Tafsir Al-Shaarawi
تفسير الشعراوي
Türler
فالتفت إليه أبو عزيز وقال: يا أخي أهذه وصاتك بأخيك؟ قال مصعب: لا لست أخي وإنما أخي هذا. وأشار إلى أبي اليسر. لقد انتهى نسب الدم وأصبح نسب الإيمان هو الأصل، وأصبح مصعب أخا لأبي اليسر في الإيمان، وانقطعت صلته بشقيقه في النسب لأنه ظل مشركا. وقوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء } [البقرة: 178] كأنه يحث ولي الدم على أن يعفو ولا ينسى أخوة الإيمان. صحيح أنه ولي للمقتول لأنه من لحمته ونسبه، ولكن الله أراد أن يجعل أخوة الإيمان فوق أخوة الدم. { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف } [البقرة: 178]. وقد أورد الحق الأخوة هنا لترقيق المشاعر، لينبه أهل القاتل والقتيل معا أن القتل لا يعني أن الأخوة الإيمانية انتهت، لا. إن على المؤمنين أن يضعوا في اعتبارهم أن أخوة الإيمان قد تفتر رابطتها. وحين يتذكر أولياء الدم أخوة الإيمان، فإن العفو يصبح قريبا من نفوسهم. ولنا أن نلاحظ أن الحق يرفعنا إلى مراتب التسامي، فيذكرنا أن عفو واحد من أولياء الدم يقتضي أن تسود قضية العفو، فلا يقتل القاتل. وبعد ذلك لننظر إلى دقة الحق في تصفية غضب القلوب حين يضع الدية مكان القصاص بالقتل. إن الدية التي سيأخذها أولياء الدم من القاتل قد تكون مؤجلة الأداء، فقد يقدر القاتل أو أهله على الأداء العاجل، لذلك فعلى الذي يتحمل الدية أن يؤديها، وعلى أهل القتيل أن يتقبلوا ذلك بالمعروف، وأن تؤدي الدية من أهل القاتل أو من القاتل نفسه بإحسان. وقوله الحق: { عفي له من أخيه شيء } [البقرة: 178]، " شيء " ، تدل على أن أولياء المقتول إن عفا واحد منهم فهو عفو بشيء واحد، وليس له أن يقتص بعد ذلك، وتنتهي المسألة ويحقن الدم، ولم يرد الله أن يضع نصا بتحريم القصاص، ولكن أراد أن يعطي ولي الدم الحق في أن يقتل، وحين يصبح له الحق في أن يقتل فقد أصبحت المسألة في يده، فإن عفا، تصبح حياة القاتل ثمرة من ثمرات إحسانه، وإن عاش القاتل، لا يترك هذا في نفس صاحب الدم بغضاء ، بل إن القاتل سيتحبب إليه لأنه أحسن إليه ووهبه حياته. لكن لو ظل النص على قصاص أهل القتيل من القاتل فقط ولم يتعده إلى العفو لظلت العقدة في القلب. والثارات الموجودة في المجتمعات المعاصرة سببها أننا لم نمكن ولي الدم من القاتل، بدليل أنه إذا ما قدر قاتل على نفسه وذهب إلى أهل القتيل ودخل عليهم بيتهم، وبالغ في طلب العفو منهم، وأخذ كفنه معه وقال لهم: جئتكم لتقتصوا مني، وهذا كفني معي فاصنعوا بي ما شئتم، لم يحدث قط أن أهل قتيل غدروا بقاتل، بل المألوف والمعتاد أن يعفوا عنه، لماذا؟ لأنهم تمكنوا منه وأصبحت حياته بين أيديهم، وفي العادة تنقلب العداوة إلى مودة.
فيظل القاتل مدينا بحياته للذين عفوا عنه. والذين يعرفون ذلك من أبناء القاتل يرون أن حياة أبيهم هبة وهبها لهم أولياء القتيل وأقرباؤه، يرون أن عفو أهل القتيل هو الذي نجا حياة قريبهم، وهكذا تتسع الدائرة، وتنقلب المسألة من عداوة إلى ود.
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم
[فصلت: 34]. ولو لم يشرع الله القصاص لأصبحت المسألة فوضى. لكنه يشرعه، ثم يتلطف ليجعل أمر إنهاء القصاص فضلا من ولي الدم ويحببه لنا ويقول: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان } [البقرة: 178]. وهل من المعقول أن تكون الدية إحسانا؟ لتتذكر أن القائل هنا هو الله، وكلامه قرآن، والدقة في القرآن بلا حدود. إن الحق ينبه إلى أن أولياء الدم إذا ما قبلوا الدية فمعنى ذلك أن أهل القتيل قد أسقطوا القصاص عن القاتل وأنهم وهبوه حق الحياة، لذلك فإن هذا الأمر يجب أن يرد بتحية أو مكرمة أحسن منه. كأن الحق لا يريد من أولياء الدم أن يرهقوا القاتل أو أهله في الاقتضاء، كما يريد أن يؤدي القاتل أو أهله الدية بأسلوب يرتفع إلى مرتبة العفو الذي ناله القاتل. وفي ذلك الأمر تخفيف عما جاء بالتوراة ففي التوراة لم تكن هناك دية يفتدي القاتل بها نفسه، بل كان القصاص في التوراة بأسلوب واحد هو قتل إنسان مقابل إنسان آخر. وفي الإنجيل لا دية ولا قتل: لأن هناك مبدأ أراد أن يتسامى به أتباع عيسى عليه السلام على اليهود الذين انغمسوا في المادية. لقد جاء عيسى عليه السلام رسولا إلى بني إسرائيل لعله يستل من قلوبهم المادية، فجاء بمبدأ: " من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر ". ولكن الإسلام قد جاء دينا عاما جامعا شاملا، فيثير في النفس التسامي، ويضع الحقوق في نصابها، فأبقى القصاص، وترك للفضل مجالا. لذلك يقول الحق عن الدية: { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } [البقرة: 178]. وما وجه الاعتداء بعد تقرير الدية والعفو؟ كان بعض من أهل القبائل إذا قتل منهم واحد يشيعون أنهم عفوا وصفحوا وقبلوا الدية حتى إذا خرج القاتل من مخبئه مطمئنا، عندئذ يقتلونه. والحق يقرر أن هذا الأمر هو اعتداء، ومن يعتدي بعد أن يسقط حق القتل ويأخذ الدية فله عذاب أليم. وحكم الله هنا في العذاب الأليم، نفهمه على أن المعتدي بقتل من أعلن العفو عنه لا يقبل منه دية ويستحق القتل عقابا، ولا يرفع الله عنه عذاب الدنيا أو الآخرة. إن الحق يرفع العقاب والعذاب عن القاتل إذا قبل القصاص ونفذ فيه، أو إذا عفي عنه إلى الدية وأداها. ولكن الحق لا يقبل سوى استخدام الفرص التي أعطاها الحق للخلق ليرتفعوا في علاقاتهم. إن الحق لا يقبل أن يتستر أهل قتيل وراء العفو، ليقتلوا القاتل بعد أن أعلنوا العفو عنه فذلك عبث بما أراده الحق منهجا بين العباد. ولذلك يقول الحق: { ولكم في القصاص حياة... }.
[2.179]
وهنا نلاحظ أن النسق القرآني يأتي مرة فيقول:
يأيها الذين آمنوا كتب عليكم
[البقرة: 178]. ويأتي هنا ليقول النسق القرآني: { ولكم في القصاص } [البقرة: 179]. التشريع الدقيق المحكم يأتي بواجبات وبحقوق فلا واجب بغير حق، ولا حق بغير واجب، وحتى نعرف سمو التشريع مطلوب من كل مؤمن أن ينظر إلى ما يجب عليه من تكاليف، ويقرنه بما له من حقوق، ولسوف يكتشف المؤمن أنه في ضوء منهج الله قد نال مطلق العدالة. إن المشرع هو الله، وهو رب الناس جميعا، ولذلك فلا يوجد واحد من المؤمنين أولى بالله من المؤمنين الآخرين. إن التكليف الإيماني يمنع الظلم، ويعيد الحق، ويحمي ويصون للإنسان المال والعرض. ومن عادة الإنسان أن يجادل في حقوقه ويريدها كاملة، ويحاول أن يقلل من واجباته، ولكن الإنسان المؤمن هو الذي يعطي الواجب تماما فينال حقوقه تامة، ولذلك يقول الحق: { ولكم في القصاص حياة يأولي الألباب لعلكم تتقون } [البقرة: 179]. إن القصاص مكتوب على القاتل والمقتول وولي الدم. فإذا علم القاتل أن الله قد قرر القصاص فإن هذا يفرض عليه أن يسلم نفسه، وعلى أهله ألا يخفوه بعيدا عن أعين الناس لأن القاتل عليه أن يتحمل مسئولية ما فعل، وحين يجد القاتل نفسه محوطا بمجتمع مؤمن يرفض القتل فإنه يرتدع ولا يقتل، إذن ففي القصاص حياة لأن الذي يرغب في أن يقتل يمكنه أن يرتدع عندما يعرف أن هناك من سيقتص منه، وأن هناك من لا يقبل المداراة عليه. ونأتي بعد ذلك للذين يتشدقون ويقولون: إن القصاص وحشية وإهدار لآدمية الإنسان، ونسألهم: لماذا أخذتكم الغيرة لأن إنسانا يقتص منه بحق وقد قتل غيره بالباطل؟ ما الذي يحزنك عليه. إن العقوبة حين شرعها الله لم يشرعها لتقع، وإنما شرعها لتمنع. ونحن حين نقتص من القاتل نحمي سائر أفراد المجتمع من أن يوجد بينهم قاتل لا يحترم حياة الآخرين، وفي الوقت نفسه نحمي هذا الفوضوي من نفسه لأنه سيفكر ألف مرة قبل أن يرتكب جريمة. إذن فالقصاص من القاتل عبرة لغيره، وحماية لسائر أفراد المجتمع ولذلك يقول الحق سبحانه: { ولكم في القصاص حياة } [البقرة: 179]. إن الحق يريد أن يحذرنا أن تأخذنا الأريحية الكاذبة، والإنسانية الرعناء، والعطف الأحمق، فنقول: نمنع القصاص. كيف نغضب لمعاقبة قاتل بحق، ولا نتحرك لمقتل بريء؟ إن الحق حين يشرع القصاص كأنه يقول: إياك أن تقتل أحدا لأنك ستقتل إن قتلته، وفي ذلك عصمة لنفوس الناس من القتل . إن في تشريع القصاص استبقاء لحياتكم لأنكم حين تعرفون أنكم عندما تقتلون بريئا وستقتلون بفعلكم فسوف تمنعون عن القتل، فكأنكم حقنتم دماءكم. وذلك هو التشريع العالي العادل.
وفي القصاص حياة لأن كل واحد عليه القصاص، وكل واحد له القصاص، إنه التشريع الذي يخاطب أصحاب العقول وأولي الألباب الذين يعرفون الجوهر المراد من الأشياء والأحكام، أما غير أولي الألباب فهم الذين يجادلون في الأمور دون أن يعرفوا الجوهر منها، فلولا القصاص لما ارتدع أحد، ولولا القصاص لغرقت البشرية في الوحشية. إن الحكمة من تقنين العقوبة ألا تقع الجريمة وبذلك يمكن أن تتوارى الجريمة مع العقوبة ويتوازن الحق مع الواجب. إن المتدبر لأمر الكون يجد أن التوازن في هذه الدنيا على سبيل المثال في السنوات الماضية يأتي من وجود قوتين عظميين كلتاهما تخشى الأخرى وكلتاهما تختلف مع الأخرى، وفي هذا الاختلاف حياة لغيرهما من الشعوب، لأنهما لو اتفقتا على الباطل لتهدمت أركان دولتيهما، وكان في ذلك دمار العالم، واستعباد لبقية الشعوب. وإذا كان كل نظام من نظم العالم يحمل للآخر الحقد والكراهية والبغضاء ويريد أن يسيطر بنظامه لكنه يخشى قوة النظام الآخر، لهذا نجد في ذلك الخوف المتبادل حماية لحياة الآخرين، وفرصة للمؤمنين أن يأخذوا بأسباب الرقي العلمي ليقدموا للدنيا أسلوبا لائقا بحياة الإنسان على الأرض في ضوء منهج الله. وعندما حدث اندثار لقوة من القوتين هي الاتحاد السوفيتي، فإن الولايات المتحدة تبحث الآن عن نقيض لها لأنها تعلم أن الحياة دون نقيض في مستوى قوتها، قد يجرىء الصغار عليها. إن الخوف من العقوبة هو الذي يصنع التوازن بين معسكرات العالم، والخوف من العقوبة هو الذي يصنع التوازن في الأفراد أيضا. إن عدل الرحمن هو الذي فرض علينا أن نتعامل مع الجريمة بالعقاب عليها وأن يشاهد هذا العقاب آخرون ليرتدعوا. فها هو ذا الحق في جريمة الزنى على سبيل المثال يؤكد ضرورة أن يشاهد العقاب طائفة من الناس ليرتدعوا. إن التشديد مطلوب في التحري الدقيق في أمر حدوث الزنى لأن عدم دقة التحري يصيب الناس بالقلق ويسبب ارتباكا وشكا في الأنساب، والتشديد جاء أيضا في العقوبة في قول الحق:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين
Bilinmeyen sayfa