240

والآية هي قول الحق:

واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة واعلموا أن الله شديد العقاب

[الأنفال: 25]. ويقول شيخنا " حسنين مخلوف " مفتي الديار المصرية الأسبق في شرح هذه الآية: أي احذروا ابتلاء الله في محن قد تنزل بكم، تعم المسيء وغيرهم، كالبلاء والقحط والغلاء، وتسلط الجبابرة وغير ذلك، والمراد تحذير من الذنوب التي هي أسباب الابتلاء، كإقرار المنكرات والبدع والرضا بها، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة في الحق، وتعطيل الحدود، وفشو المعاصي، ونحو ذلك. وفيما رواه البخاري: عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" " ويل للعرب من شر قد اقترب.. " فقيل له: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث ".

إذن فلا يعتقد مسلم أنه غير مسئول عن الفساد الذي يستشري في المجتمع، بل عليه أن يحذر وأن ينبه. ولذلك نجد أن حكمة الحق قد فرضت الدية على العاقلة، أي على أهل القاتل، لأنهم قد يرون هذا القاتل وهو يمارس الفساد ابتداء، فلم يردعه أحد منهم، لكنهم لو ضربوا على يده من البداية لما جاءهم الغرم بدفع الدية، لذلك فعندما تسمع قول الله عز وجل: { فمن خاف من موص جنفا } [البقرة: 182] إياك أن تقول: لا شأن لي بهذا الأمر لا، إن الأمر يخصك وعليك أن تحاول الإصلاح بين الموصى له، وبين الورثة. وقوله الحق: { فلا إثم عليه } [البقرة: 182] يعني عدم إدخاله في دائرة الذين يبدلون القول والتي تناولناها بالخواطر قبل هذه الآية، بل لك ثواب على تدخلك فأنت لم تبدل حقا بباطل، بل تزحزح باطلا لتؤسس حقا، وبذلك ترطب قلب الوارث على ما نقص منه، وتقيم ميزان العدل بالنصيحة، وتسخي نفسه ليقبل الوصية بعد تعديلها بما يرضي شريعة الله. إن الله يريد إقامة ميزان العدل وأن يتأكد الاستطراق الصفائي بين المؤمنين فلا تورث الوصية شرورا. ويقول الحق بعد ذلك: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين... }.

[2.183]

والحق سبحانه يبدأ هذه الآية الكريمة بترقيق الحكم الصادر بالتكليف القادم وهو الصيام فكأنه يقول: " يا من آمنتم بي وأحببتموني لقد كتبت عليكم الصيام ". وعندما يأتي الحكم ممن آمنت به فأنت تثق أنه يخصك بتكليف تأتي منه فائدة لك. واضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - هب أنك تخاطب ابنك في أمر فيه مشقة، لكن نتائجه مفيدة، فأنت لا تقول له: " يا ابني افعل كذا " لكنك تقول له: " يا بني افعل كذا " وكأنك تقول له: " يا صغيري لا تأخذ العمل الذي أكلفك به بما فيه من مشقة بمقاييس عقلك غير الناضج، ولكن خذ هذا التكليف بمقاييس عقل وتجربة والدك ". والمؤمنون يأخذون خطاب الحق لهم { يأيها الذين آمنوا } بمقياس المحبة لكل ما يأتي منه سبحانه من تكليف حتى وإن كان فيه مشقة، والمؤمنون بقبولهم للإيمان إنما يكونون مع الحق في التعاقد الإيماني، وهو سبحانه لم يكتب الصيام على من لا يؤمن به لأنه لا يدخل في دائرة التعاقد الإيماني وسيلقى سعيرا. والصيام هو لون من الإمساك لأن معنى " صام " هو " أمسك " والحق يقول:

فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا

[مريم: 26]. وهذا إمساك عن الكلام. إذن فالصوم معناه الإمساك، لكن الصوم التشريعي يعني الصوم عن شهوتي البطن والفرج من الفجر وحتى الغروب. ومبدأ الصوم لا يختلف من زمن إلى آخر، فقد كان الصيام الركن التعبدي موجودا في الديانات السابقة على الإسلام، لكنه كان إما إمساكا مطلقا عن الطعام. وإما إمساكا عن ألوان معينة من الطعام كصيام النصارى، فالصيام إذن هو منهج لتربية الإنسان في الأديان، وإن اختلفت الأيام عددا، وإن اختلفت كيفية الصوم ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: { لعلكم تتقون } [البقرة: 183]. ونعرف أن معنى التقوى هو أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية، وأن نتقي بطش الله، ونتقي النار وهي من آثار صفات الجلال. وقوله الحق: { لعلكم تتقون } [البقرة: 183] أي أن نهذب ونشذب سلوكنا فنبتعد عن المعاصي، والمعاصي في النفس إنما تنشأ من شره ماديتها إلى أمر ما. والصيام كما نعلم يضعف شرة المادية وحدتها وتسلطها في الجسد، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم للشباب المراهق وغيره:

" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ".

Bilinmeyen sayfa