Tafsir Qawluhu Ta'ala: 'Wa Aatu Al-Yatama Amwalahum..' Al-Ayat - within 'Athar Al-Mu'allimi'
تفسير قوله تعالى: ﴿وآتوا اليتامى أموالهم ..﴾ الآيات - ضمن «آثار المعلمي»
Araştırmacı
محمد أجمل الإصلاحي
Yayıncı
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٣٤ هـ
Türler
الرسالة السادسة
في تفسير قوله تعالى:
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...﴾ الآيات
7 / 193
[ص ١] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ..﴾ [النساء: ٢ - ٤].
وقال سبحانه فيها: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٢٧ - ١٣٠].
التفسير:
﴿الْيَتَامَى﴾: جمع يتيم، وهو مَنْ دون البلوغ إذا كان قد مات أبوه، ويشمل الذكور والإناث.
7 / 195
وإيتاؤهم أموالهم: يشمل ــ والله أعلم ــ الإنفاق عليهم منها قبل بلوغ الرشد، وتسليم بقيتها إليهم بعده.
وتبدل الخبيث بالطيب: أخذ الخبيث، والمراد به الحرام، وإعطاء الطيب، والمراد به الحلال. [ص ٢] وذلك أخذُ الولي الجيدَ من مال اليتيم، وإبداله بالرديء من مال نفسه، قائلًا: إن كنتُ أخذتُ من ماله، فقد عوَّضتُه.
قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الأصل في "إن" كما قاله علماء المعاني: "عدم الجزم بوقوع الشرط" (^١)، وذلك يقتضي أن يكون خوف عدم الإقساط غير مجزوم بوقوعه.
والأصل في "الخوف" أن يكون لما يتوقع ــ أي يظن ــ وقوعه، لا لما يجزم بوقوعه، لا يقول الشيخ الهرم: أخاف أن لا يعود لي شبابي في الدنيا. وهذا يقتضي أن يكون عدم الإقساط غير مجزوم بوقوعه.
وقوله: ﴿أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ حَمَله جماعة على العموم، فقال بعضهم (^٢): المعنى: كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذلك خافوا أن لا تقسطوا في النساء ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ إن لم تخافوا أن لا تعدلوا ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾.
وقال غيره (^٣): المعنى: كما تخافون من الجور، فكذلك خافوا من الزنا
_________
(^١) انظر: "الإيضاح في علوم البلاغة" (٨٨).
(^٢) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ٣٦٢).
(^٣) "تفسير الطبري" (٦/ ٣٦٦).
7 / 196
﴿فَانْكِحُوا ...﴾.
وحمله الأكثر على الخصوص، على اختلاف بينهم، وذلك على أقوال:
١ - [ص ٣] في "الصحيحين" (^١) ــ واللفظ لمسلم ــ من طريق الزهري عن عروة عن عائشة: ذكرت الآية الثالثة، ثم قالت: "هي اليتيمة تكون في حِجْر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالُها وجمالُها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها، فيعطيها مثلَ ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهن، إلا أن يُقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصداق، وأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن".
٢ - وفي "صحيح مسلم" (^٢) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾، قالت: "أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة، وهو وليها ووارثها، ولها مال، وليس لها أحد يخاصم دونها، فلا يُنكحها لمالها، فيُضِرُّ بها، ويسيء صحبتها، فقال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ يقول: ما أحللت لكم، ودع هذه التي تُضِرُّ بها".
وفي "صحيح البخاري" ما يوافقه (^٣).
_________
(^١) "صحيح البخاري": كتاب الشركة، باب شركة اليتيم وأهل الميراث (٢٤٩٤)، و"صحيح مسلم"، كتاب التفسير (٣٠١٨ - ٦).
(^٢) كتاب التفسير (٣٠١٨ - ٧).
(^٣) كتاب التفسير، باب قوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ (٤٦٠٠).
7 / 197
الزهري أجلُّ من هشام، لكن قد ينظر فيما في روايته من وجهين:
الأول: أن صداق المثل، وهو المعبَّر عنه بـ"أعلى سنتها" لا بد أن يكون معروفًا، فإن بذله الولي فقد وُجد الإقساط يقينًا، فلا محل لخوف عدمه. وإن نقص عنه فقد وجد عدم الإقساط يقينًا، وذلك [ص ٤] خلاف الأصل في "إن"، وفي "الخوف" كما تقدم.
الثاني: أن اليتيمة إذا أعجب وليَّها جمالُها ومالُها، فهو بنكاحه لها يرى أنه قد احتفظ بمالها له أو لورثته، فيبعد مع هذا أن ينقصها من مهر المثل، وهو يرى أن سبيله كسبيل أصل مالها، أي أنه محفوظ له ولورثته، فاحتمال النقص هنا كأنّه نادر، والأولى حمل القرآن على ما يكثر وقوعه.
وقد يزاد وجه ثالث: وهو أن نكاحه إياها إنما يكون برضاها بعد بلوغها، فإذا رضيت بدون مهر المثل، فأي حرج على الولي في ذلك؟ وهي لو وهبته جميع مالها برضاها لحلَّ له أخذه بلا شبهة. لكن قد يقال: لعلها لم تسمح بنقص المهر ابتداءً، ولكنه عضلها عن أن تنكح غيره، ولم يكن لها من يخاصم عنها، فرأت أنها إذا لم تسمح بقيت عانسًا، فاضطرت إلى السماح.
وفي الوجهين الأولين كفاية.
وما في رواية هشام أقرب إلى ظاهر الآية، إلا أن قوله: "وليس لها أحد يخاصم عنها، فلا يُنكحها (بضم الياء) "، لا أرى له حاجة. فالأولى أن تشمل الآية هذا، بأن كان أجنبي قد رغب فيها، فعضلها الولي؟ وتشمل ما إذا لم يرغب فيها أجنبي بعد، وأحب الولي أن يبادر إلى خطبتها ونكاحها؛ ليحتفظ بمالها، فرضيت المسكينة متوهمةً أنها قد أعجبت الولي لنفسها، وعدَّت ذلك غنيمةً؛ لأنها لعدم جمالها تشكُّ في رغبة غيره فيها.
7 / 198
وفي "تفسير البغوي" (^١): "قال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام، وفيهن من يحل له نكاحها، فيتزوجها لأجل مالها، وهي لا تعجبه، كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها، ثم يسيءُ صحبتها، ويتربص أن تموت، فيرثها، فعاب الله تعالى ذلك، وأنزل الله هذه الآية".
هذا يوافق رواية هشام، مع شموله للصورتين.
[ص ٥] وقوله في رواية الزهري: (ما طاب لهم من النساء سواهن) معناه كما هو واضح: سوى اليتامى اللاتي لا يقسطون في صداقهن. ومثله ما في رواية هشام: (ودع هذه التي تضرّ بها).
ومثله يفهم مما روي عن الحسن.
فأما ما أخرجه ابن جرير (^٢) بسند صحيح عن الحسن: " ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي ما حلَّ لكم من يتاماكم من قراباتكم مثنى وثلاث ورباع ... " فكأنه أراد: "ولو من يتاماكم اللاتي لا تخافون ألا تقسطوا إليهن"، ولم يصرح به استغناءً بدلالة الآية على ذلك.
وأحسن من هذا عندي أن يلحظ في معنى الطيب: الطيب طبعًا، كما اختاره جمع من المتأخرين، وفسروه بقولهم: "ما مالت له نفوسكم واستطابته" (^٣).
ثم إما أن يقال: المعنى: ما طاب شرعًا وطبعًا.
_________
(^١) "تفسير البغوي" (١/ ٤٧٣).
(^٢) انظر: "تفسيره" (٦/ ٣٦٧).
(^٣) "روح المعاني" (٤/ ١٩٠).
7 / 199
وإما أن يقال: الخطاب مع المؤمنين، والمؤمن لا يطيب له طبعًا نكاح محرمة، كبنت ابنه، أو بنت أخيه.
هذا، وطريقة المحققين من أئمة التفسير والحديث تحرِّي الجمع بين الروايات، وإذا كانت الآية ظاهرة في العموم لم تصرف عنه إلى الخصوص لظاهر تفسير بعض السلف فقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية أن كثيرًا من تفسيرات السلف إنما أريد بها النصُّ على أنَّ ما ذكره مما يدخل في الآية، لا أنه المعنى كله (^١).
فعلى هذا، يمكن تقرير معنى الآية [ص ٦] على ما يشمل ما تقدم وغيره من صور خوف عدم الإقساط، وتسلم مع ذلك عن كثرة الحذف والتقدير، ودونكه:
٣ - قال الله ﷿ أولًا: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ فهذا خطاب للناس جميعًا، فكذلك قوله في الآية الثانية: ﴿وَآتُوا ... وَلَا تَتَبَدَّلُوا ... وَلَا تَأْكُلُوا ...﴾ وكذلك قوله في الثالثة: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا ...﴾ فالناس جميعًا مكلفون بالإقساط إلى اليتامى، كلٌّ بحسبه، فالولي يقسط في معاملة اليتيم، وسائر الناس يأمرونه بذلك، ويحثونه عليه، ويمنعونه من الجور.
وهناك صور يعلم فيها وجه القسط، فأمرها بيِّن.
وهناك صور يشتبه فيها وجه القسط، فيقول الولي: إن فعلت كذا خفت عدم الإقساط، وإن فعلت كذا فكذلك. وهكذا يلتبس الأمر على غيره، فلا يدري بماذا يأمره؟ وعلى ماذا يعينه؟
_________
(^١) مقدمة التفسير في "مجموع الفتاوى" (١٣/ ٣٣٧).
7 / 200
يقول الولي: إن نكحت هذه اليتيمة فلعلِّي لا أقسط لها، ولعلِّي لو أبقيتها تيسَّر لها أجنبي يبذل في صداقها أكثر مما أبذل، ولعلي إذا نكحتها أن لا أحسن معاملتها، وكذلك إذا فكر في إنكاحها ابنه، أو ابن أخيه مثلًا. ثم يقول: ولعلي إذا تركتها لا يرغب فيها أجنبي فتتضرر، وإن رغب فلعله يحتال على مالها فيأكله، ولعله يتمتع بشبابها ثم يجفوها، ويضرّ بها؛ لأنه أجنبي، لا يعطفه عليها إلا جمالها ومالها.
وهكذا يلتبس الأمر على غيره، فلا يدري بماذا يأمره؟
فأرشدهم الله ﷿ إلى أولى الأوجه، وأقربها إلى القسط، وهو تحري الطيب في النكاح، والطيب أن تكون المرأة مع حِلّها للرجل معجِبة له خَلْقًا وخُلُقًا، بحيث يغلب على الظن أنه إذا نكحها عاش معها عيشة طيبة، ولن يكون ذلك حتى يكون معجبًا لها خَلْقًا وخُلُقًا، وحتى تكون راضية بنكاحه رضًا تامًّا، فلن تطيب لمن هي كارهة له، ولن تطيب لمن هواها في غيره.
[ص ٧] ولن تطيب إذا عرض عليها الوليُّ مهرًا دونًا، فتمنعت، فعضلها حتى ألجأها إلى القبول لنكاحه، أو نكاح ابنه، أو ابن أخيه مثلًا.
ومتى تحرَّى الولي وغيره إنكاح اليتيمة مَن تطيب له ذاك الطيب، سواء أكان هو الولي، أم ابنه، أو ابن أخيه، أم أجنبيًا؛ فقد أدوا ما عليهم من رعاية الإقساط، فلا يمنعهم عنه تخوُّف من عدم الإقساط.
ولما كان الطيب بهذا المعنى هو مظنة استقامة النكاح، وائتلاف الزوجين مطلقًا، أي في اليتيمة وغيرها، سيقت الآية هذا المساق ﴿فَانْكِحُوا مَا
7 / 201
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أي لينكح الولي ما طاب له، ولينكح ابنه أو ابن أخيه ما طاب له،
ولينكح كل منكم ما طاب له، وليأمر الناس بعضهم بعضًا بذلك، وليتعاونوا عليه.
وعلم بذلك أنه ينكح اليتيمة من طابت له، سواء أكان هو الولي، أم أحد أقاربه، أم أجنبيًا؛ وأن من نكح امرأة لا تطيب له ذلك الطيب، أو أنكحها من لا تطيب له ذاك الطيب، أو أمر بذلك، أو أعان عليه، فلم يقسط، حتى الأب إذا أنكح ابنته من لا تطيب له ذاك الطيب فلم يقسط إليها، ولا إلى الزوج، ولا إلى نفسه؛ لأن الثلاثة معرضون للإثم، ولما ينشأ عن مثل ذلك النكاح من الخصومة والنكد.
وكذلك من ألجأ ابنه إلى نكاح امرأة لا تطيب له، أو منعه من نكاح امرأة تطيب له، أو ألجأه إلى فراقها، فلم يقسط إلى ابنه، ولا إلى المرأة، ولا إلى نفسه.
وكذلك من أمر، أو أعان على نكاح رجل لامرأة لا تطيب له، أو منعه من نكاح من تطيب له، أو التفريق بينهما، فلم يقسط إلى الرجل، ولا إلى المرأة، ولا إلى نفسه.
فتدبر لو أن المسلمين راعوا هذا الأمر، فكلما وُجد الطيب بادروا إلى النكاح، والأمر به، والإعانة عليه؛ وكلما عُدم الطيب امتنعوا عن النكاح، ومنعوا منه = كيف يكون حالهم؟
هذا، والآخذون بظاهر أحد القولين الأولين يعذرون؛ لما يأتي:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ يا معشر الأولياء ﴿أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ إذا نكحتموهن
7 / 202
﴿فَـ﴾ لا تنكحوهن، و﴿انكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ سواهن.
والمعنى الثالث غني عن تلك التقديرات، وإنما تحتاج إلى تفسير يكشف [ص ٨] المعنى، وبيان أن التعليق منحوٌّ به نحو اللازم، فكأنه قيل: ﴿وَإِنْ﴾ ألبس عليكم سبيل الإقساط إلى اليتامى في قضية نكاحهم فَـ ﴿خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَـ﴾ هذا سبيل الإقساط في ذلك وفي النكاح كله ﴿؟ نكِحُوا ... مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ إلى آخر ما تقدم.
وقوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ يفيد أن الأصل في سبيل الإقساط هو الجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، ومما يوجَّه به ذلك أن الرجل قد يكون عنده المرأة، ثم تطيب له أخرى، فإذا امتنع، أو مُنِع من الجمع فهو بين أمرين:
إما أن يطلِّق الأولى، فيسيء إليها، وإلى أطفالها، وإلى أهلها، وإلى نفسه. ثم لعل النوبة تصل إلى هذه الأخرى، بأن يطلقها إذا طابت له ثالثة.
وإما أن لا ينكح الأخرى، فتبقى بغير زوج، فتتضرر، وقد تسقط أو تضطر إلى نكاح من لا يطيب لها؛ فيكون المانع من نكاحها قد أساء إليها، وإلى أهلها، وإلى الذي تطيب له، وإلى الذي يتزوجها وهي لا تطيب له.
ثم لعل الرجل امتنع من طلاق الأولى وهي لا تغنيه، وإنما أبقاها لأجل أولادها أو غير ذلك، فيحتاج إلى التعرض للفجور، فيفسد بعض النساء، فيسيء بذلك إليهن، وإلى أهلهن، وإلى المجتمع كله، وإلى المرأة التي عنده أيضًا.
7 / 203
والمرأة تحيض، وتحمل، وتنفس، وترضع، وتمرض، وتكبر، وتكون (^١)
عاقرًا، ويغيب عنها الزوج، وغير ذلك مما يجعل الزوج بحاجة إلى غيرها. وقد يكون الرجل قويًّا غنيًّا يمكنه أن يعف ويغني أكثر من واحدة، والإقساطُ تمكينُه من ذلك لينتفع جماعة من النساء، وإن نال بعضهن أوكلا منهن بعض الضرر، فذلك أولى من أن تستبدّ به واحدة [ص ٩] ويحرم غيرها من خيره كله، على أن هذه الواحدة معرضة للضرر، كما مرَّ.
ولا ريب أن المرأة تحب أن تستبد بالرجل، لكن كثيرًا منهن ترى مصلحتها في أن ينكحها فلان، وإن كان عنده غيرها: واحدة أو اثنتان أو ثلاث، ولهذا يمكن الجمع، فإن النكاح مشروط فيه رضا المرأة، ولولا رضا الكثيرات بما ذُكِر لم يمكن الجمع.
ولا ريب أن المرأة تكره غالبًا أن يتزوج عليها زوجها، ولكن لو خُيِّرت بين ذلك، وبين أن يطلقها لاختارت البقاء على ما فيه، والعاقلة منهن إذا كانت تحب زوجها، ورأت أنها لا تحمل، تحبُّ أن ينكح زوجها عليها غيرها، لعل الله يرزقه ولدًا (^٢)، كما أنها إذا رأت أنها لا تغنيه لمرضها أو كبرها، أحبّت أن ينكح غيرها عليها، خوفًا من أن يميل إلى الفجور، فيخرب البيت كله.
وبالجملة، إن المرأة التي ينكحها رجل عنده غيرها، إنما ينكحها برضاها وطيب نفسها، فلا وجه لعدِّ ذلك مخالفًا للإقساط إليها. وأما التي تكون عند الرجل فينكح غيرها، فإذا رأت أن ذلك مخالف للإقساط إليها، فإنها تستطيع أن تسأله الطلاق، فإن أبى شاقَّته، ورفعت الأمر إلى الحاكم،
_________
(^١) في الأصل: "يكون"
(^٢) في الأصل: "ولد".
7 / 204
فيبعث حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها، فتصل إلى الطلاق إن أحبت.
وإن قالت: لا أرضى أن ينكح عليّ، ولا أحبّ فراقه، قيل لها: قد تكون مصلحتك في ذلك، ولكن في المنع من غيره ضرر على غيرك، بل قد يعود الضرر عليك، وعلى أولادك إن كانوا.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ قد تقدم بيان الأصل في "إن"، وفي "الخوف". ولا مانع أن يكون الخطاب على عمومه، أي للأزواج وغيرهم؛ لأن الناس كلهم مأمورون بالإقساط، كما تقدم. والخوف قد يكون من الزوج، أو من الزوجة، أو وليها، أو من غيرهم ممن يتمكن من أمرهم ونهيهم، ومعونتهم. [ص ١١] (^١) ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ إذا لم يعدل الزوج كانت تبعة ذلك عليه، وعلى كل من أمره بالزواج، أو أعانه عليه، أو لم ينهه عنه، إذا علموا أن ذلك الزوج مظنة أن لا يعدل. وكذا من قصّر بعد وقوع الزواج عن أمره بالعدل، ونهيه عن الجور، ومنعه منه، ولكن أصل المدار على عدل الزوج.
[ص ١٢] والعدل على ضربين:
الأول: في الحقوق المالية.
والثاني: في الحبِّ والعشرة.
وكل منهما يطلب من جهة في النساء، بتوفيتهن حقوقهن، وهذا يأتي في حال الجمع، وفي حال الواحدة.
ومن جهة يطلب بين النساء، بأن لا يزيد واحدة، وينقص أخرى مثلًا، وهذا إنما يأتي حال الجمع.
_________
(^١) الصفحة (١٠) مضروب عليها.
7 / 205
وخوف الزوج من أن لا يعدل يقتضي أنه يحب العدل، ويحرص عليه،
ومن كان كذلك فإنما يخاف أن لا يعدل إذا كان يتوقع وجود مانع يمنعه من العدل.
والعادة المستمرة أن ينكح الرجل واحدة، ثم قد يبدو له، فينكح أخرى، وهكذا. فمن كانت عنده واحدة، وفكر في نكاح أخرى، وطابت له، فلماذا يخاف أن لا يعدل؟
لا ريب أنه إذا كان قليل المال، ضعيف الكسب، فإنه يخاف إذا نكح الثانية أن لا يتمكن من الوفاء بالحقوق المالية، بل إما أن يقصر بكل من المرأتين، وإما أن يفي لواحدة، ويقصر بالأخرى، كما أنه إذا كان عزبًا، وأراد أن يتزوج حرّة، وطابت له، فقد يخاف أن لا يتمكن من الوفاء بحقوقها المالية، فينطبق على هذا أن يؤمر بمملوكة، على ما يأتي بيانه.
وقد يأتي نحو هذا فيما يتعلق بالعشرة، وذلك أن يكون الرجل ضعيف الشهوة، يخاف أن لا تفي قوّته بما يرضي امرأتين مثلًا، وقد يشتد ضعفه فيخاف أن لا يفي بما يرضي الواحدة. فحال هذا في حقوق العشرة كحال قليل المال، ضعيف الكسب في الحقوق المالية.
وهل ثمَّ مانعٌ آخر يتصور في الغني القوي؟
[ص ١٣] لا ريب أن من جمع بين امرأتين مثلًا، لا بد أن يميل إلى إحداهما؛ لقول الله ﷿: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ (^١) [النساء: ١٢٩].
_________
(^١) في الأصل: "كالمطلقة"، وهو سبق قلم.
7 / 206
وفسَّر السلف ما لا يستطاع بالحب والجماع، فالحب لا يملك الإنسان التصرف فيه، والجماع ليس في ملكه دائمًا، فقد ينشط مع التي يحبها، ويعيا مع الأخرى.
لكن ذاك العدل الذي لا يستطاع لا يمكن أن يفسَّر به العدل هنا في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾؛ لوجوه:
الأول: أن انتفاء ذاك مجزوم بوقوعه، وانتفاء هذا غير مجزوم بوقوعه؛ لقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ وقد تقدم إيضاح ذلك.
[ص ١٤] الوجه الثاني: أن انتفاء ذاك لا يحتمل في الواحدة، وانتفاء هذا محتمل فيها لدليلين:
أحدهما: قوله: ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ والمعنى على ما قاله ابن جرير وأسنده عن سعيد بن جبير وقتادة والربيع: فإن خفتم ألا تعدلوا في الحرة الواحدة فما ملكت أيمانكم (^١).
وثانيهما: قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ ومعناه ــ كما لا يخفى ــ: "الاقتصار على واحدة حرة أو مملوكة أقرب إلى أن لا تعولوا"، وكونه أقرب فقط يقتضي أن العول فيه، أي في الاقتصار على واحدة حرة أو مملوكة، محتمل. وتفسير العول بكثرة العيال أو بالافتقار ظاهر في أن العدل في الآية هو الوفاء بالحقوق المالية.
_________
(^١) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر ٧/ ٥٣٧، ٥٣٩) قول قتادة برقم ٨٤٦٨، وقول الربيع برقم ٨٤٧٤. أما سعيد بن جبير (٨٤٦٩ - ٨٤٧١) فلم يقل بذلك.
7 / 207
وتفسيره بالجور قابل لذلك، أو يصدق على ترك الوفاء للواحدة بحقوقها أنه جور عليها. وكذلك تفسيره بالميل إذا أريد به الميل عن الاستقامة. فأما إذا أريد الميل عن بعضهن إلى غيرها، فهو مردود بما تراه.
الوجه الثالث: أن في أول الآية الترغيب في الجمع؛ لأن أصل صيغة الأمر للوجوب، لكن لا قائل ــ فيما أعلم ــ بوجوب الجمع، فعلى الأقل يكون للترغيب؛ إذ هو أقرب إلى الوجوب الذي هو الأصل، من الإباحة؛ لأن السياق يدل على [أن] قوله: ﴿فَانْكِحُوا﴾ بيان سبيل الإقساط، والإقساط واجب، فأقل الحال في سبيله أن يكون مرغبًا فيه.
وفي قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا﴾ الآية إقرار الناس على الجمع، مع بيان عدم استطاعتهم لذلك العدل، ووجود الميل الشديد منهم، وإنما نهوا فيها عن الميل كل الميل.
وفي الآية التي قبلها إرشاد المرأة إلى ملاطفة الزوج، بأن تدع له بعض حقها. وفي الآية التي بعدها: إرشاد المرأة التي لا تصبر على الميل إلى سؤالها الطلاق.
في ذلك كله [ص ١٥] تأكيد لإقرار الجمع، وأقر الله ﷿ ورسوله كثيرًا من الصحابة على الجمع، وشرعت لذلك عدة أحكام، ومضت الأمة على ذلك إلى اليوم.
وفي بعض هذا ــ فضلًا عن كلّه ــ ما يمنع من حمل قوله: ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ على ما يناقض ذلك ما دام غيره محتملًا، بل هو الظاهر البين، بل المتعين.
فالعدل في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ هو العدل الذي يستطيعه
7 / 208
الغني القوي، وقد يعجز عنه الفقير أو الضعيف، ويأتي في الجمع، وفي الواحدة، وهو الوفاء بالحقوق الواجبة.
والعدل في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: ١٢٩] هو العدل الذي لا يستطيعه أحد، وهو التسوية بين النساء في الحب والجماع، وإنما يأتي في حال الجمع.
7 / 209