يُمسح القلم ويُرسل الكتاب وفي صدره اسم صاحبه يسعل به في الناس كما
يسعل المصدور، وأنت لو تصفحت الكتاب واعتبرت بعضه ببعض لرأيته على ما احتفل فيه كورم الأنف في غير الكريم: يبلغ ما يبلغ به الغضب ثم ينحل بكلمة للزجر والتأنيب، أو صفعة للمؤاخذة والتأديب!
ولقد أستشفُّ أن القوم إنما يريدون في تأليف ذلك "الكتاب الوافي " هذا
النوع الذي يسميه الظرفاء من أهل الصحافة "التحرير بالمقص"، فمن كل كتاب فصل إلى فصل حتى تجتمع كلها في كتاب.
فإن لم يكن مرماهم إلى هذا ولا إلى قريب منه، فما هذا الموعد الذي
ضربوه أجلًا "للمسابقة" وما بالهم تعجلوا آخرًا بقدر ما أبطاوا أولًا دون أن يزنوا صواب العجلة بخطأ الإبطاء.
ونحن إنما أخذنا عليهم أنهم - بدأوا - بتدريس
الآداب الأجنبية وحدها، فإما أن يكونوا قد انححطوا في هوى، أو شالت كفة الرأي منهم أو لهم غرض يتربصون به أسبابه وذرائعه، فلو أنهم إذ أخطاوا في الأولى أصابوا على قدر ذلك في الثانية، لكان الأمر بينهما ولخرج آخره كفارة لأوله.
أما وقد نشروا الدعوة إلى أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون، ووثقوا من أنفسهم بأول خاطر ظنوه صوابًا، وأمَّلوا في مهب الريح أو غبرة توهموها سحابًا - فقد صار لنا أن نظن أنهم لم يتبينوا مواضع النفرة في ذلك النمط السخيف المبتذل فكان بعيدًا عليهم أن يوافقوا مكامن الرغبة في الممتع الممتنع.
اعتبر ذلك بأنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغيره مؤلفه.
فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين، فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة، لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا فما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؛ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته، حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الكبير. . .؟
ثم من هم أولئك الذين سيحكمونهم في التفضيل والتنظير والمقايسة بين
الكتب الوافية التي تنتهي إليهم؟
لا جرم أن أولى الناس بالحكم أبصرهم بالمحكوم فيه، وإلا كان حكمه في الخصومة خصومة أخرى تحتاج إلى حكم
من غيره، وليس أولئك المحكمون في وزن من فُرضت لهم الطاعة والتسليم
على الناس كفئة الفضاة في الشرع والنظام، فلا يكون ثمة دليل على كفايتهم
1 / 66