نعم إن المنافع التي تنتفع بها إنكلترا من مصر كثيرة لا يمكن عدها ولا يعرف حدها. ولكن هل الاحتلال هو الذي يساعدها على الاستفادة من مصر ويكثر منافعها وهل إذا تخلت عن مصر تقل تلك المنافع وتتلاشى؟
ولأجل أن نلم بأطراف الموضوع وأن نعرف كل ما يتعلق به يجب علينا أن ننظر إلى المسألة أولا بمنظار المتطرفين من المستعمرين، وأن نرى أدلتهم وبراهينهم التي يقولونها ليقنعوا بها على لزوم استمرار الاحتلال البريطاني في مصر، ثم ننظر إلى المسألة بمنظار الذي يقول بإخلاء مصر وتركها لأهلها. وبعد أن نقف على آراء كل من الفريقين وننقد قول كل منهما على حدة يستطيع القارئ بكل سهولة أن يستخرج النتيجة التي يراها لنفسه.
ولا ننكر أن «الاستعماري المتطرف» متمكن من دليل يظهر له في أول الأمر أنه قوي جدا، فإنه يقول: «أنت تعلم أن مصر واقعة على الطريق إلى الشرق فإذا احتلتها دولة معادية لإنكلترا فإن الهند تضيع في طرفة عين وأنت تعلم أيضا أن مصر وغيرها من البلاد الواقعة على طريق الهند هي رأس عقد الإمبراطورية البريطانية، فيجب علينا أن نحتفظ بها ما استطعنا، وهذا هو السبب الذي يحتم علينا البقاء في مصر.» انتهى كلام الاستعماري المتطرف، نقول إن هذا القول عادل في ذاته ولكن من ينظر فيه بدقة ونقد يراه بغير العين التي يراه بها قائله، وأول ما ينقد هذا القول هو أن مصر ليست في الحقيقة على الطريق إلى الهند؛ لأن الطريق إلى الهند تمر بقنال السويس، فقنال السويس هو رأس عقد الإمبراطورية، ولكن من الغريب أننا لم نسمع بأن أشد المستعمرين تطرفا اقترح على إنكلترا أن تستولي على قنال السويس الذي تكفلت الدول بحياده.
ولا يمكن لأي متطرف من المستعمرين أن يقول بأن احتلال مصر ضروري لإنكلترا لأنه يضمن حرية الملاحة في البحر الأحمر، فيجب على إنكلترا أن تعرف أنه إذا كانت مصر في يدها أو في يد غيرها فإن البحر الأحمر يكون دائما مفتوحا لسفنها التجارية وأساطيلها الحربية ما دامت صاحبة النفوذ الأعلى في البحار، فإذا دارت الدائرة على قوة بريطانيا البحرية فإن امتلاك مصر وجزيرة العرب أيضا لا يمكنها من أن تقتحم البحر الأحمر.
ومما يدل على ضعف حجة المستعمرين المتطرفين قولهم إن مصر وغيرها من البلاد الواقعة على الطريق إلى الهند هي رأس عقد الإمبراطورية البريطانية، نقول: فيجب حينئذ على بريطانيا أن تفتح شمال أفريقيا كله فتحتاج إلى معاكسة ألمانيا في مراكش ومحاربة فرنسا في تونس والجزائر ثم تعود فتحتل كل جزائر البحر الأبيض كل هذا لتضمن الطريق إلى الهند، ولكن حزب الاستعمار الحقيقي في إنكلترا أظهر أنه لا يميل إلى مثل هذه المغالاة في الخوف والتطرف في القلق؛ لأنه يعلم أن السيادة في البحر الأبيض المتوسط لا تتم بالاستيلاء على جزيرة أو باحتلال شاطئ إنما تتم ببقاء أسطول قوي لا يمكن أن يكسر، وكل من له إلمام بالتاريخ القديم والحديث يعلم أن سيادة البحر الأبيض المتوسط لم تعقد للدولة التي كانت تملك أغلب شواطئه وجزره، فإن الدولة العربية الكريمة رغما عن امتلاكها الشواطئ الشرقية والجنوبية والغربية ورغما عن قوتها الحربية في صقلية وكريت لم تستطع أن توقف حركة التجارة في البحر الأبيض المتوسط أو تعاكس القائمين بأمرها. كل هذا لأن العرب لم يكونوا يملكون قوة بحرية عظيمة، وأي دليل على ضعف العرب في البحر الأبيض مع كونهم كانوا يملكون أغلب شواطئه أقوى من أن الإفرنج الذين قاموا بالحروب الصليبية كانوا يروحون ويغدون وهم يشقون عباب البحر الأبيض آمنين سالمين، مع علم العرب بأنهم ذاهبون إلى محاربة المسلمين، على أننا لا نحتاج إلى الاستشهاد بالتاريخ القديم إذا كان التاريخ الجديد يكفينا مؤنة ذلك، فإن أكبر دليل في التاريخ الحديث هو حملة نابوليون بونابرت على مصر، فإنه رغما عن امتلاك نابوليون لما كان للعرب بدون السيادة على البحر نال منه أعداؤه الإنكليز فوق ما كانوا يؤملون وظهر لنابوليون أنه لا يصل إلى غايته في البحر إلا إذا كانت له أساطيل قوية، وظهر أيضا أنه ما دامت سيادة البحر الأبيض في يد أي دولة فاحتلال مصر بدون رضاها محال ولا يخفى أن لا فائدة في احتلال مصر لمن يريد أن يكون صاحب النفوذ الأول في مياه البحر الأبيض.
على أن إنكلترا في القرن الثامن عشر كانت أقوى دولة في البحر الأبيض مع أنها لم تكن تملك غير جبل طارق ولم تتم لها تلك القوة إلا بواسطة أسطولها القوي، وقد يرد علينا بأن الاستيلاء على القواعد البحرية الكثيرة في الزمن الحاضر قد أصبح ضروريا؛ لأن الأساطيل كلها تحتاج إلى التصليح والفحم بعكس الحال في الزمن الغابر فإن الهواء كان كل ما تحتاج إليه السفن، فنقول إن إنكلترا بلا ريب تكتفي بجبل طارق ومالطة وقبرص، وقد برهنت بتنازلها عن جزر كورفو بأنها تكتفي بجبل طارق ومالطة فقط.
وفي ختام هذا الكلام الذي حاولنا به أن ننقد كلام المستعمر المتطرف نقول إنه ما دامت إنكلترا هي صاحبة النفوذ في البحر الأبيض فطريقها إلى الهند مفتوحة في وجهها على الدوام، أما إذا كان المستقبل يخفي في طياته مصيبة دهماء للبحرية الإنكليزية، فإن البقاء في مصر يكون على بريطانيا من المستحيل ولو تيسر لما عوض عليها خسارتها.
وربما يقول بعضهم إن منافع إنكلترا التجارية في مصر تضطرها لوضع يدها على مصر، نقول: الحقيقة هي أن إنكلترا لا تطلب إلا حرية التجارة المصرية، وهذه الحرية يمكن الحصول عليها بدون ذلك الاحتلال الإلزامي، ولا نظن أن إخلاء إنكلترا لمصر يسبب زيادة المزاحمين للتجارة الإنكليزية في وادي النيل، فإن إنكلترا لم تفز بالسيادة التجارية إلا لأنها حازت السيادة البحرية منذ زمان، والواقف على الحقيقة يعلم أن إنكلترا لم تحز مركزها التجاري في مصر إلا لبراعة تجارها في إرسال البضائع ووسقها، لا لأنها هي الدولة المختارة. وستستمر مصر على شراء كل ما تحتاج إليه من الأسواق الإنكليزية زمنا طويلا لا خوفا من إنكلترا أو رهبة من نفوذها؛ بل لأنها لا تجد في غير الأسواق الإنكليزية ما يوافقها ولا تجد أثمانا معتدلة مثل أثمان البضاعة الإنكليزية، ومن هنا يظهر أن السياسة لا تؤثر في التجارة أدنى تأثير.
على أن المطالب بإخلاء مصر يقف حائرا ويسأل نفسه قائلا لماذا تتمسك إنكلترا بمصر هذا التمسك؟! على أنه لا يسأل هذا السؤال إلا لأنه لا يرى أن إنكلترا تحصل على منافع عظيمة من احتلال مصر. بيد أن احتلال مصر يساعد إنكلترا على استخدام بضع مئين من الإنكليز في الحكومة المصرية، ولكن لا نظن لحظة واحدة أن سياسة إمبراطورية كبرى كالإمبراطورية البريطانية تدور على مثل هذا المحور الصغير الحقير، فما سبب هذا التمسك إذن بعد أن برهنا أن الجلاء لا يؤثر في إنكلترا تأثيرا حربيا أو تجاريا؟ مع العلم بأنه لا توجد في أوروبا دولة تمد يدها إلى ما تتنازل عنه بريطانيا، فإن فرنسا قد صرحت على رءوس الأشهاد بأن منافعها في جهة غير هذه الجهة، وقد بحثنا بحثا طويلا خرجنا منه بأن فرنسا لا تنوي أن تمد يدها إلى مصر، وأنها لو كانت تضمر لمصر شرا لا تستطيع أن تنفذ ذلك الشر إلا إذا دارت الدائرة على البحرية الإنكليزية فتخرب عن آخرها، وقد ذكرنا أيضا أن ألمانيا لا يخشى منها وعززنا قولنا بالأدلة والبراهين، وبرهنا أن الدول الصغرى الأخرى لا يخشى منها أبدا فلماذا تبقى إنكلترا في مصر؟
هل ذلك لأن إنكلترا لا تزال تسعى لتحقيق حلم «سيسيل رودس» الذي تمتد بعد تحقيقه السلطة البريطانية من القاهرة إلى الكاب؟
Bilinmeyen sayfa