Tafsir al-Qur'an al-Karim wa I'rabuhu wa Bayanuhu - al-Durra
تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
Türler
كلمة الناشر
الحمد لله والصلاة والسّلام على محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه.
وبعد؛ فإنّ إعراب القرآن مفتاح لفهمه وتفسيره، وهذا ما دعا العلماء للاهتمام بإعرابه في كتب التفسير، بل أفردوه بالتصنيف، فكثرت كتب الأعاريب ما بين قديم وحديث، ومطوّل ومختصر، لكن القديم منها يحتاج قارئها لقدر كبير من العلم بالأساليب والمصطلحات ليفيد منها.
أما الكتب الحديثة في إعراب القرآن فاشتهر منها اثنان:
الأول: «إعراب القرآن وبيانه» للعلاّمة اللغوي محيي الدين الدرويش، وقد نشرته الدار قبل سنوات (بالمشاركة مع دار اليمامة ودار الإرشاد) في طبعة متميزة أنيقة.
والثاني: «تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه» للعلاّمة المفسّر النحوي الشيخ محمد علي طه الدّرة ﵀، وقد امتاز هذان الكتابان بسهولة الأسلوب، واستيعاب المادّة، ويسر المراجعة فكان عليهما معوّل طلاب العلم في هذا العصر.
وها هي الدار تقدّم لقرائها الأعزاء كتاب الشيخ الدرة ضمن إصداراتها لهذا العام وقد تميّزت هذا الطبعة بما يلي:
١ - تصحيح النصّ مما عرض له من سهو قلم، أو خطأ في أثناء الطباعة، وذلك بدفعه إلى أساتذة من أهل الاختصاص (أحمد السيد، أكرم البوشي، يوسف بديوي) فعنوا به أيّما عناية. فلهم الشكر الكبير على الجهود التي بذلوها.
٢ - ضبط النص، ووضع علامات الترقيم التي تسهل فهمه.
٣ - توثيق النقول بالرجوع إلى مصادرها.
٤ - إثبات الآيات من المصحف الشريف، وضبط الأحاديث بالشكل وتمييزها بوضعها بين هلالين.
٥ - ضبط الشعر، وتسمية بحره، وقد قام بذلك الأستاذ الشاعر معاذ زغبيّة. فجزاه الله خيرا، ونفع به.
ولم تقتصر عناية الدار بالمادة العلمية وحدها، بل تعدّتها إلى جودة الطباعة والتجليد بحيث يجتمع جمال المبنى مع جلال المعنى، فخرج هذا الكتاب بهذه الحلّة الفاخرة.
إنّ الدار لترجو بعد رضا الله ﷾ أن تحافظ على ثقة قرّائها الكرام، بما تقدّمه لهم من مطبوعاتها في مختلف العلوم والفنون، سائلة الله تعالى التوفيق لذلك فهو الولي وهو المعين، والحمد لله رب العالمين.
دمشق
١٧ ربيع الأول ١٤٢٨ هـ
٢٤ آذار ٢٠٠٨ م
1 / 4
بسم الله الرحمن الرّحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أرسل محمدا ﷺ بالحق بشيرا، ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، مبشرا من آمن، وعمل الصّالحات بجنة عرضها السموات والأرض، ومنذرا من كفر، وعاند، واقترف السيئات ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلّى﴾ وأنزل عليه كتابا كريما حوى علوم الأولين، والآخرين، ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ كتابا عظيما لا ريب فيه، لا يتطرق لساحته تحريف، ولا يشوبه تبديل، ولا تزييف ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾. كتابا حفظه الله الذي أنزله، ولم يكل حفظه إلى وليّ، ولا إلى صفيّ، بل تولاه برعايته، وعنايته إلى يوم يبعثون ﴿إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ كتابا فتح الله به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، كتابا أسكت الفصحاء بفصاحته، وأخرس البلغاء ببلاغته، كتابا آمنت الجن بآياته، وأذعنت لتعاليمه ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا﴾.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ربّ غيره، ولا معبود سواه، ولا طاعة، ولا تقديس إلا لشرعه وهداه، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، وحبيبه، وخليله، وصفيّه، ومصطفاه، صلّى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن والاه، واغفر يا رب لمن نهج نهجهم، وسلك طريقهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإن علوم القرآن الكريم كثيرة، ومتنوعة، فهو منهل عذب لا ينضب ماؤه، ولا يصدّ وارده، وإنّ علماء المسلمين من يوم أنزله الله على قلب محمد ﷺ، وهم يبحثون في علومه، ويتدارسون آياته للاطلاع على أسراره وكنوزه، كلّ يأخذ، ويغرف ما يقسمه الله له من تلك الأسرار والكنوز، فهناك علم الفقه، وهناك علم التفسير، وهناك علم المواريث، وهناك علم
1 / 5
القراءات، وأحكام التجويد، وهناك، وهناك، وهناك... إلخ، وهناك من اهتم بإعراب آياته وكلماته، ولا أقول شططا، إن قلت: إنّ الإعراب هو الوسيلة الوحيدة لفهم أسرار ذلك الكتاب، والاطلاع على كنوزه؛ لأن الإعراب هو الذي يبيّن المحذوف، ويقدّره، أو يشير إليه من قريب، أو بعيد، ولكن لم يصنف أحد منهم كتابا يتضمن الإعراب الكافي الوافي، وإنما اقتصروا على إعراب بعض الصّعب، أو حلّ بعض المعقّد، أو توضيح بعض المشكل، كما في إعراب أبي البقاء العكبري، وكما في إعراب مكي بن أبي طالب القيسي، وغيرهما، رحم الله الجميع رحمة واسعة، ولكنهما، وأمثالهما لم يشفوا الغليل فيما وصل إلينا من إعرابهم.
ومن يوم منّ الله علي بالجلوس على مائدة التأليف فكرت بإعراب كاف واف لكتاب الله تعالى، يجد فيه المبتدئ بغيته، والمنتهى أمنيته، ولا سيما بعد أن طلب ذلك منّي الكثير ممّن قرءوا كتبي في الإعراب، أخصّ بالذكر منهم المرحوم: محمد محيي الدين عبد الحميد المصري، جعل الله الجنة مأواه، فإنّه التمس منّي بواسطة من كان يوصل إليه كتبي، ويزوره في بيته أن أعرب الآيات التي استشهد بها ابن هشام-﵀-في مغنيه بالإضافة لما قمت به من إعراب شواهده، فأيقنت بقرارة نفسي: أن إعراب تلك الآيات المستشهد بها معناه إعراب القرآن الكريم بكامله، فقمت بإعراب شواهد جامع الدروس العربية، وشرحها بعد إعراب شواهد المغني، وتيسّر طبعه، ونشره، وهو متداول بأيدي الناس، وقمت بشرح كتاب قواعد اللغة العربية، وإعراب أمثلته، وشواهده، وتهيّأ طبعه، ونشره، ثم قمت بإعراب المعلقات العشر، وشرحها، وأيضا قمت بإعراب شواهد همع الهوامع، وشرحها، وهما لا يزالان مخطوطين عندي، لم يتيسر طبعهما، وبعد الانتهاء منهما طبعت رسالة صغيرة، سمّيتها: «الحجّ والحجّاج في هذا الزمن» بيّنت فيها مفاسد بعض الحجّاج، وكذبهم، وخداعهم، وما انطووا عليه من شرّ أكثر ممّا اتصفوا به من خير.
وفي كلّ هذه المدة الطويلة لم يغب عن خاطري إخراج مؤلف يضم بين دفتيه إعرابا وافيا كافيا لكتاب الله تعالى، وفي المدة الأخيرة قوي هذا الدافع، وصرت كالمتردد، أقدّم رجلا، وأؤخر أخرى؛ حتى استخرت الله تعالى-كعادتي في جميع أموري وشئوني-فشرح الله صدري لهذا العمل، وأخذت أخط مبيضة بدون تسويد حتى خرج هذا الذي بين يديك أيها القارئ الكريم، وينبغي أن تتنبّه للأمور التالية:
١ - إنّ المعلم المبتدئ يستفيد من شرح وتفسير كلام الله تعالى: إفرادا، وجملا.
٢ - بالنسبة للإعراب لا يستفيد من هذا الكتاب إلا الملمّ بقواعد النحو، أعني به: معرفة الأفعال الخمسة، وأحوال إعرابها، وأحوال إعراب المثنى، والجمعين السالمين، وأسماء الإشارة، والموصولة، وإعراب المقصور، والمنقوص، ونحو ذلك.
1 / 6
٣ - سلكت في هذا الإعراب طريق الاختصار، والإيجاز خوفا من الإطالة، وما يتسبب عنها من ضخامة حجم الكتاب، بينما تجدني أحيانا توسعت في الشرح، والتفسير، والغاية من ذلك نفع العامة، والخاصّة.
٤ - من الإيجاز الذي سلكته في الإعراب والإعلال: الإحالة على آية سلفت في سورة سبقت، وقد يقع مثل ذلك في التفسير أيضا، وقد تكون الإحالة على آية في سورة تأتي بعد، كما في قصّة أصحاب السبت المذكورة في سورة الأعراف بالتفصيل، والمومأ إليها في سورة البقرة، وسورة النساء، وسورة المائدة إيماء.
٥ - شرحت، وأعربت الاستعاذة، والبسملة مرّة واحدة في أول هذا الكتاب.
٦ - لم أضع لسورة الفاتحة رقما خاصّا بها، وإنما أحيل عليها باسمها، وذلك لقصرها.
٧ - وضعت لسورة البقرة [٢] ولسورة آل عمران رقم [٣] وهكذا، فعند ما أحيل على رقم مؤلّف من رقمين؛ فالرقم الأول يشير للآية، والثاني يشير للسورة، فمثلا الرقم [٥/ ٢٠] يعني: أنه من سورة المائدة، والرقم [٧/ ١٧] يعني: أنه من سورة الأعراف، وهكذا. أما الرقم الواحد، فإنه يعني نفس السورة.
٨ - اعتبرت في إعرابي لكتاب الله تعالى الضمير (إيّاك إيّاكم...) إلخ ونحو ذلك مبنيّا على ما ينتهي به آخر اللفظ، وقد شرحت هذا، وبينت أسبابه في صفحات ملحقة بكتاب القواعد الطبعة الثالثة، انظره فإنّه جيد.
٩ - بعد هذا ينبغي أن تعلم: أني ذكرت أوجه القراءات، وما ينتج عنها من وجوه الإعراب، وهذا لا يتنافى مع الإيجاز الذي ذكرته، فإن غايتي أن يكون القارئ على علم بجميع وجوه الإعراب، وهو ممّا يساعد على فهم كتاب الله تعالى، والاطلاع على أسراره.
١٠ - المراجع التي اعتمدتها في تصنيف هذا الكتاب هي: تفسير الخازن، وتفسير الكشاف للزمخشري، وتفسير البيضاوي، وتفسير النّسفي، وتفسير الجلالين، وحاشية الجمل عليهما، وإعراب القرآن لأبي البقاء العكبري، وإعراب مشكل القرآن لمكي بن أبي طالب القيسي، وكتبي [فتح القريب المجيب، إعراب شواهد مغني اللبيب] و[فتح رب البرية إعراب شواهد جامع الدروس العربية] وكتاب [قواعد اللغة العربية] وما صنعته فيه من شرح وإعراب بالإضافة إلى المصادر التي اعتمدتها في إخراج هذه الكتب، وقد ذكرتها في أواخرها.
وعملي هذا ليس بالهيّن كما هو ظاهر، ولم يأت عفوا، وإنما هو عمل شاقّ، وصعب، ركبت كلّ ذلول في سبيله، وتجشّمت متاعب، ومشاقّ؛ كلّ بصري، وجفّ عرقي في تحصيله، وعملي هذا مغامرة قمت بها؛ لأني لست من أهل ذلك، كما هو تطفل على مائدة التأليف، إن كان هذا من اختصاص حملة الشهادات العالية، لذا فإني أتمثل بقول القائل: [الوافر]
1 / 7
إذا قصّرت رفقا بالملام... أروم وذاك من قوم كرام
لقد صوّبت في التّأليف سهما... وتلك رميّة من غير رام
ثم ما أجدرني بقول ابن هشام-طيّب الله ثراه-: إني سائل من حسن خيمه، وسلم من دار الحسد أديمه، إذا عثر على شيء طغى به القلم، أو زلت به القدم؛ أن يغتفر ذلك في جنب ما قرّبت إليه من البعيد، ورددت عليه من الشّريد، وأرحته من التعب، وصيّرت القاصي يناديه من كثب، وأن يحضر قلبه؛ أنّ الجواد قد يكبو، وأنّ الصّارم قد ينبو، وأنا النّار قد تخبو، وأنّ الإنسان محل النسيان، وأن الحسنات يذهبن السيئات: [الطويل]
ومن ذا الّذي ترضى سجاياه كلّها؟ ... كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه
بعد هذا ألفت الأنظار إلى قوله تعالى: ﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ وإلى قول الرسول الأعظم ﷺ: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، وفي رواية: «ما دام العبد في عون أخيه» راجيا ممّن عثر على هفوة في هذا الجزء، وغيره مما سيصدر-إن شاء الله تعالى-أن ينبّهني، ويرشدني إليها؛ لأتدارك ذلك، وأشير إليه فيما يصدر تباعا من أجزاء بعونه تعالى، فنكون قد أرضينا ربنا، ونفعنا مجتمعنا، وأرضينا ضمائرنا، مع العلم أنّني أتقبل-كعادتي-بصدر رحب، ونفس-كلها رضا وشكر-كلّ إشارة إلى خطأ يأتيني من قريب، أو بعيد، من عدوّ، أو صديق، من صالح، أو من طالح عملا بقول سيّدنا الأعظم ﷺ:
«خذ الحكمة، ولا يضرّك من أيّ وعاء خرجت»، «الحكمة ضالّة المؤمن يلتقطها حيث وجدها» وما أجدرني أن أتمثل بقول الجلال السيوطي-عليه سحائب الرحمة والرضوان-: فرحم الله امرأً نظر بعين الإنصاف إليه، ووقف فيه على خطأ فأطلعني عليه، وأنشد: [الوافر]
حمدت الله ربّي إذ هداني... لما أبديت مع عجزي وضعفي
فمن لي بالخطإ فأردّ عنه... ومن لي بالقبول ولو بحرف
ومن أراد غير ذلك فحسبي الله ونعم الوكيل، نعم المولى، ونعم النصير، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّ يا ربّ، وسلم على من أرسلته رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، واغفر اللهم لي، ولوالديّ، ولجميع المسلمين! والحمد لله ربّ العالمين، آمين!.
الفقير لعفوه تعالى الشيخ محمد علي طه الدّرّة سورية-حمص
1 / 8
الاستعاذة
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
الشرح: (أعوذ): أتحصّن، وأعتصم، وأستجير، وألتجئ؛ إذا معنى الاستعاذة في كلام العرب: الاستجارة والتحيّز إلى الشيء، على معنى الامتناع به من المكروه، يقال: عذت بفلان، واستعذت به، أي: لجأت إليه، وهو عياذي، أي: هو ملجئي، وأصل الفعل: (أعوذ) على وزن (أنصر) فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى العين بعد سلب سكونها، فصار:
(أعوذ).
(الله): علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم؛ الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به لتخلّف شروط الإجابة؛ التي أعظمها أكل الحلال، ولم يسمّ به أحد سواه، قال تعالى في سورة (مريم) رقم [٦٥]: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ أي هل تسمى أحد الله غير الله؟! وقد ذكر في القرآن الكريم في ألفين وثلاثمائة وستين موضعا، علما بأنه لم يذكر في سورتي الرّحمن، والواقعة أبدا.
(الشيطان): اسم يطلق على عدو الله إبليس، وقد يطلق على كل نفس عاتية خبيثة، خارجة عن الصراط المستقيم من الإنس، والجنّ، والحيوان، وما أكثر الشياطين بهذا المعنى من بني آدم! قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [١١٢] انظر شرحها هناك، ونصّها: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا،﴾ وقال الرسول ﷺ لأبي ذرّ الغفاريّ-﵁: «يا أبا ذرّ! تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجنّ». قال: أو للإنس شياطين؟ قال: «نعم»، ولا تنس أنّ لكل واحد من بني آدم شيطانا بدليل قول النبي ﷺ لعائشة ﵂: «أجاءك شيطانك؟» قالت: أو لي شيطان؟ قال: «ما من أحد إلاّ وله شيطان» قالت: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا إلاّ أنّني أعانني الله عليه، فأسلم، فلا يأمر إلاّ بخير» يروى بضم الميم وفتحها.
هذا و(الشيطان) واحد الشياطين مأخوذ من شطن: إذا بعد، والنون أصلية، فهو مصروف على هذا، وسمّي الشيطان شيطانا لبعده عن الحقّ، وتمرده، قال جرير: [البسيط]
1 / 9
أيّام يدعونني الشّيطان من غزل... وهنّ يهوينني إذ كنت شيطانا
وقيل: من: شاط: إذا احترق، وشاط: بطل، فالنون زائدة، وعليه: فهو غير مصروف.
وشطن من باب قعد. وشاط من باب ضرب. هذا واشتاط الرّجل: إذا احتدّ غضبا، واشتاط:
إذا هلك. قال الأعشى في معلقته رقم [٦٨]: [البسيط]
قد نخضب العير في مكنون فائله... وقد يشيط على أرماحنا البطل
ويقوّي الاعتبار الأول، ويضعف الثاني: أن سيبويه حكى: أن العرب تقول: تشيطن فلان:
إذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بيّن أنه تفيعل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط.
(الرجيم): فعيل بمعنى مفعول؛ أي أنّه مرجوم باللعن والطّرد عن الخير، وعن رحمة الله تعالى، وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل. أي: يرجم غيره بالإغواء، والوسوسة. وأصل الرجم:
الرّمي بالحجارة، والرّجم: القتل، واللعن، والطرد، والشّتم. وقد قيل: هذا كله في قوله تعالى حكاية عن قول قوم نوح له: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ رقم [١١٦] من سورة (الشعراء) وأيضا قوله تعالى حكاية عن قول قوم شعيب له: ﴿وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ﴾ رقم [٩١] من سورة (هود)، وقول أبي إبراهيم له: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ رقم [٤٦] من سورة (مريم)، والرجم: القول بالظنّ، كما في قوله تعالى: ﴿خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾ رقم [٢٢] من سورة (الكهف) قال زهير بن أبي سلمى في معلّقته رقم [٣٠]: [الطويل]
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم... وما هو عنها بالحديث المرجّم
بعد هذا لا يخفى عليك المعنى لهذه الجملة، وقد يعبر عن الجملة بكاملها بكلمة:
(الاستعاذة) على طريقة النّحت، والنّحت في الكلام: تركيب كلمة من كلمتين، فأكثر، نحو:
البسملة، والحوقلة من: (لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم) والاسترجاع من: ﴿إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ﴾ والفذلكة من: (فذلك كذا، وكذا) وهلمّ جرّا، وخذ قول الشاعر عبد يغوث بن الحارث بن وقاص الحارثي شاعر جاهلي، وهو الشاهد رقم [٥٠٣] من كتابنا فتح القريب المجيب: [الطويل]
وتضحك منّي شيخة عبشميّة... كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا
حيث نحت (عبشمية) من عبد شمس، وتفصيل ذلك تجده في الشاهد رقم [٣٠٥] من كتابنا المذكور، وهو لسويد بن أبي كاهل اليشكري: [الطويل]
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
قال الخازن رحمه الله تعالى: ومن لطائف الاستعاذة: أن قوله: (أعوذ بالله...) إلخ إقرار من العبد بالعجز، والضعف، واعتراف من العبد بقدرة الله ﷿، وأنّه الغنيّ القادر على دفع
1 / 10
جميع المضرات، والآفات، واعتراف من العبد أيضا بأنّ الشيطان عدوّ مبين، ففي الاستعاذة لجوء إلى الله تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغويّ الفاجر، وأنّه لا يقدر على دفعه عن العبد إلا الله تعالى. انتهى.
تنبيه: أجمع العلماء على أن الاستعاذة ليست من القرآن، ولا آية منه، وقد أجمعوا على الجهر بها في أوّل القراءة في غير الصلاة، وفي الصلاة يسرّها في أول كلّ ركعة قبل الفاتحة عند الشّافعيّ، وعند أبي حنيفة يسرّها في أول الركعة الأولى فقط، وقد روى أبو سعيد الخدري-﵁: أنّ النبيّ ﷺ كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة. وخذ في فضل الاستعاذة ما يلي:
عن سليمان بن صرد-﵁-قال: استبّ رجلان عند النبيّ ﷺ، فجعل أحدهما يغضب، ويحمرّ وجهه، وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي ﷺ فقال: «إنّي لأعلم كلمة لو قالها؛ لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم» فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي ﷺ فقال:
أتدري ما قال رسول الله ﷺ آنفا؟ قال: «إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشّيطان الرجيم» فقال له الرجل: أمجنونا تراني؟! رواه البخاريّ، ومسلم. وروى مسلم أيضا عن عثمان بن أبي العاص الثقفي-﵁: أنه أتى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله! إنّ الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي يلبسها عليّ! فقال رسول الله ﷺ: «ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته؛ فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثا». قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. هذا وقد قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [٢٠٠]: ﴿وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وقال تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [٩٧ و٩٨]: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ وقال تعالى في سورة (فصّلت) رقم [٣٦]: ﴿وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
هذا وقالت طائفة من القرّاء: إن التعوّذ بعد القراءة، وأخذوا بظاهر النّص: ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ رقم [٩٨] من سورة (النحل). والذي عليه الجمهور: أنّ الاستعاذة قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها، ومعنى الآية: إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: ﴿إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا..﴾. إلخ؛ أي: إذا أردتم القيام، الآية رقم [٧] من سورة (المائدة).
وعن عبد الله بن عمر-﵄-قال: كان رسول الله ﷺ إذا سافر، فأقبل عليه الليل؛ قال: «يا أرض ربّي وربّك الله، أعوذ بالله من شرّك، ومن شرّ ما خلق فيك، ومن شرّ ما يدبّ عليك، ومن أسد، ومن أسود، ومن الحيّة، والعقرب، ومن ساكن البلد، ووالد وما ولد!» رواه أبو داود.
الإعراب: (أعوذ): فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره: «أنا» (بالله) متعلقان بالفعل قبلهما، هذا وإن علقتهما بمحذوف حال من الفاعل المستتر؛ فلا بأس به، ويكون
1 / 11
التقدير: أعوذ مستجيرا بالله. (من الشيطان): متعلقان بالفعل قبلهما. (الرّجيم): صفة الشيطان مجرور مثله، هذا ويجوز رفعه على أنّه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الرّجيم، ويجوز نصبه على أنّه مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أذم الرّجيم، وهذان الوجهان على القطع عن الإتباع، قال ابن مالك ﵀ في ألفيته: [الرجز]
واقطع أو اتبع إن يكن معيّنا... بدونها أو بعضها اقطع معلنا
وارفع أو انصب إن قطعت مضمرا... مبتدأ أو ناصبا لن يظهرا
وجملة: (أعوذ بالله...) إلخ مبتدأة لا محل لها من الإعراب.
1 / 12
سورة الفاتحة
هي مكية، وقيل: مدنية، والأصح أنها مكية، نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، ثم نزلت بالمدينة حين حولت القبلة إلى الكعبة المشرفة، وسبب ذلك التنبيه على فضلها وشرفها، وارتفاع مكانتها عند الله وعند رسوله، وتسمّى أمّ القرآن لقول النبي ﷺ «لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن». رواه البخاريّ، ومسلم عن عبادة بن الصامت ﵁ عن النبي ﷺ: قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن، فهي خداج-يقولها ثلاثا-». أي غير تمام، وسميت أمّ القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن، كما ذكرته لك سابقا.
وتسمّى سورة الوافية، قاله سفيان بن عيينة؛ لأنها لا تنتصف، ولا تحتمل الاختزال، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة، ونصفها الآخر في ركعة، أي بعد الفاتحة لأجزأ. وتسمّى الكافية، قال يحيى بن أبي كثير: لأنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. وتسمّى سورة الكنز، لقوله ﷺ حاكيا عن قول الله ﷿: «فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشي». وسورة الشّفاء، والشّافية لقول الرسول ﷺ: «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء إلاّ السّام» وفي رواية آخرى: «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ سمّ». أخرجه الدارمي عن أبي سعيد الخدري ﵁. وسورة المثاني، سميت بذلك؛ لأنها تثنّى في كلّ ركعة، قال تعالى في سورة (الحجر) رقم [٨٧] ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾. وتسمى سورة الصّلاة؛ لقول أبي هريرة ﵁: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قال الله ﷿: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال الله تعالى: مجّدني عبدي، فإذا قال: ﴿إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال الله: هذا بني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ..﴾. إلخ؛ قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». رواه مسلم.
وتسمّى سورة الحمد؛ لأنّ فيها ذكر الحمد، كما يقال: سورة الأعراف، والأنفال، ونحوها. وتسمّى سورة الأساس، فإنها أساس القرآن، قال ابن عباس-﵄: «إذا اعتللت، أو اشتكيت؛ فعليك بالأساس». وشكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن؛ فاتحة الكتاب. وتسمّى سورة الرّقية، ثبت ذلك في حديث أبي سعيد الخدري ﵁: وفيه: أن رسول الله ﷺ قال لرجل الذي رقى سيّد الحي: «وما أدراك أنّها رقية؟» فقال: يا رسول الله! شيء ألقي في روعي. الحديث مشهور، خرّجه الأئمة.
1 / 13
وسمّيت فاتحة الكتاب؛ لأنها تفتتح قراءة القرآن بها لفظا، وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطّا وتفتتح بها الصلوات، والمرجّح: أنها أوّل سورة كاملة نزلت، وأمر النبي ﷺ بجعلها أول القرآن، وانعقد الإجماع على ذلك، وهي سبع آيات بالاتفاق، فمن عدّ البسملة آية منها لا يقف على: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ ومن لم يعدّها آية منها يقف على ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ وهي سبع وعشرون كلمة، ومائة وأربعون حرفا.
حكمها في الصّلاة: هي ركن في كلّ ركعة من ركعات الصلاة: الفرض، والنفل عند الشافعي، وأحمد، وعند مالك في القول الثاني له، وهو المعتمد في مذهبه لقوله ﷺ: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب»، وقوله ﷺ: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن، فهي خداج-ثلاثا-» وقد تقدّما لحديثان قريبا. ولا تعدّ ركنا في ركعات الصلاة عند أبي حنيفة، بل تعدّ واجبا، الواجب عنده دون الفرض والرّكن، وهو: ما ثبت بدليل ظنّي، واستدل بقول الله تعالى: ﴿فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ وبقول الرسول ﷺ لمسيء الصلاة: «ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن»، فتصح الصلاة إذا قرأ في صلاته غير الفاتحة، ولكن فيها نقص، فيجب إعادتها، وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر.
فدل هذا الحديث على أنّ قول النبي ﷺ للأعرابي: «اقرأ ما تيسّر معك من القرآن» ما زاد على الفاتحة، وهو تفسير قوله تعالى: ﴿فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾.
حكم الفاتحة بالنسبة للمأموم: يقرؤها خلف الإمام في كلّ ركعة عند الشافعي، وأحمد، ومالك في المشهور عنه في السّرية، والجهرية، إلا المسبوق إذا أدرك الإمام راكعا، فإن الإمام يحمل عنه القراءة لإجماعهم على أنه أدركه راكعا: وإنه يكبر تكبيرة الإحرام قائما منتصبا، ولا يقرأ شيئا بشرط أن لا يشتغل بسنة من تعوّذ، وتوجّه.
وعند أبي حنيفة: لا يقرأ المأموم خلف الإمام في السّرية، ولا في الجهرية؛ لعموم قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [٢٠٤]: ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ انظر شرحها هناك، فإنّه جيّد، والحمد لله.
تنبيه بل فائدة: من تعذّر عليه بذل جهده، فلم يقدر على تعلم الفاتحة، أو شيء من القرآن، ولا علق منه بشيء لزمه أن يذكر الله في موضع القراءة بما أمكنه، من تكبير، أو تهليل، أو تحميد، أو تسبيح، أو تمجيد، أو لا حول ولا قوة إلا بالله؛ إذا صلى وحده، أو مع إمام فيما أسرّ به الإمام، فقد روى أبو داود، وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزئني منه، قال: «قل:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله». قال: يا رسول الله! هذا لله؛ فما لي؟ قال: «قل: اللهم ارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني».
1 / 14
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾
الشرح: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-قال العلماء: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قسم من ربنا، أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده: إنّ هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حقّ، وإني أوفي لكم بجميع ما ضمنت هذه السورة من وعدي، ولطفي، وبرّي. ولم أره لغيره، وليس فيها معنى القسم، والبسملة مما أنزله الله تعالى في كتابنا خصوصا بعد سليمان، علي نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وقد تضمّنت جميع الشرع؛ لأنّها تدل على الذّات وعلى الصّفات، لذا فالقول: إن القرآن تضمّن كل ما في الكتب السابقة من أمور الدنيا والآخرة، والفاتحة تضمّنت كل ما في القرآن الكريم، والبسملة تضمّنت كل ما في الفاتحة، وجميع ذلك في الباء من البسملة، وكأنّ الله ﷿ يقول: بي كان، وما يكون، وما سيكون في الدنيا والآخرة. والله أعلم بمراده، وأسرار كلامه.
قال سعيد بن أبي سكينة: بلغني أنّ عليّ بن أبي طالب-﵁، نظر إلى رجل يكتب: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ فقال له: جوّدها، فإن رجلا جوّدها، فغفر له، وقال سعيد أيضا: وبلغني أنّ رجلا نظر إلى قرطاس فيه: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ فقبّله، ووضعه على عينيه، فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنّه لمّا رفع الرقعة التي فيها اسم الله من مكان ممتهن، وطيّبها بمسك بعد أن نظّفها، وأزال عنها الأقذار؛ طيّب الله اسمه؛ أي: رفع ذكره بين الناس، ويحكى: أنه قيل له في المنام: كما طيبت اسمنا لنطيبنّ اسمك.
وروى النّسائيّ عن أبي المليح عن ردف رسول الله ﷺ، قال: إن رسول الله ﷺ قال: «إذا عثرت بك الدابّة؛ فلا تقل: تعس الشّيطان، فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي صنعته، ولكن قل: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،﴾ فإنه يتصاغر حتّى يصير مثل الذّباب».
وروى وكيع بن الأعمش، عن أبي وائل: عن عبد الله بن مسعود-﵁-قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر، فليقرأ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ فيجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنّة من كل واحد، فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ وهم يقولون في كل أفعالهم: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. هذا وكسرت الباء الجارة في البسملة وغيرها، لتكون حركتها مشبهة لعملها، وقيل: كسرت ليفرق بين ما يخفض، ولا يكون إلا حرفا، نحو الباء، واللام الجارة، وبين ما يخفض، وقد يكون اسما، نحو الكاف في قول العجاج: [الرجز]
بيض ثلاث كنعاج جمّ... يضحكن عن كالبرد المنهمّ
1 / 15
وهذا هو الشاهد رقم [٣٢٦] من كتابنا فتح القريب المجيب فانظره، وما ألحقته به، فإنه جيد، والحمد لله ربّ العالمين.
هذا وقد ندبنا الرسول ﷺ إلى افتتاح جميع أمورنا بالبسملة تيمّنا، وتبرّكا، كالأكل، والشرب، والنّحر، والجماع، والطّهارة، وركوب الدابة، والسيارة، والطيّارة، وغير ذلك من الأفعال، فقد روى الخطيب في كتاب الجامع عن النبيّ ﷺ، قال: «كلّ أمر ذي بال، لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أبتر» وفي رواية: «فهو أقطع» والمعنى: قليل البركة، أو معدومها، لذا سمّيت الخطبة التي ألقاها زياد ابن أبيه في العراق: البتراء؛ لأنه لم يبدأها بالبسملة.
بعد هذا ينبغي أن تعلم: أنّ البسملة آية من سورة الفاتحة، وآية من كلّ سورة ما عدا براءة عند الشّافعي، ولا تعدّ آية في كلّ ذلك عند مالك، وأبي حنيفة، وإنّما هي للفصل بين كلّ سورتين، وأحمد بن حنبل يعدّها آية من أول سورة الفاتحة، وليست آية في غيرها، ﵃-أجمعين، واحتجّ الشافعي-﵁-بما رواه الدّارقطني من حديث أبي بكر عبد الحميد بن جعفر الحنفي عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة ﵁-عن النبي ﷺ قال: «إذا قرأتم ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ فاقرءوا: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ إنّها أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسّبع المثاني». قال: بينما رسول الله ﷺ ذات يوم بين أظهرنا؛ إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟! قال: «نزلت عليّ آنفا سورة». فقرأ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ..﴾. إلخ، وذكر الحديث، وذكرته بكماله في سورة الكوثر، والحمد لله.
(اسم): اختلفوا في اشتقاقه، فقال البصريّون: أصله: سمو، بضم السين وكسرها، من السّمو، وهو العلوّ، والارتفاع، فاسم الشيء ما علاه؛ حتى ظهر به، وعلا عليه، فكأنه علا على معناه، وصار علما له، فحذفت لامه، وعوض عنها همزة الوصل في أوله، وقال الكوفيون:
أصله: وسم من السّمة، وهي العلامة، فكأنه علامة لمسمّاه، حذفت فاؤه، وعوض عنها همزة الوصل. وحجّة البصريين: أنه لو كان اشتقاقه من السّمة، لكان تصغيره: وسيم، وجمعه:
أوسام؛ لأن التصغير والتكسير يردّان الأشياء إلى أصولها، وقد أجمعوا على أن تصغيره: سميّ، وجمعه: أسماء، وجمع الجمع: أسام، وقد حذفت الألف من ﴿بِسْمِ اللهِ..﴾. إلخ للخفّة، ولكثرة الاستعمال، وأثبتت في قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ لقلّة الاستعمال، هذا و(اسم) أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السّكون، فإذا نطقوا بها مبتدءين، زادوا همزة الوصل في أولها توصلا للابتداء بالسّاكن، علما بأن هذه الهمزة تسقط في وصل الكلام؛ وإن كتبت، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضّرورة، كقول الأحوص: [الطويل]
وما أنا بالمخسوس في جذم مالك... ولا من تسمّى، ثمّ يلتزم الاسما
1 / 16
انظر مبحثها في كتاب قواعد اللغة العربية بشرحنا، هذا وذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن لفظة: (اسم) صلة، أي: زائدة، واستشهد على ذلك بقول لبيد بن ربيعة الصّحابي-﵁-انظره تبعا ملحقا للشاهد [٩٧٦] من كتابنا فتح القريب المجيب، ونصّه: [الطويل]
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
واختلفوا في معنى زيادته، فقال قطرب: زيدت؛ لإجلال ذكره تعالى، وتعظيمه.
وقال الأخفش: زيدت؛ ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك؛ لأن أصل الكلام: بالله.
﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:﴾ اسمان من أسماء الله الحسنى، وقيل: صفتان مأخوذتان من الرحمة، وهما في حقه ﷾ بمعنى: المحسن، أو: مريد الإحسان، لكن الأول بمعنى المحسن بجلائل النعم، والثاني بمعنى المحسن بدقائق النّعم، وإنما جمع بينهما في البسملة، إشارة إلى أنه ينبغي أن يطلب منه تعالى النعم الحقيرة، كما ينبغي أن يطلب منه النعم العظيمة، وقد يوصف ب ﴿الرَّحِيمِ﴾ المخلوقون، وأما ﴿الرَّحْمنِ﴾ فلا يوصف به إلا الله تعالى، ومن وصف مسيلمة الكذاب، فقد تعنت حيث قال فيه: [البسيط]
أسموت بالمجد يا بن الأكرمين أبا... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
هذا واشتقاق ﴿الرَّحِيمِ﴾ من الرحمة لا خلاف فيه، وفي اشتقاق ﴿الرَّحْمنِ﴾ خلاف، والجمهور من الناس ذهبوا إلى أنه مشتق من الرّحمة أيضا، مبني على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة، الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثنى، ولا يجمع، كما يثنى ﴿الرَّحِيمِ﴾ ويجمع، قال ابن الحصار: ومما يدلّ على الاشتقاق ما خرّجه الترمذيّ، وصحّحه عن عبد الرحمن بن عوف ﵁: أنه سمع النبي ﷺ يقول: «قال الله ﷿: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت الرّحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته»: أو قال: «بتتّه» وهذا نصّ في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وما وجب له، وقد قال الله في سورة (الفرقان) رقم [٦٠]: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ..﴾.
إلخ، وقال تعالى في سورة (الزخرف) رقم [٤٥]: ﴿أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ،﴾ ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى ب «رحمان اليمامة» كساه الله جلباب الكذاب، وشهر به، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر، والمدر.
فائدة: قال سعيد بن جبير-﵁: كان المشركون يحضرون المسجد، فإذا قرأ رسول الله ﷺ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قالوا: هذا محمّد يذكر «رحمان اليمامة» يعنون:
مسيلمة الكذاب، فأمر أن يخافت ب ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ونزل: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا﴾ الآية رقم [١١٠] من سورة (الإسراء)، فبقي ذلك إلى يومنا
1 / 17
هذا؛ وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف؛ وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النّهار، وإن زالت العلّة، وهذا جواب لمن يسأل: لماذا الإسرار بالنّهار، والجهر في الليل في الصلوات الخمس؟ والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:﴾ جار ومجرور متعلقان بمحذوف، تقديره: أقرأ، أو أتلو؛ إذا أراد الشخص القراءة، وقس على ذلك جميع الأعمال التي يقوم بها المسلم، ويسمّي الله عليها، فمثلا: الآكل، والشارب، والقائم، والقاعد، تقدير المحذوف عنده: آكل، أو أشرب... إلخ، وتقدير المحذوف فعلا مذهب الكوفيين، وهم يقدّرونه مؤخرا، ليفيد الاختصاص، وأما البصريّون؛ فيقدرون المحذوف اسما، والتقدير عندهم: ابتدائي، أو أكلي، أو قراءتي بسم الله... إلخ، وعليه فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، والتقدير: أكلي، أو شربي كائن بسم الله، ويشهد لقول الكوفيين قوله تعالى: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ويشهد لقول البصريين قوله تعالى: ﴿وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها﴾ الآية رقم [٤١] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقال المرحوم سليمان الجمل: والأحسن أن يقدر متعلق الجار هنا: قولوا؛ لأن المقام مقام تعليم، وهذا الكلام صادر عن حضرة الربّ تعالى. انتهى. و(اسم) مضاف و﴿اللهِ﴾ مضاف إليه، وعلى اعتبار لفظ: (اسم) صلة، فيكون مقحما بين الجار والمجرور، ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:﴾ بدلان من لفظ الجلالة، وهذا على اعتبارهما اسمين من أسماء الله الحسنى، وهو المعتمد، وقيل: هما صفتان للفظ الجلالة، هذا ويجوز في العربية رفعهما على أنهما خبران لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الرّحمن الرحيم، كما يجوز نصبهما على أنهما مفعول لفعل محذوف، التقدير: أمدح، ونحوه، وهذان الوجهان على القطع، أعني به قطع النّعت عن المنعوت، انظر ما ذكرته في الاستعاذة، وجملة البسملة على الوجهين مبتدأة، لا محلّ لها.
﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)﴾
الشرح: ﴿الْحَمْدُ:﴾ هو في اللغة: الثناء بالكلام الجميل الاختياري على جهة التبجيل، والتعظيم، سواء أكان في مقابلة نعمة، أم لا. فالأول كمن يحسن إليك، والثاني كمن يجيد صلاته، وهو في اصطلاح علماء التوحيد: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث كونه منعما على الحامد، أو غيره، سواء أكان ذلك قولا باللّسان، أو اعتقادا بالجنان، أو عملا بالأركان؛ التي هي الأعضاء، كما قال الأخطل التغلبي، وبعضهم يعتبر ما في البيت تفسيرا للشّكر: [الطويل]
أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة... يدي ولساني والضّمير المحجّبا
1 / 18
وممّا هو جدير بالذكر: أنّ معنى الشكر في اللغة هو معنى الحمد في الاصطلاح، وأما معنى الشكر في الاصطلاح فهو: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. هذا؛ والحمد أربعة أقسام: حمد قديم لقديم، كحمد الله لذاته، وحمد قديم لحادث، كحمد الله لأنبيائه، والصّالحين من عباده، وحمد حادث لقديم، كحمدنا الله ﷿، وحمد حادث لحادث، كحمد بعضنا بعضا، ولا تنس: أنّ المدح أعمّ من الحمد؛ لأنّه يكون للحيّ والميت، وللجماد، كما يمدح الطعام، والمكان، ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان، وبعده على الصفات المتعدّية، واللازمة أيضا فهو أعمّ، والألف واللام في ﴿الْحَمْدُ﴾ لاستغراق جميع أنواع الحمد، وصنوفه، كما جاء في الحديث الشريف من قول النبي ﷺ: «اللهم لك الحمد كلّه، وبيدك الخير كلّه، وإليك يرجع الأمر كلّه»، فهذا الحديث من كلام جبريل ﵇ بيّنه النبيّ ﷺ، وهو بروايات مختلفة: عن أنس بن مالك، وعن مصعب بن سعد عن أبيه، وعن أبي سعيد الخدري، منها مطوّل، ومنها مختصر بتخريج البيهقيّ، وابن أبي الدنيا، انظر: الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، رحمه الله تعالى!.
وعن جابر بن عبد الله-﵄-عن رسول الله ﷺ: أنّه قال: «أفضل الذكر: لا إله إلاّ الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله». رواه الترمذيّ، وقال: حسن غريب. وعن أنس-﵁-عن النبي ﷺ: أنه قال: «ما أنعم الله على عبد نعمة، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ إلا كان الّذي أعطى أفضل ممّا أخذ». رواه ابن ماجة.
وعن عبد الله بن عمر-﵄: أنّ رسول الله ﷺ حدّثهم: «أن عبدا من عباد الله قال: يا ربّ لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فعضّلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها؟! صعدا إلى السماء، فقالا: يا ربّنا! إنّ عبدك قد قال مقالة، لا ندري كيف نكتبها؟! قال الله-وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب! إنه قد قال: يا ربّ لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي؛ حتّى يلقاني، فأجزيه بها». رواه أحمد، وابن ماجة.
وعن أبي أيوب الأنصاري-﵁-قال: قال رجل عند رسول الله ﷺ: «الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه» فقال رسول الله ﷺ: «من صاحب الكلمة؟» فسكت الرجل، ورأى أنه قد هجم من رسول الله ﷺ على شيء يكرهه. فقال رسول الله ﷺ: «من هو؟ فإنه لم يقل إلاّ صوابا!». فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله، أرجو بها الخير! فقال: «والّذي نفسي بيده لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك؛ أيّهم يرفعها إلى الله تعالى». رواه ابن أبي الدنيا، والطّبراني بإسناد حسن، والبيهقيّ.
﴿رَبِّ﴾ يطلق، ويراد به: المالك، والسّيد، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف، على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام: ﴿اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ﴾ وقوله أيضا: ﴿أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا،﴾ وقال الأعشى: [الكامل]
1 / 19
ربّي كريم، لا يكدّر نعمة... وإذا تنوشد في المهارق أنشدا
كما يقال: ربّ الدار، وربّ الأسرة، أي: مالكها، ومتولي شئونها، كما يراد به المربّي، والمصلح، يقال: ربّ فلان الضيعة، يربّها: إذا أصلحها، والله ربّ العالمين: مالكهم، ومربّيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، بجعل النطفة علقة، ثم بجعل العلقة مضغة، ثم بجعل المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا، وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه، وينشيه حتى يجعله رجلا أو امرأة كاملين. هذا ولا يطلق لفظ الرّبّ على غير الله تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك، وقد قالوه في الجاهلية للملك، قال الحارث بن حلّزة في معلّقته رقم [٣٩]: [الخفيف]
وهو الربّ والشّهيد على يو... م الحيارين والبلاء بلاء
والربّ: المعبود بحق، وهو المراد منه عند الإطلاق، ومنه قول راشد بن عبد ربه السّلمي الصّحابي-﵁-وهو الشاهد رقم [١٥٧] من كتابنا فتح القريب: [الطويل]
أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟! ... لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب
ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف ﵇ لصاحبي السّجن: ﴿أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ﴾ كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السّابقة قال الشاعر: [الطويل]
هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم... وللآكلين التّمر مخمس مخمسا
وهو اسم فاعل بجميع معانيه السّابقة، أصله: رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدخال أحد المثلين في الآخر.
﴿الْعالَمِينَ:﴾ جمع عالم بفتح اللام، وجمع لاختلاف أنواعه، وهو جواب عمّا يقال:
إنّه اسم جنس يصدق على كل ما سوى الله، والجمع لا بد أن يكون له أفراد ثلاثة، فأكثر، وجمع بالياء والنون تغليبا للعقلاء على غيرهم، وهو يقال لكل ما سوى الله، ويدلّ له قوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا وعليه أفضل الصّلاة، وأتم التسليم-لمّا قال له فرعون: ﴿وَما رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ ﴿قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ،﴾ هذا والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف في البرّ، والبحر؛ إذ كل جنس من المخلوقات يقال له: عالم، ولا واحد له من لفظه، مثل: رهط، وقوم.
وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر، انتهى. وجمع جمع المذكر السالم، وذلك بتغليب من يعقل على ما لا يعقل، والعالم مشتق من العلامة؛ لأنه دالّ على وجود خالقه، وصانعه، وعلى وحدانيته جلّ، وعلا، كما قال ابن المعتز: [المتقارب]
1 / 20
فيا عجبا كيف يعصى الإله... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كلّ شيء له آية... تدلّ على أنّه واحد
الإعراب: ﴿الْحَمْدُ:﴾ مبتدأ، ﴿لِلّهِ:﴾ متعلقان بمحذوف خبره، التقدير: واجب، أو مستحقّ لله، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ﴿رَبِّ:﴾ صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه، و﴿رَبِّ﴾ مضاف و﴿الْعالَمِينَ﴾ مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، هذا ويجوز في العربية الرفع والنصب في ﴿رَبِّ﴾ فالرفع على إضمار مبتدأ، التقدير: هو ربّ، والنصب على المدح بفعل محذوف، قال الزمخشري: وقرأ زيد بن عليّ-﵄: «رب العالمين» بالنصب على المدح، أو على النداء.
قاله مكيّ، وهذان الوجهان على القطع، انظر ما ذكرته في الاستعاذة.
﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣)﴾
الشرح: وصف الله تعالى نفسه بعد ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ بأنّه ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ لأنه لما كان في اتصافه ب ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ ترهيب؛ قرنه ب ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ لما تضمنه من الترغيب؛ ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته، وأمتع، كما قال ﷿ في سورة (الحجر) رقم [٤٩ و٥٠]: ﴿نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ﴾ وقال جل ذكره في أول سورة (غافر): ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ،﴾ وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة-﵁: أنّ رسول الله ﷺ قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة؛ ما طمع بجنّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرّحمة؛ ما قنط من جنّته أحد».
وقد شرحت الاسمين الكريمين في البسملة، فلا معنى لإعادته، هذا؛ وذكرت لك فيما تقدم:
أنّ ﴿الرَّحْمنِ﴾ أبلغ من ﴿الرَّحِيمِ،﴾ وذكر ﴿الرَّحِيمِ﴾ بعده، فهو من ذكر الخاص بعد العام، لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى: ﴿وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ رقم [٤٣] من سورة (الأحزاب).
الإعراب: يجوز فيهما ما جاز في البسملة من أوجه الإعراب.
﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)﴾
الشرح: ﴿مالِكِ﴾ قرئ: («ملك») من غير مد، وبكسر الكاف فيهما، وقرأ محمد بن السّميقع بنصب («مالك»)، والمالك: هو المتصرّف في الأعيان المملوكة كيف شاء، من: الملك.
والملك هو المتصرف بالأمر، والنهي في المأمورين، من: الملك. انتهى. بيضاوي.
1 / 21
وجمع مالك: ملاّك، وملّك، وجمع ملك: أملاك، وملوك، هذا وفيه لغتان أخريان ملك بسكون اللام، وجمعه على هذا: أملك، وملوك. ومليك فمن الأول قول عمرو بن كلثوم في معلّقته رقم [٣٠]: [الوافر]
وأيّام لنا غرّ طوال... عصينا الملك فيها أن ندينا
ومن الثاني قول لبيد بن ربيعة الصحابي-﵁-في ملعقته، رقم [٨٤] [الكامل]
فاقنع بما قسم المليك فإنّما... قسم الخلائق بيننا علاّمها
هذا وذكر ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ بعد ذكر: ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ هو من ذكر الخاص بعد ذكر العام، وفيه ما فيه من التهويل، ورفعة الشأن، والتنبيه على مكانته، وعلوّ قدره. هذا وقيل:
﴿مالِكِ﴾ أبلغ من («ملك») لأن فيه زيادة حرف، فلقارئه عشر حسنات زيادة عمّن يقرأ: («ملك»).
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة ب («ملك») وفيه من المعنى ما ليس في ﴿مالِكِ﴾ لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى ملكا كان ملكا ومالكا بلا ريب. قال ابن الحصار: إنما كان ذلك؛ لأن المراد من (﴿مالِكِ﴾) الدلالة على الملك بكسر الميم، وهو لا يتضمّن الملك بضم الميم، و(«ملك») يضمن الأمرين جميعا، فهو أولى بالمبالغة، ويتضمّن أيضا الكمال، لذا استحق الملك على من دونه.
﴿يَوْمِ الدِّينِ:﴾ يوم الجزاء، ومنه: كما تدين تدان، أي كما تفعل تجازى. وعن ابن عباس ﵄-قال: ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم حساب الخلائق، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، إلا من عفا الله عنه، والأمر أمره، ثم قال: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ هذا و﴿الدِّينِ﴾ أيضا: الملّة، والشريعة، ومنه قوله تعالى في سورة (يوسف) رقم [٧٦]: ﴿ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ،﴾ و﴿الدِّينِ﴾ اسم لجميع ما يعبد به الله تعالى. هذا ويطلق ﴿الدِّينِ﴾ على العادة، والشأن، والحال، كما في قول امرئ القيس في معلقته رقم [١٠]: [الطويل]
كدينك من أمّ الحويرث قبلها... وجارتها أمّ الرّباب بمأسل
هذا والدّين-بفتح الدال-: القرض المؤجّل، وجمع الأول: أديان، وجمع الثاني: ديون، وأدين. هذا؛ والدينونة: القضاء، والحساب، والدّيانة: اسم لجميع ما يتعبّد به الله. هذا وتخصيص ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ بالإضافة له سبحانه، مع أنه مالك لجميع الأشياء في جميع الأوقات، والأيام؛ لأنه في ذلك اليوم ينسلخ عن ملوك الدنيا ما كان لهم من الملك الظاهر، وينفرد الجبّار فيه بالملك، ونفوذ الأمر، كما يقول الله تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ﴾ الآية رقم [١٦] من سورة (غافر)، وكما قال الله تعالى في وصف ذلك اليوم في آخر سورة الانفطار: ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ،﴾ وانظر شرح «يوم» في الآية رقم [٤٨] من سورة (البقرة).
1 / 22
الإعراب: ﴿مالِكِ:﴾ يجوز فيه الجر، والرفع، والنصب كما في البسملة، فالنصب على الحال، أو على النداء، وعلى المدح بفعل محذوف، وعلى النعت ل ﴿رَبِّ﴾ على قول من نصبه، قاله مكي. كما في الأسماء السابقة، و﴿مالِكِ﴾ مضاف و﴿يَوْمِ﴾ مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و﴿يَوْمِ﴾ مضاف و﴿الدِّينِ﴾ مضاف إليه، هذا وقيل:
إنّ إضافة ﴿مالِكِ﴾ ل ﴿يَوْمِ﴾ من إضافة اسم الفاعل للظرف، ومفعوله محذوف، التقدير: مالك الأمر كله يوم الدين.
﴿إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)﴾
الشرح: ﴿نَعْبُدُ:﴾ العبادة: غاية التذلل، ولا يستحقّها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذلك يحرم السجود لغير الله تعالى، وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. والاستعانة: طلب المعونة من الله تعالى على أمور الدنيا، والآخرة، وإنّما قدم: ﴿إِيّاكَ نَعْبُدُ﴾ على (﴿إِيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾) لأن العبادة لله هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أن يقدم ما هو الأهم، فالأهم، وقدم المفعول في الجملتين للاهتمام والحصر؛ إذ المعنى: لا نعبد إلا إيّاك، ولا نستعين إلا بك، وهذا هو كمال الطاعة، والدّين يرجع كلّه إلى هذين المعنيين، فالأول: تبرؤ من الشرك، والثاني: تبرؤ من الحول، والقوة، وتفويض إلى الله ﷿، هذا وأصل ﴿نَسْتَعِينُ:﴾ نستعون، وإعلاله مثل إعلال ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ في الآية التالية، ومصدره: استعانة، والأصل: استعوان، فقل في إعلاله:
اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى العين، وتحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الحال، فقلبت ألفا، فاجتمع ألفان: الألف المنقلبة، وألف الاستفعال، فحذفت ألف الاستفعال لالتقاء الساكنين، وعوض عنها التاء في الآخر، وقد يستغنى عن هذه التاء في حال الإضافة، منه قوله تعالى: ﴿رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ﴾ أي: إقامتها.
والإعلال المتقدم إنما هو إعلال بالنقل، والقلب، والحذف معا، ومثل هذا المصدر قولك:
استعاذ استعاذة، واستقام استقامة.
والضمير بالفعلين إنما هو لجماعة المتكلّمين، والمراد: جميع الموحّدين المصلّين، ففيه إيحاء إلى أداء الصلاة في الجماعة، يدرج المصلي عبادته في تضاعيف صلاة إخوانه المؤمنين لعلّها تقبل ببركتهم، فكأنّ المصلّي يقول: إلهي! عبادتي مشوبة بأنواع التقصير، لكنها مخلوطة بعبادة جميع العابدين، فاقبلها مني ببركة خلّص عبادك المؤمنين، فيا خسارة المهملين لصلاة الجماعة، كيف لا والرسول ﷺ يقول: «صلاة الرجل في الجماعة تضعّف على صلاته في بيته
1 / 23