تخريج الأحاديث المرفوعة المسندة في كتاب التاريخ الكبير
تخريج الأحاديث المرفوعة المسندة في كتاب التاريخ الكبير
Yayıncı
مكتبة الرشد للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
Yayın Yeri
الرياض - السعودية
Türler
شكر وتقدير
أحمدك اللهم حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد
فتأسيا بكريم خلق رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وإنطلاقا من هديه، وعملا بسنته في الحديث المروي عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رَسُولِ اللَّه ﷺ: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله ﷿" (^١)
فإِني أتوجه بجميل الشكر لله ﷿، القائل ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (^٢) فله ﷾ الشكر أولا وآخرا على سوابغ نعمه، الظاهرة والباطنة. ثم أسجل هنا لأصحاب الفضل فضلهم، فإِنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إِلا ذووه.
فأتوجه بخالص الشكر وعظيم الإِمتنان لأستاذي وشيخي المحدث الأستاذ الدكتور/ أحمد محمد نور سيف - حفظه الله- الذي تفضل بالأشراف على هذه الرسالة، ومنحني من وقته الكثير -على كثرة مشاغله- فجزاه الله عني خير الجزاء.
_________
(^١) أخرجه الإِمام أحمد فى المسند (٢/ ٢٥٨) عن عبد الواحد، عن الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد عنه به. والبخاري في الأدب المفرد (١/ ٣٠٩) من طريق: موسى بن إِسماعيل، وأبو داود في السنن (٤/ ٢٥٥) عن مسلم بن إِبراهيم، والترمذي في الجامع (٤/ ٣٣٩) عن ابن المبارك، كلهم عن الربيع به نحوه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(^٢) سورة إبراهيم آية (٧).
1 / 5
كما أتقدم بخالص الشكر للعاملين المخلصين بجامعة أم القرى، وأخص منهم العاملين بكلية الدعوة وأصول الدين، والدراسات العليا الشرعية.
كما أشكر كل من قدم لي جميل الرأي، وحسن النصح، وأفادني بأثارة من علم. وأسأل الله أن يوفقنا ويسدد خطانا لما يحبه ويرضاه. إِنه سبحانه قريب مجيب الدعوات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
* * *
1 / 6
المقدمة
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد. وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد ..
فإِن كتاب "التاريخ الكبير" للإِمام أبي عبد الله: محمد بن إِسماعيل البخاري ﵀ يحتل مكانة الصدارة في الدراسات الحديثية، منذ أن صنفه صاحبه وِإلى يومنا هذا.
وذلك لإِمامة مصنفه الذي أذعن لأحكامه الموافق والمخالف. ولإِشتتماله على مادة علمية قيمة، من حيث الصناعة الحديثية، حيث أودع فيه علما جما قد لا يفطن إِليه إِلا أهل الإِختصاص في هذا الفن.
فقد كان ذلك دافعا لي، إِلى العمل في هذا الكتاب، وزادني فيه رغبة، وجود علاقة بين عملي في رسالة الماجستير وموضوعها "تفسير سورة يوسف ﵇" من تفسير القرآن العظيم مسندا عن "، رَسول الله ﷺ والصحابة والتابعين " للإِمام الحافظ عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي، وبين هذا الموضوع، لما بينهما من التقارب النسبي، من حيث دراسة الأسانيد والحكم عليها والتخريج.
وكنت كلما نظرت في كتاب "التأريخ الكبير" إِزددت به إِعجابا، لما حبا الله صاحبه من ذكاء، إِستطاع به أن يجمع مادة واسعة ويختصرها بإِشارات أودعها هذا الكتاب تدل على إِطلاع واسع على غالب ما كتب في زمانه من حديث، وما دون من علم وتأريخ.
1 / 7
وتيقنت أنه كلما زادت صلتي بهذا الكتاب، وتأملي فيه، إِزدادت مداركي، وتوسعت معرفتي بفنون "علم الحديث" و"تأريخه". وقد رأيت أن الإِشتغال به، وفهمه، وحل إِشاراته، وفك رموزه، هو خير معين لي في هذه المرحلة من مراحل التحصيل العلمي، لأنه سوف يفتح لي آفاقا واسعة في هذا الميدان، تسنح لي بمواصلة البحث والدراسة إِلى أمد بعيد- ان شاء الله تعالى-.
إِلا أن الذي وقفت عنده متحيرا هو: كيف تكون البداية؟ فهذا الكتاب بحر، فمن أي سواحله أبدأ؟
وبعد الإِستخارة والإِستشارة إِستقر الرأي أن تكون البداية بتخريج الأحاديث المرفوعة المسندة فقط من هذا الكتاب.
وهكذا خرجت هذه البداية في الصورة التي بين يدي القارئ الكريم.
هذه البداية -على سعتها- لم تمنعني من إِستخراج أشياء أخرى من هذا الكتاب، سارت جنبا إِلى جنا مع إِستخراجي للأحاديث المرفوعة المسندة، مثل: الأحاديث الموقوفة، والعلل الواردة في هذا الكتاب، وغير ذلك، وهي لا تقل مساحة عن موضوع هذه الدراسة إِن لم تزد عليها، أسأل الله أن ييسر لي إِخراجها في مقتبل الأيام.
لقد كانت خطة هذا الموضوع تسير على ما يلي: -
١ - إِستخراج الأحاديث المرفوعة المسندة، وتمييزها عن الأحاديث التي يتخلف عنها واحد من القيود. وأعني بالأحاديث المرفوعة المسندة، تلك الأحاديث التي رواها الإِمام البخاري ﵀ بسنده عن شيوخه إِلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأدخلت في ذلك الصحابة المختلف في صحبتهم، وكذلك بعض الأحاديث المختلف فيها التي ظاهرها الرفع وهي موقوفة، والمتصلة وهي
في حقيقتها مرسلة، مع بيان الراجح في ذلك.
وقد عرف الحافظ ابن الصلاح ﵀ الحديث المرفوع بأنه: ما أضيف
1 / 8
إِلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ خاصة، ولا يقع مطلقه على غير ذلك، ويدخل في المرفوع المتصل والمنقطع والمرسل، ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مقابل المرسل، فقد عنى بالموضوع المتصل (^١).
قال ابن الصلاح: ذكر الخطيب أن المسند عند أهل الحديث هو الذي إتصل إِسناده من رواية الى منتهاه وأكثر من يستعمل ذلك فيما جاء عن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (^٢).
وعرف الحاكم المسند بقوله: والمسند من الحديث أن يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه لسند يحتمله، وكذلك سماع شيخه، من شيخه، إِلى أن يصل الإِسناد إِلى صحابي مشهور إِلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (^٣).
وقال ابن عبدالبر: وأما المسند: فهو ما رفع إِلى النبي ﷺ خاصة، وقد يكون متصلا مثل: مالك عن نافع، عن ابن عمر عن رَسُولِ اللَّه ﷺ. وقد يكون منقطعا .. (^٤).
وقال أيضا:
وقد ذهب قوم إِلى أن المسند لا يقع الا على ما إِتصل مرفوعا إِلى النبي ﷺ (^٥).
وللأقوال المختلفة في تحديد مدلول المسند والمرفوع جمعت بينهما ليتحدد النوع الذي أردت أن تقتصر عليه الدراسة وهو المرفوع المتصل.
وإستخراج الأحاديث وفق الضوابط المذكورة، أمر عسر، ولا يعرف مقدار الجهد المبذول في ذلك إِلا من عرف طريقة البخاري في إيراده لأحاديث كتابه
_________
(^١) المقدمة: ص (٥٠).
(^٢) المقدمة: ص (٤٩).
(^٣) معرفة علوم الحديث: (١٧)، وشرح نخبة الفكر: ص (١٢٠).
(^٤) التمهيد (١/ ٢١).
(^٥) المصدر السابق (١/ ٢٥).
1 / 9
هذا. فهو أحيانا يقدم سند الحديث ثم يتبعه بالمتن على الطريقة المعهودة، وهذا لا يكلف في إِستخراجه كبير عناء بخلاف ما إِذا إِبتدأ بإِيراد الحديث من أثناء السند، وبعد ذكره لمتن الحديث يورد بقية السند، وهذا كثير.
إِلا أن العناء يزداد شدة إِذا أورد السند فقط ولم يورد من الحديث شيئا على الإِطلاق، لا طرفا منه ولا إِختصارا. ويزداد هذا الأمر شدة إِذا بدأ من أثناء السند حتى إِذا إِنتهى إِلى الصحابي، عاد فأكمل السند من شيخه إِلى حيث إِبتدأ أولا. إِن هذا الأمر جعلني أقف أمام الحديث الواحد مرة بعد مرة، أدرس سنده، وأخرج متنه لأرى هل يندرج تحت موضوع الدراسة هذه فألحقه بها؟ أم يتخلف عنه فأنحيه عنها؟
إن هذه الطريقة على ما فيها من عناء، لم تخل من النفع أيضا، لأنني كنت أكتب ملاحظاتي على كل حديث من حيث التخريج وما يلحقه، ولذلك لم أكد أنته من جمع (أحاديث) هذه الدراسة إِلا ورأيت نفسي قد قطعت شوطا كبيرا في تخريجها وما هو لاحق بالتخريج.
ولهذا جاءت هذه المادة محكمة، ولا أظن أن شيئا من هذه الأحاديث يستدرك عليها- وفق هذه الشروط- إِلا ما ذهلت عنه، والله أعلم.
٢ - من عادة البخاري في "تأريخه" ألا يذكر ألفاظ الأحاديث كاملة إِلا إِذا دعت الضرورة لذلك، فيكتفي بطرف منه، أو بإِختصاره، أو لا يذكره على الإِطلاق. وأحيانا يقدم لفظ حديث مرسل أو موقوف، ثم يتبعه بالمرفوع المسند، ويقول: بهذا، أو نحوه. وفي كل هذه الحالات وغيرها تكفلت بذكر لفظ الحديث المطلوب من تأريخ البخاري نفسه، أو من المراجع الأخرى.
٣ - الحكم على سند الحديث:
إِن دراسة الأسانيد تتناول جانبين: -
1 / 10
الأول: ترجمة رواة السند:
وقد سرت في ذلك وفق الضوابط التالية: -
١ - إِن كان راوي الحديث ثقة، فأكتفي بعبارة الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب، مع حذف طبقة الراوي، وكتابة من أخرج له من أصحاب الكتب الستة بالحروف.
٢ - إِن كان الراوي صدوقا، أو مختلفا فيه، فأنقل فيه أقوال آئمة الجرح والتعديل، المعول عليهم في نقد الرجال، من الكتب العتبرة في هذا العلم. وأختم ذلك بكلام الحافظ ابن حجر في التقريب غالبا.
٣ - إِن كان الراوي من رجال الكتب الستة، وما ألحق بها، فلا أذكر في ترجمته أحدا من شيوخه، ولا تلاميذه، إِلا لفائدة.
٤ - إِذا لم أقف على ترجمة للراوي- وذلك نادر- فإِن كان له ذكر ضمن ترجمة شيوخه، أو تلاميذه، أشرت إِلى ذلك.
الثاني: الحكم على السند:
سرت في هذا وفق المنهج الذي رسمه الحافظ ابن حجر- ﵀ في التقريب حيث قال: إِنحصر لي الكلام على أحوالهم- يعني الرواة- في إِثنتي عشرة مرتبة، وحصر طبقاتهم في إِثنتي عشرة طبقة.
فأما المراتب:
فأولها: الصحابة، فأصرح بذلك لشرفهم.
الثانية: من أكد مدحه، إِما: بأفعل: كأوثق الناس، أو بتكرير الصفة، لفظا: كثقة ثقة، أو معنى: كثقة حافظ.
الثالثة: من افرد بصفة، كثقة، أو متقن، أو ثبت، أو عدل.
الرابعة: من قصر عن درجة الثالثة قليلا، وإليه الإِشارة بصدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس.
1 / 11
الخامسة: من قصر عن الرابعة قليلا، وإليه الإِشارة: بصدوق سئ الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بآخره. ويلتحق بذلك من رمي بنوع من البدعة، كالتشيع، والقدر، والنصب، والإِرجاء، والتجهم، مع بيان الداعية من غيره.
السادسة: من ليس له من الحديث إِلا القليل، ولم يثبت ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإِشارة بلفظ: مقبول، حيث يتابع، وإلا فلين الحديث.
السابعة: من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق، وإِليه الإِشارة بلفظ: مستور، أو مجهول الحال.
الثمامئة: من لم يوجد فيه توثيق لمعتبر، ووجد فيه إِطلاق الضعف، ولولم يفسر، وإِليه الإِشارة بلفظ: ضعيف.
التاسعة: من لم يرو عنه غير واحد، ولم يوثق، وإليه الإِشارة بلفظ: مجهول.
العاشرة: من لم يوثق البتة، وضعف مع ذلك بقادح، وإِليه الإِشارة: بمتروك، أو متروك الحديث، أو واهي الحديث، أو ساقط.
الحادية عشرة: من إِتهم بالكذب.
الثانية عشرة: من أطلق عليه إِسم الكذب، أو الوضع (^١).
- فمن كان من المرتبة الثانية والثالثة صححت إسناده.
- ومن كان من المرتبة الرابعة حسنت إِسناده.
- ومن كان من الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة فقد حكمت بضعف أسانيدهم أن لم يتابعوا، فإِذا توبعوا قلت: حسن لغيره.
- وما كان بعد ذلك حكمت بضعفه أو شدة ضعفه حسب درجته، وإِن توبع.
_________
(^١) التقريب (٧٤).
1 / 12
أما إِن كان الراوي من غير رجال التقريب فقد سرت في ذلك وفق الضوابط التالية: -
١ - أن كان الراوي من طبقة كبار التابعين، الآخذين عن الصحابة -رضوان الله عليهم- ولم يثبت فيه جرح، وهو عادة ممن يذكرهم ابن حبان في الثقات، فإِني أحسن حديثه، لكونه عدلا في الظاهر، ولتعذر معرفة العدالة الباطنة له.
قال الحافظ ابن الصلاح: ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم (^١).
وقال الحافظ ابن كثير ﵀ بعد أن ذكر هذه المسألة: ورجح ذلك سليم بن أيوب الرازي، الفقيه، ووافقه ابن الصلاح، وقد حررت البحث في ذلك في المقدمات (^٢).
٢ - من سكت عنه الإِمام البخاري، وابن أبي حاتم، أو أحدهما، توقفت في الحكم عليه، حتى يتبين أمره، فإِن توبع براوٍ معتبر حسنت حديثه.
٣ - من لم أقف على ترجمته من الرواة، توقفت في الحكم على حديثه ولم أحكم عليه بالجهالة، رجاء وجود جرح أو تعديل فيه، في كتب الرجال التي لم ينشر كثير منها بعد.
وفق هذا المنهج سرت في حكمي على أسانيد الأحاديث المرفوعة المسندة في التأريخ الكبير.
٤ - تخريج الحديث تخريجا موسعا في جميع ما وقفت عليه من كتب السنة، مع الإِشارة إِلى الشواهد والمتابعات حيث الحاجة.
_________
(^١) مقدمة ابن الصلاح (١٢٢).
(^٢) الباعث الحثيث (٩٢).
1 / 13
٥ - تخصيص مساحة لا بأس بها -حيث الحاجة- لذكر علل الحديث الواردة فيه، وترجيع ظهر لي في رجحانه. وهذا أملاه على "منهج التعليل" الذي راعاه البخاري في "تاريخه الكبير".
٦ - شرح الغريب والتعريف بالمواضع.
٧ - عمل فهارس علمية لهذه الدراسة، وهي: -
١ - فهرس الآيات القرآنية.
٢ - فهرس الأحاديث النبوية على حروف المعجم.
٣ - فهرس الأحاديث على الأبواب الفقهية.
٤ - فهرس الرواة والأعلام.
٥ - فهرس المواضع.
٦ - فهرس مصادر البحث.
٧ - فهرس الموضوعات.
وقد إِقتضى العمل في هذا الموضوع تقديم دراسة مركزة تتناول جوانب تتعلق بهذا الموضوع من "التأريخ الكبير".
وقد خصصت الفصل الأول لإِلقاء بعض الأضواء على شخصية الإِمام البخاري، سلكت فيها مسلكا نافعا -إِن شاء الله تعالى-.
أما الفصل الثاني فدرست فيه "مصنفات" الإِمام البخاري، وأجبت على بعض الإِشكالات حول بعض مصنفاته.
والفصل الثالث قدمت فيه تقويما للطبعة المتداولة من "التأريخ الكبير" ما لها وما عليها، وإستعرضت فيه النسخ الخطية الموجودة من هذا الكتاب، مع إِبداء بعض الآراء فيها.
أما الفصل الرابع فخصصته لذكر المصادر التي إِعتمد عليها البخاري في الأحاديث المرفوعة المسندة في "التأريخ الكبير".
1 / 14
والفصل الخامس أفردته للمشايخ الذين روى عنهم البخاري الأحاديث المرفوعة المسندة في "تأريخه الكبير".
أما الفصل السادس فاستعرضت فيه منهج البخاري في "تأريخه الكبير" درست فيه بعض ملامح هذا المنهج.
ثم ختمت هذه الدراسة بخاتمة ضمنتها أهم النتائج والأحصاءات التي توصلت إِليها من خلال هذه الدراسة.
وبعد ..
فهذه "بداية" عمل جاد -إن شاء الله- في "التأريخ الكبير" وأقول "بداية" تيمنا بأن تتبعها "دراسات" أخرى لا تقل عنها في الحجم ولا في المستوى، وأسأل الله أن ييسر لي ذلك، وأن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* * *
1 / 15
القسم الأول
الدراسة
1 / 17
الفصل الأول
لمحات من سيرة الإمام البخاري
المبحث الأول: من عوامل تكوين شخصية الإمام البخاري.
المبحث الثاني: ثناء شيوخه عليه.
المبحث الثالث: ثناء أقرانه وبعض تلاميذه.
المبحث الرابع: من شمائل البخاري.
المبحث الخامس: البخاري ومسألة اللفظ.
المبحث السادس: فتنة اللفظ تلاحق البخاري حتى الوفاة.
1 / 19
تمهيد
لا أظنني آتي بجديد في سيرة هذا الإِمام الجليل من حيث "الشمائل والأخبار" وذلك لأن شخصية هذا الإِمام أبهرت الكثيرين من ذوي التخصص في هذا الشأن، فوضعوا في ترجمته مصنفات مستقلة. والذين ترجموا له ضمن سير الآخرين أولوه عناية خاصة، فصلحت أن تكون ترجمته في هذه الكتب الجامعة مصنفا قائما بذاته.
فمن الذين أفردوه بالتصنيف صاحبه ورفيقه ووراقه أبو جعفر محمد بن أبي حاتم البخاري، وهو من العارفين بحال البخاري لأنه كان يصحبه في الحضر والسفر. وقد سمى كتابه هذا "شمائل البخاري". قال الذهبى: "وهو جزء ضخم" (^١).
ولم يصلنا هذا الكتاب بعد، لكن كثرة النقول عنه تكاد تستوعب ما كتبه هذا التلميذ الوفي.
ومن الذين أفردوه بالتصنيف: أبو الربيع سليمان بن سالم الحميري الكلاعي، في كتاب له سماه "أخبار البخاري". كذا سماه الذهبي (^٢). وسماه مرة أخرى "سيرة البخاري" (^٣).
وكذلك فعل أبو سعد السمعاني -صاحب الأنساب- وهو: عبدالكريم بن محمد بن منصور التميمي. فقد أفرده بكتاب أسماه "مناقب البخاري" كذا قال في "التحبير" (^٤).
_________
(^١) سير أعلام النبلاء: (١٢/ ٣٩٢).
(^٢) المصدر السابق: (٢٣/ ١٣٦).
(^٣) المصدر نفسه: (٢٣/ ١٣٧).
(^٤) ٢/ ٦٩.
1 / 21
وسماه الذهبي "بخار بخور البخاري" (^١).
أما من ترجمه ضمن كتاب جامع، وتصلح ترجمته أن تكون "سيرة" خاصة، أو "مناقب" لهذا الإِمام أو "أخبارا" له، فكثير جدا.
منها الترجمة التي كتبها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (^٢) وهي من التراجم الحافلة. وعليها إِعتمد ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (^٣) وزاد عليها أخبارا أخرى كثيرة.
ومنها الترجمة التي كتبها المزي في "تهذيب الكمال" (^٤).
والترجمة الحافلة التي كتبها الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (^٥).
والترجمة التي كتبها ابن حجر في "هدى الساري" (^٦) و"تغليق التعليق" (^٧). إِلى غير ذلك من التراجم الجامعة والمختصرة لأخبار هذا الإِمام في كتب أخرى كثيرة. إِلى إِنني رأيت أن لا أمر بهذا الإِمام -وأنا أشتغل بواحد من مصنفاته الكبرى -دون أن أكتب- لنفسي أولًا- مذكرة تشير إِلى بعض ملامح هذه الشخصية الهامة في تاريخنا وحضارتنا. وكما قلت أن هذه "اللمحات" لا تأتي بجديد، لكنها " ذكرى لي، ولمن يقرأ كتابي هذا، عسى أن ننتفع بها في حياتنا وبعد مماتنا.
_________
(^١) السير (٢٠/ ٤٦١).
(^٢) (٢/ ٤ - ٣٥).
(^٣) المجلد الخامس عشر من الورقة ٣٨ ب إِلى الورقة ٥٤ ب.
(^٤) المجلد الثالث، الأوراق (١١٦٨ - ١١٧٢).
(^٥) (١٢/ ٣٩١ - ٤٧١).
(^٦) ص (٤٧٧ - ٤٩٣).
(^٧) (٥/ ٣٨٤ - ٤٤١).
1 / 22
المبحث الأول من عوامل تكوين شخصية البخاري
نذكر هنا بعض الأسباب التي ساعدت في تنشئة هذا الإِمام الرباني، وذلك كله بعد توفيق الله تعالى.
١ - صلاح الأبوين:
لم يصلنا من أخبار والديه إِلا القليل.
فأما أبوه إِسماعيل، فكان حريصا على العلم ولقى الأكابر، فقد رحل الى مدينة الرسول ﷺ لسماع مالك بن أنس، وإلى البصرة لسماع حماد بن زيد، والتقى بعبد الله بن المبارك، وصافحه بكلتا يديه (^١).
وكان لإسماعيل هذا مال كثير، ورث منه الإِمام البخاري شيئا جليلا أعانه على طلب الحديث.
قال وراق البخاري: سمعت محمدين خراش يقول: سمعت أحمد بن حفص يقول: دخلت على إِسماعيل والد أبي عبد الله عند موته فقال: "لا أعلم من مالي درهما من حرام ولا درهما من شبهة" (^٢).
ومثل هذا الورع العظيم يدل على ما وراءه من صلاح. فمن هذا المال "الطيب" كان البخاري يأكل. ومنه أيضا كان ينفق في الطلب -فكيف لا يبارك له في علمه وعلى هذا الأساس قام؟ وأما أمه فكانت مستجابة الدعوة،
_________
(^١) التاريخ الكبير (١/ ٣٤٢ - ٣٤٣) وسير أعلام النبلاء (١٢/ ٣٩٢).
(^٢) مقدمة الفتح ص (٤٧٩).
1 / 23
وإستجابة الدعاء مظنة الصلاح وطيب المطعم.
قال ابن حجر في "الهدي": روى غنجار في "تاريخ بخارى" واللالكائي في "شرح السنة" في باب -كرامات الأولياء- منه: أن محمد بن إسماعيل ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إِبراهيم في المنام فقال لها: يا هذه قد رد الله على إِبنك بصره بكثرة دعائك. قال: فأصبح، وقد رد الله عليه بصره (^١).
من بديع لطف الله تعالى بعباده، أن صلاح الفرد لا تقتصر بركته على هذا الصالح فقط، بل ينسحب ذلك ليشمل الأولاد والأحفاد، وإلى ذلك أشار القرآن (^٢). فطيب الأصل مظنة طيب الفرع.
٢ - اليتم.
وغالب العظماء هم من اليتامى، وهذا أيضا من اللطف الخفي، فمن حرم حنان الوالد، قد لا يحرم من الذكر الصالح. واليتم يصنع الرجال، ويعلمهم الصبر والجلد والإِعتماد على النفس. وقد ظهرت أمارات ذلك عند البخاري في وقت مبكر نسبيا. حيث ورد أنه ذهب إِلى مكة حاجا أمه وأخيه، وترجع أمه وأخوه ويتركانه وحيدا هناك وهو لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، مجاورا وطالبا (^٣).
٣ - البيئة والنشأة الصالحتان.
فبخارى كانت تعج بأهل العلم من حملة الفقه والحديث. ولم يتعب البخاري في البحث عن الشيوخ الصالحين، الذين رعوه وعرفوا قدره، وقدموه بالرغم من يتمه. وأما النشأة، فتلك الأم الصالحة آثرت ما يبقى على ما يفنى، فلم تدفع بابنها للمتاجرة بمال أبيه خوف الفقر ونفاد التركة، بل دفعت بابنها
_________
(^١) هدى الساري ص (٤٧٨). وانظر "طبقات الحنابلة: (١/ ٣٧٤) و" تهذيب الكمال" ص (١١٧٠). و"سير النبلاء" (١٢/ ٣٩٣).
(^٢) في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾.
(^٣) هدي الساري ص (٤٧٧ - ٤٧٨).
1 / 24
ليحفظ القرآن، ثم الحديث، ثم حجت به وتركته يواصل طلب العلم في البلد الحرام.
٤ - الإلهام:
وقد أفصح البخاري عن ذلك إِفصاحا.
قال الفربري: سمعت محمد بن أبي حاتم وراق البخاري يقول: سمعت البخاري يقول: "ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب" قلت: وكم أتى عليك إِذ ذاك؟ فقال: "عشر سنين أو أقل" (^١)!!
قلت: فانظر إِلى هذا التوفيق الذي رعي البخاري من صغره، حيث دله علي الصراط السوي، وألهمه حفظ الحديث وهو لا يزال في "الكتاب" لم يبلغ العاشرة من عمره، ذلك أننا عرفنا أن من بكر في طلب الحديث إِنما بكر في "كتابته " عن الشيوخ ليحصل له (علو الإِسناد) أما أنه يبكر هذا التبكير في "حفظ الحديث" فهذا دليل على نبوغه المبكر.
٥ - الذكاء:
وهذا موضع إِجماع عند جميع من لقي البخاري من شيوخه وأقرانه وتلاميذه، بل وكل مشتغل بفن الرواية والدراية إِلى يوم الناس هذا (^٢) - فهو- ﵀.
كان من أذكياء الدنيا، وذكاؤه ذكاء خارق، ينفذ إلي طيات النصوص والالفاظ، يستخرج منها ما حير الأذكياء المتخصصين في فنون الحديث.
وهذا الذكاء النادر ظهرت بوادره منذ الطفولة.
قال البخاري: ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت أختلف إِلي الداخلي وغيره. فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبى الزبير، عن
_________
(^١) تاريخ بغداد (٢/ ٧)، سير النبلاء (١٢/ ٣٩٣)، هدي الساري (٤٧٨).
(^٢) انظر مبحث "ثناء العلماء عليه".
1 / 25
إبراهيم، فقلت له: إِن أبا الزبير لم يرو عن إِبراهيم. فإِنتهرنى، فقلت له: إِرجع إِلي الأصل. فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لى: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدى، عن إِبراهيم، فأخذ القلم منى، وأحكم كتابه، وقال: صدقت. فقيل للبخارى: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إِحدي عشرة سنة. (^١)
إِن ذكاء البخاري اختصر له الزمن، فإِستطاع أن يجمع في ذاكرته ما عجز عنه شيوخه وأقرانه. وكذلك سهل له إِستنباط ما حير به عقول اللاحقين.
قال حاشد بن إِسماعيل: كان البخارى يختلف معنا إِلي مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فلمناه بعد ستة عشر يوما فقال: قد أكثرتم علي فأعرضوا على ما كتبتم. فأخرجناه فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه. وقال أبو بكر بن أبى عياش الأعين: كتبنا عن محمد بن إِسماعيل وهو أمرد على باب محمد بن يوسف الفريانى. (^٢)
قال ابن حجر: كان موت الفرياني سنة اثنتي عشرة ومائتين وكان سن البخاري إِذ ذاك نحوا من ثمانية عشر عاما أو دونها. (^٣)
والأخبار في قوة حفظ البخارى وسيلان ذهنه كثيرة جدا، إِنما أردت أن أشير إِلي أن الذكاء الخارق كان من المقومات الكبرى لهذه الشخصية الفذة.
٦ - كفاية المؤونة.
وهذا من الروافد المهمة التي ساعدت البخارى فى المضي في طريقه، والإِسراع إِلي الغاية دون إِلتفات إِلي أسباب المعيشة والإِنشغال بها. إِذ
_________
(^١) تاريخ بغداد (٢/ ٧)، تهذيب الكمال (١١٦٩)، طبقات الشافعية للسبكي (٢/ ٢١٦)، هدي السارى (٤٧٨).
(^٢) هدي الساري (٤٧٨).
(^٣) المرجع السابق.
1 / 26
الفقر، وكثرة العيال من أكثر ما يقعد بالعالم الذكي عن بلوغ الغايات. وإمامنا قد كفي هذا من وجوه. فأبوه ترك له من المال الطيب ما يكفيه مدة الطلب. والأم الصالحة كانت علي ما يظهر تحسن التدبير، فما تركت إِمامنا ينشغل عن غايته بتنمية التركة. بل نراها أحسنت الصنع فجمعت له الحج وطلب الحديث في سفرة واحدة. ويأتي أخيرا الزهد والقناعة التى طبع عليها إمامنا، وكذلك ترك التكلف فى المظاهر لهذه الحياة.
ثم إن البخارى لم يحاول الإِتصال بأولى الأمر في ذلك العهد وآثر البعد عنهم قدر ما يستطيع، حتي لا يشغلوه ويعكروا عليه صفاءه القلبى والذهنى. وقد حكي وراق البخارى أن البخاري ورث من أبيه مالا جليلا، وكان يعطيه مضاربة. (^١)
وقال وراقه أيضا سمعته يقول: وما توليت شراء شئ قط ولا بيعه، كنت آمر إِنسانا فيشتري لي. (^٢)
وقال وراقه أيضا: قطع له غريم خمسة وعشرين ألفا، فقيل له: إِستعن بكتاب الوالى. فقال: إن أخذت منهم كتابا طمعوا، ولن أبيع ديني بدنياى. (^٣)
٧ - الإخلاص فى الطلب، وصرف الهمة إليه:
سأله وراقه يوما فى خلوة: هل من دواء يشربه الرجل فينتفع به للحفظ؟ فقال البخارى: لا أعلم. ثم أقبل عليه وقال: لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر. ثم قال البخارى: وذاك أنى كنت بنيسابور مقيما، فكانت ترد إِليَّ من بخاري كتب، وكن قرابات لي يقرئن سلامهن فى
_________
(^١) هدي السارى (٤٧٧).
(^٢) المرجع السابق.
(^٣) المرجع السابق.
1 / 27