إنا لا ننكر على إنكلترا التمسك بذلك الأمل لأن مثل هذه الرغبة طبيعية ولا يمكن لأحد أن يطلب منها التخلي عن تلك الفكرة، ولكن كما قلنا فيما تقدم إنه توجد طرق شتى للحصول على غاية واحدة، فليس من الضروري أن تمر السكة الحديدية من الكاب إلى القاهرة بمستعمرات مطيعة كلها رغم أنفها للتاج البريطاني، فإن الحكومة الإنكليزية عرفت من زمن بعيد قاعدة بسيطة وهي أنه لا ينبغي أن تكون المستعمرات البريطانية بأسرها على شاكلة واحدة، ونحن نرى بين مستعمراتها مستعمرات محالفة لها مثل كندا وأستراليا، وهذه المستعمرات لا تربطها بإنكلترا إلا رابطة الوداد ومستعمرات يطلق عليها اسم الولايات؛ مثل الهند ومستعمرات محمية مثل قبرص وما شاكلها. وغير تلك المستعمرات توجد في الهند ولايات وطنية لا تربطها بإنكلترا إلا رابطة الصداقة، ولكن تلك الولايات هي وإنكلترا على بساط المساواة وتسمى «محالفات الإمبراطورية»، فلماذا لا تكون مصر على شاكلة تلك الممالك المحالفة مع أننا نعترف بأن مصر لم تصل إلى هذه الدرجة التي يمكنها بها أن تكون محالفة للإمبراطورية العظمى إلا بعد وصاية إنكلترا عليها، فهل تنكر إنكلترا على مصر قدرتها على القيام بهذه الوظيفة مع أنها هي التي ربتها وهذبتها وسهلت عليها الوصول إلى هذه الدرجة؟
نعم إن مصر إذا كانت حرة وأمامها إنكلترا تنظر إليها نظر الحارس المحب فإنها تكون أنفع لإنكلترا منها الآن وأصدق ودا وأكثر إخلاصا وخضوعا إذا كان الخضوع مطلوبا ... وسنأتي فيما يأتي من هذا الكتاب على شرح المركز الذي تشغله مصر بعد تحريرها.
عندما نتكلم عن إخلاء مصر فإننا لا نقصد تركها مرة واحدة. وقد أثبتنا فيما تقدم أنه لا توجد دولة أوروبية تجسر على أن تضع يدها على مصر خوفا من إنكلترا لا خوفا من مصر، فإذا حدث في المستقبل ما يضر بإنكلترا فإن الضرر يعود بلا ريب على مصر. ويمكننا في كليمات قليلة أن نبرهن للملأ أن مصر إذا كانت حرة لا يمكنها أن تتخذ سياسة عدائية نحو إنكلترا، فإنها إن حاولت ذلك فلا يكون جزاؤها إلا التنكيل الشديد، وعندما تسحب بريطانيا حاميتها (التي نقصت الآن حتى أصبحت لا تعد في الحقيقة قوة حربية) من مصر، فإن مصر ترجع دائما إلى إنكلترا وتكون في المسائل الخارجية تحت سيطرتها ونفوذها؛ لأنها محدودة من جهتين ببحرين ومحدودة من الغرب بالصحراء وأما من الجنوب فليست محدودة بحد طبيعي كالبحر والصحراء؛ لأن ما وراء حدودها يقع في السودان. فمصر محاطة بقوة إنكلترا من كل جهة على أننا إذا طالبنا إنكلترا بإخلاء مصر فإنه لا يخطر على بالنا أن نسألها أن تتنحى عن السودان، فإننا نترك مسألة السودان جانبا كما يتركها أي وزير عاقل هذا لأن مركز إنكلترا في السودان غير مركزها في مصر، فإن السودان في الحقيقة ملك بريطانيا بأقدس الحقوق وهو حق الفتح بالسيف والمدفع، فليس السودان إلا قطعة من بريطانيا، ونحن لا نقصد بقولنا هذا أن ننسى بأن هناك شركة اسمية بين إنكلترا ومصر في السودان، ولكن هذه الشركة ليست إلا صورة رسمية وليس وراءها شيء ...
وغني عن البيان أن مخابرات قليلة مع الحكومة المصرية تخرج معاهدة جديدة وبها ينتهي كل شيء، ولا نظن أن المستقبل يخفي وراءه صعوبة في طريق هذا العمل، فقد اعترف سياسيا منذ زمن بعيد بأن إنكلترا هي المالكة الوحيدة للسودان، ولم يتم الاعتراف الرسمي لأن إنكلترا كانت تهاب فرنسا، ولا يزال كلنا يذكر المخابرات التي دارت بين اللورد سالسبوري والحكومة الفرنسوية، بشأن حدود أملاك إنكلترا وفرنسا في أواسط أفريقيا وتعيين دائرة نفوذ كل من الدولتين، ولا يزال كلنا يذكر الأراضي الواسعة التي تنازل عنها سالسبوري لفرنسا ومنها «واداي»، وبذلك تمكنت إنكلترا من تعيين حدود السودان بالضبط، فلو لم يكن السودان ملك إنكلترا المطلق لما اكتفت فرنسا بأن تتخابر مع مندوب إنكليزي في شراء حدود السودان؛ بل كانت تطلب من ينوب عن مصر أيضا لينوب عنها في هذه المخابرات، ولكن فرنسا لم تحرك لسانها بكلمة في هذا الشأن وهذا يدل على أنها تعترف بملكية إنكلترا للسودان.
وحيث إن المصريين اشتركوا في فتح السودان فينبغي لنا أن ننظر إلى حقيقة هذا الاشتراك فنقول إن كسر شوكة المهدي وإخماد أنفاس نهضته كانا من أهم الأمور لمصر؛ وذلك لأن حدودها الجنوبية كانت أبدا في خطر شديد من هجوم المهدي وجنوده ودخوله مصر، أضف إلى ذلك أن الطرق التجارية في أواسط أفريقيا كانت مقفلة في وجه مصر، وهكذا حرمت من مورد رزق شرعي لها.
فلما جاءت إنكلترا رأت أن كبح جماح المهدي ضروري لأمرين الأول مراعاة لمصلحة التجارة المصرية التي تستفيد هي منها كثيرا، والثاني لأغراض أخرى كانت ترمي إليها فإن قوة المهدي ونفوذه أتعبا إنكلترا على حدود أملاكها في غرب أفريقيا وكانا سببا في تعطيل أعمالها هناك لأن دعوة المهدي كانت انتشرت حتى «بنين» و«كوماسي» فنتج عن ذلك أن تجارة أواسط أفريقيا وقعت بين نارين، وكانت إن فاتها الخطر لا يفوتها التعطيل، وهكذا لم تجرد حملة السودان إلا بناء على رغبة إنكلترا رغما عن معاندة فرنسا وحليفتها روسيا، وقد ذكرنا فيما مضى الطريقة التي حصلت بها إنكلترا على موافقة إيطاليا ونالت بها 500000ج من صندوق الدين المصري، على أننا لم نذكر الفائدة التي حصلت عليها إنكلترا بموافقة إيطاليا لها، فإن إنكلترا بعد أن حازت رضاء إيطاليا قامت فرنسا وروسيا ورفعتا دعوى في المحاكم المصرية ليعرقلوا مساعي إنكلترا، فاضطرت إنكلترا حينئذ لأن تعتمد على ماليتها هذا وليس من المهم إذا كان الجيش الذي حارب في السودان مصريا أو إنكليزيا فإن الجنود المصريين أكثر جنود الأرض استعدادا لهذا العمل، وقد برهنوا على ذلك بالأعمال الجليلة التي قاموا بها في السودان والتي كانت في الحقيقة الخطوة المهمة في سبيل فتحه، ولكن الحقيقة هي أن الفكرة كانت إنكليزية والمال الذي أنفق على الحملة كان إنكليزيا والقواد والضباط كانوا من الإنكليز، فلسنا بعد هذا كله محتاجين إلى القول بأن السودان هو ملك حلال للإنكليز. ولنتقدم الآن للبحث في أهمية السودان بصفة كونه مستعمرة إنكليزية فنقول: إذا كانت مصر هي أحسن قاعدة حربية لأجل فتح السودان فليعلم القارئ أنه منذ فتوحه قد أصبح الوصول إليه من الجنوب سهلا وهذه السهولة تزداد يوما فيوما.
وفي مستقبل الأيام سيستغني القادم إلى السودان عن المرور بطريق مصر لعدم الاحتياج إليه فإذا كانت في الخرطوم حامية إنكليزية فلن يخشى عليها من مصر؛ لأن مصر لا تستطيع أن تقطع عنها الذخيرة ما دام طريق الجنوب مفتوحا في وجه القادم بذخيرة أو نجدة لحامية الخرطوم، ولكن لا يخفى أن مصر لا تكون أبدا في مأمن ما دامت إنكلترا أمامها في البحر الأبيض بأساطيلها وخلفها في السودان بجنودها. هذا بقطع النظر عن المنافع المتحدة بين إنكلترا ومصر التي تجعل السلام ضروريا في وادي النيل، وبقطع النظر عن أن المصريين لا يستطيعون أن يعادوا إنكلترا خوفا من أنها تحصرهم من كل الجهات.
ولا ينكر علينا أحد أهمية السودان لمصر، فإن السودان ومصر توءمان لا ينفصلان، وحسبنا على ذلك دليلا أن الفراعنة لم يدخروا وسعا في فتح هذه البلاد وإخضاعها، ولا نشك في أن الأسباب التي دعت هؤلاء الملوك الأقدمين إلى فتح السودان هي نفسها التي دعت المصريين المحدثين إلى كسر شوكة المهدي وكبح جماحه؛ هذا لأن حياة مصر معلقة بخيط دقيق جدا وهذا الخليط هو نهر النيل، والقوة التي يكون إقليم أعالي النيل في يدها تكون مصر لا محالة رهينة أمرها وليس على من يريد أن يغير تاريخ مصر إلا أن يغير مجرى النيل .
وقد وصلنا بعد هذا البحث إلى نتيجتين؛ أولاهما: أن إخلاء مصر لا يضر بالتجارة البريطانية، وثانيتهما: أنه لا يضر بالسياسة الإنكليزية لا من مصر مباشرة ولا من أي دولة أوروبية، فلا يوجد حينئذ سبب معقول يمنع إنكلترا عن ترك مصر كما تركت غيرها واستفادت من هذا الترك، ولا نظن أن السياسة البريطانية تدور على محور القوة أو أنها اتخذت شعارا «هنا نحن وهنا نحن نقيم».
وقد بحثنا في سياسة بريطانيا الاستعمارية بحثا عاما، وسنبحث فيها الآن بحثا خاصا لنرى هل حدث في تاريخ إنكلترا أنها وجدت نفسها في مثل مركزها في مصر، وسنرى هل اتخذت إنكلترا في مثل هذه الحال حلا مثل الحل الذي نشير به عليها، فنقول: إذا نظرنا في خريطة ملونة من خرائط الهند نرى جزءا كبيرا من الولايات الهندية مكتوبا عليه «مستقل تحت حكم أمراء وطنيين»، وهذه الولايات المستقلة هي في الحقيقة في مركز يشبه مصر بعد تحريرها تمام الشبه، فإن هذه الولايات محاطة من كل جهاتها بولايات تحت الحكم البريطاني ولكن بريطانيا رأت من الحكمة وحسن السياسة أن لا تستولي على تلك الولايات، ولم تقبل ثمنا لإعفاء هذه الولايات من الاحتلال أو الامتلاك إلا حسن السلوك فإن حسن سلوك هذه الولايات هو الذي استطعن به أن يحفظن استقلالهن.
Bilinmeyen sayfa