42

ومنها: أن كلا من مواضع الشعور الخمسة خالية عن الكيفيات المحسوسة بتلك الآلة، فإن آلة البصر - وهي الجليدية - شفافة، وآلة الطعم - وهي الرطوبة اللعابية - عديمة الطعم، وآلة الشم عديمة الرائحة، وآلة السمع عديمة الصوت، وكذلك حكم آلة اللمس، فإنها وإن لم تكن خالية عن أوائل الكيفيات إلا انها متوسطة بينها، وقد تقرر إن التوسط بين الأضداد بمنزلة الخلو عنها، أو لا ترى أنك تقول للماء الفاتر: لا حار ولا بارد؟.

ولأجل خلو مادة كل من هذه القوى الحساسة عن جميع أفراد الصور التي هي واقعة تحت جنس محسوساتها، صارت قابلة للجميع من غير تأب وتعص عن قبول شيء منها، ما لم يعرض لها فساد أو مرض.

ثم إن مادة كل منها، وإن لم تكن مقيدة بصورة الكيفية التي يقع الإحساس بها من تلك الحاسة، ولكنها مقيدة بصور وكيفيات أخر من أجناس سائر المحسوسات، ولهذا اقتصر إدراكها على ما يخصها ولا يتجاوز عنه إلى المحسوسات الأربع الباقية، ولخلوص القوة المتخيلة عن هذه الكيفيات المحسوسة كلها، أدركت الجميع وأحضرتها، لأن جوهر النفس الخيالية غير مبصرة ولا مسموعة ولا مشمومة ولا مذوقة ولا ملموسة، ولها قوة قبول هذه الأشياء كلها، فلا جرم تقبلها كلها.

ومنها: أن ملكة العدالة النفسانية - التي هي عبارة عن توسط النفس الإنسانية في الشهوة بين الفجور والخمود، وفي الغضب بين الجبن والتهور، وفي القوة الإدراكية بين الجربزة والبلاهة - لما كانت بمنزلة كون النفس خالية عن الإتصاف بهذه الصفات الستة، التي كل منها هيئة نفسانية شاغلة إياها إذا كانت راسخة عن طلب الحق وسلوك الآخرة، صارت بسببها مستعدة للكمال العلمي، لأنها عند انكسار هذه القوى وانقهارها عن طلب مشتهياتها ومقتضياتها، تخلص عن انقيادها وطاعتها، فتقع لها بقوة عقلها الهيولاني، هيئة استعلائية عليها، وقوة نورية استعدادية لطاعة الحق وانقياده، وقبول أنوار المعارف الإلهية وأسرار المقاصد الربوبية، فيصير عقله المنفعل علامة بالحق، مطيعا لله تعالى.

فإذا علمت حال هذه الأمثلة، فقس عليها حال السالك العارف بالله عند عدم التفاته بما سواه، وعند كونه غير مشغول السر بغير الله، وغير متبجح بزينة ذاته من حيث هي ذاته، وإن كانت بصورة المعرفة وهيئة العبودية، بل مع غيبته عن ذاته، وغيبته عن غيبة ذاته، وفنائه عن فنائه، وحينئذ يكون باقيا ببقاء الله فوق ما كان باقيا بابقاء الله، كما كان قبل الوصول، وهذا هو مقام الفناء في التوحيد والمحو، وإليه الإشارة بقوله: { إياك نعبد }.

فإذا بقي في هذا المحو ولم يرجع إلى الصحو، كان مستغرقا في الحق محجوبا بالحق عن الخلق، كما كان قبل ذلك محجوبا بالخلق عن الحق، لضيق وعائه الوجودي وامتناع قبوله التجلي الذاتي الشهودي فكذلك الموجود في مقام هذا التجلى والشهود احتجب التفصيل عن شهوده واضمحلت الكثرة في وجوده، ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله وسبحات نور جلاله، لاستغراقه في بحر التوحيد، فلا ينظر إلى ما سواه ولا يستعين إلا إياه، فيقول عند ذلك: إياك نستعين. أي في مشاهدة آلائك بمشاهدة ذاتك وصفاتك فحينئذ يرجع من الحق بالحق إلى الخلق، وهذا هو السفر الثالث من الأسفار الأربعة الواقعة من الكاملين المكملين.

فإذا رجع بالوجود الحقاني الموهوب إلى حالة الصحو بعد المحو، وانشرح صدره ووسع الحق والخلق، صار منتصبا في مقام الاستقامة كما أمر الله به الرسول - صلى الله عليه وآله - في قوله:

فاستقم كمآ أمرت

[هود:112]، متوسطا في صراط الحق بين التشبيه والتعطيل، ناظرا بعين الجمع إلى التفصيل، وإليه الإشارة بقوله: { اهدنا الصراط المستقيم }.

وذلك هو الفوز العظيم، والمن الجسيم، فقوله: اياك نعبد، إشارة إلى مقام السلوك إلى الله والتقرب إليه بالعبودية التامة له، وهي مرتبة الولاية المشار إليها في قوله: لا يزال يتقرب العبد إلي النوافل حتى أحببته.

Bilinmeyen sayfa