تفسير قوله تعالى: (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنبياء:٩].
وعدناهم بالنصر فنصرناهم كما وعدناهم، وإن كانوا قبل أن ينصروا قد ابتلوا ابتلاءً شديدًا، وأوذوا في الله ﷿ أذىً شديدًا، ثم صدقهم الله ﷿ بعد ذلك.
وقد أخبر الله تعالى في سورة يوسف فقال: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف:١١٠]، أي: أن الرسل يئسوا من إيمان قومهم، دعوا قومهم ولا أحد يجيب، وقد يلبث فيهم النبي فترة طويلة يدعوهم إلى الله فلا يستجيبون، كما فعل سيدنا نوح، فلبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة، قال تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت:١٤] وقال الله ﷿: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود:٤٠] أي: عدد قليل من قومه، فيأتي الأنبياء يوم القيامة، النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الجماعة، والنبي ومع الرجل الواحد، والنبي وليس معه أحد عليهم الصلاة والسلام، فهذه هي دعوة الأنبياء لأقوامهم، فهم بشر يدعون بشرًا قد يؤمنون وقد لا يؤمنون، ولكن يأتي النبي بما يدل على نبوته، فيأتي بالمعجزة من عند رب العالمين سبحانه، فالله ﷿ قال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر:٥١].
ففي الدنيا ويوم القيامة ينصرهم الله ﷿، ولكن قد يتأخر هذا النصر لحكمة من الله ﷿، والنبي ﷺ وعد بأنه ينتصر على المشركين، وقد مكث في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعوهم إلى الله تعالى، وقد خرج عليهم مرة فآذوه وصبر، ثم خرج مرة أخرى فآذوه إيذاءً شديدًا فصبر، ثم خرج في المرة الثالثة فوقف على الكفار منهم أبو جهل وغيره فقال: (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ والله لقد جئتكم بالذبح).
قال هذا وكان مستضعفًا ومعه القليل من المؤمنين، والأكثرون هم الكفار، ومع ذلك يقف لهم بكل شجاعة ويقول: (والله لقد جئتكم بالذبح) يعني: جئتكم بالسيف من أجل أن أقطع رقابكم، وفعلًا كان هؤلاء ممن قتلوا في يوم بدر، فلما هاجر ﷺ بعد ذلك إلى المدينة جاء نصر الله في يوم بدر، لما قتل هؤلاء المشركون وألقوا في قليب بدر، وقف النبي ﷺ على القليب ينادي على أهل القليب: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا وليد بن عتبة!) وينادي على أبي جهل وغيرهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟) كانوا قد استأخروا النصر الذي يدعيه محمد، وتطاولوا على النبي ﷺ.
ويقول لنا ربنا: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ [يوسف:١١٠] وهذه لها معان منها: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، أو حتى إذا استيأس أتباع الرسل من أمر النصر ومن أمر هؤلاء الكفار أنهم لا يؤمنون، أو استيأس الكفار من كلام الرسل من أنكم تقولون لنا كلامًا وتعدوننا ثم لا يحصل.
﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ [يوسف:١١٠] ينجي الله سبحانه ﵎ من يشاء من عباده، وهنا قراءتان: ﴿فَنُجِّيَ﴾ [يوسف:١١٠]، و(فَنُنْجي مَنْ نَشَاءُ) بنون العظمة.
الله ﷿ ينجي من يشاء من عباده، ولا مانع من أن يقتل كثير من المؤمنين، فالله ﷿ ما قال ننجي المؤمنين جميعًا، ولكن قال: ﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ [يوسف:١١٠] فمنهم من نجا ومنهم من أخذه الموت أو استشهد في سبيل الله ﷿.
﴿وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف:١١٠] الغرض أن الله سبحانه ﵎ وعد الرسل، ولا بد أن يتحقق وعد الله سبحانه الذي وعد به المرسلين.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ﴾ [الأنبياء:٩] فأنجى الرسل وأنجى من يشاء سبحانه ﵎، وأهلك من يشاء، فمن هؤلاء الذين ماتوا الكفار، ومنهم المؤمنون الذين ماتوا، فالمؤمنون شهداء، والكفار في نار جهنم خالدين فيها.
قال سبحانه: ﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنبياء:٩].
يعني الذين أسرفوا على أنفسهم، وضيعوا دنياهم وأخراهم.
2 / 7