من وراء قبعة روث القشية السوداء وزهور الخشخاش الحمراء حول قمتها، نظر جيمي إلى الطاولات المكدسة حيث تبدو الوجوه كما لو كانت تتحلل إلى لطخات خضراء رمادية. شق نادلان ذوا وجهين شاحبين كوجهي صقرين طريقهما عبر ثرثرة الحديث المتذبذبة بين الحضور. كانت روث تنظر إليه بعينين ضاحكتين متسعتين بينما كانت تقضم عودا من الكرفس.
كانت تهمهم قائلة: «مرحى، أشعر بالسكر الشديد. إن الشراب يشق طريقه مباشرة إلى رأسي ... أليس هذا فظيعا؟» «حسنا، ما هذا الحدث المروع الذي وقع في شارع 105؟» «أوه، لقد فاتك ذلك. لقد كانت مسخرة ... خرج الجميع إلى الردهة، السيدة ساندرلاند بشعرها في لفائف تجعيد الشعر، وكاسي باكية، وتوني هانتر واقفا عند بابه بثياب نومه الوردية ...» «من هو؟» «مجرد ممثل يافع ... ولكن يا جيمي يجب أن أخبرك بأمر توني هانتر. إنه شاذ غريب الأطوار يا جيمي، شاذ غريب الأطوار.»
شعر جيمي بتورد وجهه، فمال فوق صحنه. وقال بتصنع: «أوه، أهذه مشكلته؟» «لقد صدمت يا جيمي، اعترف أنك صدمت.» «لا لم أصدم، تكلمي، أكملي نميمتك.» «أوه يا جيمي، يا لك من مرح ... حسنا، كانت كاسي تبكي وكان الكلب الصغير ينبح، وكانت الآنسة كوستيلو المختفية عن الأنظار تصرخ طلبا للشرطة، وتفقد الوعي بين ذراعي رجل غير معروف يرتدي بذلة رسمية. وكان جوجو يلوح بمسدس، مسدس صغير من النيكل، ربما كان مسدس مياه على ما أظن ... والوحيدة التي بدت في صوابها كانت إلين أوجليثورب ... كما تعلم مثل تلك الصورة ذات الشعر البني ذي المسحة البرتقالية التي أبهرت ذهنك الصغير.» «صدقا يا روث لم ينبهر ذهني الصغير بذلك.» «حسنا، في النهاية تعب المغرم من لعب دوره الكبير، وصاح بنبرات رنانة بأن قال انزع مني السلاح وإلا قتلت هذه المرأة. وأمسك توني هانتر بالمسدس وأخذه إلى غرفته. ثم انحنت إلين أوجليثورب قليلا كما لو كانت تحيي الجماهير، وتمنت ليلة سعيدة للجميع، وغاصت في غرفتها في رباطة جأش وسكينة ... أيمكنك تخيل الأمر؟» خفضت روث فجأة من صوتها، قائلة: «ولكن كل شخص في المطعم يستمع إلينا ... وحقيقة أظن أن الأمر كريه للغاية. ولكن الأسوأ لم يأت بعد. بعدما قرع المغرم الباب مرتين ولم يجبه أحد، اقترب من توني وأدار عينيه كفوربس روبرتسون في دور هاملت، ووضع ذراعه حوله، وقال يا توني هل يمكن لرجل محطم أن يتوق لملاذ في غرفتك الليلة ... صدقا لقد ذهلت للغاية.» «هل أوجليثورب مثله كذلك؟»
أومأت روث عدة مرات. «فلماذا إذن تزوجته؟» «عجبا، بوسع تلك الفتاة أن تتزوج من عربة ترام لو ظنت أن بإمكانها الحصول على أي شيء منها.» «صدقا يا روث أظن أنك أسأت تقييم الأمر برمته.» «أنت بريء للغاية على تلك الحياة يا جيمي. ولكن دعني أنهي سرد الحكاية المأساوية ... بعد أن اختفى هذان الاثنان وأغلقا الباب خلفهما أقيم الحفل الأكثر فظاعة مما يمكنك تخيله على الإطلاق في الردهة. بالطبع عانت كاسي من نوبات هيستيرية طوال الوقت ليزيد ذلك الموقف إثارة. عندما رجعت إليها حيث كنت أحضر لها بعضا من روح النشادر الحلو من الحمام، وجدت الحفل مقاما. كانت مهزلة. أرادت الآنسة كوستيلو طرد الزوجين أوجليثورب في الفجر، وقالت إنها سترحل إن لم يرحلا، وظلت السيدة ساندرلاند تئن قائلة إنه خلال سنوات خبرتها الثلاثين في المسرح لم تر قط مشهدا كهذا، والرجل الذي كان يرتدي البذلة الرسمية، والذي كان بنجامين أردن ... تعلم أنه لعب دور إحدى الشخصيات في عرض «زهر العسل جيم» (هانيساكل جيم) ... قال إنه يظن أن أشخاصا كتوني هانتر يجب أن يكونوا في السجن. عندما ذهبت إلى الفراش كان الشجار لا يزال مستمرا. أوتتعجب أنني نمت متأخرا بعد كل ذلك وجعلتك تنتظر، يا عزيزي المسكين، لمدة ساعة في صيدلية تايمز؟» •••
وقف جو هارلاند في غرفة نومه المقتطعة من الردهة ويداه في جيبيه يحدق في لوحة «الأيل في الخليج» المعلقة بانحناء في منتصف الجدار الزنجاري الذي أحاط بالسرير الحديدي المتقلقل. وتحركت أصابعه الباردة كالمخالب بلا هوادة في عمق جيبي بنطاله. كان يتحدث جهارا بصوت هادئ خفيض: «أوه، كما تعلم فالأمر برمته مجرد حظ، ولكن تلك هي المرة الأخيرة التي أحاول فيها سؤال آل ميريفال. كان بإمكان إيميلي أن تعطيني المال لولا ذلك البخيل الهرم اللعين. إذ تتمتع إيميلي بلين القلب. غير أن أحدا منهما لا يبدو أنه يدرك أن هذه الأمور لا تكون دائما بسبب خطأ ارتكبه المرء. فالأمر كله يعتمد على الحظ، ويعلم الرب أنهم كانوا يأكلون من عمل يدي في الأيام الخوالي.» كان صوته المتصاعد يصر في أذنيه. زم شفتيه معا. إنك في طريقك إلى الجنون أيها الهرم. سار ذهابا وإيابا في المساحة الضيقة بين السرير والجدار. ثلاث خطوات. ثلاث خطوات. ذهب إلى حوض الغسيل وشرب من الإبريق. كان مذاق المياه كالخشب العفن ودلاء النفايات. بصق الرشفة الأخيرة. أحتاج إلى شريحة طرية من لحم الخاصرة وليس إلى المياه. سحق قبضتيه المطبقتين معا. يجب أن أفعل شيئا. يجب أن أفعل شيئا.
ارتدى معطفه كي يخفي المزق في مقعدة بنطاله. وخز الكمان الرثان معصميه. أصدرت السلالم المظلمة صريرا. كان شديد الضعف حتى إنه أمسك بالدرابزين خوفا من أن يسقط. انبثقت السيدة العجوز من الباب منقضة عليه في الردهة السفلية. كان الجرذ قد تلوى جانبا فوق رأسها كما لو كان يحاول الهرب أسفل تسريحة البومبادور الرمادية. «متى ستدفع لي أجرة الأسابيع الثلاثة يا سيد هارلاند؟» «إنني لتوي في طريقي لصرف شيك الآن يا سيدة بودكوفيتش. لقد كنت كريمة للغاية في هذا الأمر الصغير ... وربما يهمك أن تعرفي أنني قد تلقيت وعدا، كلا بل تأكيدا بخصوص منصب جيد جدا بداية من يوم الإثنين.» «لقد انتظرت ثلاثة أسابيع ... لن أنتظر أكثر من ذلك.» «ولكن يا سيدتي العزيزة أنا أؤكد لك بشرفي باعتباري رجلا نبيلا ...»
بدأت السيدة بودكوفيتش تهز كتفيها. ارتفع صوتها رفيعا ومنوحا كصوت عربة فول سوداني. «ادفع لي تلك الدولارات الخمسة عشر وإلا فسأؤجر الغرفة لشخص آخر.» «سأدفع لك مساء اليوم.» «في أي ساعة؟» «في السادسة.» «حسنا. رجاء أعطني المفتاح.» «ولكني لا يمكنني فعل ذلك. افترضي أنني جئت متأخرا.» «لذلك أريد المفتاح. لقد سئمت الانتظار.» «حسنا، فلتأخذي المفتاح ... آمل أن تستوعبي أنه بعد هذا السلوك المهين سيكون من المستحيل علي أن أظل أسفل سقفك.»
ضحكت السيدة بودكوفيتش بصوت أجش. «حسنا، عندما تدفع لي الدولارات الخمسة عشر يمكنك أن تأخذ حقيبتك.» وضع المفتاحين المحكمين الربط معا بسلسلة في يدها البيضاء وأغلق الباب بشدة وخرج مسرعا إلى الشارع.
عند ناصية الجادة الثالثة توقف ووقف مرتعشا في أشعة الشمس الحارة لفترة ما بعد الظهيرة، والعرق يتصبب خلف أذنيه. كان في حالة من الضعف الشديد لم يقو معها على لعن حاله. سمع دويا متواصلا عندما مر قطار مرتفع. ومرت الشاحنات فارمة الطريق بمحاذاة الجادة، ترفع غبارا تتصاعد منه رائحة الجازولين وروث الخيل المدوس. المتاجر ومطاعم الوجبات السريعة معبأة برائحة الهواء المكتوم. بدأ في السير ببطء شمالا في اتجاه شارع 14. أوقفه عند إحدى النواصي رجل كثير التجاعيد تفوح منه رائحة السيجار كما لو أن ثمة يدا هبطت على كتفه. وقف برهة ينظر في المتجر الصغير مشاهدا الأصابع النحيفة الملطخة لعامل لف السيجار وهي تعدل أوراق التبغ الهشة خارج السيجار. تذكر رائحة سيجار روميو وجولييت أرجويس موراليس فأخذ نفسا عميقا . القطع الماهر لورق القصدير، والنزع الدقيق للشريط، والمطواة العاجية الصغيرة التي تقطع الطرف بعناية كما لو كانت تقطع قطعة من اللحم، ورائحة أعواد الثقاب الشمعية، والاستنشاق الطويل للدخان العميق المتمايل اللاذع الذكي الرائحة. والآن يا سيدي فيما يخص هذا الأمر الصغير المتعلق بمسألة رابطة شمال المحيط الهادي الجديدة ... دس قبضتيه في الجيبين الرطبين لمعطف المطر الذي كان يرتديه. أتأخذ مفتاحي تلك الحيزبون العجوز؟ سأريها، تبا لذلك. ربما يكون جو هارلاند مفلسا ومشردا، ولكنه لا يزال محتفظا بكبريائه.
سار غربا بمحاذاة شارع 14 ودون أن يتوقف للتفكير أو أن يفقد أعصابه دخل إلى متجر صغير للأدوات المكتبية في قبو أحد الأبنية، وخطا عبره بخطوات كبيرة متعثرة إلى ظهر المبنى، ووقف يتأرجح عند عتبة باب مكتب صغير حيث كان يجلس عند منضدة ذات غطاء دوار رجل بدين أصلع ذو عينين زرقاوين.
Bilinmeyen sayfa