Arap Düşüncesini Yenileme
تجديد الفكر العربي
Türler
وإلى جانب من لا ترضيهم ظواهر الأمور فيبحثون وراءها عما تطمئن له نفوسهم من حقائق الغيب، والمثقفين العقلانيين الذين يهتمون لسلامة الأفكار استنادا إلى قيم أساسية يأخذونها مأخذ التسليم، من أهمها حرية الإنسان، هنالك الفريق الثالث الذي يلتزم الشرائع كما نصت عليها ظواهر التنزيل والحديث والأخبار المتواترة عن السلف الصالح، وهو فريق تمثل في جماعات قديمة كما يتمثل اليوم في جماعات معاصرة. وهؤلاء يختصمون مع الباحثين عن باطن وراء الظاهر؛ لأن في ذلك مجالا للأهواء والنزوات، ثم يختصمون كذلك مع المثقفين أنصار التفكير العقلي والفكر الحر؛ لأن ذلك معناه مجاوزة النص وما يستلزمه. على أن هذا الفريق يتدرج في مرونة النظر درجات متفاوتة، منهم من يسد الأبواب دون ابتكار العقل مكتفيا بالأخبار المروية عن السلف، ومنهم من يجد ألا مناص من إفساح المجال أمام العقل حيثما أعوزتنا أخبار السلف التي نهتدي بها.
هكذا نرى الصورة متشابهة - من حيث التكوين - بالنسبة إلى الجماعات المتصارعة على مسرح الفكر قديما وحديثا، حتى ليمكن القول إن المحدثين في طريقة انقسامهم واختلافهم، امتداد للتراث الموروث عن أسلافهم . ولست أظن أن مثل هذا الانقسام أمر طبيعي يتكرر مثيله في كل الثقافات؛ إذ لست أرى هذا التضاد بين أهل الظاهر وأهل الباطن مألوفا من الثقافات الأخرى، كما أني أرى أن طريقة الجماعات الفكرية في تقبل الثقافات الوافدة من خارج تتخذ دائما هذه الصورة نفسها التي اتخذتها في ثقافتنا العربية قديمها وحديثها على السواء. ولو كانت لا تعمل، وأستبق حكما هو الذي أجدني أميل إلى الأخذ به في تنظيم نشاطنا الثقافي تنظيما يأخذ عن الماضي ويساير الحاضر، وهو حكم سترد له تفصيلات في فصول آتية من هذا الكتاب، لقلت إننا لو استطعنا أن نركز على محورين من المحاور الثلاثة السالف ذكرها، فذكر على الجانب العقلاني من جهة، وعلى الجانب السلفي المعتدل من جهة أخرى، لاستطعنا بأولهما أن نواجه عصرنا - وهو عصر العلوم القائمة على عقل خرف - متكئين في الوقت نفسه على أصول الشريعة الإسلامية والدراسات اللغوية والنحوية والفقهية التي قوام السلفي، قائلين في السلفية التي تجعل للعقل نصيبه من التأويل كلما اقتضت الحاجة إلى تأويل، أقول إننا لو استطعنا الجمع بين هذين المحورين، لكان لنا بذلك استمرار مع الماضي من أسس العلاقات الإنسانية، علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله ومسايرة للعصر من علومه واتجاهاته الفكرية، لا سيما فيما يتصل بالاقتصاد والسياسة. •••
كانت هنالك - إذن - ثلاثة أطراف في الحياة الفكرية عند الأقدمين: طرف منها لا عقلاني يعتمد على الغوص إلى الحقيقة الروحانية مهتديا بإلهام أو بحدس مباشر. وطرف ثان عقلاني يستخدم طرائق المنطق النظري في حجاجه، وغالبا ما يتأثر بثقافة اليونان. وطرف ثالث لا يتخذ موقعه في مجال «الفكر» بقدر ما يتخذه في مجال «السلوك» سلوكا يتفق مع شريعة الدين.
ولم يكن الطرف اللاعقلاني بسيط التكوين موحد الطريق والهدف، بل اختلطت فيه خيوط كثيرة منوعة الأهداف، ونقطة الجمع بينها هي مقاومة السيادة العربية، حتى ولو جاءت تلك المقاومة على حساب العقيدة الإسلامية نفسها. لعل أول فصول الرواية قد ظهر حين اعتز الأمويون بعروبتهم وبقوميتهم، اعتزازا أدى بهم إلى تفرقة صريحة بين نوعين من المسلمين: فمسلمون ينتمون إلى العرب في أصولهم، ومسلمون آخرون من غير العرب أطلق عليهم اسم «الموالي»، فكان لا بد أن يحدث صراع بين الفريقين، قد يكون مستترا حينا أو معلنا حينا آخر، بحسب قوة القابضين على أزمة الحكم. ولما كان هؤلاء الموالي هم من الفرس، أصبح الصراع في حقيقته تنافسا بين قوميتين: العربية والفارسية، وهو التنافس الذي عرف باسم «الشعوبية». ولقد بدأت الحركة الشعوبية منذ العصر الأموي، في صورة متواضعة أول الأمر، وهي المطالبة بمجرد المساواة بين الموالي والعرب؛ وذلك لأن هؤلاء الموالي قد أحسوا خيبة الأمل المرة بعد اعتناقهم الإسلام؛ لما رأوه من تفاوت جائر في منزلة كل من الفريقين، فلم يكن للموالي العصر الأموي من الحقوق ما كان للعرب. ولقد ترفع العرب على الموالي ترفعا مهينا؛ فلم يتسامحوا في زواج يتم بين رجل من الموالي وامرأة من العرب، بل ذهبوا إلى تمييز بين الجماعتين في بيوت الله نفسها؛ إذ جعلت للعرب مساجد وللموالي مساجد، وجرى العرف بأن تترك السياسة والحرب للعرب؛ ليضطلع الموالي بعد ذلك بالمهن الحرفية.
وإذا كان الأمر كذلك، فلم تكن إلا خطوة واحدة يخطوها الموالي في طريق التنافس، هي أن يلتمسوا لأنفسهم طريق الردة إلى دياناتهم الأولى، دون أن يعلنوا ذلك بالضرورة حتى لا يجلبوا على أنفسهم الأذى، فكان يكفيهم أن يعلنوا الإسلام ويضمروا ما شاءت لهم قلوبهم من عقائد؛ ومن ثم نشأت الحركة القوية نحو ما عرف باسم «الزندقة»، وهو اسم تعددت مقاصده واختلفت معانيه حتى في القواميس العربية، فالزنديق تارة يكون القائل بالثنوية التي تجعل للعالم مبدأين هما النور والظلمة، الأول للخير والثاني للشر، والزنديق تارة أخرى يكون هو القائل بأزلية الدهر وأبديته، والزنديق تارة ثالثة هو من اعتنق مذهب ماني أو غيره من مذاهب الفرس السابقة على الإسلام، والزنديق تارة رابعة هو من ينكر وجود الله، أو يذهب إلى أن لله شريكا. وجاء عند أحمد أمين في «ضحى الإسلام» أن الزندقة تطلق على معان أربعة: فهي إما تطلق على التهتك مع تبجح في القول يمس الدين، وإما تطلق على أتباع عقيدة المجوس - وخاصة مذهب ماني - مع التظاهر بالإسلام، وإما تطلق على الإلحاد في الدين بصفة عامة. وهي على اختلاف معانيها تلك تتفق كلها - كما يقول طه حسين في «حديث الأربعاء» - في أنها ضرب من السخط على العرب وعاداتهم وأخلاقهم ومحافظتهم ودينهم بنوع خاص.
فالشعوبية والزندقة وجهان لموقف واحد، الأولى خروج على العرب، والثانية خروج على الإسلام وإن يكن في الأغلب خروجا في الخفاء. فإذا كان العرب في عهد الأمويين قد وحدوا أنفسهم مع الإسلام ليجعلوا الإسلام فضلا لهم على غير العرب، فالفرس قد وحدوا أنفسهم مع عقائد فارسية قديمة، وأخذت كفة الفرس تزداد رجحانا، حتى جاء العباسيون على أكتافهم، فكان طبيعيا أن تجيء دولتهم وقد حققت لهم بعض ما أرادوا. وكان بعض ما أرادوه أن يبثوا الفرقة بين العرب ليحدوا من قوتهم، وأن يقللوا من شأنهم حتى لا يصبح لهم فضل على العجم، لا، بل أن يظهروا ما كان للحضارة الفارسية من شأن رفيع أين منه العرب في بداوتهم؟ وإنه ليلفت النظر بقوة - وهو أمر قد يلقي الأضواء على تيارات السياسة في عصرنا - أن العرب في الدولة الأموية كان من صالحهم أن يعلوا من فكرة «القومية» العربية على رابطة الإسلام؛ لأن الإسلام فيه عرب وغير عرب، وهما في رأيهما عندئذ لا يتساويان، فكان رد الفعل عندما اشتد بأس الفرس بمجيء الدولة العباسية، أن أخذوا يعلون من شأن الرابطة الإسلامية لتكون هي أساس التعامل، على حساب فكرة القومية؛ لأن تلك الرابطة من شأنها - مهما تكن سطحية أو مزيفة - أن تفسح لهم مجال المساواة بينهم وبين العرب.
كان الزنادقة فرقا كثيرة، بعضها تافه الدعوة وبعضها خطيرها، لكن سواء كانت دعوة الداعي تافهة أو خطيرة، فقد كانت - في جميع الحالات - سرعان ما تجمع حولها الأتباع بعشرات الألوف، كأنما هؤلاء الأتباع قد ضاقوا ذرعا بقيود الدين الجديد، وأخذوا يترقبون الفرصة السانحة ليتحللوا منها، في الحقيقة إن لم يكن في الظاهر. ولنذكر مرة أخرى - فهذه إحدى النقاط التي تهمنا فيما نحن بصدده من حديث - أن الدعوات الزنديقة التي كانت تصيخ لها آذان الأتباع، كانت تحقق لهم شيئا مما ألفوه، وكان من أهم ما ألفوه في عقائدهم القديمة ألا يكون الفاصل حادا بين الله والإنسان، بل أن تكون هنالك الصلات الملغزة التي تصل الإنسان بالقوى الكونية الخفية؛ ومن ثم كان يسيرا عليهم أن يؤمنوا بأن الله قد حل في هذا الإنسان أو ذاك، كلما دعاهم داع إلى مثل هذا الاعتقاد؛ إذ كان كامنا في جذورهم الثقافية التقليدية أن يروا أمام أعينهم إلههم وقد تجسد في إنسان.
كان أبو مسلم الخراساني ممن أعانوا على قيام دولة بني العباس؛ إذ رأى في ذلك طريقا موصلا إلى أمله وآمال الفرس جميعا، وهو أن يعاد لشعبهم وثقافتهم وعقائدهم ما كان لها من مكانة ومجد، ولكي لا تكون هذه الأهداف مكشوفة عارية، سترها بالدعوة لآل بيت الرسول؛ انتقاما من بني أمية الذين تعصبوا للعرب الخلص دون غيرهم ممن انتموا إلى دين الإسلام؛ ولذلك نرى جماعات كثيرة من الزنادقة، قد وجدت في أبي مسلم الخراساني هذا شخصا قريبا إلى أذهانهم، يجعلون منه الإنسان الرباني، أو الرب الإنساني الذي كانت تتعلق به أهواؤهم. وسنذكر لك فيما يلي قصصا متناثرة تبين طبيعة الجو الوهمي الذي كان ينعم بالعيش فيه عدد ضخم من الناس؛ لنرى لأنفسنا كم يجب الحذر في القول، حين نقول للعرب المعاصرين إنه ينبغي لهم أن يحيوا تراث الأسلاف، فما كل تراث ينبغي إحياؤه بمعنى أن يسري في حياتنا العصرية، وإن يكن كل تراث واجب الدراسة عند المؤرخين:
ظهر في خراسان - أيام أبي مسلم - رجل يدعى «بيها فريد»، يقال إنه قدم من الصين بعد أن أقام فيها بضع سنوات، صعد ذات ليل في الخفاء إلى مخبأ في معبد، حتى كان الصبح، نزل مرتديا قميصا أخضر يلفت النظر، فالتقى بزارع يحرث أرضه للزرع، فزعم له أنه إنما هبط لتوه من السماء، حيث شهد الجنة والنار، وأن الله تعالى قد أنعم عليه بهذا القميص العجيب، وأرسله هاديا للناس، فما أسرع أن تناقل الخبر أهل ذلك الريف، وجاءوا ليلتفوا حول هذا الرسول الجديد، يستمعون إلى رسالته، فأخذ الرجل ينشئ لهم كتابا مقدسا بلغة فارسية يفهمونها، يدعوهم به إلى أن يجعلوا صلاتهم للشمس سبع مرات كل يوم، وأن يمتنعوا عن ذبح الحيوان، مؤسسا هذا التحريم على مذهب التناسخ، فكان كلما ازداد الناس إقبالا عليه، ازداد إمعانا في إحياء التعاليم المجوسية القديمة بينهم.
وسرعان ما ظهر دعي آخر، يدعى «سنباذ»، آخذا عن «بيها فريد» مذهب الحلول والتناسخ، ثم أضاف عقيدة مؤداها أن أبا مسلم الخراساني لم يقتل، بل تحول - عند قتله - إلى حمامة بيضاء، ولاذ بالفرار. ولقد أنذر سنباذ المجوسي هذا بأن سلطان العرب وشيك الزوال على يديه، وبأنه مصمم على هدم الكعبة وغيرها من الأماكن المقدسة عند المسلمين.
Bilinmeyen sayfa