فقوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } ، بيان للمعونة المطلوبة في الآية السابقة، فكأنه قال: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا فهذه الآية وما يتلوها كالأجوبة لأسئلة ربانية، كما قال بعض العرفاء: فكأن لسان الربوبية يقول عند قول العبد: اهدنا الصراط: أي صراط تعنى؟ فالصراطات كثيرة كلها لي، لما تقرر واشتهر ان الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فيقول لسان العبودية: اريد منها: المستقيم.
فيقول لسان الربوبية: كلها مستقيمة من حيث اتهج إلى غايتها كلها، وإلي مصير من يمشي عليها جميعا. فأي استقامة تقصد في سؤلك يا عبدي؟
فيقول لسان العبودية: اريد من بين الجميع: { صراط الذين انعمت عليهم }.
فيقول لسان الربوبية: ومن الذي لم أنعم عليه؟ وهل في الوجود شيء لم تسعه رحمتي ولم تشمله نعمتي؟ فيقول لسان العبودية: إن رحمتك واسعة ونعمك سابغة شاملة، لكني لست أبغي إلا صراط الذين انعمت عليهم النعم الظاهرة والباطنة الصافية من كدر الغضب ومحنته، وشائبة الضلال ونكبته، فإن السلامة من قوارع الغضب لا تقنعني، إذا لم تكن النعم المسدلة إلي مطرزة بعلم الهداية المخلصة من محنة الحيرة والضلالة، وبيداء التيه وورطات الشبهة والشك والتمويه، وإلا فأية فائدة في تنعم ظاهري بأنواع النعم مع تألم باطني بهواجم التلبيسات المانعة من الاطمينان والسكون، ورواجم الريب والظنون.
هذا في الوقت الحاضر - فدع ما تتوقعه من اليوم الآخر، فتذكر عند هذا قوله (صلى الله عليه وآله) حكاية عن ربه أنه قال:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. فإذا قال العبد: { بسم الله الرحمن الرحيم } ، يقول الله: ذكرني عبدي، وإذا قال: { الحمد لله رب العالمين } ، يقول الله: حمدني عبدي. وإذا قال: { الرحمن الرحيم } ، يقول الله: عظمني عبدي، وإذا قال: { ملك يوم الدين } ، يقول الله: مجدني عبدي، وفي رواية فوض إلي عبدي. وإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، يقول الله: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ".
فاعرف كيف تسأل، تنل من فضل الله ما تؤمل.
فصل
[الانسان أشرف الخلائق]
واعلم أن الإنسان المهتدي بنور الله، أشرف الخلائق كلها، وأبدع ما في الإمكان، لأن الله اصطفاه لقربه، وأضافه إلى نفسه، من الله مبدأه وإلى الله منتهاه، قد باشر الحق ايجاده بنفخه فيه من روحه، وتخمير جسده بيديه، واختار لعبده الأسماء كما لنفسه، وآثر الخيرة له من لدن نزوله من عنده إلى حين صعوده إليه، في كل صورة يتلبس بها، أو مقام يمر عليه، أو نشأة يظهر بها نفسه، وموطن يتعين فيه النشأة، وزمان يحويه من حيث تقيده به وتغيره معه، ومكان يستقر فيه من حيث هو متحيز به وحاصل في دائرته. وأول كل ذلك ومبدأه هو من حال تعلق الإرادة الإلهية به عند تعينه بعينه الثابت في علمه الأزلي، ثم اتصال حكم القدرة به لإبرازه في أطوار الوجود، ومروره على المراتب الإلهية والكونية، وله في كل عالم وحضرة يمر عليه صورة تناسبه من حيث ذلك العالم أو الحضرة، ووديعة يأخذها من جملة النعم، من التعديل والتسوية، وتمامية الخلقة، وحسن الصورة، والاعتدال، وحسن الخلق والعدالة.
Bilinmeyen sayfa