على أننا نعلم أن الحكومة الإنكليزية أضاعت ذلك الوقت الثمين في الجدل الباطل والنزاع الفارغ فيمن يبعث النجدة، ومن يتحمل نفقاتها التافهة فكأن الحكومة الإنكليزية كانت مغلولة الأيدي غير قادرة على العمل، وما ذلك إلا لأن مركزها كان في وادي النيل كاذبا، فيظهر من ذلك أن المركز الكاذب الذي يجلب على حكومة عظيمة كل تلك المصائب جدير بالترك والهجر مهما ضحت الحكومة في سبيل تركه من المنافع والفوائد!
وبعد أن فحصنا السياسة الاستعمارية البريطانية في قارات العالم كله رأينا أن بقاء إنكلترا في مصر على الدوام لا يفيدها فوائد حقيقية؛ لأنه ليس من الضروريات لأجل نجاح سياستها الاستعمارية، وقد رأى القارئ أن إخلاء مصر لا يعود على إنكلترا بأدنى ضرر فإن مصر مع كونها حرة تبقى في دائرة النفوذ البريطاني الذي يحيط بها من البحر والبر، ونظن أن هذه الإحاطة تضمن لإنكلترا حسن سلوك مصر، ورب قائل يقول سلمنا جدلا بأن الجلاء يعود على بريطانيا ومصر بفوائد شتى، وإن الاحتلال النهائي ربما يسبب صعوبات شتى وربما ينتهي بحرب شعواء تضر إنكلترا ولا تنفعها، ولكن ما هي مضار المركز الحالي؟ فجوابا عن هذا السؤال نقول: لقد ذكرنا بالتلميح والتصريح أنواع الضعف السياسي الذي سببه احتلال مصر لإنكلترا من أنها كثيرا ما تذعن لأعدائها خوفا من تغييرها وتهديدها بمركزها الكاذب، وذكرنا المراكز الحرجة التي تقع إنكلترا فيها لعدم توضيح السلطة البريطانية الحقيقة في وادي النيل، وسنتكلم الآن على مضار شتى تتحملها إنكلترا من احتلال مصر وتكفي هذه المضار التي نذكرها ونذكر نتائجها لأن نخرج منه بنتيجة واحدة، وهي أن إخلاء بريطانيا لمصر في نظر الإنكليز أنفسهم ليس عملا طائشا وليس مضرا كما يتقول المتقولون المرجفون، فنقول: من الأضرار العظيمة التي تئن منها مصر في الزمن الحاضر الفوضى السائدة على نظام القضاء المصري، على أننا لا نود أن نقصر بحثنا على القضايا المنطقية والأبحاث الخيالية بل نريد أن نفحص الحقائق الثابتة التي لا يمكن إنكارها أو تغييرها، وبذلك يمكننا أن نظهر للملإ المضار المادية والأدبية التي تعود على إنكلترا ومصر من هذه الفوضى السائدة على نظام القضاء المصري، ولا يخفى أن البلاد التي لا يمكن الحصول فيها على الحكم في القضايا وتنفيذ أوامر العدالة بسرعة تكون دائما عرضة للخراب والدمار لأن أهلها يفقدون الثقة في بعضهم البعض وتقل الأمانة من بينهم، وكل تلك المصائب تعود على التجارة بالتعطيل والضرر البليغ. على أن الغريب الذي ينزل بمصر أياما معدودة ثم يرحل عنها لا يستطيع أن يقف على العقبات الكثيرة التي تعوق العدالة عن أن تجري مجراها والطرق العديدة التي تزهق الحق فداء للباطل، ولكن الذي يعيش في البلاد ويعاشر أهلها ويقف على كل شيء فيها يمكنه بكل سهولة أن يتحقق صدق ما نقول.
أجل إنه يكاد يكون من المستحيل في هذه البلاد أن تقتص العدالة من الجناة المذنبين، ومن نكد الدنيا على مصر أنها بلاد لا يخفى الجناة فيها أنفسهم ولا يتبرأون من جرائمهم، كأنهم يفتخرون بها.
ولا نقول إن العدالة مفقودة في مصر لقلة المحاكم وندرة دور القضاء، كلا، فإن المحاكم كثرت كثرة عظيمة حتى يوشك أن يضل طالب العدالة عن مكانها ولا يدري أين يلتمسها.
غير أن مصر لا تزال خارجة عن حدود الأمم الراقية، ونقصد بذلك أنها لا تزال محرومة من أقدس حق أي أن أمر العدالة في بلادها ليس في يدها، فإن القنصليات في مصر ليست قنصليات فقط بل هي أيضا محاكم مستقلة تحاكم كل منها أمامها من يذنب من أبناء الدولة التابعة هي لها، وعدا ذلك فإنه توجد في مصر محاكم مختلطة نصبت للفصل في القضايا بين الوطنيين والأجانب وبين الأجانب المختلفي الجنسية والوطنيين، وغني عن البيان أن هذه المحاكم لا تزال سببا للمتاعب والمشاكل، هذا ولسنا في حاجة إلى ذكر الارتباك الذي ينشأ عن اختلاف تلك المحاكم وكثرة أنواعها وطرق رفع الاستئناف من بعضها إلى بعض إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها المتقاضون في كل بلد، وهذا جزء من كل من الاضطراب السائد على نظام القضاء المصري مع العلم بأن القضاء هو أهم شيء في الحكومة لأنه يتناول أعمال الحياة والمعيشة القومية في كل وقت؛ بل هو النظام الوحيد الذي يجب أن يكون نظامه أبسط نظام وترتيبه أسهل ترتيب ليعرفه البعيد والقريب .
ويرى القارئ في هذا الكتاب من أوله إلى آخره أننا ابتعدنا جهد طاقتنا عن مواطن الملام وأماكن الاتهام لننفي عن ذهن المطالع الظن بسوء قصدنا، وأن نصرف فكره عن الحسبان بأننا نسر ونطرب عندما نظهر للملأ أن فساد نظام القضاء المصري ليس إلا من نتائج الحكم البريطاني، فإن مثل هذه التهمة وإن كانت قد وجهت إلى السياسة البريطانية مرارا فإنها في الواقع ونفس الأمر خالية من الصدق.
وكما اجتهد الإنكليز في إصلاح المالية وترتيبها ونظامها ترتيبا ونظاما حق لمصر معهما أن تفاخر بها أية دولة أوروبية كذلك اجتهدوا في إصلاح القضاء وسعوا جهد طاقتهم في تمهيد سبل الوصول إلى العدالة، ولكن صادفتهم في طريقهم صعوبات شتى أكبر من أن يتغلبوا عليها وعقبات أعظم من أن تجاز، فكانت النتيجة أن الفوضى والفساد والظلم لا تزال في المكان الذي ينبغي أن يكون نموذج النظام والترتيب والعدل، وأي إنسان ينكر علينا ذلك؟ بل من يقدر أن يشير إلى خطوة واحدة سارها القضاء المصري في طريق التقدم. ويحق لنا أن نأسف أسفين؛ أسفا على ما ذكرنا، وأسفا جديدا لا على أن الجرائم لا تزال تنخر عظام العدل والأمن فقط بل على أنها في ازدياد سنة فسنة وشهرا فشهرا.
نقول - ولا يخفى على اللبيب - إن كل الطوائف الأجنبية التي أتت لتسكن مصر لم تأت حبا بطيب هوائها وصفاء سمائها؛ بل أتت كلها لتجمع أعظم ثروة في أقصر وقت، فتراهم يبررون الوسائل ما دامت تلك الوسائل تؤدي إلى كسب المال، فإن رغبتهم الوحيدة هي أن يكوموا المال تكويما ويربوا ثروة طائلة بسرعة فائقة، ولا يخفى أن الثروة الطائلة لا تربى في زمن قصير إلا على «كيس الغير»، فينتهز هؤلاء الخونة فرصة ارتباك القاضي واضطراب القضاء ويسلبون وينهبون كما يرغبون ويفرون بلا عقاب؛ لأن أعمالهم الشيطانية تغيب عن فكر القضاء المصري، ولو حدث أن يد العدالة مدت نحو أحد هؤلاء فإنه يجد لنفسه مهربا بين زوايا القوانين المتناقضة المتباينة وأركان الإدارة المختلة المعتلة.
وليس في مصر غير قوة واحدة يهابها هؤلاء الخونة ويحترمونها وهي إنكلترا، ولكن كثيرا ما يقف «المركز الكاذب» في وجه إنكلترا فيعوقها عن العمل السريع، وقد يعلم هؤلاء الشريرون أن إنكلترا لا تملك الحق الذي يخول لها إيصال الأذى إليهم فيستفيدون من هذه الحقيقة فوائد كبرى، وهكذا سنة بعد سنة تستمر تلك الحال غير المرضية على ما هي عليه والمحاكم القنصلية تعمل كما تريد فتعدل وتظلم لا علما ولا جهلا، وفي المحاكم المختلطة تقوم قيامة القوانين فيتحارب القانون الفرنسوي مع القانون الإنكليزي والقانون الإنكليزي مع الشريعة الإسلامية، فتقنن قوانين جديدة لتحل عقدة الارتباك، فتجيء تلك القوانين الجديدة ضغثا على إبالة، هذا ولا يعلم نتيجة ذلك الارتباك المستمر والاضطراب الدائم إلا الله.
وهناك وسيلة واحدة لإصلاح الحال وهذه الوسيلة هي إلغاء المحاكم القنصلية وإقامة قانون واحد يطيعه الكل ويذعن له الجميع، ولكن هذا العمل فيه صعوبات كثيرة ورغما عن هذا، فأين اليد القوية التي تجسر على القيام بهذا العمل؟ على أنه ليس من السهل إيجاد قانون كامل يوافق مطالب هذا الشعب المختلط.
Bilinmeyen sayfa