Tafsir Al-Shaarawi
تفسير الشعراوي
Türler
[البقرة: 124].. كان يتحدث عن قيم المنهج التي لا تعطى إلا للمؤمن، ولكن الرزق يعطى للمؤمن والكافر.. لذلك قال الله سبحانه: { ومن كفر } [البقرة: 126].. وفي هذا تصحيح مفاهيم بالنسبة لإبراهيم ليعرف أن كل من استدعاه الله تعالى للحياة له رزقه مؤمنا كان أو كافرا. والخير في الدنيا على الشيوع.. فما دام الله قد استدعاك فإنه ضمن لك رزقك. إن الله لم يقل للشمس أشرقي على أرض المؤمن فقط، ولم يقل للهواء لا يتنفسك ظالم، وإنما أعطى نعمة استبقاء الحياة واستمرارها لكل من خلق آمن أو كفر.. ولكن من كفر قال عنه الله سبحانه وتعالى: { ومن كفر فأمتعه قليلا } [البقرة: 126].. التمتع هو شيء يحبه الإنسان ويتمنى دوامه وتكراره. وقوله تعالى: { فأمتعه } [البقرة: 126] دليل على دوام متعته، أي له المتعة في الدنيا. ولكل نعمة متعة، فالطعام له متعة، والشراب له متعة، والجنس له متعة.. إذن التمتع في الدنيا بأشياء متعددة.. ولكن الله تبارك وتعالى وصفه بأنه قليل.. لأن المتعة في الدنيا مهما بلغت وتعددت ألوانها فهي قليلة. واقرأ قوله تعالى: { ثم أضطره إلى عذاب النار.. } [البقرة: 126].. ومعنى أضطره أنه لا اختيار له في الآخرة، فكأن الإنسان له اختيار في الحياة الدنيا، يأخذ هذا ويترك هذا ولكن في الآخرة ليس له اختيار.. فلا يستطيع وهو من أهل النار - مثلا - أن يختار الجنة، بل إن أعضاءه المسخرة لخدمته في الحياة الدنيا والتي يأمرها بالمعصية فتفعل، فهو في الآخر لا ولاية له عليها.. وهذا معنى قوله سبحانه:
يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
[النور: 24]. أي أن الجوارح - التي كانت تطيع الكافر في المعاصي في الدنيا - لا تطيعه يوم القيامة فاللسان الذي كان ينطق كلمة الكفر - والعياذ بالله - يأتي يوم القيامة يشهد على صاحبه.. والقدم التي كانت تمشي إلى أماكن الخمر واللهو والفسوق تشهد على صاحبها، واليد التي كانت تقتل وتسرق تشهد على صاحبها. وقوله: " أضطره " معناها أن الإنسان يفقد اختياره في الآخرة، ثم ينتهي إلى النار وإلى العذاب الشديد مصداقا لقوله تعالى: { ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } [البقرة: 126].. أي أن الله سبحانه وتعالى يحذر الكافرين بأن لهم النار والعذاب في الآخرة ليس على اختيار منهم ولكن وهم مقهورون.
[2.127]
يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم اذكر عندما كان إبراهيم يرفع القواعد من البيت.. وجاءت { يرفع } [البقرة: 127] هنا فعلا مضارعا لتصوير الحدث الآن وفي المستقبل. ولكن هل يرفع إبراهيم القواعد من البيت الآن؟ أم أنه رفع وانتهى؟ طبعا هو رفع وانتهى، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يستحضر حالة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت.. والله يريد من المؤمنين أن يتصوروا عملية الرفع، فلم يكن إبراهيم يملك سلما حتى يرفعه ويقف فوقه، ولم يكن يملك " سقالة ".. ولكن غياب هذه النعم لم يمنع إبراهيم من أن يتحايل ويأتي بالحجر. إن الله يريد منا ألا ننسى هذه العملية، وإبراهيم وابنه إسماعيل يذهبان للبحث عن حجر، ولابد أن يكون الحجر خفيف الوزن ليستطيعا أن يحملاه إلى مكان البناء.. ثم يقف إبراهيم على الحجر وإسماعيل يناوله الأحجار الأخرى التي سيتم بها رفع القواعد من البيت. ورغم المشقة التي يتحملها الاثنان.. هما سعيدان.. وكل ما يطلبانه من الله هو أن يتقبل منهما.. والقبول والمقابلة والاستقبال كلها من مادة مواجهة.. أي أنهما يسألان الله في موقف المعرض عن عمله، إنهما لا يريدان إلا الثواب: { تقبل منآ } [البقرة: 127] أي أعطنا الثواب عما نعمله لأجلك وتنفيذا لأمرك. وقوله تعالى: { إنك أنت السميع العليم } [البقرة: 127].. أي أنت يا رب السميع الذي تسمع دعاءنا وتسمع ما نقول.. " والعليم ".. العليم بنيتنا ومدى إخلاصنا لك.. وإننا نفعل هذا العمل ابتغاء لوجهك ولا نقصد غيرك.. ذلك أن الأعمال بالنيات، وقد يعمل رجلان عملا واحدا. أحدهما يثاب لأنه يعمله إرضاء لله وتقربا منه والآخر لا يثاب لأنه يفعله من أجل الدنيا. والله سبحانه وتعالى عليم بالنية. فإن كان العمل خالصا لله تقبله، وإذا لم يكن خالصا لوجهه لا يتقبله.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه "
إذن فالعمل إن لم يكن خالصا لله فلا ثواب عليه.
[2.128]
هناك فرق بين أن تكلف بشيء فتفعله بحب، وأن تفعل شكلية التكليف وتخرج من عملك خروج الذي ألقى عن كاهله عبء التكليف.. في هذه الآية الكريمة دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل، وكانا يقولان يا رب أنت أمرتنا أن نرفع القواعد من البيت وقد فعلنا ما أمرتنا .. وليس معنى ذلك أننا اكتفينا بتكليفك لنا لأننا نريد أن نذوق حلاوة التكليف منك مرات ومرات.. { ربنا واجعلنا مسلمين لك } [البقرة: 128] نسلم كل أمورنا إليك. إن الإنسان لا يمكن أن ينتهي من تكليف ليطلب تكليفا غيره إلا إذا كان قد عشق حلاوة التكليف ووجد فيه استمتاعا.. ولا يجد الإنسان استمتاعا في التكليف إلا إذا استحضر الجزاء عليه.. كلما عمل شيئا استحضر النعيم الذي ينتظره على هذا العمل فطلب المزيد. إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بمجرد أن فرغا من رفع القواعد من البيت قالا: { ربنا واجعلنا مسلمين لك } [البقرة: 128] ولم يكتفيا بذلك بل أرادا امتداد حلاوة التكليف إلى ذريتهما من بعدهما.. فيقولان: { ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك } [البقرة: 128].. ليتصل أمد منهج الله في الأرض ويستمر التكليف من ذرية إلى ذرية إلى يوم القيامة.. ثم يقولان: { وأرنا مناسكنا } [البقرة: 128].. أي بين لنا يا رب ما تريده منا.. بين لنا كيف نعبدك وكيف نتقرب إليك.. والمناسك هي الأمور التي يريد الله سبحانه وتعالى أن نعبده بها. وقوله: { وأرنا مناسكنا } [البقرة: 128] ترينا أن إبراهيم يرغب في فتح أبواب التكليف على نفسه، لأنه لا يرى في كل تكليف إلا تطهيرا للنفس وخيرا للذرية ونعيما في الآخرة.. ولذلك يقول كما يروي لنا الحق: { وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم } [البقرة: 128].. وتب علينا ليس ضروريا أن نفهمها على أنها توبة من المعصية.. وأن إبراهيم وإسماعيل وقعا في المعصية فيريدان التوبة إلى الله.. وإنما لأنهما علما أن من سيأتي بعدهما سيقع في الذنب فطلبا التوبة لذريتهما.. ومن أين علما؟ عندما قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم:
ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
Bilinmeyen sayfa