Tafsir Al-Shaarawi

El Shaarawy d. 1418 AH
58

Tafsir Al-Shaarawi

تفسير الشعراوي

Türler

ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين

[الحجر: 47]. فمقاييس الدنيا ستختفي، وكل شيء تكرهه في الدنيا لن تجده في الآخرة، فإذا كان أي شيء قد نغص حياتك في الدنيا فإنه سيختفي في الآخرة، والحق تبارك وتعالى ضرب المثل بالزوجات، لأن الزوجة هي متعة زوجها في الدنيا، وهي التي تستطيع أن تحيل حياته إلى نعيم أو جحيم. وقوله تعالى: { وهم فيها خالدون } [البقرة: 25].. أي لا موت في الآخرة، ولن يكون في الآخرة وجود للموت أبدا، وإنما فيها الخلود الدائم إما في الجنة وإما في النار.

[2.26]

بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن الجنة، وأعطانا مثلا يقرب لنا صور النعيم الهائلة التي سينعم بها الإنسان في الجنة.. أراد أن يوضح لنا المنهج الإيماني الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن.. ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف كافرا بعبادته.. ولكن الإنسان الذي ارتضى دخول الإيمان بالله جل جلاله قد دخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى.. وما دام قد دخل العقد الإيماني فإنه يتلقى عن الله منهجه في " افعل، ولا تفعل ".. وهذا المنهج عليه أن يطبقه دون أن يتساءل عن الحكمة في كل شيء.. ذلك أن الإيمان هو إيمان بالغيب.. فإذا كان الشيء نفسه غائبا عنا فكيف نريد أن نعرف حكمته. إن حكمة أي تكليف إيماني هي: أنه صادر من الله سبحانه وتعالى، وما دام صادرا من الله فهو لم يصدر من مساو لك كي تناقشه، ولكنه صادر من إله وجبت عليك له الطاعة لأنه إله وأنت له عابد.. فيكفي أن الله سبحانه وتعالى قال افعل حتى نفعل، ويكفي أنه قال لا تفعل حتى لا نفعل. الحكمة غائبة عنك، ولكن صدور الأمر من الله هو الحكمة، وهو الموجب للطاعة. فأنا أصلي لأن الله فرض الصلاة، ولا أصلي كنوع من الرياضة، وأنا أتوضأ لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بالوضوء قبل الصلاة، ولكنني لا أتوضأ كنوع من النظافة، وأنا أصوم لأن الله أمرني بالصوم، ولا أصوم حتى أشعر بجوع الفقير.. لأنه لو كانت الصلاة رياضة لاستبدلناها بالرياضة في الملاعب.. ولو أن الوضوء كان نظافة لقمنا بالاستحمام قبل كل صلاة، ولو أن الصوم كان لنشعر بالجوع ما وجب على الفقير أن يصوم لأنه يعرف معنى الجوع. إذن فكل تكاليف من الله نفعلها لأن الله شرعها ولا نفعلها لأي شيء آخر، وكل ما يأتينا من الله من قرآن نستقبله على أنه كلام الله، ولا نستقبله بأي صيغة أخرى.. ذلك هو الإيمان الذي يريد الله منا أن نتمسك به، وأن يكون هو سلوك حياتنا. تلك مقدمة كان لابد منها إذا أردنا أن نعرف معنى الآية الكريمة: { إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. } [البقرة: 26] وعندما ضرب الله مثلا بالبعوضة.. استقبله الكفار بالمعنى الدنيوي دون أن يفطنوا للمعنى الحقيقي.. قالوا: كيف يضرب الله مثلا بالبعوضة، ذلك المخلوق الضعيف الذي يكفي أن تضربه بأي شيء أو بكفك فيموت؟. لماذا لم يضرب الله تبارك وتعالى مثلا بالفيل الذي هو ضخم الجثة شديدة القوة.. أو بالأسد الذي هو أقوى من الإنسان.

وضرب لنا مثلا بالبعوضة فقالوا: { ماذآ أراد الله بهذا مثلا.. } [البقرة: 26].. ولم يفطنوا إلى أن هذه البعوضة دقيقة الحجم خلقها معجزة.. لأن في هذا الحجم الدقيق وضع الله سبحانه وتعالى كل الأجهزة اللازمة لها في حياتها.. فلها عينان ولها خرطوم دقيق جدا ولكنه يستطيع أن يخرق جلد الإنسان، ويخرق الأوعية الدموية التي تحت الجلد ليمتص دم الإنسان. والبعوضة لها أرجل، ولها أجنحة، ولها دورة تناسلية، ولها كل ما يلزم لحياتها.. كل هذا في هذا الحجم الدقيق.. كلما دق الشيء احتاج إلى دقة خلق أكبر. ونحن نشاهد في حياتنا البشرية أنه مثلا عندما اخترع الإنسان الساعة.. كان حجمها ضخما جدا لدرجة أنها تحتاج إلى مكان كبير، وكلما تقدمت الحضارة وارتقى الإنسان في صناعته وحضارته وتقدمه، أصبح الحجم دقيقا وصغيرا، وهكذا أخذت صناعة الساعات تدق.. حتى أصبح من الممكن صنع ساعة في حجم الخاتم أو أقل، وعندما بدأ اختراع المذياع الراديو كان حجمه كبيرا، والآن أصبح في غاية الدقة لدرجة أنك تستطيع أن تضعه في جيبك أو أقل من ذلك، وفي كل الصناعات عندما ترتقي.. يصغر حجمها لأن ذلك محتاج إلى صناعة ماهرة وإلى تقدم علمي. وهكذا حين ضرب الله مثلا بالبعوضة وما فوقها.. أي: بما هو أقل منها حجما، فإنه تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى دقة الخلق، فكلما لطف الشيء وصغر حجمه احتاج إلى دقة الخلق، ولكن الكفار لم يأخذوا المعنى على هذا النحو، وإنما أخذوه بالمعنى الدنيوي البسيط الذي لا يمثل الحقيقة. فالله سبحانه وتعالى حينما ضرب هذا المثل.. استقبله المؤمنون بأنه كلام الله، واستقبلوه بمنطق الإيمان بالله، فصدقوا به سواء فهموه أم لم يفهموه.. لأن المؤمن يصدق كل ما يجيء من عند الله سواء علم الحكمة أو لم يعلمها، واقرأ قوله تبارك وتعالى:

ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

[الأعراف: 52-53]. إن كل مصدق بالقرآن لا يطلب تأويله أو الحكمة في آياته، ولذلك قال الكافرون: { ماذآ أراد الله بهذا مثلا.. } [البقرة: 26] ويأتي رد الحق تبارك وتعالى: { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين } [البقرة: 26]. ومن هم الفاسقون؟.. هم الذين ينقضون عهد الله.. أول شيء في الفسق أن ينقض الفاسق عهده، ويقال فسقت الرطبة أي: بعدت القشرة عن التمرة.. فعندما تكون التمرة أو البلحة حمراء تكون القشرة ملتصقة بالتمرة بحيث لا تستطيع أن تنزعها منها، فإذا أصبحت التمرة أو البلحة رطبة تسود قشرتها وتبتعد عن الثمرة بحيث تستطيع أن تنزعها عنها بسهولة.

. هذا هو الفاسق المبتعد عن منهج الله، ينسلخ عنه بسهولة ويسر، لأنه غير ملتصق به، وعندما تبتعد عن منهج الله فإنك لا ترتبط بأوامره ونواهيه.. فلا تؤدي الصلاة مثلا وتفعل ما نهى الله عنه لأنك فسقت عن دينه. والذي أوجد الفسق هو أن الإنسان خلق مختارا، قادرا على أن يفعل أو لا يفعل، وبهذا الاختيار أفسد الإنسان نظام الكون.. فكل شيء ليس للإنسان اختيار فيه تراه يؤدي مهمته بدقة عالية كالشمس والقمر والنجوم والأرض.. كلها تتبع نظاما دقيقا لا يختل لأنها مقهورة، ولو أن الإنسان لم يخلق مختارا.. لكان من المستحيل أن يفسق، وأن يبتعد عن منهج الله ويفسد في الأرض، ولكن هذا الاختيار هو أساس الفساد كله.

[2.27]

بعد أن بين الله لنا مفهوم الإيمان في أننا نتلقى عن الله وننفذ الحكم ولو لم نعرف الحكمة. فكل ما يأتي من الله نأخذه بمنطق الإيمان، وهو أن الله الذي قال، وليس بمنطق الكفر والتشكك. فكل شيء عن الله، حكمته أنه صادر عن الحق سبحانه وتعالى. وأخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الفاسقين هم المبتعدون عن منهج الله، وأراد الحق أن يبين لنا صفات الفاسقين، فحددها في ثلاث صفات: أولا: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. ثانيا: الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل. ثالثا: الذين يفسدون في الأرض. ثم حدد لنا الحق تبارك وتعالى حكمهم فقال: { أولئك هم الخاسرون } [البقرة: 27]. والخسران الذي وصلوا إليه هو من عملهم، لأنهم تركوا المنهج وبدأوا يشرعون لأنفسهم بهوى النفس ولذلك يقول الحق جل جلاله عنهم:

Bilinmeyen sayfa