26
وسخرية أتباعها من الفيلسوف وتحوله المفاجئ.
كان من الطبيعي أن يحتشد شيلر لإتمام بنائه الفلسفي بالميتافيزيقا، أو الفلسفة الأولى بتعبير أرسطو، وكان من الطبيعي أيضا ألا تنفصل هذه الميتافيزيقا عن الحياة العينية، والصراع المستمر الدائر فيها بين الدافع والعقل. وها هو ذا بعد أن انتهى - ولو بصورة مؤقتة! - من أنثروبولوجياه الفلسفية، وبعد أن شهد طبعتها في الكتاب الصغير «وضع الإنسان» الذي في الكون، كتب مقدمته في نهاية شهر أبريل سنة 1928م؛ أي قبل موته بأقل من شهر واحد. كان من طبائع الأمور أن يبدأ في تدوين خواطره وتأملاته الميتافيزيقية، التي كانت بعض بذورها وخيوطها كامنة في نسيج المرحلة المبكرة من فلسفته في الأخلاق المادية والقيم. لم يسعفه الأجل لإكمال ميتافيزيقاه، وعثر راعيا تراثه، وناشرا أعماله الكاملة - زوجته الثالثة ماريا شيلر، والأستاذ مانفرد فرنجز - على شذرات ناقصة، وصفحات وتخطيطات متناثرة، رتبها «فرنجز»، ونشر مخطوطاتها الباقية سنة 1979م في المجلد الحادي عشر والأخير من الأعمال الكاملة.
وسوف نرى من العرض الموجز لهذه الميتافيزيقا أنها مرتبطة من ناحية أشد الارتباط بصيرورة الشخص الإنساني الفرد من ناحية (وقد عرفنا أنه هو الكائن المحب المتعاطف، وحده مركز أفعال الفكر والقيمة، وأنه كون مصغر ومعبر وطريق متجه نحو الأساس الأعلى للوجود المطلق من ناحية، ومن ناحية أخرى نحو التاريخ البشري العام، الذي يمثل مسرح الصراع المتصل بين قطبي الوجود، وهما الدافع والعقل، في رحلة درامية دائمة، وكفاح فردي وجماعي مستمر لانتصار العقل والخير، وسائر القيم المادية القبلية التي تقوم على أساس عاطفي وانفعالي).
كان آخر مقال كتبه الفيلسوف، ونشره بنفسه قبل رحيله ، وهو «الرؤية الفلسفية الشاملة للعالم»، أشبه ببرنامج يمهد فيه ل «معمار» الميتافيزيقا،
27
التي أراد إتمامها، وطالما شكا منذ سنة 1920م من صعوبة العمل فيها جنبا إلى جنب الأنثروبولوجيا. والواقع أن هذا المقال يؤكد الارتباط القوي بين الأنثروبولوجيا والميتافيزيقا، ويكفي لبيان ذلك أن نقرأ فيه العبارات التالية: «إن الانطلاق من ماهية الإنسان، وهو المبحث الذي تدور حوله الأنثروبولوجيا الفلسفية، هو الذي يجعل من الممكن، كامتداد لأفعال العقل التي تنبثق أصلا من المركز الإنساني، استخلاص حكم نهائي على الخصائص الحقيقية للمبدأ الأعلى للأشياء.»
28
وهكذا يعتمد الحديث عن الشذرات المجتزأة، والصفحات التي تركها وراءه، وضمنها الخطوط العامة للميتافيزيقا التي لم يسعفه الأجل المحتوم لإتمامها، يعتمد إلى حد كبير على النتائج التي توصل إليها من كتاباته عن الأنثروبولوجيا والتاريخ البشري العام، وغيرهما من البحوث المتصلة بالإنسان، بل يمكن أيضا - كما سبق القول - أن نرجع إلى الخيوط والبذور الكثيرة المنثورة في كتاباته المبكرة عن الأخلاق والقيم.
لم يكن إمكان بناء الميتافيزيقا، أو بالأحرى إعادة تأسيسها من جديد، في نظر شيلر مجرد مسألة أكاديمية خالصة، وإنما كان ضرورة ملحة تحتمها مآسي الحرب العالمية الأولى التي عاصرها، وعاين بنفسه مدى الفوضى الاجتماعية، وانهيار القيم الذي جرته ويلاتها على بلاده، كما كان بينا من ناحية أخرى ضرورة يحتمها تطور العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية، التي راح يتابعها بكل ما يستطيع من صبر وأمانة. وليس من المستغرب أن نجد الشخص الإنساني بوصفه نسقا منظما، ووحدة حية من الأفعال العقلية والقيمية، يحتل مكان المركز من الميتافيزيقا، ويصبح هو المدخل الأساسي إلى الوجود المطلق. لقد كان الإنسان عنده، إذا جاز هذا التعبير، نقطة عبور إلى المطلق، ومجرد كائن «بيني» على الطريق إليه، فصار الآن متجذرا بصورة مباشرة في هذا الوجود الأبدي، أو هذا الروح المطلق. والإنسان - ككائن حي تحركه الدوافع - متجذر فيه بصورة أصيلة، ومشارك في صيرورة العملية الكونية بأسرها نحو الله. ونحن ندرك وحدة التجذر لجميع البشر، بل للكائنات الحية بأكملها في هذا الاندفاع أو الدافع الإلهي، من خلال «الحركات الكبرى» للتعاطف والحب، وفي كل أشكال الشعور بالتوحد الكوني. ذلك هو الطريق الذي يسميه شيلر بالطريق «الديونيزي» إلى الله. ويترتب عليه أن الإنسان لا يمكن أن يكون «مجرد محاك بعدي» لبناء كوني مسبق، شيدته الفلسفة القديمة أو الفلسفة الوسيطة (كما نجد في نظرية المثل لأفلاطون، أو في نظرية العناية الإلهية)، وإنما هو مشارك في البناء والتأسيس والتحقيق لصيرورة مثالية متصلة وكامنة في العملية الكونية، وفيه هو نفسه.
Bilinmeyen sayfa