بصق على الأرض، ثم قال: أنت مجنونة. - أنت لص.
بظهر يده لطمها لطمة قوية، قبضت حفنة تراب وقذفتها في وجهه؛ انقض عليها بوجه مغبر فأنشب أصابعه في زمارة رقبتها. بدأ صراع جهنمي مرير. ركزت قواها عبثا لتخليص رقبتها من يده، احتبس صوتها، جحظت عيناها، ضربت بقدميها الهواء. حملقت فزعا أخرس، حتى رأيت خيطا من الدم يتسلسل من أنفها، فرت من فمي صرخة. زحفت إلى الوراء قبل أن يرفع الرجل رأسه. هبطت السلم وثبا وعدوت كالمجنون إلى حيث تحملني قدماي، لم أتوقف عن العدو حتى انقطعت مني الأنفاس، جعلت ألهث دون أن أرى شيئا مما حولي، ولما انتبهت إلى نفسي وجدتني تحت قبو مرتفع يتوسط مفترق طرق، لم تطأه قدماي من قبل، ولا فكرة لي عن موقعه بالنسبة لحينا. وكان يقتعد جانبيه شحاذون لا يبصرون، ويعبره في شتى نواحيه أناس لا يلتفتون إلى أحد، أدركت بخوف أنني ضللت الطريق، وأن متاعب لا حصر لها تتربص بي حتى أهتدي إلى سبيلي. هل ألجأ إلى أحد المارة لأسترشد به؟ ولكن ما العمل لو ساقني الحظ إلى رجل كبياع الفول أو متشرد الخرابة؟ هل تقع معجزة فأرى أمي مقبلة فأهرع إليها بكل قلبي؟ هل أجرب السير وحدي فأتخبط حتى أعثر على أثر أستدل به على طريقي؟
وقلت: إن علي أن أحزم أمري، بسرعة ودون تردد، فقد أخذ النهار يولي، وعما قليل سيهبط الظلام من مجاهله.
ثلاثة أيام في اليمن
(1)
الأديب
ها هي السيارة تنطلق والقاهرة تبتعد، تطايرت الهموم وخفقت القلوب في طريق السويس. وقال في صوت حنون: لن نفترق زهاء أسبوعين، كم تمضي أيام طويلة دون أن يرى أحدنا الآخر!
أحدقت بنا لا نهائية الصحراء من الجانبين، فأهدت إلينا هواء منعشا رغم حرارة يوليو. وصلنا إلى ميناء الأدبية مع المساء، تعلقت أعيننا بالسفينة الراسية عند الشاطئ حينا، ثم أخذنا سبيلنا بين صفوف من الجند وأكوام من المؤن والذخيرة، مضى بنا المرشد إلى مركز التشهيلات، تم التعارف بيننا وبين الضابط، ثم جلسنا ننتظر. إنه ليس بضابط، كلا! إنه دوامة مكهربة، يحرك الجنود والموظفين بأصابعه العشرة وبحاجبيه وأنفه وشفتيه، ويتكلم من خلال عشرة تليفونات. وكلما مر بنا بصره تفحصنا باسما، وهز رأسه هزة تدعو للتساؤل والفضول. آلو ... ليتقدم حملة صناديق الذخيرة، يا عم حسنين، أنت مسئول عن توصيل البطاطس .. هات الساركي، اسمعني يا يسري السطح الأمامي من الدور الأول للسرية الثالثة، عليوة راجعت شهادات التطعيم؟ مرحبا بضيوفنا الأدباء مرحبا! سمعت عبد الوهاب وهو يغني قصيدتك يا أستاذ، انتهيتم من التيفود؟ والكوليرا؟ آلو ... انتهى التطعيم؟ أما مقالاتك أنت يا أستاذ فهي السحر الحلال، آلو ... أرسل شخصا لتطعيم الأدباء. - تم تطعيمنا ضد الكوليرا والجدري. - والتيفود؟ - أكدوا في البلدية ألا ضرورة لذلك. - التيفود مهم جدا .. دعوني أتصرف؛ فأنا منذ الساعة مسئول عن الحركة الأدبية في مصر. - ولكنكم تعطون الحقن بطريقة عسكرية .. أعني ... - يا رب السماوات! أيخاف من الحقن أصحاب «البيداء تعرفني!» و«علو في الحياة وفي الممات»؟!
استسلمنا. اجتزنا فترة عصيبة لم تخل من التأوهات. ولما انتهى التطعيم قال: انتهينا من الكوليرا والجدري والتيفود ...
ثم وهو يتفحص وجوهنا بنظرة غامضة: أما بقية الحميات هناك فلم يكشف الطب سرها بعد!
Bilinmeyen sayfa