حدث ذلك وهو في الثالثة والعشرين من عمره. ولم يتوقف شيلر بعدها عن التنقل من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد آخر، يدفعه من ناحية طموحه العلمي الذي وجهه منذ البداية وجهة فلسفية، ومن ناحية أخرى ارتباطه بزوجته الأولى أماليا فون ديفتس كريبس. كانت عينه قد وقعت على هذه المرأة لأول مرة أثناء رحلة مولها أبوه على سبيل الهدية بعد حصوله على الثانوية العامة، في منطقة التيرول بإيطاليا. كانت تكبره بسبع سنوات، وكان لديها ابنة عمرها سبع سنوات من زوجها الأول، الذي انفصلت عنه بسبب إدمانه للمخدرات . ويبدو أن سحرا غامضا جذبه إلى هذه المرأة الجميلة كما جذبها إليه. ارتبط بها على الفور، وخطبها لنفسه، وكانت هي من الحنان والحرص عليه بحيث شجعته على مواصلة دراسته للحصول على لقب الدكتور الذي سيؤهله للعمل بالجامعة. ويبدو أيضا أنه سجل اسمه في فصلين متتاليين لدراسة الطب تحت تأثير محبوبته، وعن اقتناع بأن الفلسفة «لا تطعم دارسها خبزا، ولا تضمن له مستقبلا». ومع ذلك لم يقبل بصورة جدية على دراسة الطب، وإنما واصل الاستماع إلى نداء قلبه - كما يقول الحكيم المصري القديم - واستأنف دراسة الفلسفة.
كان هدفه الأول من قضاء فصلين دراسيين في برلين، هو الحياة بالقرب من أماليا التي تسكن هذه المدينة. وحرك وجوده في برلين وسماعه لمحاضرات «دلتاي» و«زيميل» أمواج مشروعه الفلسفي، بل يمكن القول بأنهما قد أثرا على فلسفته اللاحقة تأثيرا لا يقل في دلالته وعمقه عن تأثير نيتشه عليه في أواخر صباه. وزادته الإقامة في العاصمة الزاخرة بالتيارات والصراعات السياسية والحزبية اهتماما بالقضايا الاجتماعية والاشتراكية في حياة الناس العاديين، وربما كان هذا وراء إقامته بعض الوقت في هيدلبرج، وانضمامه إلى دائرة الملتفين حول فيلسوف الاجتماع الشهير «ماكس فيبر».
وجاءت سنة 1898م ومعها أحداث فاصلة ومواقف حاسمة؛ فقد تقدم إلى جامعة يينا بالرسالة المؤهلة للتدريس بالجامعة تحت عنوان «المنهج الترنسندنتالي والمنهج السيكولوجي، شرح أساسي للمنهجية الفلسفية». وبدأ التدريس بنفس الجامعة بعد حصوله على وظيفة الأستاذ المساعد (بعقد خاص). وفي العشرين من ديسمبر سنة 1899م تحول إلى العقيدة الكاثوليكية، وتم تعميده في كنيسة القديس أنطوان في مدينة ميونيخ، ولم تمض قبل ذلك إلا أيام قليلة حتى كان قد عقد قرانه في الثاني من شهر أكتوبر من السنة نفسها على زوجته الأولى أماليا في مدينة برلين. تلك هي التواريخ الجافة لأحداث تلاطمت خلفها تجارب مخيفة ومؤلمة. راحت الزوجة الحساسة ذات الإرادة الصلبة تعالج من أمراض نفسية جسمية شخصها الأطباء بأنها هستيرية، وكانت هي أيضا مثل الزوج الفيلسوف قد تربت تربية يهودية صارمة قبل أن تتحول إلى البروتستانتية؛ حبا في زوجها الأول الذي هجرته كما سبق القول بعد إدمانه للأفيون. كانت أماليا تعيش مع أمها الكاثوليكية المذهب، وربما كان هذا وراء تحول شيلر قبل زواجه بأسبوعين إلى الكاثوليكية، التي كانت زوجته مقتنعة بها على الرغم من تحولها السابق للمذهب البروتستانتي. مهما يكن الأمر فقد حملت زوجته منه، وأنجبت بعد ذلك ابنه الذي ظلت أمه تتكفل برعايته وعلاجه من الخلل النفسي والتخلف العقلي، قبل أن تطلب من شيلر - الذي كان قد طلقها وتزوج بأخرى! - أن يتولى العناية بالصبي الميئوس من شفائه (وقد روينا قصته بشيء من التفصيل على الصفحات التالية، وذكرنا أن شفاءه تم بعد رحيل أبيه بسنوات على يد زبانية النازية، الذين كانوا يصفون المرضى النفسيين والعقليين في معتقلاتهم المخيفة). لم يقصر شيلر في الإنفاق على ابنه، ولكنه لم يشعر نحوه أبدا بعاطفة الأب نحو ولده. وبذلت الزوجة والأم كل ما في وسعهما لكي يترك شيلر عمله في يينا ويتجه إلى ميونيخ، وكانا هما السبب أيضا في الفضائح التي ألصقتها الصحافة بالفيلسوف وأخذت في ترويجها، حتى اضطر بعد سنوات قليلة من عمله بالجامعة، ثم بعد أن نزع عنه الحق في التدريس، أن يكسب قوت يومه من إلقاء المحاضرات في المدن والجمعيات المختلفة، وأن يسعى عبثا للعمل في أي جامعة خارج بلاده؛ في اليابان وروسيا أو مصر. وراح يواصل مسيرته الفلسفية الطموح على الرغم من الأحوال البائسة التي عاش فيها وذاق مرارتها، وربما كانت هي الشوكة التي لم تفتأ تدفعه إلى العمل، حتى وجد فرصة في مدينة كولونيا التي ضاق بعد ذلك ذرعا بالحياة فيها، وإن لم يتوقف أبدا عن الاستمرار في إنضاج تجربته الفلسفية والحياتية على السواء. وأخيرا وصلته الدعوة المشرفة للعمل بجامعة فرانكفورت، التي انتقل إليها وهو لا يدري أن الموت الذي طالما هجس به خاطره يتربص به ويزحف نحوه، حتى باغته بعد أشهر قليلة من إقامته بالمدينة.
كان كثيرا ما يردد لسانه أو قلمه هذه العبارة المأثورة عن جوته: «أقرب الناس إلي هو ذلك الإنسان الذي يتحول باستمرار.» ونظرة واحدة إلى حياة ماكس شيلر (1874-1928م) الشخصية وعناوين كتبه وبحوثه الفلسفية، كفيلة بالكشف عن مدى عمق تحولاته، وقسوة ما كابده من ورائها من ويلات وعذابات، وما واجهه من جرائها من إساءة فهمه في عصره وبلده إلى حد التجاهل والنسيان؛ من اتهامات ظالمة بأنه مجرد «حرباء» فلسفية متلونة، أو عاشق عاطفي متيم بالفلسفة، وأن أعماله التي بقي الكثير منها شذرات ناقصة تفتقد الوحدة الباطنية والطابع الفلسفي والمنهجي. وإذا كان واقع سيرته وتفكيره كما عرفنا من قبل يقدم شهادة واضحة على تحوله من ناحية العقيدة، من اليهودية إلى الكاثوليكية التي لم يلبث أن أعلن خروجه منها، وتبنيه وجهة نظر كونية وشمولية، كما يشهد أيضا من الناحية الفكرية على تأثره في البداية بالكانطية الجديدة، ثم انتمائه - بطريقته الخاصة! - إلى فلسفة الظاهرات أو «الفينومينولوجيا»، واعتناقه في النهاية لنوع من وحدة الوجود القائمة على أسس تطورية، تضع العقل في مكانة سامية فوق النظام الطبيعي كله، إذا كان واقع السيرة والفكر يدل على هذا دلالة واضحة، فإنه يبين كذلك أن شيلر لم يتخل أبدا عن النسقية، التي كان يشدد دائما على ضرورتها لأي نظام فلسفي، وذلك بشرط ألا نقصد النسق بمعناه الكلاسيكي المغلق، الذي يستنبط قضاياه وتحليلاته من مجموعة من المبادئ الأولية أو القبلية، بل نقصد به النسق المفتوح، الذي يتغلغل في كل ميادين الحياة والعمل والفكر والمعرفة، ويتسم بالثراء والتنوع الشديدين، دون التفريط في التماسك والاتساق والإحكام الذي يميز كل تفكير فلسفي حقيقي. وإذا كان هذا النسق المفتوح يعكس الأزمات الشخصية التي عاناها شيلر إلى حد القلق والتمزق، فإنه يعكس في الوقت نفسه أزمات عصره وتياراته المصطخبة في مهب العاصفة الثورية، التي هزت الحياة الثقافية الغربية في الفترة الواقعة بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، كالتعبيرية والرومانسية الجديدة والظاهراتية وبدايات الوجودية والتحليل النفسي ... إلخ.
فلنحاول الآن أن نرصد الملامح العريضة لتحولات الفيلسوف كما تتجلى من عناوين كتبه المهمة، وذلك قبل أن نقف وقفة متأنية عند بعض أعماله، لا سيما الأنثروبولوجيا الفلسفية التي يعد أحد روادها ومؤسسيها الكبار، والتي سجلها في كتابه الصغير الهام «وضع الإنسان في الكون»، وبقيت مع ذلك شذرة لم تتم، شأنها في ذلك شأن الكثير من جوانب فلسفته.
تأثر شيلر أثناء دراسته للفلسفة، كما سبق القول، بالكانطية الجديدة، وظهر هذا التأثر في رسالته الأولى التي قدمها لجامعة يينا تحت عنوان مساهمات في تحديد العلاقات القائمة بين المبادئ المنطقية والمبادئ الأخلاقية، وظهر هذا التأثر كذلك في رسالته الثانية التي قدمها للجامعة نفسها تحت عنوان المنهج الترنسندنتالي والمنهج السيكولوجي؛ وبذلك ظل منشغلا بمشكلات الأخلاق ونظرية المعرفة التي تغلب عليها الروح الكانطية الجديدة.
راجع الفيلسوف آراءه بعد دراسته لكتاب هسرل الهام «بحوث منطقية»، وانضم إلى حلقة الظاهراتيين في جامعة ميونيخ بعد مغادرته لمدينة «يينا»؛ بسبب المشكلات التي ورطته فيها زوجته الأولى. وتصاعدت حدة الأزمات الشخصية المربكة التي أدت إلى فقد وظيفته في الجامعة، وطلاقه من تلك الزوجة، ثم زواجه للمرة الثانية في سنة 1912م من مريت، أي المحبوبة في اللغة المصرية القديمة، ابنة عالم الآثار فورتفنجلر، واضطراره لكسب لقمة عيشه من المحاضرات العامة، ومن بعض الكتابات في الصحف والمجلات الثقافية. في هذه الفترة ظهرت أولى مجموعات بحوثه الفينومينولوجية في سنة 1915م في مجلدين تحت عنوان بحوث ومقالات، ثم تحول هذا العنوان في طبعة سنة 1919م إلى «انقلاب القيم». وقد أكد مقال آخر تأثر فيه تأثرا شديدا بنيتشه، وهو «الضغينة في بنية الأخلاق»، أكد قدراته النقدية وتحليلاته النافذة لأشكال الحياة الانفعالية في المجتمع المعاصر له. أما كتابه الأساسي الذي هاجم فيه فلسفة الأخلاق الصورية عند كانط، وهو الشكلانية في الأخلاق وأخلاق القيم المادية، فقد ظهر في المجلة التي أسسها هسرل، وهي حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي بين سنتي 1913 و1916م. وهو في هذا الكتاب يعارض أخلاق كانط الشكلية الصارمة بأخلاق وقيم مادية، تقوم موضوعيتها على مضامين قبلية واضحة وجلية، يمكن أن يدركها الإنسان من خلال الشعور القصدي. وتتدرج هذه القيم في نظام أو نسق موضوعي وتراتبي، يبدأ بالقيم الحسية ك «السار وغير السار» إلى القيم الحيوية ك «النبيل والحقير»، ثم العقلية ك «الخير والشرير، والجميل والقبيح، والصادق والكاذب»، حتى يصل إلى قيم المقدس المحرم.
كان شيلر قد ترك اليهودية ودخل الكاثوليكية بسبب زواجه الأول في سنة 1900م، ثم أخذ في هذه المرحلة الظاهراتية من تطوره وأثناء الحرب العالمية الأولى، يفسر الكاثوليكية تفسيرا يقوم على فكرة الحب في التراث الأفلاطوني والأوغسطيني، فكتب أروع الصفحات عن الحب، حتى عده المؤمنون بتلك العقيدة أخلص الدعاة للدخول في الكنيسة الكاثوليكية. وتمخض انشغاله العميق بالتجربة الدينية عن كتابه الأساسي في فلسفة الدين، وهو «مشكلات الدين وتجديد الدين»، الذي ظهرت طبعته في سنة 1921م مع مجموعة أخرى من المقالات تحت عنوان «الأبدي في الإنسان». ومما يدل على تحولاته وقفزاته المذهلة أنه فاجأ الجميع في هذه الفترة نفسها بالكتاب الذي كان قد أصدره سنة 1915م، وناقض فيه روح المرحلة الدينية العميقة التي مر بها، وهو كتابه «جني الحرب والحرب الألمانية»، الذي احتفى فيه بالحرب العالمية، وصورها في صورة النداء القدري الذي يحث البشرية على أن تولد ولادة جديدة، وتتخلص من ظواهر الفساد والانهيار التي تسببت فيها الرأسمالية. وهو خطأ فادح لم يكن هو الفيلسوف الوحيد منذ أفلاطون وحتى هيدجر الذي وقع فيه ثم ندم عليه. ويعين شيلر سنة 1919م مديرا لمركز البحوث الاجتماعية في مدينة كولونيا، ثم يدعى بعد ذلك بقليل لتقلد منصب الأستاذية للفلسفة والاجتماع في جامعة كولونيا، التي أعيد افتتاحها في ذلك الوقت. ويباغت الرأي العام بين سنتي 1922 و1923م بتخليه النهائي عن العقيدة الكاثوليكية، وكذلك بطلاقه من حبيبته، زوجته الثانية «مريت»، وزواجه في سنة 1924م من السيدة ماريا شيلر التي رعت تراثه بعد وفاته، وأشرفت على صدور طبعة أعماله الكاملة، وأنجبت ابنهما ماكس يعقوب، الذي قدر له كما سبق القول أن يولد بعد رحيل أبيه في شهر مايو سنة 1928م.
مر شيلر بالمرحلة الثالثة من تطوره الفلسفي منذ أوائل العشرينيات، وتميزت هذه المرحلة باتجاهه للكتابة عن الأنثروبولوجيا الفلسفية، واهتمامه بالبحوث الاجتماعية، لا سيما علم اجتماع المعرفة، جنبا إلى جنب مع محاولة تأسيس نسقه الميتافيزيقي الذي لم يمكنه رحيله المبكر من إتمامه. وقد اهتم في بحثه الهام عن وضع الإنسان في الكون (1928م) بتقديم مشروع موجز لتصوره عن الأنثروبولوجيا الفلسفية، التي سنتناولها بشيء من التفصيل بعد هذا العرض الإجمالي. ويكفي أن نقول الآن إنه يميز في هذا البحث أربع طبقات تتكون منها النفس البشرية، وهي على الترتيب: الدافع الشعوري، والغريزة، والذاكرة المترابطة، والذكاء العملي؛ ثم يقابل هذه الطبقات الأربع بمبدأ العقل، الذي يختلف عنها جميعا كل الاختلاف، والذي يخلص الإنسان تماما من السياق الطبيعي، ويرفعه فوقه. ومع أن الحياة الطبيعية أو العضوية والعقل مختلفان من حيث الماهية تمام الاختلاف، إلا أنهما متعلقان ببعضهما بصورة لا غنى لكل منهما؛ فالعقل ينفذ بأفكاره في الحياة التي تخلو بدونهما من أي معنى، كما أن الحياة تمكن العقل من ممارسة فعله ونشاطه، ومن تحقيق أفكاره في الحياة بالطاقة التي تغذيه بها باستمرار. أما في ميدان علم الاجتماع، فقد اهتم شيلر بقضايا ومشكلات علم اجتماع المعرفة؛ فتناول بالبحث العلاقات الأساسية بين أشكال المعرفة وأنماط العادات والتقاليد الاجتماعية لدى الجماعات المختلفة. وقد حدد أهم أشكال المعرفة في الأشكال الثلاثة التالية: معرفة الإنجاز والهيمنة الخاصة بالعلوم الوضعية والمعرفة الثقافية والتربوية، التي تقدمها المذاهب الفلسفية، ثم المعرفة التي تتيحها الأديان المختلفة، وتبين لمعتنقيها سبل النجاة أو الخلاص. وكل شكل من الأشكال المعرفية السابقة يحدد نوع الدافعية الخاصة به، وأفعال المعرفة وأهدافها التي يسعى لتحقيقها، وأنماط الشخصيات التي تجسد القدوة والنموذج، والجماعات المختلفة التي تتكفل بإنتاج المعرفة ونشرها، وأنواع الحراك التاريخي المرتبطة بكل ما سبق. والملاحظ في هذا العرض السريع أن بحوث شيلر الاجتماعية يغلب عليها التأثر بالتضاد الأساسي الذي أكده الفيلسوف في أنثروبولوجياه الفلسفية، وهو التضاد بين الحياة والعقل؛ فالعقل بذاته عاجز عن تحقيق أفكاره في الواقع، كما أن قوى الحياة ودوافعها تظل بغير تدخل العقل قوى عمياء ضالة. لا بد إذن من تفاعل العقل والحياة وتعاونهما، مع العلم بأن العقل لا يستطيع أن يحقق في الواقع إلا الأفكار التي تحتاج إليها، وتحددها المصالح الواقعية للجماعات المختلفة، كما أن هذه المصالح أو العوامل الواقعية ترد في النهاية إلى الدوافع الأولية التي تتحكم في حياة الإنسان، وهي الدافع الجنسي أو دافع التكاثر، والدافع إلى القوة والسيطرة وإثبات الذات، ودافع البحث عن الطعام والغذاء. وقد عرض شيلر الخطوط الأساسية لنظرية في علم اجتماع المعرفة وفي العلوم الوضعية، في البحث الذي نشره قبل وفاته بسنتين، وهو أشكال المعرفة والمجتمع (1926م). وأخيرا فإن بحوثه الاجتماعية والأنثروبولجية تتداخل وتتفاعل مع المشكلة الميتافيزيقية الأساسية، وهي مشكلة التغلب على ثنائية العقل والحياة وتجاوزها. وقد تأثر شيلر في هذا الصدد تأثرا قويا بفلسفة اسبينوزا، عندما وصف العقل والحياة أو العقل والدافع بأنهما أهم صفتين للوجود في أساسه الأول والأعمق. ويذهب الفيلسوف في النهاية إلى أن التاريخ العالمي بأكمله يقوم على تغلغل كلتا الصفتين أو المبدأين السابقين بعضهما في البعض الآخر؛ وذلك لأجل أن تتحقق ماهية المطلق تحققا تاما من خلال التعاون والتضافر الكامل بين الألوهية والإنسانية في مسعاهما المتواصل عبر التاريخ الشامل. عندئذ تلوح إمكانية تجاوز الثنائيات الكبرى: العقل والطبيعة، الفكر الغربي والفكر الشرقي، الأديان والعلوم الوضعية، الرأسمالية والاشتراكية، العمل الجسدي والعمل العقلي؛ بل إن ثنائية الرجل والمرأة لن يتم تجاوزها إلا من خلال صيرورة التاريخ العالمي نحو تحقيق المطلق في الواقع.
بعد هذه النبذة الإجمالية السريعة عن حياة شيلر المضطربة التي لم تخل يوما من القلق والتمزق، وعن تحولاته الفلسفية المتعددة التي تتجلى في اهتمامه بمجالات معرفية وأخلاقية واجتماعية مختلفة، ودراساته وبحوثه التي تنوعت تنوعا شديدا، إلى حد اتهام نقاده لها بأنها تفتقد النسقية والوحدة الداخلية؛ سنحاول أن ننتقل من الإجمال إلى التفصيل، وأن نقف وقفة متأنية عند جوابه على السؤال الأساسي الذي شغله طوال حياته، وهو: من هو الإنسان؟ وما هي ماهيته الحقة؟
Bilinmeyen sayfa