58

Felsefi Deneyimler

تجارب فلسفية

Türler

أسئلة كثيرة، هل يتسع لها الحوار؟

وهموم أكثر، هل يقدرها إلا الحكيم الذي يطل على الساحة في غير قليل من الحسرة التي يشاركه فيها الحكماء الحقيقيون من كل العصور والحضارات؟

وبدأت الحوار بسؤال يمكن أن يشغل بال القارئ والمثقف العادي؛ لأتطرق منه للسؤال عما يهم المختصين. قلت: أستاذي الكريم، اسمحوا لي أن أبدأ الحديث معكم عن المقالة الأدبية والفنية التي ارتبطت باسمكم لدى الجمهور الواسع من القراء؛ فلا أظن أن قارئا عربيا مثقفا لم يطلع على بعض هذه الدرر النادرة من أمثال: جنة العبيط، وشروق من الغرب، وتجويع النمر، وظلم، وذات المليمين، وبيضة الفيل، وغيرها وغيرها من اللآلئ والعقود التي يزدان بها صدر الأدب العربي الحديث. ولا أعتقد أنه قد غاب عنه أنها قد بلغت على يديكم مرحلة مختلفة عما عرفه وتعود عليه، منذ المقامات والرسائل إلى مقالات المنفلوطي والرافعي والزيات والبشري وغيرهم؛ ففيها الفكاهة الحلوة والسخرية المرة والإطار الفني الذي يقربها من القصة القصيرة، أو الحكاية الخرافية على لسان الحيوان، أو «الحدوتة» والأمثولة والأبيجرام، كما فيها التجربة الشخصية، والتمرد على الأوضاع الفاسدة، وكل هذا مع اللجوء إلى الرمز والحلم والأسطورة والمجاز والمفارقة الذكية اللماحة والخيال الممعن في الغرابة والإغراب واختراق سطح الواقع المألوف إلى ما تحته وما فوقه. هلا حدثتموني عن وجهة نظركم فيها، ومدى تأثركم بالثقافة الإنجليزية التي اشتهرت - منذ فرانسيس بيكون (1561-1626م) - بترسيخ هذا الفن الأدبي، وعن أسباب ندرتها في حياتنا الأدبية؟

قال وهو يرجع برأسه إلى الوراء، ويسنده إلى ظهر المقعد المريح وكأنه يحاول أن يستعيد ذكرى عزيزة تأبى على الرجوع: إنك بهذا السؤال تلمس العصب من صميم حياتي وجهودي الأدبية. وأبدأ فأقول إن المقالة الأدبية، كأي جنس أدبي آخر من شعر ورواية وقصة ومسرحية، لها شرط يجعلها مقالة أدبية. هذا الشرط المشترك بينها وبين كل ما يندرج تحت عنوان الفن التشكيلي أو التعبيري، هو أن يكون هنالك شكل أو «فورم» يحمل الفكرة المراد نقلها. بهذا تنقل الفكرة بطريق غير مباشر؛ لأن الذي سوف يتلقاه الرائي أو القارئ سيكون «تركيبة» عليه أن يستخلص منها الفكرة المبثوثة فيها. والأديب يستعير الشكل المعين من أي جهة ليست مصدرا للفكرة نفسها، وإنما يرى أن هناك توازيا بين هذا الشكل المستعار والفكرة التي يريد أن ينقلها، ولتكن أسطورة أو حلما من الأحلام أو قطعة من التاريخ أو ما يشبه ذلك. والمهم ألا تظهر الفكرة المنقولة أبدا على السطح، بل تترك للقارئ وللناقد الأدبي أن يستخرجها فيما بعد. هذا هو شأن الأدب دائما على المستوى الرفيع. فلا بد أن يقدم شكلا يضمر فيه فكرة قد لا يكون الأديب نفسه على بينة منها. واستخراج هذا المضمون الفكري المضمر لا يجوز أن يكون واضحا في الأدب، وإلا أصبح وعظا. والنقاد الكبار يسقطون من حسابهم، أو على الأقل ينزلون إلى الدرجة الثانية أو الثالثة، كل قطعة أدبية يشتم منها الفكرة المنقولة. فالفكرة مضمرة وتحتاج لعملية حفر كما نفعل مع الآثار المدفونة. والناقد يحفر في القطعة الأدبية ليستخرج ما هو دفين فيها من فكرة رآها الأديب وقد لا يكون كما قلت على وعي بما رآه.

هذا هو الشرط في أي صورة أدبية كائنة ما كانت، بما في ذلك المقالة الأدبية، إلا أنني لم أعرض إلا قليلا من أمثال هذه المقالات الأدبية التي لا تصرح بالفكرة، ولا تحتاج إلى ناقد ليستخرجها من ثناياها. كتبت بالطبع مقالات مثل التي تفضلت بذكر بعضها، كجنة العبيط أو بيضة الفيل أو تجويع النمر أو قرصنة في بحر الثقافة، ولكن مقالاتي لم تكن كلها من هذا النوع؛ ففي كثير من الأحيان كنت أجد نفسي مضطرا إلى الإيماء الواضح بالفكرة التي أريد نقلها؛ لأنني آخر الأمر أريد للقارئ أن يفهمني، والقارئ اليوم ليس لديه في الغالب القدر الكافي من الوقت، ولا من التأني والصبر والشوق، إلى المعرفة الحقيقية. وبهذه المناسبة أقول إن هذا هو بالضبط المعنى الذي نقصد إليه حين نقول إن معظم الأدب العربي الذي ينتج الآن سطحي. ماذا نريد بقولنا إنه سطحي؟ نريد أنه يأخذ شكل الرواية أو شكل المسرحية أو شكل المقالة الأدبية أو غير ذلك، فإذا جاء ناقد وطرح شبكته التحليلية ليستخرج من القطعة الأدبية مضمونها أو مضمرها لم يكد يجد شيئا؛ لأن الأديب كان مباشرا أكثر من اللازم، ولم تكن لديه رؤية لحقيقة مبثوثة ودفينة في القطعة الأدبية التي صورها. وتسألني مرة أخرى عن غياب المقالة الأدبية بمعناها الفني الدقيق أو عن ندرتها، فأقول أولا إنها ليست جديدة في الأدب العربي، وإنما يجب أن نشير إلى صور كثيرة لها في تاريخنا الأدبي وإن تكن مختلفة عما نحاوله نحن الآن. فمثلا المقامات والرسائل هي من قبيل المقالة الأدبية، وبعض الحكايات التي تسرد في كتاب الأغاني أو غيره من كتب الأدب هي من قبيل المقالة الأدبية؛ لأن كل هذه الصور تنطوي على ما نريد للأدب أن يطويه في ثناياه، وغاية ما هناك أن الأشكال مختلفة ... نحن في الأدب الحديث، أو أنا على الأقل، لا أتبع مقامة ولا رسالة، وإنما أتبع الاستعارة من مصدر آخر غير مصدر الفكرة التي أعرضها. وكثيرا جدا ما ألجأ إلى الأحلام، ولكنها ليست بالضرورة أحلاما حقيقية، وإنما هي أحلام مصطنعة، تماما كما أتصور حديثا دار بيني وبين آخرين. والواقع أن مثل هذا الحديث لم يقع، وإنما أستحدث من أحدثه لأصب الفكرة في قالب معين.

وقد حاولت المقالة الأدبية من السن المبكرة؛ لأن أول مقالة أدبية في هذا المعنى كانت في أواسط الثلاثينيات في مجلة الثقافة، عندما نشرت «البرتقالة الرخيصة»؛ ومن ثم يمكنك مرة أخرى أن تقول على لساني: من أراد أن يلمس العصب من حياتي الفكرية والوجدانية، فليبحث عنه في مقالاتي الفنية قبل كل شيء.

كنت قد تعثرت كثيرا، وتعثر القلم معي، وأنا ألاحق الجدول المتدفق، وأحاول أن أقيد بالمداد تموجاته الفائرة. وأسرعت أسأله عن جانب من إنتاجه استأثر باهتمامي، وتمنيت لو شاركت فيه ذات يوم، فقلت له: أحب أن أنتقل من المقالة الأدبية إلى السيرة الذاتية. لقد قدمتم قبل حوالي العشرين سنة «قصة نفس»، قبل أن تعيدوا صياغتها في طبعتها الثانية، ومعها في الوقت نفسه على وجه التقريب «قصة عقل». والقصتان - ولا أقول الروايتان! - متفردتان في بنائهما والهدف منهما بين الترجمات أو السير الذاتية التي عرفها أدبنا الحديث. وتوشك «قصة نفس» في الجزء الأول منها أن تكون عملا روائيا بكل ما يحمل من مقومات ودلالات، ولولا الإشارات التي جاءت في الأجزاء الأخيرة منها إلى أحداث أدبية ووقائع ثقافية محددة، ارتبطت بشخصكم وسيرتكم العقلية والعلمية، ولولا بعض الخواطر والتأملات الفلسفية - وخاصة على لسان إبراهيم - لاحتفظت بالشكل القصصي والإطار الروائي حتى النهاية. أما «قصة عقل» فهي - إذا أذنتم لي - أقرب إلى التسجيل المجرد لتطور عقل فلسفي مر بتجارب مختلفة مع الوضعية المنطقية بوجه خاص، ثم اتسع أفق رؤيته مع تجربته الأخيرة مع تراثه العربي والإسلامي، فهل تسلكون هاتين «القصتين» في منظومة الترجمات والسير الذاتية المعروفة في أدبنا العربي الحديث؟ وهل توافقونني على أن العالم قد تدخل في أكثر الأحيان في عمل الأديب؟

قال بعد أن أطرق برأسه قليلا ثم رفعها، فلاحظت أن وجهه الطيب قد اكتسى علامات الجد، وربما طاف به طائف من الحزن أو الألم: الحق أنني صاحب «قصة نفس» وكاتبها، لكنني أعترف بأنني قلق جدا إزاء هذا النوع من الكتابة. فقد أخرجتها في الصورة الأولى سنة 1964م، وبعد عشرين سنة على وجه التقريب، أخرجتها في صورة أخرى تختلف اختلافا كليا عن الصورة الأولى. لماذا صنعت هذا؟ لأنني كنت قلقا وما زلت قلقا، حتى إزاء الصورة الثانية. ولماذا كل هذا القلق؟ وكيف نشأت الفكرة عندي؟ الواقع أنني عندما فكرت في أن أكتب تاريخ حياتي في المرة الأولى وفي المرة الثانية، صممت على أن تأتي حياة كما يراها صاحبها من الداخل، لا كما يراها الرائي من الخارج، أو الباحث العلمي الذي يفحص آثار الرجل ليكتب عن قصة حياته؛ ذلك لأن حياتي كما أراها ليست صوتا واحدا من الداخل، بل عراك داخلي أحس به باستمرار منذ طفولتي. أرى شيئا بعاطفتي وأرى شيئا آخر بعقلي، وأحس صراعا داخليا خفيا هو مكشوف لي بالطبع وإن لم ينكشف الرائي الخارجي. وأنا أعتقد أن كل إنسان هو عدة أشخاص في جلد واحد؛ لأنه عدة ميول واتجاهات؛ ففيه عاطفة وفيه غريزة وفيه عقل، وربما كان الفرق بين شخص وشخص هو في الزوايا التي تفصل كل جانب من هذه الجوانب عن الجانبين الآخرين. بيد أن الزوايا منفرجة جدا عندي؛ فالذي يرى جانبي العقلي لا يتصور إطلاقا غزارة الجانب العاطفي في حياتي، ومن يرى الجانبين لا يتصور إطلاقا مدى التزامي بالقوالب الاجتماعية التي أعيشها، ولا أرضى أن أعيش غيرها ما دمت بين الناس (مثل فوزي الراوي). وعندما شرعت في كتابة «قصة نفس» استحسنت ألا ألجأ أبدا إلى الاعتراف بأن هذه حقائق عن نفسي، أو حتى أن أظهر نفسي بالاسم، واكتفيت بإشارات خفيفة أحيانا وغليظة أحيانا أخرى، يستشف منها القارئ أن أصحاب الأسماء التي أعطيتها للأشخاص الثلاثة الذين يؤلفون التفاعل في هذه القصة، هي جوانب مختلفة من نفس واحدة. فرياض عطا هو الأحدب، والحدبة هنا حدبة نفسية وليست جسمية، بدليل أنه عندما كان يستريح نفسيا كانت الحدبة تختفي عن الأنظار. والطرف المقابل لهذا الإنسان المنفعل هو الإنسان العاقل والدارس إبراهيم الخولي (نسبة إلى قريتي التي ولدت فيها، وهي قرية ميت الخولي من أعمال محافظة دمياط). أما فوزي فهو الذي يروي، وهو الذي ينخرط في القوالب الاجتماعية، شأنه شأن سائر الناس (كان فوزي هذا هو اسمي المنزلي الذي لم يعرف أبي وأمي إلى أن ماتا اسما غيره. وقد سألت والدي مرة: فيم هذه الأسماء كلها؟ فقال: ماذا نصنع؟ عند ولادتك زارنا ثلاثة من الأعزاء من أقاربنا، كل منهم اقترح اسما؛ أحدهم اقترح «زكي» والآخر «نجيب» والثالث «فوزي»، ولإرضاء الجميع وضعنا اسمين في شهادة الميلاد، واستبقينا الثالث ليكون هو الاسم المتداول في الأسرة).

بعد ظهور الطبعة الأولى أحسست أنني لم أكن موفقا، وأن الرمز كان أكثف مما ينبغي، ويوحي بانعكاسات أو إشعاعات قد يساء فهمها. وهكذا أخذت على نفسي في الطبعة الثانية أن أكون أقرب إلى مراحل الواقع كما وقع، مع الاحتفاظ أيضا بالرمز بعد التخفيف منه، ولكنني - كما سبق أن قلت لك - ما زلت قلقا.

وأما عن «قصة عقل»، فلم يكن في نيتي أبدا أن أكتبها؛ لأنها بالفعل تسجيل - أقرب إلى الجرد! - للخط الفكري الذي سرت فيه منذ سنة 1940م، ولم أنحرف عنه مدة نصف قرن تقريبا. ولأن الكثير جدا من إنتاجي مقالات أدبية، أو مقالات تعرض الفكرة عرضا مباشرا، فإن كثيرا من القراء لم يستطع أن يستجمع لنفسه الخط المشترك. وقد حدث مرة أن جاءتني مذيعة لتأخذ مني حديثا، فقالت لي: على كثرة ما كتبت لا نجد لك خطا واضحا. قلت لها: وماذا أصنع إذا كنت لا تقرئين؟ هناك الخط المستمر، وقد جاءت دراستي في إنجلترا لتؤكده، لا لتخلقه أو تبدعه للمرة الأولى. ولكنني بعد ذلك اختليت بنفسي، وسألتها: ما هو هذا الخط؟ في هذه اللحظة فكرت أن أكتب عن نفسي، بدلا من أن يكتب عني أحد غيري، وقلت ماذا لو درست هذا الخط كما هو واقع فيما كتبت؛ لكي يهتدي به من يريد. لقد بدأ عندي - أي هذا الخط الفكري - وأنا في حوالي العشرين، وما زلت أتذكر كيف بدأ غامضا بعض الشيء، ثم ازداد مع الأيام وضوحا. وكان المرحوم الأستاذ أحمد حسن الزيات، صاحب مجلة «الرسالة»، يخرج على عادته في كل عام عددا خاصا بمناسبة الهجرة، واستكتبني في هذا العدد الخاص الذي صدر في أوائل الأربعينيات، وجعلت عنوان مقالتي «هجرة الروح»، وقلت لنفسي فيها ما خلاصته: نحن أمام هجرة الرسول الكريم

Bilinmeyen sayfa