي التسلسلي، ولعلكم تذكرون كيف بدأ بالمنزل، وانتقل منه إلى القرية، ثم المدينة.
والمدينة تتوج التسلسل، وفيها وحدها يتاح للإنسان آخر مجال لاكتمال طبيعته، فهي «طبيعية» بالنسبة إليه، وهو مدني بالطبع، وبينما المدينة وليدة مقتضيات الحياة، فإن بقاءها مما تقتضيه الحياة الطيبة. هذا، وإذا أوغلنا - في أقدم ما تمليه الحيطة من عصورنا التاريخية - وراء تحديد نقطة البدء في حياتنا المدنية؛ وجدناها في مواطن الجماعات المصرية الأولى التي أصبحت فيما بعد «كور» مصر في الاصطلاح اليوناني، ثم العربي المصري، أو مديرياتها - إلى حد ما - في اصطلاحنا نحن المعاصرين، ويجب علينا أن نتذكر دائما أن كل واحدة منها كانت موطن جماعة من الناس تربطهم بعضهم إلى بعض صلات نسب، ومصالح، وأنها بدأت واستمرت متميزة بعضها عن بعض، عقيدة وموقعا ومصالح، وأن مصر كانت ثمرة اتحادها، فغلبت عليها بعد الاتحاد صفة كونها أقساما إدارية في مملكة.
وليس من اليسير علينا أن نقدر الآن أثر تحدر جماعات الكور الأولين من سلالة بشرية واحدة في التقريب فيما بينها، والثابت: أنها تعرضت من حيث تكوينها الجنسي لمؤثرات مختلفة، فالمواطن التي تتاخم البادية - مثلا - أو التي تقع على خطوط المواصلات الكبرى أو قرب قلب أفريقية زاد اختلاط أهليها - بعناصر بدوية، أو أفريقية، أو أسيوية، أو غير ذلك - عن غيرها، وهكذا. وفضلا عن ذلك كان لأنواع البيئات المصرية أثره في إيجاد فروق كبيرة بين الجماعات، فالدلتا غير الصعيد، وما جاور البحيرات أو البحر أو الصحراء له أثره العميق، بالإضافة إلى اختلاف عناصر المناخ، ومزايا الموقع الجغرافي الحربية والتجارية، وما إلى ذلك.
ومهما كان الأصل أو المنشأ أو الظروف فإن نصيب «الكور» في تكوين المجتمع المصري أمر بالغ غاية الأهمية، بل إن اتحاد مصر لم يبطل تأثيرها العظيم، وآية ذلك التأثير أن انتقال الحكم من أسرة أو من مجموعة من الأسرات إلى مجموعة أخرى إن هو إلا توكيد متصل؛ لاحتفاظ نواحي المملكة بعصبية محلية قوية تستند إلى أساس من التقاليد والواقع، وأن هذه العصبية المحلية تعمل - إذا ما واتتها الظروف - على أن يمتد نشاطها إلى المملكة بأسرها.
وقد تم تكوين الوحدة المصرية، أو المجتمع المصري عن طريق الفتح، والمشهور أن الأمر استقر على تكوين مملكتين، وانتهى بإيجاد المملكتين أو الأرضين.
وكلمة «فتح» قد نسيء فهمها؛ فالغالب أن الفتح لم يعد أن يكون حمل جماعة من الجماعات، على أن تقبل ارتباطا ظهرت مزاياه لها ولغيرها، ولا شك في أنه بعد أن اتخذت الأقلية الخالقة «التي أشرت إليها في الحلقة الأولى تلك الخطوة الحاسمة؛ خطوة الاستجابة لتحدي الجفاف بمغادرة المرتفعات الآخذة في الجفاف والجدب، والاستقرار في مستنقعات الأحراش في أسفل الوادي، وتحويل تلك المستنقعات إلى النسق الذي نألفه، من حقول مزروعة تشقها مجاري الري والصرف، لم يكن أمامها مناص من وضع النهر كله تحت إشراف موحد مركز، ويصح جدا أن تكون القوة هي التي استخدمت لبلوغ هذا، ولكن القوة كانت - بالنسبة إلى عملية التوحيد والاتحاد - كلها أقل الوسائل المستخدمة أهمية.
Bilinmeyen sayfa