كتاب
التحرير
تأليف
الإمام الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني
(340 ه 424 ه)
دراسة وتحقيق
محمد يحيى سالم عزان
الجزء الأول
الطبعة الأولى
1418ه 1997م
حقوق الطبع محفوظة للناشر
تم الصف والتحقيق والإخراج بمركز النور للدراسات والبحوث
اليمن صعدة ص. ب (90238) بسم الله الرحمن الرحيم
Sayfa 1
مقدمة التحقيق
دور علم الفقه وأطواره
عندما يؤمن الإنسان بربه ويعترف له بالعبودية يكون لزاما عليه أن يترجم عبوديته إلى أفعال وممارسات، فيسير أفعاله وأقواله وسائر تصرفاته وفق توجيهات السماء.
ويعتبر فقه الشريعة الإسلامية الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك، فهو بمثابة دستور متكامل إذا تحرك الإنسان من خلاله انسجمت سائر حركاته مع التعاليم الإلهية التي هو مطالب بمراعاتها، وهو السبيل ليس إلى تنظيم حياة الإنسان في نفسه ومع أبناء جنسه فحسب، بل وإلى تنظيم حياته مع محيطه وبيئته، فالفقه قد رسم له كل شيء في حياته حتى كيفية التعامل مع المخلوقات الصماء البكماء.
ومما لاشك فيه أن فقه الشريعة الإسلامية كغيره من العلوم والمعارف مر بأطوار متعددة وكانت له أدوار مختلفة، بل قد يكون أكثر العلوم الإسلامية حركة عبر التاريخ، ذلك لأن المطلوب منه أن يواكب تغير الزمن ويقدم حلولا لكل ما يستجد في حياة الناس.
ففي عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت تعاليم الشريعة تصل إلى الناس غضة طرية عن طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد كان الصحابة يأخذون عنه فقههم مباشرة، فيتعلمون منه جميع ما يحتاجون إليه، ويسألونه عن كل ما يلتبس عليهم، وبذلك سقط عنهم كثير من الكلفة في تمييز الأخبار وامتحان الناقلين، والتمحيص والتأمل في دلالات الألفاظ والتفتيش عن المعاني.
Sayfa 2
وبموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توقف ذلك الإمداد السماوي بعد أن رسم للبشرية المنهج الذي يجب أن تمضي عليه، ووضع الأسس التي يمكن أن تتحرك من خلالها لمعرفة أحكام ما سيحدث ويتجدد في حياة الناس.
وفي عصر الصحابة واجه المسلمون تساؤلات عن تحديد المواقف العملية تجاه بعض المستجدات التي لم يفهم عوام الناس موقف الشرع منها؛ حين لم يرد بحكمها نص صريح في القرآن أو السنة، فتوجه فقهاء الصحابة إلى إمعان النظر في مصادر التشريع ومراجعة التركة العلمية التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستخرجوا منها ما تتطلبه الساحة من الأحكام تجاه مختلف القضايا الحادثة، معتمدين في ذلك على ثوابت وأصول مستمدة من العقل واللغة والشرع.
وشهد عصر التابعين متغيرات كثيرة كان لها أثر ملموس في الدفع بالحركة الفقهيه إلى الأمام، من أهمها:
1 دخول الدعوة الإسلامية بلدانا كثيرة متعددة الأعراف مختلفة الأوضاع يتطلب التعامل معها شيئا من المرونة والشمولية من جهة، والدقة في التحرك وفق مقاصد الشريعة من جهة أخرى.
2 بعد الزمان عن عصر التشريع مما أدى إلى شيء من الغموض في بعض النصوص والتردد في قبولها.
3 - تنامي الميراث الثقافي، حيث ترك لنا الصحابة طائفة كبيرة من الأحاديث النبوية إلى جانب اختلافهم إما في نقلها أو في فهمها.
4 انعكاسات الصراع السياسي على الحياة الثقافية حيث شجعت السياسات بعض التيارات الفكرية وتآمرت على البعض الآخر، وتدخل الحكام تدخلا مباشرا في تقرير مصير بعض المفاهيم والأحاديث بما يتناسب مع أوضاعهم السياسية.
Sayfa 3
كل تلك المتغيرات وضعت الفقهاء الذين برزوا في ذلك العصر أمام مهمة صعبة؛ لأن عليهم أن يراعوا في إجتهاداتهم أمورا كثيرة إضافة إلى الحرص على براءة الذمة أمام الشرع.. وهو ما حدث بالفعل، فقد تردد على النص الواحد عشرات الفقهاء واعتصرته مئات العقول بهدف الحصول على رأي فقهي مدعوم بالأدلة والبراهين التي تؤكد ارتباطه الوثيق بروح الشريعة الإسلامية الغراء.
فقه الزيدية عبر القرون
كان الإمام زيد بن علي عليه السلام المتوفى (122ه) من مشاهير فقهاء التابعين وتابعيهم، وله مشاركة فاعلة في ترسيخ دعائم الفقه الإسلامي ودراسة نصوص القرآن والسنة، وقد تميز فقهه بمميزات عدة منها:
أنه نشأ في أجواء حرة بعيدا عن تأثير الدول وإملاءآت الحكام، ولهذا لم يكن أمامه شيء يراعيه إلاوضوح البرهان وقوة الدليل.
أنه جعل للعقل حضورا ملموسا في تقييم الأدلة وإعمالها، فلا هو حشره في ما لايعنيه، وحمله ما لايطيق، ولاهو عطله عن التأمل والحركة في المساحة التي يمكنه أن يتحرك فيها.
أن الإمام زيدا كان يجمع في اجتهاده بين فقه الأدلة وفقه الواقع، وهذا بدوره يعطي المسائل التي اجتهد فيها أبعادا مختلفة.
أنه اعتمد في الدرجة الأولى على نصوص القرآن الكريم باعتباره كتاب الهداية المصون الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والجدير بالذكر هنا أن الإمام زيدا قد ألف في موضوع الفقه: كتاب (المجموع الفقهي والحديثي)، المعروف اليوم باسم (مسند الإمام زيد)، وقد أخذ عنه الإمام أبو طالب مؤلف هذا الكتاب بعض النصوص، كما ألف كتاب (مناسك الحج والعمرة). وهذان الكتابان من أشهر كتب الفقه وأقدمها، وقد ذكر غير واحد أن كتاب (المجموع) أقدم كتاب جمع في الفقه الإسلامي(1).
Sayfa 4
وعلى امتداد القرن الثاني الهجري كان ما يروى عن الإمام زيد بن علي من فقه هو عمدة جماهير الزيدية في كل مكان، رغم عدم إرتياح السلطة الحاكمة في تلك العصور لذلك، والتي بدورها ضيقت الخناق على أئمة الزيدية وضربت الحصار حول كل ما له علاقة بهم لأهداف سياسية.
وفي أوائل القرن الثالث الهجري استطاع أئمة الزيدية أن يكونوا مجتمعات صغيرة ذات طابع زيدي إما سرا كما فعل الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، ومحمد بن منصور المرادي في الكوفة، وإما بعيدا عن متناول أيدي السلطة كما فعل الإمام القاسم بن إبراهيم في (الرس)، والحسن بن زيد المتوفى (270 ه تقريبا) في (طبرستان).
وبذلك تمكن الأئمة من تدوين شطر من فتاواهم واجتهاداتهم، وشرحوا بعض الأصول التي قامت عليها، واشتهر في هذه الفترة جماعة من فقهاء الزيدية، منهم:
الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي المتوفي سنة (246 ه)، وهو أحد أعلام الأئمة المجتهدين، له مذهب فقهي مشهور في أوساط الزيدية، وألف كتبا كثيرة في الفقه، منها: كتاب (الفرائض والسنن). كتاب (المناسك). كتاب (صلاة اليوم والليلة). كتاب (الطهارة). كتاب (مسائل ابن جهشيار). كتاب (مسائل النيروسي). كتاب (مسائل الكلاري). وغيرها.
الإمام أحمد بن عيسى بن زيد المتوفى سنة (247 ه)، وهو المعروف بفقيه آل محمد، له فقه كثير ورواية واسعة، تضمن كتاب (العلوم) الذي جمعه محمد بن منصور المرادي كثيرا من فقهه وروايته، حتى غلب عليه اسم: (أمالي أحمد بن عيسى).
الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد المتوفى (260 ه)، وكان في الشهرة بالكوفة في الزيدية كأبي حنيفة عند فقهائها، قال السيد صارم الدين الوزير: كان عامة الزيدية في الكوفة على مذهبه (1).
الإمام عبدالله بن موسى بن عبد الله المتوفى سنة (247 ه)، وكان من فضلاء أهل البيت وعلمائهم.
Sayfa 5
الإمام محمد بن منصور المرادي، أبو جعفر الحافظ، أحد الفقهاء المعمرين، قيل إنه تعمر مائة وخمسين سنة وتوفي بعد سنة مائتين وتسعين، جمع فقهه وما روي عن أئمة الزيدية قبله من فقه في قرابة ثلاثين كتابا، اختصرها الحافظ العلوي في كتابه (الجامع الكافي)، وقال في مقدمته: (( فما كان من أقوال أحمد، والقاسم، ومحمد مطلقا لم أذكر راويه فهو مما ذكره محمد في مصنفاته، وماكان من سواها فقد ذكرت في المسألة من رواه)) . ثم أخذ يذكر طرقه في رواية فقه الأئمة السابق ذكرهم.
ومما تقدم يلوح لنا أن حركة الفقه وأصوله عند الزيدية في ذلك القرن دخلت طورا آخر وفترة جديدة، يمكن أن نعتبرها بداية التوجه إلى تدوين الفقه ودراسة أصوله عند الزيدية.
وفي أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع دخل الفقه الزيدي مرحلة أخرى حيث استقرت أوضاع الزيدية نسبيا بقيام دولة لهم في اليمن بقيادة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المتوفى سنة (298ه)، وهو من كبار مجتهدي الزيدية، وأخرى في الجيل والديلم بقيادة الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش المتوفى سنة (304 ه)، وهو كذلك إمام مجتهد.
ومما ألفه الهادي في الفقه: كتاب (الأحكام) وهو أشهر كتبه. وكتاب (المنتخب) وهو عبارة عن مسائل سأله عنها العلامة الكبير محمد بن سليمان الكوفي المتوفى بعد (301ه) . وكذلك كتاب (الفنون)، وجميعها قد طبع. وله مسائل أخرى في الفقه متفرقة في ثنايا كتبه الأخرى.
وأما الإمام الناصر فلم أطلع من كتبه في الفقه إلا على كتاب (الإحتساب) وهو كتاب صغير في فقه إدارة شئون المجتمع.وقد ذكر له ابن الديم في (الفهرست 244) مجموعة من كتب الفقه وقال إنه رآها. ثم قال: وزعم بعض الزيدية أن له نحوا من مائة كتاب.
Sayfa 6
ونبغ من بعد الهادي ولداه: محمد بن يحيى الملقب بالمرتضى المتوفى (310 ه)، وله في الفقه: كتاب (الإيضاح). وكتاب (النوازل). وكتاب (جواب مسائل المعقلي). وكتاب (الرضاع). وكتاب (مسائل البيوع). وغيرها.
وأحمد بن يحيى الملقب بالناصر المتوفى (325 ه)، وله في الفقه: كتاب (مسائل الطبريين). وكتاب (الفقه) أربعة أجزاء.
وقد لقب الأئمة السالف ذكرهم ب: (أصحاب النصوص)؛ لأنهم قاموا بدراسة نصوص القرآن وما صح عندهم من السنة واستنبطوا من ذلك ما أمكنهم استنباطه من مسائل فقهية، وأفرغوا ذلك في مسائل فقهية نالت إحترام وإجلال جميع فقهاء الزيدية، وحظيت منهم بالدراسة والشرح والتعليق والتخريج على نطاق واسع، حتى أنه لايكاد يخرج عن مقالاتهم إلا النادر القليل من مجتهدي الزيدية.. لامن باب التقليد فأئمة الزيدية قد فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه في أصول الفقه وفروعه، ولكن من باب الاتفاق في تحرير الدليل وفهمه.
ومما يحسن الإشارة إليه هنا أن حرية النظر في المسائل الفقهية وأدلتها التي أتاحها المذهب الزيدي لأتباعه خلق لديهم الجرأة على البحث والنقد على نطاق واسع وذلك ما صير المذهب الزيدي روضة يسرح ويمرح في أرجائها المبدعون، وتتعانق فيها آراء الفقهاء والباحثين، وهو ما مكن كبار أئمة الفقه الزيدي من النبوغ حتى ضاهوا أئمة المذاهب الفقهية الأخرى، فقد اشتهر في تاريخ الزيدية مذاهب فقهية متعددة تشبه في نشأتها وتطورها المذاهب السنية الأربعة، ومن تلك المذاهب:
القاسمية، وهم: أتباع ومقلدوا الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي فيما حصله من مسائل فقهية، وكان معظمهم في الحجاز والجيل والديلم. قال الإمام أبو طالب الهاروني: إن الديلم كانوا يعتقدون أن من خالف القاسم بن إبراهيم عليه السلام في فتاويه فهو ضال، وكل قول يخالف قوله فهو ضلالة (1).
Sayfa 7
الهادوية، وهم: أتباع الإمام الهادي ومقلدوه، ومعظم انتشارهم كان في الجزيرة وخراسان والعراق ، واعتنى بفقهه علماء الزيدية عناية فائقة، ولم يكن بينه وبين مذهب جده القاسم كثير اختلاف.
الناصرية، وهم: أتباع الإمام الناصر الأطروش ومقلدوه، وكان معظم أتباعه في العراق وفارس، وكان الجيل يعتقدون أن مخالفة مذهبه ضلال(1)، وقد قام بخدمته جملة من علماء الزيدية.
ورغم تعدد اجتهادات أئمة الزيدية وكثرتها فإن لهم قواعد عامة تجمعهم بحيث يمكننا أن نعتبرها بمثابة أصول مشتركة بالنسبة لهم، ومنها على سبيل المثال:
مراعاة قضايا العقل في إصدار الأحكام، لاسيما ما كان له علاقة بالتحسين والتقبيح.
اعتبار ما صح عن علي عليه السلام موضع احتجاج.
ترجيح ظواهر النصوص القرآنية، على كثير من الأحاديث الظنية.
اعتبار إجماع أهل البيت (ع) حجة يجب الأخذ بها.
اعتبار عرض الأحاديث على القرآن خير وسيلة لمعرفة صحتها.
وهذه ثوابت يندر تجاوزها والتغير فيها، ولايصح نسبتها إلى أصول مذهب إمام بمفرده، حتى لايكون من يتحرك في إطارها مجتهد في المذهب فقط.
Sayfa 8
وبسبب ذلك الثراء الفقهي اعتبر المذهب الزيدي من المذاهب الإسلامية الكبرى، يقول الإمام محمد أبو زهرة: (( وقد أثر عن زيد فقه عظيم تلقاه الزيدية في كل الأقاليم الإسلامية، وفرعوا عليه وخرجوا، واختاروا من غير ما تلقوا، واجتهدوا ومزجوا ذلك كله بالمأثور عن فقه الإمام زيد رضي الله عنه، وتكونت بذلك مجموعة فقهية لانظير لها إلا في المذاهب التي دونت وفتح فيها باب التخريج وباب الاجتهاد على أصول المذهب، ولعله كان أوسع من سائر مذاهب الأمصار، لأن المذاهب الأربعة لايخرج المخرجون فيها عن مذهبهم إلى مرتبة الاختيار من غيره، نعم إنهم يقارنون بين المذاهب أحيانا، كما نرى في المغني الحنبلي، وفي المبسوط الحنفي، وفي بداية المجتهد ونهاية المقتصد الذي ألفه ابن رشد من المالكية، والمهذب للشيرازي من الشافعية، ولكن هذه المقارنات إما أن ينتهي المؤلف إلى نصر المذهب الذي ينتمي إليه والدفاع عنه، كما نرى في مبسوط السرخسي، والمغني، وإما أن يعرض الأدلة وأوجه النظر المختلفة من غير ترجيح، ويندر أن يكون اختيار إلا في القليل، كما نرى في اختيارات ابن تيمية إذ قد خرج من هذا النطاق، وقد اختار من مذهب آل البيت مسائله في الطلاق الثلاث، والطلاق المعلق، وكما نرى في اختيارات قليلة لكمال الدين بن الهمام من المذهب الحنفي، كاختيار رأي مالك في ملكية العين الموقوفة.
أما المذهب الزيدي فإن الاختيار فيه كان كثيرا، وكان واسع الرحاب، وقد كثر الاختيار حتى في القرون الأخيرة، وكان لذلك فضل في نمائه وتلاقيه مع فقه الأئمة الآخرين )) (1).
Sayfa 9
وفي بلاد الجيل والديلم حظي فقه الإمام القاسم بن إبراهيم وحفيده الهادي يحيى بن الحسين وولديه محمد بن يحيى وأحمد بن يحيى بعناية خاصة من قبل أئمة الزيدية في الجيل والديلم، حتى روي عن الإمام المؤيد بالله وهو أحد فرسان الفقه ومجتهدي الزيدية أنه قال: كنا نهاب نصوص يحيى كما نهاب القرآن. يعني في التأمل فيها والاستخراج منها.
وكان من مظاهر ذلك الاهتمام مايلي:
قام السيد الإمام أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني المتوفى (353 ه)(1) بشرح كتاب (الأحكام) للإمام الهادي شرحا موسعا، قدر حجمه بحمل جمل.
وقام بجمع كتب القاسم والهادي وولديه وفرزها بطريقة خاصة في كتاب سماه (كتاب النصوص). ثم استخرج من تلك النصوص بعض التخريجات والمفاهيم، وجمعها في كتاب سماه (كتاب التخريجات)، وبذلك أثرى الفقه الزيدي شكلا ومضمونا.
Sayfa 10
قام تلميذه العلامة المتقن علي بن بلال بشرح لطيف لكتاب الأحكام، اقتصر في معظمه على إيراد الأدلة على سائر المسائل، وقد اطلعت منه على جزء واحد وفيه ما يدل على غزارة علم وسعة أفق، إعتمد فيه كثيرا على الرواية من طريق أبي العباس الحسني، مما يؤكد القول بأنه منتزع من شرح أبي العباس على (الأحكام) .
قام السيد الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني المتوفى سنة (411 ه) بتجريد فقه القاسم والهادي وجمعه في كتاب سماه: (التجريد)، ثم أخذ في شرحه والاستدلال على مسائله في كتاب سماه: (شرح التجريد)، وهذا الكتاب يعتبر من أهم كتب الزيدية وأوسعها، ونحن نعمل هذه الأيام على تحقيقه وتقديمه للطبع نسأل الله المعونة على ذلك.
قام الإمام الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى (424 ه) بجمع فقه القاسم والهادي وولديه محمد وأحمد في هذا الكتاب الذي سماه: (التحرير) وهو هذا الذي بين يديك، وضم إليه ما ذكره أبو العباس عنهم من النصوص وما استخرجه من فقههم، إضافة إلى بعض تخريجاته هو.
وأهل هذه الطبقة من الفقهاء يلقبون عند الزيدية : بالمخرجين، لأنهم خرجوا على نصوص الأئمة السابقين مسائل أخرى.
وظل الفقه الزيدي يتنقل في أطوار أخرى عبر الزمن لايمكننا الإحاطة بها في هذه المقدمة.
* * * * *
Sayfa 11
ترجمة المؤلف
عرف أهل الجيل والديلم وطبرستان بولائهم الشديد لأهل البيت عليهم السلام، رغم أن معظم من دخل تلك البلاد منهم دخلها ملتجئا هاربا من السلطة الغاشمة، وكان أول من دخلها الإمام يحيى بن عبد الله أيام هارون الرشيد، ثم تتابعت هجرتهم إلى هناك، ولبثوا فترة زمنية طويلة تمكنوا فيها من دعوة أهل تلك الديار إلى الإسلام؛ فاستجاب لهم خلائق كثيرون وبنوا المساجد، ومارسوا العبادة على أحسن حال، ثم توجهوا للإصلاح الشامل وإشاعة العدل والمعروف، واستطاعوا أن يقضوا على النظام الإقطاعي الجائر الذي كانت تستند عليه رؤساء العشائر، واستبدلوه بنظام التعاون بين الطبقات المختلفة.
وكان ممن هاجر إلى تلك البلاد السيد المحدث الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأقام فترة طويلة تزوج فيها وأنجب إمامين جليلين، أحدها الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين المولود (سنة 333 ه)، والآخر الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين المعروف بأبي طالب المولود سنة (340 ه) (1) .
Sayfa 12
وفي تلك المروج الخضراء والهواء الطلق، وبين تلك الجبال الشاهقة بعيدا عن ضجيج المدنية الخانق.. هنالك في أرض الجيل والديلم نشأ الإمام أبو طالب، في أسرة علمية فاضلة، نشأ والفضائل تكتنفه من كل جانب، وعوامل التكامل وبناء الشخصية الرسالية متوفرة له؛ فوالده من أئمة العلم وفرسان الرواية، وأمه شريفة فاضلة من بنات الشريف علي بن عبد الله الحسني العقيقي، كان لها حظ وافر من الصلاح والاستقامة، وشقيقه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين، أحد قلاع العلم رواية ودراية، هذا إضافة إلى جهابذة من العلماء الذين كان يتقلب في حلقاتهم ويتلقى عنهم العلوم والمعارف، كالسيد الإمام أبي العباس الحسني الزيدي، والشيخ أبي عبد الله البصري المعتزلي، والمحدث أحمد بن عدي الحافظ السني، والشيخ محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد الإمامي وغيرهم من بحور العلم وعلماء الإسلام على اختلاف نزعاتهم ومذاهبهم.
Sayfa 13
قال الشهيد حميد: (( كان عليه السلام قد نشأ على طريقة يحكي في شرفها جوهره ويحاكي بفضلها عنصره، وكان قد قرأ على السيد أبي العباس الحسني عليه السلام فقه العترة عليهم السلام حتى لحج في غماره، ووصل قعر بحاره، وقرأ في الكلام على الشيخ أبي عبد الله البصري فاحتوى على فرائده وأحاط معرفة بجليه وغرائبه، وكذلك قرأ عليه في أصول الفقه أيضا ولقي غيره من الشيوخ، وأخذ عنهم حتى أضحى في فنون العلم بحرا يتغطمط تياره، ويتلاطم زخاره )) (1) .
فما أن بلغ سن الرشد ومرحلة الشباب حتى زاحم مشائخ العلم في ميدان المعارف، ونافس أرباب الحكمة والأدب، وقارع بالحجة فقهاء الأمصار، ورحل في طلب العلوم إلى بغداد، ثم رجع وليس له نظير ودرس بجرجان (2)، وانتشر صيته كانتشار ضوء النهار، فألف وشعر، وأفتى وناظر، وكان كما قال المنصور بالله عبد الله بن حمزة: ((لم يبق في فنون العلم فن إلا طار في أرجائه، وسبح في أثنائه)) (3).
Sayfa 14
فلم يمت حين مات وقد خلف وراءه تراثا عظيما في الفقه والأصول والأدب والتاريخ، فمازالت أصداء آرائه وتخريجاته وحججه تتردد بين جدران المساجد وفي حلقات العلم، وترسم في صفحات الكتب، ومازال العلماء فقهاء ومحدثين ومؤرخين ينهلون من معينه ويكترعون من فيض علومه، فقد خلف لنا كنوزا وذخائر من المؤلفات التي دون فيها أنظاره وجفف فيها أفكاره، وامتاز كغيره من أئمة الزيدية بالزعامة السياسية والدينية، فكان المنظور إليه بعد أخيه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين في العلم والفضل، وكانت آراء العامة والخاصة لاتختلف في أنه أجدر من في وقته بالزعامة، فلذا هرع الناس إليه بعد موت أخيه الإمام المؤيد بالله سنة (411 ه) يحثونه على الدعوة ونصب نفسه إماما للمسلمين، فأجابه العلماء والفضلاء في طول البلاد وعرضها، وبذلك الحدث عمت الفرحة أوساط الجماهير، وعبر كل عن مشاعره بما يحلو له، وكان أبو الفرج بن هندو وهو من مشاهير الفلاسفة والأدباء ممن غمرتهم الفرحة والسرور فعبر عن ذلك بأبيات قال فيها:
سر النبوة والنبيا .... وزهى الوصية والوصيا
أن الديالم بايعت .... يحيى بن هارون الرضيا
ثم استريت (1) بعادة ال .... أيام إذ خانت عليا
آل النبي طلبتم .... ميراثكم طلبا بطيا
ياليت شعري هل أرى .... نجما لدولتكم مضيا
فأكون أول من يه .... ز إلى الهياج المشرفيا
ولم تقع أي نزاعات أو حروب في زمانه لأنه كان محل رضى لجميع الجماهير من مختلف الفئات وسائر الطبقات، فلم يكن العامي أسرع إليه من العالم، ولا العالم من الند المنافس.
Sayfa 15
ولم يزل يحكم بين الناس بالعدل ويسير فيهم سيرة الأنبياء ويقضي حوائج المحتاجين ويدفع عن المظلومين ويحسن إلى المحرومين، ويقرب العلماء ويجالس الفقراء، ويستحث ذوي الكفاءات والخبرة على العمل وإفادة المجتمع، ولم يأل جهدا في ترسيخ المفاهيم الإسلامية ونشر المعارف الدينية، وتنشيط النهضة الثقافية التي تميز بها عصره وعصر أخيه من قبله في الجيل والديلم.
ونال الإمام أبو طالب إعجاب الكثيرين بسياسته كحاكم، وبثقافته كعالم، وبأسلوبه كمؤلف، وعبر كل عن جوانب إعجابه، وكان من مظاهر ذلك الإعجاب مايلي:
اشتهر عن الصاحب بن عباد أنه كان كثير الإعجاب بالسيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب وكان يديم مجالستهما، ويقول عنهما: (( ماتحت الفرقدين مثل الأخوين )) (1) .
وقال الحاكم الجشمي: (( كان شيخنا أبو الحسن علي بن عبد الله اختلف إليه مدة بجرجان والسيد أبو القاسم الحسني يخرج من مجلسه فيحكيان عن علمه وورعه واجتهاده وعبادته وخصاله الحميدة وسيرته المرضية شيئا عجيبا يليق بمثل ذلك الصدر)) (2).
وقال: (( كان جامعا لشرائط الإمامة لم يكن في عصره مثله مبرزا في أنواع العلوم )) (3).
وقال: (( كلامه عليه مسحة من العلم الإلهي، وجذوة من الكلام النبوي)) (4).
وقال المنصور بالله عبد الله بن حمزة: ((لم يبق من فنون العلم فن إلا طار في أرجائه وسبح في أفنائه )) (5) .
وقال الشهيد حميد: (( كان عليه السلام في الورع والزهادة والفضل والعبادة على أبلغ الوجوه وأحسنها )) (6) .
Sayfa 16
وقال ابن حجر: (( كان إماما على مذهب زيد بن علي، وكان فاضلا غزير العلم مكثرا عارفا بالأدب وطريقة الحديث )) (1) .
وقال أبو طاهر: (( كان من أمثل أهل البيت ومن المحمودين في صناعة الحديث وغيره من الأصول والفروع )) (2) .
وقال الأمين: ( ( بلغ درجة كبيرة في العلم حتى قال الزيدية فيه: إنه لم يكن ثم أحد أعلم منه )) (3) .
وقال ابن عنبة: (( كان عالما فاضلا، له مصنفات في الكلام، بويع له ولقب بالسيد الناطق بالحق )) (4) .
وبعد مضي أربع وثمانين سنة من عمره، وانقضاء ثلاثة عشرة سنة من خلافته آذن بالرحيل إلى عالم الآخرة، وترك خلافة الدنيا، ولم يجمع من ورائها دينارا ولادرهما، وخلف أهله وورثته على الحالة التي كانوا عليها قبل خلافته، فكانت وفاته عليه السلام سنة (424 ه) في أعمال ديلمان، وحمله ابنه إلى آمل ودفن في جرجان وقبره بها مشهور مزور إلى اليوم، ولم يخلف إلا ولدا واحدا هو: أبو هاشم محمد بن يحيى بن الحسين.
مؤلفاته
خلف لنا الإمام أبو طالب ميراثا فكريا خالدا ضمنه خلاصة علومه وتجاربه، فكان منه:
1 كتاب (المبادئ) في علم الكلام ، ذكره الإمام عبد الله بن حمزة (5) .
2 (المجزي) في أصول الفقه ، ذكره الإمام عبد الله بن حمزة، والشهيد حميد وغيرهما، وقال الشهيد حميد: (( هو مجلدان وفيه من التفصيل البليغ والعلم الواسع مالايكاد يوجد مثله في كتاب من كتب هذا الفن ) ) (6) .
3 (التحرير) في فروع الفقه، وهو هذا الذي بين يديك .
4 (شرح التحرير)، قدا أشار إليه الإمام أبوطالب في مواضع شتى من هذا الكتاب.
Sayfa 17
5 (زيادات شرح الأصول)، ذكره الشهيد حميد وقال عنه: (( فيه علم حسن يشهد له بالبلوغ إلى أعلى منزلة من الكلام )) (1).
6 (الدعامة) بحث في موضوع الإمامة ، ذكره الشهيد حميد وقال عنه: (( هو من عجائب الكتب، وأودعه من الغرائب المستنبطات، والأدلة القاطعة، والأجوبة عن شبهات المخالفين النافعة ما يقضي أنه السابق في هذا الميدان ، والمجلى منه في حلبة الرهان، وهو مجلد فيه من أنواع علوم الإمامة ما يكفي ويشفي )) (2). وقد طبع هذا الكتاب باسم: (نصرة مذاهب الزيدية)، ونسبه محققه الدكتور ناجي حسن إلى: الصاحب بن عباد، وهو مشحون بالأخطاء والسقط. ويوجد لدينا منه نسخة مخطوطة.
7 (جوامع الأدلة) في أصول الفقه ذكره الشهيد حميد (3) .
8 (التذكرة) في فروع الفقه - ذكره الجنداري (4).
9 (جوامع النصوص)، ذكره الزركلي (5) .
10 كتاب (شرح البالغ المدرك)، شرح فيه كتاب البالغ المدرك للإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، وقد طبع بتحقيقنا، وهو كتاب قيم في أصول الدين وما يتعلق بها.
11 (الإفادة في تاريخ الأئمة السادة)، وهو من أهم كتب التاريخ عند الزيدية وقد قمت بتحقيقه ونشرته مكتبة دار الحكمة اليمانية.
12 كتاب (الأمال)ي في الحديث ، طبع بمكتبة دار الحياة طبعة رديئة مملوءة بالأخطاء والتصحيف، وقد بدأت في تحقيقه أسأل الله أن يوفقني إلى تقديمة بشكل مرضي.
13 (الحدائق في أخبار ذوي السوابق)، في تاريخ أئمة الزيدية وانتها فيه إلى أخبار الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، ولم يتمه وهو أصل هذا الكتاب. ذكره في مقدمة الإفادة.
14 كتاب (الناظم) في فقه الناصر، ذكره الشهيد حميد عند ذكر الكتب التي جمعت على مذهب الناصر.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى لآله الطاهرين.
Sayfa 18
******
... كتاب التحرير
ذكرنا فيما مضى أن المؤلف ضمن كتابه هذا مسائل فقه القاسم والهادي وولديه المرتضى والناصر، وأفرغ ذلك في قالب فقهي بديع وضم إليه جملة من التخريجات والإستنتاجات اللطيفة.
ويظهر من خلال عناية فقهاء الزيدية بهذا الكتاب أنه قد حاز قصب السبق ونال الرضا والقبول، فقد خص هذا الكتاب بعناية فائقة، وصار هو الناطق الرسمي باسم المذهب الزيدي الهدوي، ومنه أخذ المؤلفون وعليه اعتمدوا في معرفة المذهب، قال الحجوري في (الروضة): (( صنف كتاب (التحرير) وجمع فيه فقه أهل البيت، ثم شرحه واحتج له، فهو أجمع كتاب من كتب أهل البيت )).
ومن مظاهر الإهتمام بهذا الكتاب مايلي:
قام مؤلفه بتوشيحه بشرح حافل بالأدلة والبراهين عرف ب(شرح التحرير)، وهذا الشرح وإن لم أطلع عليه إلا أنني قرأت له أوصافا حسنة، فقد روي عن الإمام عبد الله بن حمزة أنه قال عنه: (( اثني عشر مجلدا جامعة الأدلة والشروط والعلل والأسباب، لايكاد يوجد في كتب أهل العلم ما يساويها )) (1) ، وذكره الشهيد حميد وقال: (( مجلدات عدة تبلغ ستة عشر مجلدا وفيها من حسن الإيراد والإصدار ما يشهد له بالتبريز على النظار، فإنه بالغ في نصرة مذهب الهادي (ع) في كل وجه، وأودعه من أنواع الأدلة والتعليلات ما لايوجد في كتاب، وفيه فقه جم وعلم غزير، وكذلك فإنه أودع فيه من مذهب الفقهاء ما يكثر، وذكر المهم مما يتعلقون به، ورجح مذهب الهادي عليه السلام فيه حتى ظهر ترجيحه، وتوهجت مصابيحه، وذكى لكل مشتاق ريحه )) (2).
Sayfa 19
تناول هذا الكتاب بالشرح والتعليق العلامة الشهير زيد بن محمد الكلاري وهو من تلامذة المؤلف حيث شرحه بكتاب ضخم ضمنه اختلاف الفقهاء وتفريعاتهم وأدلتهم، إضافة إلى شرح نص الكتاب والتفريع عليه وهو مخطوط في ستة مجلدات، وقد حظي ذلك الشرح بالقبول وتداوله الفقهاء وأولوه عناية خاصة حتى أنه غلب عليه في أوساط الزيدية اسم (الشرح) فإذا أطلق فهو المراد، حتى جاء شرح ابن مفتاح على الأزهار.
قام العلامة الأمير الحسين بن بدر الدين المتوفى (663 ه) بشرحه وذكر أدلته في ثلاث مجلدات ضخمة سماه: (التقرير في شرح التحرير).
أسلوب المؤلف في الكتاب
عندما نقارن كتب المؤلف ببعض مؤلفات معاصريه من حيث التبويب والتقسيم والترتيب، وفي هذا الكتاب أبدى المؤلف مهارة في صياغة الأفكار وتهذيب المسائل تجعلنا ندرك بوضوح تميز أسلوبه وسلامته من التعقيد، فهو كما قال مؤلفه: (( لايكاد يوجد مثله في سائر كتب أصحابنا )) (1).
وفيما يلي سنحاول التنبيه على بعض الأساليب التي اتبعها المؤلف في هذا الكتاب خصوصا ما لايكاد يعرف إلا بالبحث والتأمل:
Sayfa 20