ومن الصعب أن أكون نقديا وتحليليا لأضع عناصر الموقف الإنساني الراهن في ميزان النقد الموضوعي الهادئ بينما تختل كل الموازين وتهتز، وذلك على الرغم من اقتناعي أيضا بأن «النقد الفلسفي» مدعو، في هذه اللحظة أكثر من أي لحظة أخرى، إلى القيام بدوره في تحليل الواقع بكل أبعاده، وتجاوز أوضاعه القائمة، ومراجعة قيمه ومعاييره السائدة بغية تغييره من جذوره، كما أنه مدعو كذلك، أو ربما قبل ذلك، إلى ممارسة النقد على الفلسفة ذاتها؛ على مفهومها وطبيعتها ومناهجها والغاية منها، على نحو ما حدث على الدوام في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى، ومع ولادة كل فيلسوف عظيم وكل فلسفة أصيلة منذ القدم وحتى اليوم.
ومع اعترافي بعجزي تجاه المحن والمآسي المتلاحقة عن أن أكون عقلانيا ونقديا كما ينبغي لكل منتم إلى الفكر الفلسفي، فسوف أجدني مضطرا - بحكم الطبع أو بحكم الضرورة التاريخية القاسية - إلى اتخاذ موقف أقرب ما يكون إلى مواقف فلاسفة الحياة، الذين يلجئون إلى الشعور والتعاطف والحب والتفهم أكثر مما يلجئون للعقل، الذي يحددون مجاله ويقصرون استخدامه على ميادين العلم والعمل، كما يتبنون منهج الحدس، أو الفهم الأقدر في رأيهم على النفاذ إلى صميم الحقيقة الحية، والتغلغل في نهر الصيرورة والفعل المتدفق؛ هذا الفعل الذي بلغ كما أشرت من قبل حد التفجر والتدهور والجنون الوحشي المستعر.
لذلك لن أستطيع أن أعد القارئ بأكثر من أفكار مؤقتة تحتاج إلى جهد أكبر، وقراءات وتأملات وتأويلات أعمق ربما تتيحها الأيام في وقت لاحق وتساعدها على النضوج، وسيكون حالي أشبه بمن يحاول التأمل بينما ينهار السقف فوق رأسه ويهتز الأساس تحت قدميه، أو بمن يحاول رسم لوحة أو وضع لحن موسيقي في الوقت الذي تشتعل فيه نيران الحرب من حوله، أو تنهال سياط الجلادين في معتقلات العذاب والتعذيب على جسده.
أمامنا المسرح العالمي المخيف تدور على خشبته الأحداث المخيفة؛ تطرف وتعصب، عنف وإرهاب، عصابات «مافيا» وشركات احتكار عابرة للقارات ومصاصة للدماء، شعوب كاملة مهددة بالإبادة والتشريد والأوبئة والمجاعات، حوالي بليونين من البشر يعيشون تحت المستوى الأدنى للحياة الإنسانية، حكام بالاسم وحده وهم في حقيقتهم سفاحون بالجملة، كأنما انشقت عنهم قبور الآشوريين أو الرومان أو المغول والتتار، تخريب للبيئة والأرض - مهد البشر ولحدهم - تحت ضغط الضرورات الاقتصادية أو التجارب النووية أو التكنولوجيا الصناعية التي أفلتت من كل الحدود، وأوشكت أن تغتال الخضرة في كل مكان، سخط وتمرد وبطالة وجريمة وضجيج وفقدان للمعنى، لا سيما بين الشباب الثائر بلا ثورة في أرجاء العالم كله. وعلى الجملة، غياب الحكمة واغترابها عن الواقع اليومي للبشر العاديين الذين تزداد تعاستهم وشقاؤهم، واغتراب البشر العاديين والمتخصصين المحترفين على السواء عن الحكمة ومقاصدها العالمية، والإنسانية التي لم تغب أبدا عن ألباب الحكماء الحقيقيين في الشرق والغرب منذ آلاف السنين.
ونسأل السؤال الخالد الأليم: ماذا نفعل؟ ماذا يفعل المتفلسف لإنقاذ الفلسفة أو الحكمة من اغترابها عن الواقع، وينقذ الواقع من اغترابه عنها؟ ماذا يفعل لإنقاذ الإنسان من أهوال القوى الوحشية التي تشوه إنسانيته، وتمسخ حقيقته، وتزيف معناه ورسالته على الأرض؟ هل يبقى في مقاعد المتفرجين، مع العلم بأن النار التي تلتهم المسرح يمكن أن تمتد ألسنتها إلى القاعة؟
هل يمكن أن يشارك بجهده وشخصه وكتاباته مع زملائه، في الاقتراب من الغايات والأهداف الكبرى المنوطة بالعقل والفلسفة، منذ أن وجد الإنسان وبدأ الوعي التأملي في حقائق الوجود والفعل والقيم والمصير، وفي وضع الإنسان في الكون ودوره فيه، والأمانة التي يحملها خلال الفترة القصيرة لوجوده في العالم، بعد أن أبت أن تحملها السموات والأرض والجبال؟
قبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من تأكيد الاحترام والتقدير للمعرفة الفلسفية بأنظمتها وفروعها المختلفة؛ فهذه الأنظمة المتخصصة تتقدم وتمضي في طريقها المعرفي الدقيق، ولا بد أن تتابع السير فيه وأن يساهم كل منا بجهده في هذه المسيرة. هذا شيء لا غنى عن تأكيده منذ البداية بكل ما نملك من قوة ومن احترام للمعرفة العلمية الدقيقة، التي لا يشك أحد في كونها شعاع الأمل المضيء، وربما الوحيد، وسط الظلمات المدلهمة التي تزحف اليوم على وجود «الحيوان العاقل»، وتحاصر حقه في الحياة والسعادة والأمن والسلام والوعي والمعرفة.
والأسئلة التي طرحناها الآن قد لا تدخل بصورة مباشرة في الكثير من التخصصات الفلسفية الدقيقة، التي أمعنت في التخصص استجابة لروح العصر العلمي والتقني؛ لأنها إما أن تقع وراءها أو فوقها، دون أن تكون لهذا السبب هامشية أو من قبيل التزيد والفضول. أضف إلى هذا أن الإجابات الممكنة عنها والغايات المأمولة منها قد تنعكس عليها، فتخرجها قليلا من أبراج تخصصها أو تؤثر على اتجاهها، أو تقرب بينها وتساعد في النهاية على تحقيق الوحدة الكلية المنشودة، وهي وحدة الثقافة والمعرفة والإنسانية (التي طالما تطلع إليها وفكر فيها الفلاسفة بأشكال مختلفة، من بعض حكماء الشرق القديم إلى بعض السفسطائيين إلى أفلاطون والرواقيين، إلى ديكارت وليبنتز وهيجل وهسرل وياسبرز وراسل وتوينبي وعدد من الماركسيين الجدد والوضعيين المناطقة ...) ويزيد من ضرورة التفكير والعمل في سبيل هذه الوحدة الشاملة ما يتردد اليوم على كل لسان من أن الأرض قد أصبحت قرية عالمية صغيرة، وأنها مهددة بالفناء على يد أعظم وأتعس المخلوقات التي تدب عليها وأخطرهم على مصيرها، وهو الإنسان.
إننا نلاحظ اليوم أن الحكمة قد خلعت عن عرشها، وأن الفلسفة قد اغتربت عن مجتمعاتها كما اغتربت هذه المجتمعات عنها في الغرب والشرق على السواء. وطبيعي أن تختلف الأسباب هنا وهناك، وأن يبلغ الأمر حد تحريمها أو تشويه سمعتها والافتراء عليها عندنا أكثر مما هو الحال عند غيرنا. وإذا صبرت عليها «السلطة» هنا أو هناك؛ فلأنها جزء من الترف الأكاديمي الذي يستكمل به الديكور الثقافي، أو لأنها ثرثرة محصورة بين الجدران الجامعية ولا خطر منها ولا أثر لها. ولعل السبب الأعمق هو فقدان الثقة في الفلسفة، والاعتقاد بعجزها عن التأثير في مجرى الأحداث العامة وفي الوعي والرأي العام، أو في الحياة الخاصة للمواطنين المشغولين عنها بهمومهم الخاصة. وحتى إذا قلنا إن لكل إنسان بالضرورة فلسفته، فلن تكون هذه في النهاية سوى فلسفة شعبية غامضة، تتكون في الغالب من أخلاط متناقضة يحصلها الإنسان العادي من التقاليد والآراء الشائعة والأفكار والعواطف المتدفقة ليل نهار، من أجهزة الإعلام ووسائطه وأبواقه وأقماره الصناعية (التي حجبت ظلماتها المنهمرة وجه قمرنا القديم الحنون!)
إن الأسباب الحقيقية لاغتراب الحكمة وعجزها يمكن أن تنحصر في نوعين: أسباب داخلية تتعلق بالمشهد الفلسفي المعاصر عند الآخرين وعندنا، وأسباب خارجة عن الفلسفة نفسها أو خارجة عن إرادتها. وسوف أناقش هذه الأسباب على ضوء الغايات والأهداف والمثل الإنسانية العامة، التي يمكن أن تسعى الفلسفة لتحقيقها «هنا والآن»، أو بالأحرى التي يبغي عليها أن تسعى لتحقيقها على نحو أكثر تصميما، وعلى نطاق أوسع مما حدث حتى الآن.
Bilinmeyen sayfa