79

وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد

[ق:21] فالسائق هو مبدء مبادي الإدراك، والشهيد هو مبدء مبادي التحريك، فإنك بعد خلق الإدراكات فيك لا يكفيك مشاهدة الطعام، بل تفتقر الى شهوة الأكل والميل إليه تستحثك على الحركة والطلب، فخلق الله فيك شهوة الطعام وسلطها عليك كالمتقاضي. ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة منك، أهلكت نفسك. فخلق فيك الكراهة عند الشبع. ثم خلق فيك شهوة المجامعة لبقاء نوعك ودوام نسلك، وفي خلق أسباب التوليد من الانثيين والرحم ودم الحيض والمني والمجاري والعروق والأوعية، وكيفية توليد النطفة وتشكلها، وكيفية إدارتها في أطوار الخلقة إلى تمام الأعضاء، من العجائب ما لا يحصى.

ثم الشهوة والغضب، لا يدعوان الا إلى ما ينفع ويضر في الحال. وهما لا يكفيانك، فميزك الله عن الحيوانات بقوة أخرى هي الإرادة العقلية إكراما لك وإفرادا عن البهائم، كما أفردك بمعرفة العواقب.

ثم هذه القوى لا تكفيك، فكم من زمن مدرك مشتاق إلى شيء بعيد منه لا يقدر على المشي إليه، فخلق لك قدرة على المشي والطلب لمشتهياتك، وآلات معينة عليهما، وعلى الدفع والهرب لما يمنعك وعما يضادك، وتلك الآلات بعضها طبيعية كالأعضاء، وبعضها خارجية كالاسلحة والمراكب والدواب والفن وآلات الزرع ومباديها وأسبابها وفواعلها من الصناع والمصلحين وغير ذلك.

وفي كل ذلك من نعم الله وحكمته ما لا يعد ولا يحصى، فلتعتبر رغيفا واحدا ولتنظر ما تحتاج إليه حتى يصلح للأكل من بعد إلقاء البذر إلى الأرض.

فانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والطحن والخبز من نجار وحداد وغيره، وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس، وانظر كيف خلق الله الجبال والأحجار والمعادن، فإن فتشت علمت ان رغيفا واحدا لا يستدير ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع، ابتداؤها من الملك الذي يزجي السحاب لينزل الماء، الى آخر الأعمال من جهة الملائكة، حتى تنتهي النوبة إلى الإنسان، فإذا استدير طلبه قريب من سبعة آلاف صانع، كل صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتم مصلحة الخلق، ثم تأمل في كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات.

حتى أن الإبرة الصغيرة التي فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع عنك البرد، لا يكمل صورتها إلا بعد أن تمر على يد الإبري خمسة وعشرين مرة.

ثم اعلم أن هؤلاء الصناع، لو تفرقت آراؤهم، وتنافروا تنافر طباع الوحش وتبددها بحيث لا يحويهم مكان واحد ولا يجمعهم غرض واحد، فانظر كيف ألف الله بين قلوبهم، فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا، وبنوا البلدان والمدن، ورتبوا المساكن والدور والأسواق والخانات وما أشبهها مما يطول شرحه.

ثم هذه المحبة تزول بأغراض يزاحمون عليها، ويتنافسون فيها، حتى ينجر إلى الحسد والغيظ، وذلك يؤدي الى التقابل والتفاسد، فانظر كيف سلط الله عليهم السلاطين وأيدهم بالقوة والشوكة والعدة والأسباب، وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لها طوعا وكرها، وكيف هدى الله السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد، حتى رتبوا أجزاء المدينة كأنها أزاء شخص واحد تتعاون تلك الأجزاء على غرض واحد يتبع البعض منا بالبعض، ورتبوا الرؤساء والقضاة والحكام وزعماء الأسواق، واضطروا الخلق الى قانون العدل، وألزموهم للتساعد والتعاون بذلك القانون.

فانظر كيف بعث الأنبياء حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا، وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الخلق، وقوانين السياسة في ضبطهم، وكشفوا من أحكام الإمامة والإمارة وأحكام الفقه والقضاء ما اهتدوا به الى إصلاح الدنيا، فضلا عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين.

Bilinmeyen sayfa