ولنفرض أن إنكلترا تحققت من الوطنية المصرية وأرادت أن تعامل الشعب المصري كما عاملت غيره من الشعوب التي كانت خاضعة لها - أي معاملة الصديق الأكبر للصديق الأصغر - فما هي المكافأة التي تعطيها إنكلترا لمصر تعويضا لها عن استقلالها الذي اغتصب منها زمنا؟ فهل تمنحها استقلالا إداريا؟ وإذا منحتها فما يكون نوع هذا الاستقلال ؟ إنا لا نرى لمصر نفعا في تأسيس حكومة نيابية في بلادها لأنها لا تفهمها ولا نريد أن تفهمها، فإن العقل المصري لا يزال شرقيا والعقل الشرقي عاجز بطبيعته في الزمن الحاضر عن فهم الحكومات النيابية ... نعم! إننا نعلم أن في مصر مجلسين نيابيين يشبهان مجلس العيان ومجلس العموم، ولكن هذا النظام النيابي في مصر ليس إلا خيالا للنظام النيابي الحقيقي، على أن الأمم المختلفة توافقها نظامات مختلفة، وقد أنكر الساسة منذ زمن الرأي القائل بأن مثل الأمة ونظام الحكومة كمثل الشخص والكساء يمكنك أن تلبسه إياه كيف شئت، فإن بريطانيا منحت البوير حق الحكومة النيابية لأنها رأت أن هذا الشعب أظهر قدرته على فهم هذا النظام في استقلاله، فمنح إنكلترا لهذا الشعب هذا النظام يعد منها كرامة وفضلا، ولكن ما معنى مثل هذه المنحة لمصر ومصر لم تظهر ميلها لها ولم تحتج إليها إلى الآن، على أن منح الحكومة النيابية لا يخفف آلام مصر ولا يذهب بالمذلة التي سببها احتلال الأجانب لها، ولا يعوق المصريين عن المطالبة بحقوقهم عندما يرون في نفوسهم الكفاءة لذلك.
نظن أننا قد استطردنا كثيرا ويجب علينا أن نذكر سنة 1912 التي ربما تكون من أهم السنين في تاريخ القطر المصري، فإن القارئ يذكر النبذة التي اقتطفناها من كتاب المركيز لانسدون التي يشير بها إلى أن مصر بعد هذه السنة ستكون قادرة على سداد ديونها كلها، وغني عن البيان أن ثروة مصر الآن تمكنها من وفاء ديونها، فإذا فرضنا أنها لم تصنع ذلك فإنها بلا ريب تكون قادرة على تبديل ديونها وتوحيدها لتقلل من ربح تلك الديون، فتضيف بذلك مبالغ طائلة إلى ثروتها، وإذا لم يستطع المصريون أن يسددوا كل ديونهم فإنهم على الأقل يغيرون مركزهم المالي حيال أوروبا تغييرا كليا. ولنفرض إذن أن المصريين سددوا أغلب ديونهم فإذا تم ذلك فنحن لا نرى أن لأحد حقا شرعيا في منعهم عن تقديم عريضة إلى إنكلترا أو من ينوب عنها في مصر فحواها ما يأتي:
نحن المصريين نعترف من صميم أفئدتنا بكل الأعمال النافعة التي قامت بها الحكومة البريطانية نحونا، ونحن لا نود أن نصغر من شأن الخدم الجليلة التي قامت بها إنكلترا في سبيل إدخال الترتيب والنظام في إدارتنا ومساعدتنا في حماية حدودنا من هجوم الفاتحين. ولا نود أن نخفي اعترافنا بجميلها، وإننا متحققون من أن الحكومة الإنكليزية لم تحاول مرة أن تقتل الوطنية المصرية أو تمسها بسوء، ونحن نحترم عهد الاحتلال الإنكليزي الذي كنا ننظر إليه نظر القاصر إلى ولي الأمر أو نظر المتعلم إلى الأستاذ؛ لأن إنكلترا لم تستفد في الحقيقة مباشرة من مالية مصر أو قوتها، مع أن بلادنا تقدمت تقدما باهرا ولا تزال سائرة في طريق النجاح، وقد يجرؤنا اعتقادنا بأن علاقة إنكلترا بنا لم تكن إلا علاقة ودية على أن نذكر بريطانيا العظمى بأننا في زمن حمايتها قد سلكنا سلوكا حسنا وعملنا جهد طاقتنا في الوصول إلى الغاية التي كانت تتمناها لنا إنكلترا، ونرى أننا قد بلغنا رشدنا، وجاء الوقت الذي يمكننا فيه أن نطلب فيه حكم أنفسنا بأنفسنا، وقد حررنا بلادنا من أغلب ديننا، وبذلك رفعنا الحمل الثقيل الذي أنقض ظهرنا، ونعشم أن نجاح بلادنا الماضي ونظام ماليتها يضمنان لنا دفع المتبقي من الدين والفائدة، ونحن نكرر شكرنا وثناءنا على بريطانيا العظمى ونذكر لها أن الساعة قد أتت التي يمكن للإنكليز فيها أن ينسحبوا بسلام، فيستفيدوا ويفيدوا ويتركوا مصر تحكم نفسها بنفسها، ونود أن نحيط الحكومة البريطانية علما بأننا لا ننوي أن ننكر على إنكلترا حق ملكيتها للسودان ولا نود أن نمس هذه الملكية بما يضعفها أو يقلل نفوذها.
فلو عرض المصريون عريضة مثل هذه العريضة، وشرحوا فيها حقيقة الحال، وتأدبوا في ألفاظها كل التأدب حتى لا تشتم منها رائحة مس الكرامة، فإننا لا نظن أن الغيظ يلحق بساسة الإنكليز، ولا نظن أنهم يجيبون بغير ما يرضي مصر والمصريين، على أن المسألة قبل اتفاقية 8 أبريل 1902 كانت مختلفة كل الاختلاف، وكان من الممكن أن يرمي الإنكليز فرنسا بتدبير مكيدة هذه العريضة، أما الآن فهذا الظن أبعد من القطبين؛ لأنه لا مكان للشك في إخلاص الفرنسويين وحسن نيتهم بعد تنازلهم عن حقوقهم في مصر، فقد رأينا أن انسحاب فرنسا من مصر؛ ليس فقط لأن هذا الانسحاب يوافق خطة سياستها الخارجية؛ بل لأنها أخذت له ثمنا عظيما جدا.
وفي هذه الحال لا يستطيع أي أن يهمز الأسد البريطاني ويوعز إليه بأن هذه العريضة ليست إلا هجوما أدبيا على أملاكه وغنائمه؛ لأن الأسد البريطاني يرى أنه بمنح المصريين ما التمسوه لا يفقد شيئا بل يستفيد كثيرا.
قلنا فيما مضى أن حربا بين إنكلترا ومصر ربما تعود بمصائب لا يهزأ بها ولم تكن للإنكليز في الحسبان. على أنه لو شبت نار تلك الحرب وفاز فيها الإنكليز فإنها لا تفيد إنكلترا ولا تنتج لها نتيجة محمودة؛ لأنها تخرب التجارة المصرية وتدمر المركز المالي الذي شادته إنكلترا في مصر. على أننا رأينا أن إنكلترا لا تمارس صناعة الاستعمار إلا بتساهل وتسامح. فما تكون نتيجة تلك الحرب التي تضعف إنكلترا وتفقر مصر، فهل تعود إنكلترا وتطالب برجوع الحالة السياسية في مصر إلى ما كانت عليه مع علمها بأنها لا تنال حقوقا تجارية أكثر من الحقوق التي تنالها لو كانت مصر مستقلة ومفتوحة لتجارة الأمم كلها، ونحن لا نرى للحرب معنى إلا إذا كانت إنكلترا سائرة في سياستها الاستعمارية على الدرب الذي تسير عليه فرنسا، أي أنها تضم البلاد التي تفتحها إلى الإمبراطورية فتصير تلك المستعمرات ولايات خاضعة تمام الخضوع، فإن الحرب حينئذ يكون لها سبب معقول، كأن تكون مصر قد شقت عصا الطاعة فجاءت إنكلترا تعيدها إلى حظيرتها. ومع ذلك فإن الحال إذا كانت كما ذكرنا أي أنه لو كانت مصر ولاية خاضعة منضمة إلى الإمبراطورية البريطانية، فإن إنكلترا يجب عليها أن تنظر في نفقات الحرب وتقارنها بالمنافع التي تحصل عليها بعد الفوز الكبير، ولكن حيث إن إنكلترا تمنح رعاياها الحرية والاستقلال الداخلي بعد أن ترى فيهم الكفاءة؛ لذلك فنحن لا نرى الفائدة التي تستفيدها بعد الحرب، وهذا هو ما حدث بعينه في جنوب أفريقيا، ولا نظن أن إنكلترا تعود إلى محاربة البوبر ثانية؛ لأن الشعب الإنكليزي الذي قام في أول الأمر بنفقات الحرب لا يقوم الآن لعلمه بأن العاقبة الثانية تكون كالعاقبة الأولى عقيمة وخيمة.
نقول: ولو أن العريضة التي ذكرناها سابقا تؤدي إلى قطع العلائق بين إنكلترا ومصر فمن الصعب جدا أن نتكهن بنتائج الحرب ونحن لا ندري أي طريق تتبعها مصر، ولا نستطيع أن نتنبأ بالقوة الحربية التي يستطيع المصريون دفعها إلى ميدان الوغى، ولا نغالي في المقال إذا قلنا إن مصر لا تلبث أن تحس بعداء إنكلترا حتى تطلب من الحبشة مساعدتها، ولا نظن أن الحبشة تعيرها أذنا صماء، فإن الأحباش يعلمون حق العلم أن استيلاء إنكلترا على مصر إن لم يكن الخطوة الأولى في سبيل الاستيلاء على بلادهم، فإنه بدون شك يؤدي إلى سلب حرية الحبشة وإخضاعها؛ لأنهم يكونون حينئذ محاطين بأملاك إنكلترا من كل جانب، دع ما تكنه صدور الأحباش من الكراهية والاحتقار للأوروبيين عامة، سيما بعد يوم «عدوه»، ولا يبعد أن يستنهض المصريون قوة المهدي المنتشرة في أواسط أفريقيا التي لحقها سبات عميق لا بد أن تفيق منه. كل هذه مسائل لا نستطيع الآن البحث فيها، إنما نقول إن حربا مصرية إنكليزية تؤدي إلى صعوبة جمة، ولو أن إنكلترا تغلبت على تلك الصعوبات فإن ثمرة الحرب أن تعادل ما تقوم به من النفقات. •••
قد بدأت نهاية العمل الذي انتدبنا أنفسنا للقيام به، وقد نظرنا إلى المسألة المصرية من كل جهاتها واعتبرناها عاملا مهما من عوامل السياسة الأوروبية، وفحصنا نتائج الأعمال التي قام بها الاحتلال، ومع أننا ذكرنا الفوائد والمنافع التي استفادت وانتفعت بها مصر في عهد حماية بريطانيا، فإننا أشرنا إلى الصعوبات الهائلة التي تعترض من يود بقاء الحال الحاضرة على ما هي عليه زمنا طويلا، وقد رأى القارئ أننا حاولنا جهد طاقتنا أن نقف موقف الحكم العادل المحايد الذي لا يميل عن الحق لينصر الباطل أو يمدح فردا ليذم آخر، ونظرنا إلى المسألة من جهة المنافع والمضار السياسية ضاربين صفحا عما يلتبس على القارئ من الأبحاث، ومن حسن الحظ أن كل أبحاثنا في أي جهة كانت أدت كلها إلى نتيجة واحدة وهي أن المسألة المصرية لا تقبل إلا حلا واحدا مهما طال الزمن، وهذا الحال زيادة عن أنه يفيد كل الدول التي لها علاقة بالمسألة المصرية، فإنه يكون أبدا ثابتا، ولقد رأينا أن ارتباك النظام القضائي من أهم الصعوبات التي تجعل الحال السياسية الحاضرة في مصر لا يحسن السكوت عليها، وقد أظهرنا أنه لا توجد دولة أوروبية قادرة على تحسين حال ذلك النظام لتزيل مكان الشكوى الكبرى من الحكومة المصرية؛ لأن القضاء إذا لم يكن على أحسن ما يرام فإنه بلا شك يقف عقبة كئودا في طريق التقدم المالي.
على أن التنافس الدولي يعوق دول أوروبا جمعاء عن أن يتفقن ويتنازلن عن امتيازاتهن وحقوق قنصلياتهن في القضاء لإنكلترا، ويبعد كثيرا أن إنكلترا تطلب منهن التنازل عن تلك الحقوق؛ لأن مثلها يكون كمثل الملتمس قبسا في الماء زيادة عما يسببه ذلك الطلب من الكراهية والعداء.
وقد أظهرنا خطأ حرمان مصر من حقوقها التي تمنح للأمم الحية مع أن تلك الحقوق تمنح لأمم غيرها لا تدانيها في المدنية، وكثيرا ما تكون هذه الأمم مسيحية، ونحن لا نظن بأن الدول المتحدة يرفضن طلب مصر إذا سألتهن أن تنضم إليهن وأن يعاملنها كواحدة منهن، ولكن هذا الطلب لا يكون له وقع حسن إلا إذا كانت مصر مستقلة، ونحن لا نزال مصرين على النتيجة التي استدللنا عليها بالبحث الطويل، وهي أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن الحقيقة الواضحة لكل إنسان وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي أن مصر قد بلغت الدور الذي يخول لها حق أن تكون عضوا حيا من ممالك أوروبا، وقد ذكرنا أنها إذا بلغت ذلك الدور من القوة والنمو فلا توجد في العالم كله قوة تقدر على تحويلها عن طريق تقدمها الطبيعي.
Bilinmeyen sayfa