المصريون و«حياد» مصر
منذ عشرين سنة مضت كان يمكن لبعض الناس أن يتجاهلوا وجود المصريين أو يتناسوهم بدون خوف من هذا التناسي أو ذاك التجاهل، ولكن مصر الفتاة قد تغيرت تغيرا عجيبا وتحورت تحويرا مدهشا، فإن عشرين سنة قضاها المصريون تحت حكم دولة أجنبية عادلة ساعدتهم على إحياء فكرة الوطنية وإنمائها، والمصريون اليوم يعلمون حق العلم أن لهم وظيفة وطنية تطالبهم بواجبات يؤدونها، وغني عن البيان أن الطبقة العالية من المصريين تعلمت تعليما متقنا وتمكنت من التشبع بروح المدنية الغربية، ومن حسن حظهم أنه لم تختلط روح المدنية التي تشربوا بها بماء الذل الذي يقتل النفوس الزكية ويخنق العواطف الشريفة؛ ولذلك تربت فيهم غرائز حب فضائل المدنية الغربية التي احتك بها أغلبهم في حياتهم المدرسية في مرسيليا ونيمز وباريس، فكانت نتيجة ذلك أنهم تحققوا من أن أمتهم مطلوب منها أن تمثل دورها كأمة حية حرة كأي أمة أوروبية، وهم يحسون بأن وقت تعليمهم قد انقضى وأنهم قد استغنوا عمن يتولى شئونهم غير أنفسهم. وقد يصعب على مراقب أحوال الأمة المصرية أن يغض الطرف عن تلك العواطف الشريفة، وقد يدفعنا ذلك إلى القول بأن أمة دبت فيها هذه الروح لا يمكن أنها تقف ساكتة راضخة عندما تحاول بريطانيا أن تمتلك بلادها نهائيا.
وقد قلنا عن الأمة المصرية إنها أمة حية ونرجو أن لا يظن القارئ أننا أتينا بهذه الصفة في وسط الكلام لأنها صفة ترن وتطن في الأذن بلا معنى حقيقي، ولا نود أن يظن القارئ بأننا نأتي بهذه الألفاظ لنظهر قدرتنا في الكتابة كما يحاول المبتدئ إظهار بلاغته ليظهر للملإ غروره وإعجابه بنفسه، إنما نحن نعني ما نقول ونقول ما نعني، ونسأل القارئ أن يعيرنا ذهنه لحظة نفسر له فيها معنى كلمة «أمة حية» عندما يطلق ذلك الوصف على أمة أوروبية، لا نرى لنا مثالا أحسن من أمثلة علم الأعضاء، ولا بد أن يكون القارئ قد سمع بالتجارب العديدة التي عملت على أعصاب السمع والبصر، ولعل القارئ أيضا يعلم أن أعصاب هذين العضوين لا تختلف شكلا وتركيبا، وأنها مصنوعة من نسيج واحد، ومع كل ذلك فإن أعصاب السمع لا تبصر وأعصاب البصر لا تسمع، وكل قائم بوظيفة خاصة به، وعندما نصف هذه الأعصاب بأنها أعصاب حية فنحن نعني بذلك الوصف أن كل عصب قادر على تأدية وظيفته الخاصة به، ولا يتمكن أبرع طبيب من أن ينيب هذا عن ذلك في العمل.
فلنتحول إذن إلى التاريخ الأوروبي فإننا نشاهد أنه مبني من عدة وحدات حية وكل وحدة خلقت لتقوم بعمل خاص ولتؤدي وظيفة معينة، ولا يمكنها أن تقوم بوظيفة غير وظيفتها، أو عمل سوى عملها. هذه هي الحقيقة التي تفسر لنا سبب فشل كل الذين قاموا يرغبون تأسيس إمبراطورية عظيمة في أوروبا تأخذ تحت أجنحتها كل تلك الوحدات المختلفة في المشارب المتباينة في المذاهب، فلما نصف أمة بأنها حية فنحن نعني بهذا الوصف أنها فاتت الدور الذي كانت لا تعد فيه إلا قطعة أرض على الخريطة الجغرافية، إن الأمة الحية هي الأمة التي تقدر أن تسير في طريق خاص بها تصل منه إلى القوة والعظمة، ولا يمكن لأي أمة ثانية أن تجرها خلفها. وفي هذه الدرجة من حياة الأمة تكون قد حصلت على غرائز سياسية وفنية واجتماعية ربما يمكن الضغط عليها بقوة خارجة مؤقتا، ولكنها لا تموت أبدا ولا تطفأ شعلتها، وأن القوة التي تحاول أن تعوق أمة عن طريق تقدمها الحيوي أو تسعى في خنقها فإنها بلا شك تخيب في سعيها وتفشل في عملها ولا تنال ما ترغب.
إن تاريخ أوروبا ليس إلا تاريخ ثلاثين وحدة من هذه الوحدات التي لم يمكن تحويلها عن طريق التقدم والارتقاء الطبيعي، ولدينا شواهد لا تعد ولا تحصى عن أمم ضغطت عليها القوى الأجنبية القرون الطويلة وسحقتها تحت نير الظلم والاستبداد لتقتل سجاياها الوطنية ولتمزجها بنفسها وتحرمها نعمة الوجود الحقيقي، ولكننا لم نعثر حتى الآن على ذكر أمة فاتحة نجحت في سحق أمة ثانية وإخفائها من الوجود، فإنه حالما تحس الأمة المضغوط عليها بأن اليد الغريبة قد ضعفت عن القبض عليها، إما لهزيمتها في حرب خارجية أو لضعفها وضجرها من القلاقل الداخلية، فإنها تهب وتعيد إلى نفسها القوة التي فقدت في أسرع فرصة.
وقد دلنا التاريخ على أن صفات بعض الأمم التي ظن أنها ذهبت وتلاشت تعود ثانية بقوة أعظم من القوة الأصلية، وربما كان تاريخ جزيرة البلقان كافيا للاستشهاد على ما نقول، فإنه لا يشك أحد في أن الأتراك استعمروا أملاكهم البلقانية ببراعة وحذق ولا يخفى أن الأمة العثمانية أمة حرب وطعن وضرب، فلما جاءت إلى جنوب أوروبا لقيت في جزيرة البلقان أمما شتى صغيرة لا تقل عنها شدة وشهامة وعزة نفس وصبرا على الحرب والضرب، فلم يستعمل الأتراك الشفقة والرحمة الواجبتين في استعمار تلك البلاد، ولولا القوة التركية الحربية العظيمة التي كان أقل ما فيها فرق الانكشارية المنتظمة لما نجح الأتراك في إخضاع ولايات البلقان مؤقتا، على أن الأتراك لم يدخروا وسعا قرونا طويلة في تقوية قبضتهم على تلك الولايات وطمس معالم ما ليس تركيا ومحو آثار الوطنية البلقانية، ولكن من تحت ذلك الخضوع الظاهري الذي أظهرته تلك الأمم الصغيرة خرجت قوة مدهشة عندما بدأ الأتراك يضعفون، وكلنا يعلم أن تلك الولايات قامت الواحدة بعد الأخرى تطالب بحريتها مع كونها لا تزال حافظة لمزاياها الأصلية وسجاياها الوطنية، وربما قد صارت اليوم أشد بها احتفاظا من الأمس، والذين يتكهنون بانقسام المملكة العثمانية يقولون بأن السبب الوحيد لذلك الانقسام هو كونها قاومت النظام الطبيعي ولم تتبع قواعده، فكلما تنقص الدولة العلية ولاية يكون ذلك النقص دليلا على أن أمة هبت بعد طول الرقاد، وتحركت فيها صفاتها الوطنية، فنهضت تطالب بحياة حرة مستقلة عندما سنحت لها فرصة الخروج من تحت نير الظلم والاستبداد.
ولا ندهش حينئذ إذا رأينا أن نقص الدولة العلية لا يزيد في أملاك الدول الأوروبية الأخر، إنما يضيف إلى الخريطة الأوروبية أسماء أمم قديمة نسيناها ولم ينسها التاريخ، ولا يعقل أن هذه الأمم بعد خروجها من تحت نير الأتراك تقبل صاغرة أن تدخل تحت نير أي دولة أوروبية أخرى؛ لأنه لا معنى للخروج من مذلة إلى مثلها ومن صغار إلى صغار ... على أنه كانت أمام تركيا قبل فتحها تلك الولايات عقبة عظيمة جدا غير وطنية هذه الأمم وهي اختلاف الدين، فإن إسلام الأتراك ونصرانية البلقان لا يتفقان، فكان ذلك النفور أيضا سببا لتقوية إحساس الوطنية في تلك الأمم المظلومة. فإذا نظرنا إلى تاريخ الأمم من هذه الجهة فإننا لا نجد تاريخا ألذ وأفيد من تاريخ استقلال رومانيا وبلغاريا والصرب وولايات الرومللي.
وغني عن البيان أنه توجد في أوروبا ممالك أصغر شأنا وأحقر أمرا من ولايات البلقان المستقلة، وقد نجحت هذه الممالك الصغيرة الحقيرة في الحصول على حريتها الوطنية، وهنا نذكر القارئ بحكومة سان مارينو التي تفتخر بأنها أقدم مملكة في أوروبا، ثم نذكره بجمهورية أندورا التي لا يزيد سكانها على 6000 نسمة، ثم بأمة الجبل الأسود التي هزأت بكل من حاولوا أن يبتلعوها أو يخنقوها. فإن تأليف هذه الوحدات الحية هو الذي يجعل تاريخ أوروبا مخالفا لتاريخ أي قارة من قارات العالم. على أن كلمة «حية» هي مفتاح الوادي العظيم الذي يفصل بين وحدة أوروبية صغيرة كصربيا وبين مملكة آسيوية كبيرة كمملكة «تيبت»، فإن قوى تركيا الحربية والسياسية لم تستطع أن تقتل روح الوطنية الصربية ولكن قبضة من الجنود الإنكليزية ومثلها من الجيش الهندي لم تفشل في إخضاع التيبت وخنق روح وطنيتها ...
إن أوروبا عامة وإنكلترا خاصة لا تتخيل أن مصر لا تزال في درجة «تيبت»، فإن الأجيال التي مضت على الأمة المصرية وهي تتعلم التعليم الغربي وتفكر بالطريقة الغربية قد أنارت عقلها وجعلتها تحس بوطنيتها كما يحس الأوروبي بوطنيته، ولقد أقنعت الحرب الأخيرة بين إنكلترا والبوير كل إنكليزي بأن كل شعب سائر على النموذج الغربي لا يمكن إطفاء جزء من شعلته إلا بعد إنفاق القناطير المقنطرة من الذهب وإزهاق الآلاف المؤلفة من النفوس الزكية. هذا وإذا بلغت المسألة بين مصر وبريطانيا إلى الحرب فإننا نحقق للقارئ أن إنكلترا تلقى في محاربة مصر صعوبات شتى مخالفة للصعوبات التي لقيتها في محاربة جمهوريات جنوب أفريقيا.
ولنترك الآن البحث في المسائل الحربية جانبا ولنفرض أننا بلغنا نهاية الحرب وأن النصر عقد لإنكلترا على مصر وأن الوقت جاء لعقد محالفة الصلح فتكون إنكلترا حينئذ قد أحست بوجود وطنية مصرية فلا تحاول أن تنال حق الحكم بالقوة الجبرية لعلمها بأن مثل هذا العمل يخضع الشعب الهائج طرفة عين حتى يستعد لنهضة ثانية، على أن إنكلترا لم تتخذ في حياتها سياسة مثل هذه السياسة الخرقاء، ولم تحاول مرة في العمر واحدة أن تحكم الأمم بالتهديد والشدة، إنما هي تسلك طريقا واحدة وهي أنها بعد أن تحوز النصر على عدوها تستميله بإكرامه وتقديره حق قدره وهذه هي الطريق التي سارت عليها بعد عقد معاهدة «فيمر ينينج»، فإنها صرحت للبوير بأن نوالهم الحكومة النيابية متوقف على حسن سلوكهم لمدة معينة، فإذا انقضت هذه المدة يصير الشعب البويري أمة محالفة لإنكلترا، فيكون مثلهم كمثل أستراليا وكندا، يدبرون حكومتهم الداخلية بأنفسهم ولكن يضعون سياستهم الخارجية في أيدي بريطانيا العظمى، ولا يسمح لنا المقام بالبحث فيما إذا كان الوصول إلى هذه النتيجة من الممكن بدون ما أنفق من المال ومن قتلوا من الرجال أم لا.
Bilinmeyen sayfa