إذا عرفت هذا التقسيم فنقول: أعظم نعم الله علينا الهداية بالمعرفة، فإنا قد ذكرنا أنه كما ان النفس في الدنيا ضروري نافع، وبانقطاعه يموت القلب، فكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنه لا يتألم فيه إلا ساعة واحدة، وأما الموت الثاني فإنه يبقى أبد الآباد فأى نعمة أعظم وأشرف من نعمة الايمان.
ثم ها هنا دقيقة؛ لا تخفى عليك انه كما ان التنفس له أثران: إدخال النسيم الطيب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراج الهواء الفاسد الردي الحار المحترق عن القلب؛ كذلك الفكر، له أثران: أحدهما: ايصال نسيم الحجة وروح البرهان وبرد اليقين الى القلب الحقيقي، وابقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة والإعتقادات المؤلمة المتولدة من نيران الشبهات عنه، وما ذلك إلا بأن يعرف أن هذه المحسوسات الدنيوية فانية منتهية إلى الفناء بعد وجودها، فمن وقف على هذا علم إن أجل ما أنعمه الله على عبده، تجريده عن المحسوسات، وتنوير قلبه بالمعارف الإلهيات.
الثانية: إن الأمور كلها بالنسبة إلينا تنقسم الى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعا كالعلم وحسن الخلق، وإلى ما هو ضار فيهما كالجهل وسوء الخلق، وإلى ما ينفع في الحال ويضر في المآل كالتلذذ باتباع الشهوات، وإلى ما هو عكس ذلك كقمع الشهوات ومخالفة النفس.
الثالثة: إعلم أن النعم والخيرات باعتبار آخر، تنقسم الى ما هي مؤثرة لذاتها، وإلى ما هي مؤثرة لغيرها، وإلى ما هي مؤثرة لذاتها ولغيرها.
فالأول: كلذة النظر إلى وجه الله، وسعادة لقائه، وبالجملة سعادة الآخرة التي لا انقضاء لها، فإنها لا تطلب ليتوصل بها الى غاية اخرى مقصودة وراءها، بل تطلب لذاتها.
والثاني: كالدراهم والدنانير، إذ لا فائدة فيها إلا كونها وسيلة لأمر آخر.
الثالث: كالصحة والسلامة، فإنها تقصد ليقدر بسببها على التفكر والتذكر الموصلين الى لقاء الله، وليتوصل بها إلى الذات الدنيا، وتقصد أيضا لذاتها، فإن الإنسان وإن استغنى عن المشي الذي يراد سلامة الرجل لأجله، فيريد أيضا سلامة الرجل من حيث إنها سلامة، لأنها أمر وجودي بلا ضرر، فيكون مطلوبا، إذ الوجود الذي لا ضرر فيه خير محض مؤثر لذاته. فاذن المؤثر لذاته فقط هو الخير والنعمة تحقيقا، وما يؤثر لذاته ولغيره فهو نعمة أيضا، ولكن دون الأول، إذ المؤثر لأجل أمر آخر لا يخلو من نقص، لأن ما لا نقص له أصلا لو أريد لشيء آخر - ولو بوجه - لكان ذلك الشيء خيرا منه من ذلك الوجه، فلم يكن بريئا من كل نقص بكل وجه، وقد فرضنا كذلك وهذا خلف، وأما ما لا يؤثر إلا لغيره كالنقدين، فلا يوصفان في أنفسهما من حيث إنهما جوهران بأنهما نعمة، بل من حيث هما وسيلتان، وربما لا يكونان وسيلة في حق بعض بل بلاء وآفة، فلا يكونان نعمة، وكذلك أمور هذا العالم.
الرابعة: إن الخيرات باعتبار آخر، تنقسم إلى نافع وجميل ولذيذ، فاللذيذ هو الذي تدرك راحته في الحال، والنافع هو الذي يفيد في المآل، والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال.
والشر أيضا قد ينقسم إلى ضار وقبيح ومؤلم، وكل واحد من القسمين ضربان: مطلق ومقيد. فالمطلق؛ هو الذي اجتمعت فيه الأوصاف الثلاثة، أما في الخير فكالعلم والحكمة، فإنها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة، وأما في الشر فكالجهل المركب، فإنه ضار وقبيح ومؤلم، وإنما لا يحس الجاهل بألم جهله، لشواغل الدنيا وغطاء الطبيعة. والمقيد؛ هو الذي فيه بعض هذه الأوصاف دون بعض.
فرب نافع مؤلم كقطع الإصبع المتآكلة، ورب نافع قبيح كالحمق، فإنه يوجب استراحة الأحمق في الحال إلى أن يجيء وقت هلاكه في المآل، ولذلك قيل: استراح من لا عقل له.
Bilinmeyen sayfa