إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ١ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ ٢ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ٣.
أما بعد: فهذا (تفسير الإمام ابن أبي العز) قمت باستخراجه من خلال مؤلفاته، وضممت شتاته، وعلقت حواشيه على قدر الوسع والطاقة، والبضاعة المزجاة.
والله تعالى أسأل أن يغفر لناثره وجامعه، وأن ينفع به قارئه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الأول: مقدمة وتعريف (وفيه عنصران):
العنصر الأول: مقدمة، تشمل ما يلي:
١- أسباب اختيار الموضوع.
٢- خطة البحث.
٣- المنهج المتبع في إخراج البحث.
_________
١ سورة آل عمران، الآية: ١٠٢.
٢ سورة النساء، الآية: ١.
٣ سورة الأحزاب، الآية: ٧٠، ٧١.
120 / 13
العنصر الثاني: تعريف موجز بالإمام ابن أبي العز، ويشتمل على ما يلي:
١- اسمه ونسبه وولادته.
٢- نشأته وشيوخه وتلاميذه.
٣- مذهبه في العقيدة والفقه.
٤- مؤلفاته والمناصب العلمية التي وليها.
٥- وفاته رحمه الله تعالى.
120 / 14
القسم الأول: مقدمة وتعريف، وفيه عنصران:
العنصر الأول: مقدمة تشمل
١-أسباب اختيار الموضوع
١- العقيدة الصحيحة، أهم شرط من شروط المفسر للقرآن الكريم وقد أُصيب هذا الشرط بشيء من الخلل منذ ظهور الفرق التي تأثرت بمنطق اليونان وحضارة الفرس ولرفع هذا الخلل، أو التقليل من آثاره أرى أن نتبع سببين:
الأول: التنقيب والبحث عن المخطوطات التفسيرية التي عُرف مؤلفوها بالعقيدة الصحيحة وإخراجها للناس.
الثاني: جمع المنثور من التفسير من كتب الأئمة الذين اتبعوا منهج السلف، وعُرفوا بحبه والتمسك به.
٢- رأيت من بعض المعاصرين الشغف بإخراج تراث بعض الفرق الضالة والدعوة إليها١ وهذا تهديد لحصوننا من داخلها وزيادة لجراحنا النازفة، فلعل جمع تفسير من عرف بالتصدي لتلك الفرق مما يدفع الله به الفساد، والله تعالى يقول: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ ٢
٣- هناك محاسن كثيرة تميز بها تفسير الإمام ابن أبي العز، دعتني إلى استخراجه والتعليق عليه، وقد ذكرتها تفصيلًا في خاتمة هذا البحث.
٢- خطة البحث:
تقع خطة هذا البحث في قسمين وخاتمة وفهارس
القسم الأول: مقدمة وتعريف (وفيه عنصران)
_________
١ من الأمثلة على هذا تحقيقات وكتابات الدكتور عدنان زرزور حول تراث المعتزلة التفسيري.
٢ سورة البقرة، الآية: ٢٥١.
120 / 15
العنصر الأول: مقدمة، تشمل: أسباب اختيار الموضوع، والخطة التي يقوم عليها البحث، والمنهج المتبع في إخراجه.
العنصر الثاني: تعريف موجز بالإمام ابن أبي العز. يشتمل علي:
اسمه ونسبه وولادته، ونشأته وشيوخه وتلاميذه، ومذهبه في العقيدة والفقه، ومؤلفاته والمناصب العلمية التي وليها، ووفاته رحمه الله تعالى.
القسم الثاني: عرض تفسير الإمام ابن أبي العز، مرتبًا على سور القرآن الكريم وآياته، موشى بالتعليقات اللازمة.
الخاتمة: في ذكر بعض محاسن تفسير الإمام ابن أبي العز
الفهارس: وتشمل (فهرس الآيات، والمراجع، ومواضع البحث) .
٣ - المنهج المتبع في إخراج البحث:
١- جمعت كتب المؤلف واستخرجت التفسير منها، ورتبته على سور القرآن الكريم وآياته.
٢- إذا أورد المؤلف أكثر من آية في مكان واحد، ثم ذكر تفسيرًا واحدًا يناسب هذه الآيات، جعلت ذلك في السورة التي ذكر أول آية منها، وإذا ساق المؤلف عددًا من الآيات - في مكان واحد - لكل آية معنى يختلف عن معنى الآية الأخرى، جعلت كل آية في سورتها.
٣- عندما استخرجت هذا التفسير فإنني لم أنقل إلا ما قصد به المؤلف تفسير الآية؛ ولهذا لم أتعرض للآيات التي يذكر المؤلف شيئًا مما يوافق معانيها دون إيراد نصها.
٤- خرّجت الأحاديث والآثار من مصادرها المعتمدة، مع ذكر الحكم على الحديث أو الأثر إن لم يكن في الصحيحين، أو في أحدهما، وأنا مسبوق في الحديث من قبل الأساتذة الّذين حققوا شرح العقيدة الطحاوية.
٥- الآيات التي فسرها المؤلف أشرت إلى سورتها ورقمها في الحاشية،
120 / 16
وإذا تكررت في أثناء تفسير الآية لم أُشر إليها مرة أخرى، وقد أُشير أحيانًا.
٦- شرحت الغريب، وضبطت بالشكل ما رأيت أنه يحتاج إلى ضبط وعرّفت ببعض الفرق والأعلام ووثّقت جميع نقولات المؤلف في التفسير والقراءات وغير ذلك، وأشرت إلى المراجع التي وافقت المؤلف فيما قَال أو نقل.
٧- أشرت إلى الكلام المحذوف بوضع ثلاث نقاط، وإلى المدخل الّذي ليس للمؤلف بوضعه بين معكوفين.
٨- ناقشت ما يحتاج إلى مناقشة، وبينت ما يحتاج إلى بيان من الأقوال أو المعاني التي ذكرها المؤلف.
٩- عرفت بالمؤلف وصنعت خاتمة للبحث وفهارس للآيات والمراجع ومواضع البحث.
120 / 17
العنصر الثاني: تعريف موجز بالإمام ابن أبي العز
١-اسمه ونسبه وولادته
أ-اسمه ونسبه: هو علي بن علي بن محمد بن محمد ابن أبي العز١ بن صالح ابن أبي العز بن وهيب بن عطاء بن جُبير بن جابر بن وهيب، الأذرعي - الأصل - الدمشقي٢، يلقب بصدر الدين٣.
ب- ولادته: ولد في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة٤، سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة٥، في الصالحية من مدينة دمشق٦.
٢- نشأته وشيوخه وتلاميذه:
أ- نشأته: نشأ المؤلف في ظل أُسرة ذات نباهة في العلم، ومكانة في المجتمع، فأبوه كان قاضيًا، وكذلك جده٧. وأبو جده (محمد) كان أحد أساتذة المدرسة المرشدية٨، وأولاد عمومته منهم القاضي٩، ومنهم
_________
١ ورد في عدد من مخطوطات كتب المؤلف (ابن العز) وكذلك في كشف الظنون (٢/١١٤٣)، وهدية العارفين (١/ ٧٢٦) وورد في بعض المواضع من إنباء الغ مر (٣/٥٠)، أن اسم المؤلف محمد، وتابع ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (٦/٣٢٦) هذا الموضع من ِإنباء الغمر، والصحيح (علي) كما في جميع المراجع الأخرى، وكما هو مدون على مخطوطات كتبه.
٢ هكذا ذكر نسب أبيه ابن قاضي شهبة في تاريخه (٢/ ٤٦٩) وأشار أيضًا إلى اسم المؤلف ولقبه بقوله: "ولده صدر الدين علي" (٢/ ٤٧٠) .
٣ انظر المرجع السابق (٢/ ٤٧٠)، والثغر البسام، ص (٢٠١) .
٤ انظر الدليل الشافي (١/٤٦٥) .
٥ انظر الدرر الكامنة (٣/ ١٥٩)، والدليل الشافي (١/ ٤٦٥) .
٦ انظر الدليل الشافي (١/٤٦٥) .
٧ انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (٢/٤١٥) فقد أشار إلى أن أباه وجده من القضاة.
٨ انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (٦٧، ٦٨) .
٩ انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (٣/٤٨١، ٣٦٠) .
120 / 18
المفتي١، ومنهم المدرس٢.
ب- شيوخه: لا تجود علينا كتب التراجم، ولو بيسير في هذا الجانب، والذي أستطيع أن أقول في هذه الناحية وأنا مسبوق إليه٣: إن الإمام صدر الدين ابن أبي العز قد تركت فيه كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه أعظم الأثر، فهما الشيخان الموجهان لحياة هذا الإمام، وقد صرح باسم الإمام ابن كثير في أكثر من موضع في شرح العقيدة الطحاوية، ووصفه بأنه شيخه٤، ويترجح عند بعض الباحثين بأنه كان يتصل بالإمام ابن القيم ويستفيد منه مشافهة٥، فأمّا نقله من كتبه فكثير جدًا، خصوصًا في شرح العقيدة الطحاوية٦.
وهناك شيخ آخر لابن أبي العز ذكره في كتابه التنبيه على مشكلات الهداية٧، هو: إبراهيم بن علي بن أحمد الطرسوسي، أحد العلماء على مذهب الإمام أبي حنيفة، وتوفي بدمشق سنة ٧٥٨؟٨.
وأما دراسة ابن أبي العز الأولية فلم أظفر بشيء عنها ولكن يبدو أنها كانت على يدي والده، وفي المدراس التي تهتم بدراسة المذهب الحنفي.
ج- تلاميذه: لا نشك في أن لهذا الإمام تلاميذًا، ولكن لم تتفضل علينا كتب التراجم بشيء في ذلك؛ إلاّ ما ذكره الإمام السخاوي في بعض
_________
١ انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (٦٨) .
٢ انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (٢/٥٠٣، ٥٠٤) و(٣/١٤٨) .
٣ انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (٧، ٧٣) للأستاذين التركي والأرنؤوط.
٤ انظر المرجع السابق، ص (٧٣) وانظر من هذا البحث آخر سورة التوبة، الآية (١٢٤) .
٥ انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (٧٣) .
٦ انظر من هذا البحث الحواشي، عند الآية (١٨) من سورة آل عمران، والآية (١٧٢) من سورة الأعراف.
٧ انظر منه، ص (٣٥٥) تحقيق أنور.
٨ انظر تاج التراجم، ص (٨٩)، والفوائد البهية، ص (١٠)، والطبقات السنية (١/٢١٣) .
120 / 19
كتبه١ أن ابن الديري واسمه سعد بن محمد بن عبد الله أحد قضاة الحنفية ت: ٨٦٧ قد أجاز له ابن أبي العز.
٣- مذهبه في العقيدة والفقه
أ- في العقيدة: الإمام ابن أبي العز مشى على مذهب السلف في جميع المباحث العقدية، وحسبك في إثبات هذه الحقيقة - التي هي أوضح من الشمس في رابعة النهار - أمران.
الأول: ما سطره في شرحه للعقيدة الطحاوية، فقد تناول في هذا الكتاب جل المباحث العقدية بمنهج سلفي رصين، حتى غدا هذا الكتاب أحد الدعائم التي تعتمد عليها الجامعات الإسلامية في تدريس مادة التوحيد.
الثاني: اعتراضه على بعض شعراء أهل زمانه٢، عندما مدح النبي ﷺ بقصيدة، وقع فيها بعض الأخطاء العقدية فبيَّن الإمام ابن أبي العز تلك الأخطاء، ونبَّه عليها، فلم يعجب ذلك بعض أهل زمانه ممن ينتحل العلم، وشغَّبوا عليه بهذه المسألة فامتحن بسببها وأُدخل السجن، وأوذي٣.
ب- أما مذهبه في الفقه: فهو حنفي٤، يزن أقوال الأئمة بالكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة. ولقد وضع لنفسه منهجًا قويمًا قاده إلى
_________
١ انظر الضوء اللامع (٣/ ٢٤٩ - ٢٥٣)، ووجيز الكلام (١/ ٢٩٦) .
٢ واسمه: علي بن أيبك بن عبد الله. قَال ابن حجر: اشتهر بالنظم قديما ... وله مدائح نبوية (ت: ٨٠١؟) انظر إنباء الغمر (٤/٦٧)، والدليل الشافي (١/ ٤٥٢) .
٣ تفاصيل الحادثة وامتحانه في إنباء الغمر بأبناء العمر (٢/٩٥-٩٨) الطبعة العثمانية في حوادث ٧٨٤؟. وقد أحسن الشيخان التركي والأرنؤوط بشرح ملابسات تلك الحادثة، وبيان وجه الحق فيها. انظر: مقدمتهما لشرح العقيدة الطحاوية، ص (٨٧-١٠٢) .
٤ ذكره في قضاة الحنفية في مصر السيوطي في حسن المحاضرة (٢/ ١٨٤، ١٨٥) ووصفه جماعة من المترجمين له بالحنفي منهم ابن حجر في الدرر الكامنة (٣/١٥٩)، وابن تغري بردي في الدليل الشافي (١/٤٦٥)، والسخاوي في وجيز الكلام (١/ ٢٩٦) .
120 / 20
باب الإمامة، وجعل أبحاثه في غاية الدقة والمتانة، بعد توفيق من الله ورعايته نص عليه في كتابه الإتباع فقال: "فالواجب على من طلب العلم النافع أن يحفظ كتاب الله ويتدبره، وكذلك من السنة ما تيسر له، ويتضلع منها ويتروّى، ويأخذ معه من اللغة والنحو ما يصلح به كلامه، ويستعين به على فهم الكتاب والسنة، وكلام السلف الصالح - في معانيها - ثم ينظر في كلام عامة العلماء: الصحابة، ثم مَنْ بعدهم، ما يتيسر له من ذلك من غير تخصيص، فما اجتمعوا عليه لا يتعداه، وما اختلفوا فيه نظر في أدلتهم من غير هوى ولا عصبية، ثم بعد ذلك من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا"١.
٤- مؤلفاته والمناصب العلمية التي وليها:
أ- مؤلفاته: له عدة مؤلفات وقفت عليها جميعًا إلاّ واحدًا، وكلها قوية - أعني ما وقفت عليه - في موضوعها ومضمونها، وإليك الحديث عنها بإيجاز.
شرح العقيدة الطحاوية٢: وهو شرح نفيس تضمن أبحاثًا دقيقة عميقة، وتحقيقات بديعة متقنة في العقيدة الإسلامية، على منهج السلف٣ بل إنه لم يترك مبحثًا مهمًا من مباحث العقيدة، وإلا وطرقه بإطناب، وقد حُقّق
_________
١ الاتباع، ص (٨٨) والمؤلف في جميع كتبه (التنبيه على مشكلات الهداية، وشرح العقيدة الطحاوية، والاتباع، ورسالة في صحة الإقتداء بالمخالف) يحارب المتعصبين للأئمة، الذين يسوقون الأمة إلى الاختلاف والتنازع، ولكنه لا يمنع من تقليد الأئمة دون تعصب؛ فإنه القائل: "ومن ظن أنه يعرف الأحكام من الكتاب والسنة بدون معرفة ما قاله هؤلاء الأئمة وأمثالهم، فهو غالط مخطئ. ولكن ليس الحق وقفًا على واحد منهم، والخطأ وقفًا بين الباقين حتى يتعين اتباعه دون غيره". الاتباع، ص (٤٣) .
٢ نسبه إلى المؤلف الإمامُ السخاوي في وجيز الكلام (١/٢٩٦)، والزبيدي في شرح إحياء علوم الدين (٢/١٤٦)، وانظر مقدمة التركي والأرنؤوط للكتاب المذكور، ص (١١٧) .
٣ انظر مقدمة التركي والأرنؤوط لشرح العقيدة الطحاوية، ص (٨١) .
120 / 21
١- الكتاب عدة تحقيقات، وطُبع عدة طبعات كان أول هذه التحقيقات والطبعات قبل سبعين سنة، وقد استوفى الكلام على هذه الطبعات التركي والأرنؤوط، في تحقيقهما لهذا الشرح١، الذي هو أفضل التحقيقات والطبعات فيما رأيت، وعليه اعتمدت في نقل النصوص التفسيرية، وإن كان لا يسلم من ملاحظات، والكمال لله وحده٢.
٢- الإتباع٣: يقع هذا الكتاب في (١١٠) صفحات من الحجم المتوسط، له أكثر من طبعة، والتي وقفت عليها هي الطبعة الثانية في عمان، سنة ١٤٠٥هـ بتحقيق محمد عطا الله، وعاصم بن عبد الله، والكتاب رد على رسالة ألفها معاصره محمد بن محمود بن أحمد الحنفي المعروف بالبابرتي (ت: ٧٨٦هـ) يرجح فيها تقليد مذهب أبي حنيفة على غيره من المذاهب، فكان لابن أبي العز معه وقفات موفقة أعاد فيها الحق إلى موضعه، فيما زل فيه البابرتي، والعصمة لله وحده، ثم لرسوله ﷺ.
٣-رسالة في الفقه: مضمونها جواب عن ثلاثة أسئلة وجهت إلى المؤلف. الأول: أن جماعة من الحنفية يتحرجون من الصلاة خلف من يرفع يديه في أثناء الصلاة. والثاني: أنهم إذا صلوا الجمعة خلف إمام الحي ينهضون عند سلامه ويقيمون الصلاة، ويصلون الظهر؛ لأن هذه الصلاة لا تصح عندهم إلا في مصر جامع، والثالث: أن بعضهم يتحرز من ماء الوضوء الذي يسقط من أعضاء الوضوء، لظنهم أنه نجس. وقد أجاب المؤلف عن هذه الأسئلة بما استغرق خمس لوحات،
_________
١ انظر مقدمتهما، ص (١٠٦، ١٠٩) .
٢ منها قولهما: إنهما خرجا الآثار، وهما لم يخرجا إلا عددًا لا يكاد يُذكر. ومنها إطلاقهما القول بما يفيد أنهما أشارا إلى جميع مواضع النقول من المؤلفات التي نقل منها الشارح. ومنها تساهلهما في إطلاق كلمة (لم نقف عليه) أثناء حديثهما على مؤلفات الشارح التي لم تطبع وفي تعارف الباحثين أن هذه الكلمة لا تُقال إلا بعد البحث الجيد.
٣ انظر توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية، من كتاب الاتباع، ص (١٢) .
120 / 22
غير لوحة العنوان، وقد قام بتحقيقها الطالب مسعود عالم بن محمد.١
والمسلمون بحاجة إلى ما فيها من علم، خصوصًا في زماننا هذا الذي جعل فيه العوامُ - وأشباههم ممن ينتحل العلم - هذه الخلافات الفرعية سبيلًا إلى تفريق هذه الأمة، وزيادتها وهنًا على وهن.
٤-كتاب التنبيه على مشكلات الهداية٢: نسبه إليه الإمام السخاوي٣ وغيره٤. والمؤلف يعني بالهداية، كتاب الهداية لمؤلفه على بن أبي بكر المرغيناني (ت: ٥٩٣ هـ) .
وكتاب التنبيه يحتوي على علم غزير يشهد لمؤلفه بالإمامة والرسوخ في علم الفقه المقارن، وكذلك في علمي الأصول والحديث، إلا أنه تحامل على صاحب الهداية، فلم ينصفه في بعض المواطن.
والكتاب حُقق في رسالتي ماجستير، وذلك بقسم الفقه في كلية الشريعة، بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
٥- النور اللامع فيما يعمل به في الجامع: نسبه إليه إسماعيل باشا، والزركلي، وكحالة٥، ويعني بالجامع، جامع بني أمية بدمشق٦، ولم أقف على ذات الكتاب
_________
١ يوجد منها نسخة في المكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية، برقم (٤/٢١٧ ع زر) وفات الباحث الاطلاع على نسخة أخرى ذكرها فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية المجاميع (٢/٣٥٠) ولا أدري هل اطلع عليها الباحث عندما طبع الكتاب في دار الهجرة.
٢ هكذا ذكر المؤلف عنوان الكتاب. انْظر: التنبيه على مشكلات الهداية، ص١ تحقيق عبد الحكيم.
٣ انظر وجيز الكلام (١/ ٢٩٦) .
٤ انظر هدية العارفين (١/٧٢٦)، والأعلام (٤/٣١٣)، ومعجم المؤلفين (٧/١٥٦) .
٥ انظر هدية العارفين (١/٧٢٦)، والأعلام (٤/٣١٣)، ومعجم المؤلفين (٧/١٥٦) .
٦ انظر هدية العارفين (١/ ٧٢٦) وعنوان الكتاب يوحي بأنه ليس كبيرًا، والله أعلم.
120 / 23
بعد البحث والمحاولة، وسؤال أهل الخبرة، ولازال الأمل موجودًا والبحث جاريًا.
ب- المناصب العلمية التي وليها: ذكرت كتب التاريخ أنه تولى التدريس والخطابة والقضاء.
١- التدريس: درَّس في عدد من المدارس الحنَفية، منها (القيمازية) في سنة ٧٤٨هـ١، والمدرسة الركنية سنة ٧٧٧هـ٢، والمدرسة العزية البرانية في ربيع الآخر سنة ٧٨٤هـ، ودرس بالمدرسة الجوهرية٣.
٢- الخطابة: تولى الخطابة في جامع الأفرم بدمشق٤، وتولى الخطابة أيضًا بحسبان٥، وهي بلدة تقع جنوب عمَّان٦.
٣- القضاء: ولي قضاء الحنفية بدمشق في آخر سنة ٧٧٧هـ، نيابة عن ابن عمه نجم الدين، الذي نقل إلى قضاء مصر سنة ٧٧٧هـ٧، ثم استعفى نجم الدين من القضاء فأعفي، وولي مكانه ابن أبي العز، فباشر القضاء شهرين وأيامًا، ثم استعفى فأُعفي٨، وعاد إلى دمشق، يدرس ويخطب٩.
_________
١ انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (٢/٥٠٣) .
٢ انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (٧٨) .
٣ ذكر ابن حجر ما يفيد أنه درس في المدرستين ولم يذكر التاريخ انظر إنباء الغمر (٢/٩٨) وانظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (٧٨) .
٤ انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (٢/٤٦٩، ٤٧٠) ففيه ما يشير إلى ذلك.
٥ انظر الثغر البسام، ص (٢٠١)، وإنباء الغمر (٣/ ٥٠) .
٦ انظر مقدمة شرح العقيدة الطحاوية، ص (٨١) .
٧ انظر تاريخ ابن قاضي شهبة (٣/ ٤٧٨) .
٨ انظر المرجع السابق (٣/ ٤٧٨، ٤٨٣) .
٩ يُؤخذ ذلك من كلام ابن حجر في إنباء الغمر (٣/ ٥٠) .
120 / 24
٥- وفاته:
توفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة، سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ودفن بسفح قاسيون في بلدة دمشق١.
_________
١ انظر إنباء الغمر (٣/ ٥٠)، ووجيز الكلام (١/ ٢٩٥)، والثغر البسام، ص (٢٠١)، وأبعد عن الصواب حاجي خليفة في كشف الظنون (٢/ ١١٤٣) عندما أرخ وفاته بسنة (٧٤٢هـ) .
120 / 25
القسم الثاني: تفسير الإمام ابن أبي العز، ويشمل السور والآيات التالية
سورة الفاتحة
[قوله تعالى]: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ١... ﴿الدِّينِ﴾ الجزاء٢، يقال: كما تدين تدان. أي: تُجازي تُجازى... قال تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ٣ ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ ٤ ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ ٥ ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ٦ ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ٧٨.
[قوله تعالى]: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ٩ إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر، لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الطعام والشراب، ليس كما يقوله بعض المفسرين: إنه
_________
١ سورة الفاتحة، الآية: ٤.
٢ انظر تفسير القرآن، للسمعاني (١/٣٧)، وجامع البيان (١/١٥٥)، وتفسير ابن أبي حاتم (١/١٩) . وقد ذكر ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٧٢، ٧٣) أن "الدين" يجيء في كلام العرب على أنحاء، منها ما ذُكر هنا. قال: وهذا الذي يصلح لتفسير قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ .
٣ سورة السجدة، الآية: ١٧.
٤ سورة النبأ، الآية: ٢٦.
٥ سورة الأنعام، الآية: ١٦٠.
٦ سورة النمل، الآية: ٨٩، ٩٠.
٧ سورة القصص، الآية: ٨٤.
٨ شرح العقيدة الطحاوية، ص (٦٠٠) .
٩ سورة الفاتحة، الآية: ٦، ٧.
120 / 27
قد هداه، فلماذا يسأل الهدى؟ وأن المراد التثبيت، أو مزيد الهداية١.
بل العبد محتاج إلى أن يُعلِّمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله، وإلى ما يتركه من تفاصيل الأمور في كل يوم، وإلى أن يلهمه أن يعمل ذلك، فإنه لا يكفي مجرّد علمه، إن لم يجعله مريدًا للعمل بما يعلمه، وإلاَّ كان العلم حجة عليه، ولم يكن مهتديًا، والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادرًا على العمل بتلك الإرادة الصالحة٢، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلًا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامّة، فمن كملت له هذه الأمور، كان سؤاله سؤال تثبيت٣، وهي آخر الرتب. وبعد ذلك كله هداية أخرى، وهي الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة٤؛ ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة، لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء٥، فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير، المانعة من الشر، فقد بيَّن القرآن أن السيئات من النفس، وإن كانت بقدر الله، وأن الحسنات كلها من الله تعالى٦.
_________
١ أورد السؤال والجوابين السمعاني في تفسير القرآن (١/٣٨)، ونحو هذا في كثير من كتب التفسير. انظر تفسير القرآن لأبي الليث (١/٨٣)، ومعالم التنزيل (١/٤١)، والكشاف (١/٦٦)، والتفسير الكبير (١/٢٠٥) . وقد فسر الطبري الآية في جامع البيان (١/٦٦) بالقول الأول فقال: "وفقنا للثبات عليه".
٢ من أول كلام المؤلف إلى هنا موجود في مجموع فتاوى شيخ الإسلام (١٤/٣٢٠، ٣٢١) . وكذلك هو في الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام نفسه، ص (٨٣، ٨٤) .
٣ انظر بدائع الفوائد (٢/٣٨) ففيه نحو ما ذكر المؤلف هنا.
٤ انظر المحرر الوجيز (١/٧٨) .
٥ من قوله: «ولهذا» إلى «الدعاء» مأخوذ بنصه من كتاب الحسنة والسيئة، ص (٨٤) .
٦ شرح العقيدة الطحاوية، ص (٥١٩، ٥٢٠) ونحو هذا أعاده في ص (٨٠٠) .
120 / 28
[وقال أيضًا قوله تعالى]: ﴿... صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين َ﴾ ... ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضآلُّون" ١.
_________
١ شرح العقيدة الطحاوية، ص (٨٠٠) . والحديث أخرجه الترمذي برقم (٢٩٥٤)، والإمام أحمد في المسند (٤/٣٧٨، ٣٧٩)، وأبو داود الطيالسي برقم (١٠٤٠)، وابن جرير في جامع البيان (١/١٨٥، ١٩٣)، وابن أبي حاتم في تفسيره (١/٢٣)، وابن حبان في صحيحه مع الإحسان (١٦/١٨٣، ١٨٤) كلهم من حديث عدي بن حاتم ﵁. والحديث صحح أحمد شاكر إسناده. انظر جامع البيان الموضع المتقدم. وقال عبد الرحمن ابن أبي حاتم: ولا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافًا. يعني تفسير الآية بما جاء عن رسول الله ﷺ. انظر تفسيره (١/٢٣) .
سورة البقرة [قوله تعالى: ﴿الم﴾ ٢] ... وقعت الإشارة بالحروف المقطَّعة في أوائل السور، أي: أنه في أسلوب كلامهم، وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن٣؟، كما في قوله تعالى: ﴿الم ذَلِك َ _________ ٢ سورة البقرة، الآية: ١. ٣ هذا أحد الأقوال على قول من قال: إنه يُعرف تفسيرها وهو منسوب إلى قطرب والمبرد. انظر معاني القرآن وإعرابه (١/٥٥، ٥٦)، والمحرر الوجيز (١/٩٥)، والتفسير الكبير (٢/٧) . وإلى هذا القول ذهب الزمخشري في الكشاف (١/٩٥-٩٧) . قال الرازي: واختاره جمع عظيم من المحققين. انظر التفسير الكبير (٢/٧) . وإن أردت الاطلاع على جميع الأقوال في الحروف المقطعة فانظر التفسير الكبير (٢/٣-٨)، والبحر المحيط (١/١٥٦) وما بعدها، والبرهان في علوم القرآن (١/١٧٢-١٧٦)، والتحرير والتنوير (١/٢٠٧)، وقد ذكر العلامة ابن كثير في تفسيره (١/٣٩) ما يفيد ترجيح هذا القول أعني الذي ذكره المؤلف هنا ثم قال: "وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية".
سورة البقرة [قوله تعالى: ﴿الم﴾ ٢] ... وقعت الإشارة بالحروف المقطَّعة في أوائل السور، أي: أنه في أسلوب كلامهم، وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن٣؟، كما في قوله تعالى: ﴿الم ذَلِك َ _________ ٢ سورة البقرة، الآية: ١. ٣ هذا أحد الأقوال على قول من قال: إنه يُعرف تفسيرها وهو منسوب إلى قطرب والمبرد. انظر معاني القرآن وإعرابه (١/٥٥، ٥٦)، والمحرر الوجيز (١/٩٥)، والتفسير الكبير (٢/٧) . وإلى هذا القول ذهب الزمخشري في الكشاف (١/٩٥-٩٧) . قال الرازي: واختاره جمع عظيم من المحققين. انظر التفسير الكبير (٢/٧) . وإن أردت الاطلاع على جميع الأقوال في الحروف المقطعة فانظر التفسير الكبير (٢/٣-٨)، والبحر المحيط (١/١٥٦) وما بعدها، والبرهان في علوم القرآن (١/١٧٢-١٧٦)، والتحرير والتنوير (١/٢٠٧)، وقد ذكر العلامة ابن كثير في تفسيره (١/٣٩) ما يفيد ترجيح هذا القول أعني الذي ذكره المؤلف هنا ثم قال: "وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية".
120 / 29
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ ١.
﴿الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ﴾ ٢ الآية ﴿المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ ٣ ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ ٤. وكذلك الباقي يُنبِّههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه، بل خاطبكم بلسانكم٥.
[قوله تعالى]: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ ٦وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ ٧ ... هذا مرض الشبهة وهو أردأ من مرض الشهوة؛ إذ مرض الشهوة يُرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له، إن لم يتداركه الله برحمته٨.
_________
١ سورة البقرة، الآية: ١، ٢.
٢ سورة آل عمران، الآية: ١-٣.
٣ سورة الأعراف، الآية: ١، ٢.
٤ سورة يونس، الآية: ١.
٥ شرح العقيدة الطحاوية، ص (٢٠٥) .
٦ سورة البقرة، الآية: ١٠.
٧ سورة التوبة، الآية: ١٢٥.
٨ شرح العقيدة الطحاوية، ص (٢٥٨) . وقد فسر المؤلف الآيتين في معرض بيانه أن النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فالنفاة والمشبهة خرجوا عن حد الاعتدال الصحيح بسبب الشبهة التي ألقاها إبليس في قلوبهم، فكان لهما نصيب مما تضمنته هاتان الآيتان. وقد قال السمعاني عند آية البقرة: أراد بالمرض الشك والنفاق بإجماع المفسرين. ونحو هذا ذكر الواحدي. انظر تفسير القرآن للسمعاني (١/٤٨)، والوسيط للواحدي (١/٨٧) .
وكأن من حكى الإجماع لم يعتد بقول من قال: إن المقصود الزنا. انظر تفسير ابن أبي حاتم (١/٤٧) . ولا شك أن سياق الآية التي في سورة البقرة يشهد لقول من حكى الإجماع. وكذلك الآية التي في سورة التوبة المقصود بالمرض فيها مرض النفاق الاعتقادي، المخرج من الملة؛ ولذلك قال في آخرها: ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ . وانظر في تفسير آية التوبة جامع البيان (١٤/٥٧٨)، وتفسير القرآن للسمعاني (٢/٣٦١) .
120 / 30
.. قوله تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ ١ ... المراد المقارنة بالفعل، وهي الصلاة جماعة؛ لأن الأمر بالصلاة قد تقدم، فلا بد من فائدة أُخرى. وتخصيص الركوع؛ لأن بإدراكه تدرك الصلاة، فمن أدرك الركعة أدرك السجدة٢.
[قوله تعالى]: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ ٣ والأماني: التلاوة المجردة٤ أي: إلاَّ تلاوة من غير فهم معناه. وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به، واشتبه عليه بعضه، فوكل علمه إلى الله، كما أمره النبي ﷺ بقوله: "فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه" ٥ فامتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم٦.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ ٧ أي: صلاتكم إلى بيت المقدس٨
_________
١ سورة البقرة، الآية: ٤٣.
٢ التنبيه على مشكلات الهداية، ص (٢٢٠) تحقيق عبد الحكيم. وانظر المحرر الوجيز (١/ ٢٠٣)، والجامع لأحكام القرآن (١/ ٣٤٨، ٣٤٩) ففيهما ما ذكر المؤلف من الاحتجاج بالآية على الصلاة جماعة.
٣ سورة البقرة، الآية:٧٨.
٤ شرح العقيدة الطحاوية، ص (٥٠٤) . وهذا أحد الأقوال، التي قيلت في معنى «أماني» . انظر هذا القول وغيره في تفسير القرآن لأبي الليث (١/١٣١)، وتفسير القرآن للسمعاني (١/٩٩)، ومعالم التنزيل (١/٨٨)، والمحرر الوجيز (١/٢٧١) .
٥ هذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد في المسند (٢/١٨١)، والبخاري في خلق أفعال العباد، ص (٤٣)، والبغوي في شرح السنة (١/٢٦٠) كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وحكم محققا شرح السنة بأن إسناده حسن. انظر شرح السنة الموضع المتقدم.
٦ شرح العقيدة الطحاوية، ص (٧٨٥، ٧٨٦) .
٧ سورة البقرة، الآية: ١٤٣.
٨ يشهد لهذا القول بالصحة ما أخرجه الإمام الترمذي، عن ابن عباس ﵄ قال: لما وُجِّه النبي ﷺ إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي الحديث رقم (٢٩٦٤) وقد أخرجه غيره من الأئمة، وكلهم أخرجوه من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس. وإن كان في رواية سماك عن عكرمة شيء، فهناك شواهد للحديث، لا ينزل بمجموعها عن درجة الحسن. وقد قال الإمام ابن القيم: "وفيه قولان يعني في معنى ﴿إِيمَانُكُمْ﴾ أحدهما: ما كان ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس ... والثاني: ما كان ليضيع إيمانكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم بأن الله شرعها ورضيها. وأكثر السلف والخلف على القول الأول، وهو مستلزم للقول الآخر". بدائع التفسير (١/٣٤٢) .
120 / 31
سميت إيمانًا مجازًا١؛ لتوقف صحتها على الإيمان، أو لدلالتها على الإيمان؛ إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمنًا؛ ولهذا يُحكم بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا٢.
... عن عروة قال: سألت عائشة ﵂ فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ ٣ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت بئسما قلت ياابن أختي، إن هذه الآية لو كانت على ما أوّلتها كانت: لا جناح عليه ألا يطوّف بهما، ولكنها أُنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يُهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي ﷺ عن ذلك، فقالوا يا رسول الله: إنا كنا نتحرج أنطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله ﷿: ﴿إِنَّ الصَّفَا
_________
١ انظر التفسير الكبير (٤/٩٨)، وروح المعاني (٢/٧) .
٢ شرح العقيدة الطحاوية، ص (٤٤٥)، وأحسن من تعليل المؤلف هنا ما ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (٢/١٥٧) بقوله: "فسمّى الصلاة إيمانًا لاشتمالها على نية وقول وعمل".
٣ سورة البقرة، الآية: ١٥٨.
120 / 32
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ الآية١ ...
[قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ ٢] ... لمَّا قال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ قال بعده: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ ٣ وقد اعترض صاحب المنتخب٤ على النحويين في تقدير الخبر في ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ فقالوا: تقديره لا إله في الوجود إلا الله. فقال: يكون ذلك نفيًا لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصِّرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى٥.
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي٦ في «ري الظمآن» فقال:
هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن «إله» في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم «لا» وعلى التقديرين، فلابد من خبر للمبتدأ،
_________
١ التنبيه على مشكلات الهداية، ص (٤٨٦، ٤٨٧) تحقيق عبد الحكيم. وسبب النزول هذا أخرجه الإمام البخاري في صحيحه مع الفتح برقم (١٦٤٣) ومسلم في صحيحه تحت رقم (١٢٧٧) .
٢ سورة البقرة، الآية: ١٦٣.
٣ ذكر أبو حيان هذا منسوبًا إلى صاحب المنتخب. انظر البحر (١/٦٣٧) .
٤ لعله: الحسن بن صافي بن عبد الله الملقب بملك النحاة (ت: ٥٦٨؟) ذكر القفطي في مؤلفاته «المنتخب» . انظر معجم الأدباء (٢/٨٦٦)، وإنباه الراوة (١/٣٤٠)، وبغية الوعاة (١/٥٠٤) .
٥ نحو هذا الاعتراض في التفسير الكبير (٤/١٥٧) من غير نسبة. وهو بتمامه في البحر (١/٦٣٧) منسوبًا لصاحب المنتخب.
٦ محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي، العلامة شرف الدين، النحوي الأديب، الزاهد المفسِّر، المحدث الفقيه الأصولي، (ت: ٦٥٥؟) . انظر بغية الوعاة (١/١٤٤) .
120 / 33