ثم لتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين ونضب ما بينهم فلم يبق إلا أن تستلحقهم الشعوب وتستلحمهم الأمم على وجه من الجنسية الطبيعية - لا السياسية - فلا تتبين من آثارهم في أنفسهم بعد ذلك إلا كما يثبت منْ طرائق الماء إذا انساب الجدول في المحيط.
إنما يصب الله علينا بلاء فتياننا لأنهم ينشأون في أرضنا نشأة المستعبَد
الرقيق، وإن غُنمًا لهم أن نحرص على ما بقي من جنسيتنا العربية، وأن نشعَب لحفظ هذه الصلة وتوثيق تلك العقدة بيننا وبين أسلافنا ونمد من ذلك سببًا إلى حاضرنا ثم إلى مستقبلنا فلا يكون في تاريخنا اقتضاب ولا بتر، ثم - لكيلا نكون على ديننا ولغتنا ما كان أولئك الأوشاب والزعانف من الترك والديلم إلى غيرهما من أصناف تلك الحمراء التي اجتاحت العرب منذ الدولة العباسية ورتعت في أمور الناس وجعلت بأسهم بينهم لعلة المباينة في الجنسية اللغوية، حتى لم يكن في ثمانمائة سنة من استبدادهم ما يعدل ثمانين سنة كانت منذ أول العهد بالإسلام، ولكن أنى لفتياننا ذلك وهم لا يأخذون من لغتهم ولا يصيبون من آدابها إلا كما يأخذ الإسفنج من الماء: ينتفخ بقليل منه ثم لا يلبث أن يمجه أو يتطاير منه ولا يثبت فيه شيء.
على أنك لو اعترضت كل من يهجن العربية ويُزري على سبكها لرأيته
أجهل الناس بتركيبها وحكمة اشتقاقها ووجوه تصريفها، ثم لرأيت له غِرّة في
تاريخ قومه، فهو إن عرف منه شيئًا فقد تجرد من ثمرة المعرفة كأنه يحفظ
طلاسم لا يتخبط فيها حتى يتخبطه الشيطان من المس، ثم ترى الآفة الكبرى أنه مُستدرَج من حيث لا يعلم، فهو يكافئ محبة لغة أجنبية أحكمها بعداوة لغته التي جهلها ويَجزي منفعة تاريخ عَلِمه بمضرة التاريخ الذي لم يعلمه، والناس أعداء ما يجهلون!.
نعم بقي لأصحابنا مذهب آخر ينتحلونه ويستدفعون به الظنة، وهو من أحسن رأيهم الذي يعانون عليه، لو فهموه على الوجه الذي يفهم منه، ولو أبدوا لنا صفحته دون قفائه. . . وذلك أنهم يقولون إننا أن نلائم بين حاجة الأمة من الكلام وبين الكلام الذي تبلغ به هذه الحاجة، ونريد الإصلاح ما استطعنا، فنلبس تاريخنا وعاداتنا ديباجًا من الكلام بطراز وغير طراز ولا نترك أمتنا على سَوْم بين
1 / 40