لا شك أن العبارة السابقة - على الرغم من صعوبتها الكانطية! - قد قدمت لنا صورة حية عن شكل كروي محدد، في مقابل سطح مستو يتعذر تحديده لشدة اتساعه، والعقل هو هذا الشكل الكروي الذي تحدده القضايا التأليفية القبلية (التي يعرف عنها قارئ كانط أنها شرط قيام العلم؛ فلولا توافرها في العلوم الطبيعية والرياضية لما أصبحت علوما بالمعنى الدقيق) كما يحدد الخط المحني نصف قطر الدائرة. أما ما يقع خارج هذه الدائرة فلا ينتمي للعقل، ولا يخضع لمبدئه الذي تحدده كذلك الأحكام التأليفية القبلية. والأمر في النهاية يتعلق بمعرفة الحد؛ فكما كانت ال «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود»، التي اكتسبها ديكارت من تطبيق الشك على كل شيء تحاشيا للوقوع في الخطأ، هي التي وضعت حدا لذلك الشك، وبدأت طريق البحث المنهجي عن اليقين، كذلك كان بحث كانط لتناقضات العقل الخالص هو سبيله للعثور على الحد، ومعرفته بالحد هي التي رسمت الطريق إلى المنهج الشارطي والمعرفة الشارطية (أو الترنسندنتالية التي لا تتعلق بالموضوعات، بل بطريقة معرفتنا بهذه الموضوعات، بقدر ما تكون هذه الطريقة قبلية)، وهي كذلك التي بصرته بمبدأ العقل الخالص، الذي عبرت عنه ثورته «الكوبرنيقية» الشهيرة (نسبة إلى كوبر نقوس (1473-1543م) صاحب التحول الشمسي المعروف، وخلاصتها أن إدراكنا أو عياننا الحسي ومفاهيمنا أو تصوراتنا الذهنية لا تتوجه وفقا للموضوعات، بل إن هذه الموضوعات هي التي تتوجه وفق ملكة عياننا وتصوراتنا)؛ ومن ثم تكون المعرفة السلبية بالمتناقضات التي يقع فيها العقل الخالص بسبب شطحاته الميتافيزيقية المجردة، هي التي أدت به إلى المعرفة الإيجابية بحدود العقل والمعرفة البشرية التي رسمها منهجه الشارطي وفلسفته النقدية الكفيلتان بالتخلص من تلك المتناقضات. والواقع أن الحديث عن تطور هذا التحديد الإيجابي للعقل وتفصيلاته معناه الحديث عن الإستطيقا والأنالوطيقا الترنسندنتالية (نظريته عن المعرفة الحسية والمعرفة الذهنية) اللتين تؤلفان مع الديالكتيك الترنسندنتالي وحدة واحدة لا تنفصم عراها؛ أي عن «النقد» كله في جانبه المعرفي. وهنا يتوقف القلم الذي يعرف حدوده مكتفيا بالغرض الذي قدمه عن المنطق الجدلي لفلسفة النقد التي لا تخرج - في بنائها وغايتها - عن أن تكون معرفة بالحد.
ربما يكون السر الكامن وراء كل منهج فلسفي أصيل - ولعله كذلك أن يكون سر الإبداع، أو جانبا منه على أقل تقدير في التفكير الفلسفي على وجه العموم - هو التحول الذي يحدثه التفكير النقدي السلبي أو غير الموضوعي في أزمة التناقض، فيتجه إلى تفكير إيجابي يبني الموضوع ويكون حقيقة وجوده. ولقد تم هذا التحول عند كل من ديكارت وهسرل، كما سنرى بعد قليل، على أساس البداهة التي تأذت من كون التناقض محالا. لم يحتج أحد منهما لاختبار إمكانية هذا التحول؛ إذ شعرا بما يشبه الإيمان الساذج بأن التناقض الذي تبدى لهما محال، واستند هذا الإيمان على اعتقاد ميتافيزيقي مطلق في صحة المنطق الصوري، واعتقاد لا يقل عنه إطلاقا في صحة العلم (الطبيعي والرياضي) ويقينه. كان كلاهما شديد الإقناع بأن التناقض قيمة سلبية، وأن ظهوره علامة أكيدة على مشروعية «المعطى الإيجابي» الذي وضعاه في مقابله كما يوضع الصدق في مواجهة الكذب والزيف. ويختلف الأمر قليلا مع كانط الذي احتاج للمضي على طريق مضن وغير مباشر، لتدعيم وجهة نظره الإيجابية أو منهجه الشارطي الذي لم يعط له ببساطة البداهة التي عرفناها عند ديكارت، والتي سوف نعرفها عند هسرل، وإن بقي التناقض ومحاولات حله - كما سبق القول - وراء تحوله نحو المنهج الجديد، بحيث لا يمكن فصله عنه إلا إذا أمكن فصل الجذر عن ساق الشجرة وفروعها وثمارها. يدل على هذا قوله في المقدمة المهمة التي أضافها إلى الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص (1787م):
فإذا سلمنا بأن معرفتنا التجريبية تتوجه حسب الموضوعات بما هي أشياء في ذاتها، ووجدنا أن المطلق لا يمكن التفكير فيه بغير تناقض، ثم سلمنا - على العكس من ذلك - بأن تمثلنا للأشياء كما هي معطاة لنا لا يتوجه حسب هذه الأشياء بما هي أشياء في ذاتها، بل الأصح أن هذه الموضوعات، بوصفها ظواهر، هي التي تتوجه حسب طريقتنا في التمثل، ووجدنا أن التناقض قد سقط، وأن المطلق - تبعا لذلك - لا يوجد بالضرورة في الأشياء من حيث إننا نعرفها (أو من حيث إنها تعطى لنا)، وإنما يوجد فيها من حيث إننا لا نعرفها؛ أي بما هي موضوعات في ذاتها؛ عندئذ يتبين أن ما سلمنا به في البداية
19
ربما يوافقني القارئ على أن النص الأخير يعبر عن الدافع الذي حرك كانط كما حرك غيره من الفلاسفة إلى إيجاد المنهج، وهو أن استبعاد التناقض والتغلب على أزمته هو الأمر الحاسم في وجود المطلق أو الحقيقة التي يضعها أو التي تعطى له. وطبيعي أن يختلف تصور فيلسوف للتناقض عن الفيلسوف الذي سبقه باختلاف تصورهما للنقد، وأن يحدد اختبار نوع التناقض طريقه المنهجي. والمهم أن موقفه النقدي من التناقض يحدد مبادئه المنهجية ويثبتها، بحيث تصبح الحقائق التي تعطى نفسها حقائق منهجية وموضوعية بقدر ما تتميز من التناقضات، وتستبعدها بسبب كونها محالة. وطبيعي أيضا أن يضيق هذا المنهج من مجال الحقيقة ومن مفهوم الوجود. فالحقيقة عند ديكارت هي حقيقة الأنا؛ ولذلك اقتصر الوجود عنده على وجود الفكر أو «الأنا» المفكرة. وهي عند كانط وجود المعرفة الضرورية العامة الصدق؛ ومن ثم اقتصر الوجود عنده على التحديدات والشروط القبلية الكفيلة بعرفته. أما عند هسرل فسوف نجد أنها هي الحقيقة في ذاتها بوصفها منطقية خالصة؛ ولذلك اقتصر مفهوم الوجود لديه على الوجود الظاهري أو «الفينومينولوجي»، الذي أعطيه عطاء مباشرا حيا في الشعور. ويبقى الشيء المشترك بين «مبدعي» المنهج في كل هذه الأحوال هو انطلاقهم الساخط والناقم على سلبية التناقض، الذي يجعلهم يبحثون عن «الوجود» من خلال محاولاتهم لحل التناقض.
إذا كان الأمر كذلك، فماذا نقول عن فيلسوف أزاح «الحد النقدي» الذي أقامه كانط لتمييز المعرفة العلمية الصحيحة من المعرفة الميتافيزيقية الشاطحة في فراغ التناقض وعدمه، بل جعل من التناقض القلب النابض لفلسفته ومنهجه ورؤيته الجدلية كلها للفكر والوجود جميعا؟ ماذا نقول باختصار عن منهج هيجل، وفيم اتفق مع مناهج السابقين عليه وفيم اختلف عنهم؟
لا شك أن قراء هيجل (وهم بحمد الله كثيرون، ووجودهم يؤكد أن «الجدية الصامتة» لم تنقرض من بلادنا، برغم الضجيج الكاذب الذي يحاصرنا ويكاد أن يصيبنا باليأس القاتل داخل دوائر الثقافة والأدب والفن والفلسفة نفسها وخارجها أيضا) أقول إن قراء هيجل يذكرون بغير شك عبارته الشهيرة الواردة في مقدمة كتابه «ظاهريات الروح»: إن الأمر الذي عقدت عليه العزم هو المشاركة بجهدي في أن تقترب الفلسفة من هدفها، وتتمكن من طرح الاسم الذي توصف به، وهو حب العلم؛ لكي تصبح علما حقيقيا.
20
هذا الجهد الذي يذكره هيجل جهد منهجي قبل كل شيء! وهو يختلف عن كل الجهود التي بذلها أصحابها لكي يسيروا بالفلسفة «على الطريق الأكيد للعلم»، واضعين تقدم المعرفة ودقتها في العلوم الرياضية والطبيعية نصب أعينهم. لم يحاول فيلسوف الجدل الأكبر في العصر الحديث أن يجعل من منهجه الجدلي نموذجا للمعرفة الموثوق بها، بالمعنى المتعارف عليه في العلوم «الدقيقة»، ولم يذهب إلى حد القول بأن يقين الرياضيات هو اليقين العلمي الحق؛ إذ صرح في أكثر من موضع من كتاباته برفض المنهج الرياضي وعدم الاعتماد عليه.
21
Bilinmeyen sayfa