1
معتمدا في ذلك على أول سيرة كتبت لحياة ذلك الحكيم كما دونها المؤرخ سو- ما-شيين تحت عنوان شيه شي؛ أي سجلات المؤرخ في العام الواحد والتسعين قبل الميلاد، وأحاطه فيها بهالة غامضة من الخرافات والخوارق التي ترقى إلى مصاف الأساطير. وقد آن أن نسأل عن هذا المعلم العجوز الذي لا يعني اسمه في الصينية - وهو «لاو-تزو» - غير المعلم الشيخ أو العجوز، كما نسأل أيضا عن كتابه «الكلاسيكي» الذي يعرف أحيانا باسمه، وفي أغلب الأحيان باسم «تاو-تي-كنج»؛ أي كتاب الطريق (التاو أو الطاو) والفضيلة أو القوة والحياة (تي) الكامنة في الطريق.
رغم أن الشك والغموض يحيطان بشخصية «لاو-تزو»، وتاريخ مولده ومماته، ودوره في تأليف الكتاب المنسوب إليه أو المسمى باسمه إلى حد التشكك في وجوده التاريخي نفسه، فيمكننا أن نبدأ بالمعلومات القليلة التي يتفق عليها معظم الباحثين. وتقول هذه المعلومات إنه ولد على أرجح الفروض إما في عام 63ق.م أو في عام 57ق.م (وإن لم يمنع ذلك من القول - على لسان جنتر ديبون مترجم الكتاب إلى الألمانية - بأنه قد ولد حوالي عام 300ق.م)،
2
وإنه مات في عام 517 قبل الميلاد، كما تقول إنه هو مؤسس «الطاوية» - نسبة إلى الطاو أو الطريق إلى الحقيقة والحياة الأبدية، والمبدأ والأصل الأول الذي تولدت عنه الكائنات أو الجواهر العشرة آلاف؛ أي كل الموجودات التي تتألف منها الطبيعة، والغاية الأخيرة التي ستنتهي إليها أيضا - وإنه ولد في مزرعة تابعة لمقاطعة هونان جنوبي بكين وعلى مسافة مقاربة من مدينة شنغهاي، ثم شغل وظيفة أمين مكتبة الوثائق والمحفوظات في بلاط مملكة تشو، في وقت ساد فيه الاضطراب السياسي والاجتماعي البلاد، وسبق مولده بقرنين. من هذه المعلومات أيضا ما يقوله المؤرخ السابق الذكر من القرن الأول قبل الميلاد، وهو أن اسمه الأصلي هو «لي-إر»، وأنه كرم بعد ذلك بتسميته «لاو- تان»؛ أي أكمل العجائز أو المتقدمين في العمر، وأن «كنج-فو-تزو» - وهو معلم الصين الأشهر كونفوشيوس - الذي كان يصغره في السن، قد سعى إليه والتقى به؛ ليسأله عن حقيقة الطقوس والشعائر التي كان يمارسها الحكماء والحكام القدماء، الذين لا يكف كلاهما عن الإشادة بهم والاقتداء بسيرتهم، والتغني بتمسكهم بالطريق ومحافظتهم عليه إلى حد الاندماج فيه والتوحد به، والتصرف في حياتهم التي اتسمت بالبساطة والتواضع والكمال بمقتضاه وعلى هداه.
3
لنقف وقفة قصيرة عند ذلك اللقاء الشهير الذي يمكن أن يبرز لنا بعض وجوه الاتفاق بين الطاوية والكونفوشية، اللتين نشأتا عن الاحتجاج الفلسفي على الظروف السائدة في عصرهما، كما يمكن أن يبين لنا كيف تطورت المدرستان بعد ذلك، وسارتا في طرق مختلفة ومتناقضة؛ إذ شددت الكونفوشية على خير البشر الأخلاقي، وضرورة اتباعهم للقواعد والتعاليم والواجبات باعتبارها مفتاحا للسعادة، وسبيلا للترقي والتهذيب وتطهير الباطن، بينما أكدت الطاوية على تجانس الطبيعة وكمالها، وضرورة التوافق مع طريقها الباطن أو مع «الطاو» الكوني الشامل، وذلك باتباعه ومحاولة التوحد معه، وبغير ذلك لن يصلوا إلى السلام والرضا ويتخلصوا من الشر والبؤس والنزاع والصراع والتعاسة.
سأله المعلم الشاب بعد أن انحنى أمامه انحناءة لائقة: سمعت من يقول على لسانك إن العارف لا يتكلم، والمتكلم لا يعرف. وقد عشت حياتي حتى اليوم لكي أعرف وأعلم، وأحاول أن أصلح بالكلمة والاسم. أفدني يا سيدي عن الطريق (الطاو). - الطريق يا بني لا اسم له. لو كان له اسم ما كان هو الطريق. عميق هو وبلا قرار. هو المنبع والأصل وسر الأسرار. - لكنه تجلى للحكماء والقدماء، وأنت تلازمهم، وتعرفهم، وتنطق بكلامهم، وتتقن طقوسهم وشعائرهم. - هذا صحيح يا بني، ولكن الذين تسأل عنهم قد تعفنوا، وصارت عظامهم ترابا. لقد اتحدوا بالطريق، فكانوا هم الطريق. تمسكوا به وحققوه بالبساطة والسكينة والوداعة، ولم يتكلموا عنه بالخطب والمواعظ، ولم يقيموا له الطقوس والشعائر. كانوا هم الطريق، فلم يحتاجوا لدق الطبول لدعوة الناس إليه. - لكنهم علموا مواطنيهم يا سيدي وأصلحوهم. حببوا إليهم الفضيلة، وعملوا على تهذيبهم بالخير والإحسان والصدق والمحبة، وأنا أيضا أريد أن أفيد مواطني ولا أضرهم. - إذا أردت أن تفيدهم فتخل عن غرورك الذي يزين لك أنك تفيدهم. وإذا شئت أن تغيرهم فابدأ بتغيير نفسك قبل أن تفكر في تغييرهم. - هذا هو الذي قادني إليك يا سيدي. علمني ماذا أعلم، وكيف أعلم؛ لكي تصلح المملكة، ويصلح حال الحاكم والمحكوم. - سمعت أن التاجر الناجح يحرص على إخفاء ثروته، وأن الرجل العظيم ينهض للعظمة عندما تحين ساعته، لكن قبل أن تحين هذه الساعة توضع العراقيل أمامه. اسمع نصيحتي يا ولدي. لا تضع العراقيل أمامك. - لم أفهم يا سيدي. - إن الحكماء القدماء الذين تتكلم عنهم قد عملوا بغير عمل، وعلموا بغير علم، وأصبحوا القدوة والمثل؛ لأنهم لم يدعوا الناس إلى الفضيلة والعدالة والإنسانية. لقد تمسكوا بالطريق، فسار الناس على الطريق. رجعوا للأصل والبداية، فأحب الناس السكينة والسلام، ورجعوا مثلهم للأصل والجذور. تخلوا عن أنفسهم، وتخلصوا من شهواتهم ورغباتهم، وتعففوا عن التعالي والظهور؛ فكف الناس عن التنازع والتصارع والتظاهر والحذلقة والخداع. لا تنس يا بني ما قلته لك. إنهم لم يتكلموا عن الطريق، ولم يسموه، وإنما اتحدوا به وكانوه؛ لذلك لم يفقدوا أنفسهم، ولم يفقدوه. وها هم أولاء اليوم يتصارعون، ويمزقون المملكة أشلاء، ويغرقون في الشهوات والرذائل، حتى احتاجوا لمن يصلحهم ويدعوهم للمعرفة والفضيلة. أتريد أن تغيرهم قبل أن تتغير؟ أن تعظهم باتباع الطريق قبل أن تسير أنت عليه؟ تخل يا بني عن تكبرك! تخلص من تظاهرك ومن طموحك العريض! ارجع إلى البساطة والسكينة قبل أن تجد نفسك يوما ما تنهض من مرقدك، وتتهدم كالجبل العظيم، وتنكسر. اذهب يا ولدي وغير نفسك. هذا هو كل ما يمكنني قوله لك. اذهب. اذهب.
ربما تكون وقفتنا قد طالت قليلا عند هذا اللقاء الشهير، لكننا قصدنا منه أن نوضح مدى الاختلاف بين الحكيمين والمدرستين في مفهوم «الطاو» وفهمه. إنه لدى متصوفي الطاوية هو الواحد الأبدي، وهو الطبيعي والتلقائي الذي لا يمكن تسميته ولا وصفه. أما الكونفوشية فتفهمه من ناحية الإنسان لا من ناحية الطبيعية والأسس المتعالية التي تقوم عليها؛ لذلك تحول عندها إلى نسق منظم من التعاليم والواجبات والوصايا الأخلاقية والاجتماعية. ومن الواضح أن المدرستين - شأنهما في هذا شأن الغالبية العظمى من المدارس الفلسفية الصينية - متفقتان في النزعة الإنسانية التي يتصفان بها، ويتحركان في إطارها بغية الارتقاء بالإنسان إلى مدارج العظمة والكمال، والحكمة والفضيلة، والنبل والصدق، وإن اختلفتا كما رأينا أشد الاختلاف حول مصدر هذه العظمة الإنسانية. فهو التوحد الصوفي بحقيقة الطبيعة أو الكون وقوانينه و«طاوه» الباطني عند الطاويين، وهو الارتقاء بإنسانية الإنسان من خلال تطهير الباطن، ومراعاة دستور كامل للفضائل الأخلاقية والتعاليم والطقوس الاجتماعية عند الكونفوشيين.
ونسأل الآن عن الكتاب الذي ذكرنا أنه سمي باسم المعلم العجوز «لاو-تزو»، وإن كان قد اشتهر بكتاب الطريق والفضيلة.
Bilinmeyen sayfa