[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
اسم الشيء ما يعرف به، فأسماء الله تعالى هي الصور النوعية التي تدل بخصائصها وهوياتها على صفات الله وذاته، وبوجودها على وجهه، وبتعينها على وحدته، إذ هي ظواهره التي بها يعرف. و { الله } اسم للذات الإلهية من حيث هي هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها بالصفات، ولا باعتبار لا اتصافها.
و { الرحمن } هو المفيض للوجود والكمال على الكل بحسب ما تقتضي الحكمة وتحتمل القوابل على وجه البداية. و { الرحيم } هو المفيض للكمال المعنوي المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية، ولهذا قيل: " يا رحمن الدنيا والآخرة " ، ورحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة الرحمة العامة والخاصة، التي هي مظهر الذات الإلهي والحق الأعظمي مع جميع الصفات ابدأ واقرأ، وهي الاسم الأعظم وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" أوتيت جوامع الكلم، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
، إذ الكلمات حقائق الموجودات وأعيانها. كما سمي عيسى عليه السلام كلمة من الله، ومكارم الأخلاق حالاتها وخواصها التي هي مصادر أفعالها جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني. وههنا لطيفة وهي أن الأنبياء عليهم السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات. وقد وجدت في كلام عيسى عليه الصلاة والسلام وأمير المؤمنين علي عليه السلام وبعض الصحابة ما يشير إلى ذلك. ولهذا قيل: ظهرت الموجودات من باء بسم الله إذ هي الحرف الذي يلي الألف الموضوعة بإزاء ذات الله. فهي إشارة إلى العقل الأول الذي هو أول ما خلق الله المخاطب بقوله تعالى:
" ما خلقت خلقا أحب إلي ولا أكرم علي منك، بك أعطي، وبك آخذ، وبك أثيب، وبك أعاقب... "
الحديث.
والحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر، والمكتوبة تسعة عشر. وإذا انفصلت الكلمات انفصلت الحروف إلى اثنين وعشرين، فالثمانية عشر إشارة إلى العوالم المعبر عنها بثمانية عشر ألف عالم، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب الأعداد فهو أم المراتب الذي لا عدد فوقه، فعبر بها عن أمهات العوالم التي هي عالم الجبروت، وعالم الملكوت، والعرش، والكرسي، والسموات السبع، والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة التي ينفصل كل واحد منها إلى جزئياته.
والتسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه وإن كان داخلا في عالم الحيوان إلا أنه باعتبار شرفه وجامعيته للكل وحصره للوجود عالم آخر له شأن وجنس برأسه له برهان، كجبريل من بين الملائكة في قوله تعالى:
وملائكته ورسله
[البقرة، الآية: 98].
والألفات الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين والعشرين عند الانفصال إشارة إلى العالم الإلهي الحق، باعتبار الذات، والصفات، والأفعال. فهي ثلاثة عوالم عند التفصيل، وعالم واحد عند التحقيق، والثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم على المظهر الأعظمي الإنساني ولاحتجاب العالم الإلهي.
حين
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ألف الباء من أين ذهبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: " سرقها الشيطان " "
وأمر بتطويل باء بسم الله تعويضا عن ألفها إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة الانتشارية وظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا أهلها، ولهذا نكرت في الوضع.
وقد ورد في الحديث:
" إن الله تعالى خلق آدم على صورته "
، فالذات محجوبة بالصفات، والصفات بالأفعال، والأفعال بالأكوان والآثار. فمن تجلت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل، ومن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلم. ومن تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة فصار موحدا مطلقا فاعلا ما فعل وقارئا ما قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فتوحيد الأفعال مقدم على توحيد الصفات وهو على توحيد الذات وإلى الثلاثة أشار صلوات الله عليه في سجوده بقوله:
" أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك ".
[1.2-5]
{ الحمد لله رب العالمين } إلى آخر السورة، الحمد بالفعل ولسان الحال هو ظهور الكمالات وحصول الغايات من الأشياء إذ هي أثنية فاتحة ومدح رائعة لموليها بما يستحقه. فالموجودات كلها بخصوصياتها وخواصها، وتوجهها إلى غاياتها، وإخراج كمالاتها من حيز القوة إلى الفعل، مسبحة، حامدة، كما قال تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء، الآية: 44]، فتسبيحها إياه تنزيهه عن الشريك وصفات النقص والعجز باستنادها إليه وحده، ودلالتها على وحدانيته وقدرته ، وتحميدها إظهار كمالاتها المترتبة، ومظهريتها لتلك الصفات الجلالية والجمالية.
وخص بذاته بحسب مبدئيته للكل، وحافظيته ومدبريته له التي هي معنى الربوبية للعالمين، أي لكل ما هو علم لله يعلم به كالخاتم لما يختم به، والقالب لما يقلب فيه، وجمع جمع السلامة لاشتماله على معنى العلم أو للتغليب، وبإزاء إفاضة الخير العام والخاص، اي النعمة الظاهرة كالصحة والرزق. والباطنة كالمعرفة والعلم. وباعتبار منتهائيته التي هي معنى مالكية الأشياء في يوم الدين إذ لا يجزي في الحقيقة إلا المعبود الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء بإثابة النعمة الباقية عن الفانية عند التجرد عنها بالزهد وتجليات الأفعال عند انسلاخ العبد عن أفعاله، وتعويض صفاته عند المحو عن صفاته وإبقائه بذاته، وهبته له الوجود الحقاني عند فنائه فله تعالى مطلق الحمد وماهيته أزلا وأبدا على حسب استحقاقه إياه بذاته باعتبار البداية والنهاية وما بينهما في مقام الجمع على ألسنة التفاصيل، فهو الحامد والمحمود تفصيلا وجمعا، والعابد والمعبود مبدأ ومنتهى.
ولما تجلى في كلامه لعباده بصفاته شاهدوه بعظمته وبهائه، وكمال قدرته وجلاله، فخاطبوه قولا وفعلا بتخصيص العبادة به، وطلب المعونة منه، إذ ما رأوا معبودا غيره، ولا حول ولا قوة لأحد إلا به. فلو حضروا لكانت حركاتهم وسكناتهم كلها عبادة له وبه، فكانوا على صلاتهم دائمين داعين بلسان المحبة لمشاهدتهم جماله من كل وجه على كل وجه.
[1.6-7]
{ اهدنا الصراط المستقيم } أي: ثبتنا على الهداية ومكنا بالاستقامة في طريق الوحدة التي هي طريق المنعم عليهم بالنعمة الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة والمحبة والهداية الحقانية الذاتية من النبيين والشهداء والصديقين والأولياء، الذين شاهدوه أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود الظل الفاني.
{ غير المغضوب عليهم } الذين وقفوا مع الظواهر، واحتجبوا بالنعمة الرحمانية، والنعيم الجسماني، والذوق الحسي عن الحقائق الروحانية، والنعيم القلبي، والذوق العقلي كاليهود إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر والجنان والحور والقصور، فغضب عليهم لأن الغضب يستلزم الطرد والبعد والوقوف مع الظواهر التي هي الحجب الظلمانية غاية البعد. { ولا الضالين } الذين وقفوا مع البواطن التي هي الحجب النورانية واحتجبوا بالنعمة الرحيمية عن الرحمانية، وغفلوا عن ظاهرية الحق، وضلوا عن سواء السبيل، فحرموا شهود جمال المحبوب في الكل كالنصارى إذ كانت دعوتهم إلى البواطن وأنوار عالم القدوس ودعوة المحمديين الموحدين إلى الكل، والجمع بين محبة جمال الذات، وحسن الصفات، كما ورد في القرآن الكريم:
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
[آل عمران، الآية: 133]،
اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به
[الحديد، الآية: 28]،
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
[النساء، الآية: 36]، فأجابوا الدعوات الثلاث. كما جاء في حقهم:
ويرجون رحمته ويخافون عذابه
[الإسراء، الآية: 57]،
يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا
[التحريم، الآية: 8]،
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
[فصلت، الآية: 30]. فأثيبوا بالجميع على ما أخبر الله تعالى:
جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى
[البينة، الآية: 8]،
لهم أجرهم ونورهم
[الحديد، الآية: 19]،
فأينما تولوا فثم وجه الله
[البقرة: 115]،
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس، الآية: 26].
[2 - سورة البقرة]
[2.1]
{ الم * ذلك الكتاب } أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن (أ) إشارة إلى ذات الذي هو أول الوجود على ما مر. و (ل) إلى العقل الفعال المسمى جبريل، وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى. و (م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتم به دائرته وتتصل بأولها، ولهذا ختم وقال:
" إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض "
وعن بعض السلف أن (ل) ركبت من ألفين، أي: وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها، فهو اسم من أسماء الله تعالى، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع صفة ما. وأما (م) فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله الأعظم, بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها. ألا تدري أن (م) التي هي صورة الذات كيف احتجب فيها، فإن الميم فيها الياء، وفي الياء ألف. والسر في وضع حروف التهجي هو أن لا حرف إلا وفيه ألف، ويقرب من هذا قول من قال: معناه القسم بالله العليم الحكيم، إذ جبريل مظهر العلم، فهو اسمه العليم. ومحمد مظهر الحكمة، فهو اسمه الحكيم. ومن هذا ظهر معنى قول من قال: تحت كل اسم من أسمائه تعالى أسماء بغير نهاية. والعلم لا يتم ولا يكمل إلا إذا قرن بالفعل في عالم الحكمة الذي هو عالم الأسباب والمسببات، فيصير حكمة. ومن ثم لا يحصل الإسلام بمجرد قول: لا إله إلا الله، إلا إذا قرن: بمحمد رسول الله.
فمعنى الآية { الم * ذلك الكتاب } الموعود، أي: صورة الكل المومى إليها بكتاب الجفر والجامعة المشتملة على كل شيء، الموعود بأنه يكون مع المهدي في آخر الزمان لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو، والجفر لوح القضاء الذي هو عقل الكل والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكل، فمعنى كتاب الجفر والجامعة: المحتويان على كل ما كان ويكون، كقولك سورة (البقرة) وسورة (النمل).
[2.2]
{ لا ريب فيه } عند التحقيق بأنه الحق، وعلى تقدير القول معناه بالحق الذي هو الكل من حيث هو كل لأنه مبين لذلك الكتاب الموعود على ألسنة الأنبياء وفي كتبهم بأنه سيأتي كما قال عيسى عليه السلام: " نحن نأتيكم بالتنزيل، وأما التأويل فسيأتي به المهدي في آخر الزمان ". وحذف جواب القسم لدلالة ذلك الكتاب عليه، كما حذف في غير موضع من القرآن مثل (والشمس) (والنازعات) وغير ذلك. أي إنا منزلون لذلك الكتاب الموعود في التوراة والإنجيل بأن يكون مع محمد حذف لدلالة قوله: { ذلك الكتاب } عليه أي: ذلك الكتاب المعلوم في العلم السابق، الموعود في التوراة والإنجيل حق بحيث لا مجال للريب فيه. { هدى للمتقين } أي هدى في نفسه للذين يتقون الرذائل والحجب المانعة لقبول الحق فيه.
واعلم أن الناس بحسب العاقبة سبعة أصناف لأنهم: إما سعداء، وإما أشقياء. قال الله تعالى:
فمنهم شقي وسعيد
[هود، الآية: 105]، والأشقياء أصحاب الشمال، والسعداء إما أصحاب اليمين، وإما السابقون المقربون. قال الله تعالى :
وكنتم أزواجا ثلاثة
[الواقعة، الآية: 7] الآية. وأصحاب الشمال إما المطرودون الذين حق عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم أزلا، كما قال تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
[الأعراف، الآية: 179] إلى آخر الآية. وفي الحديث الرباني:
" هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي "
وأما المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل، قابلين للتنور بحسب الفطرة والنشأة، ولكن احتجبت قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال البهيمية، والسبعية، ومزاولة المكايد الشيطانية، حتى رسخت الهيئات الفاسقة والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم فبقوا شاكين حيارى تائهين، قد حبطت أعمالهم، وانتكست رؤوسهم فهم أشد عذابا وأسوأ حالا من الفريق الأول لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم. والفريقان هم أهل الدنيا وأصحاب اليمين.
أما أهل الفضل والثواب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة راجين لها، راضين بها، فوجدوا ما عملوا حاضرا على تفاوت درجاتهم، ولكل درجات مما عملوا. ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم، وصفاء قلوبهم، المتبوئون درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم.
وأما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وهم قسمان: المعفو عنهم رأسا لقوة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلة مزاولتهم إياها، أو لمكان توبتهم عنها. فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا، فنجوا وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا. لكن الرحمة تتداركهم وثلاثتهم أهل الآخرة.
والسابقون إما محبون وإما محبوبون، فالمحبون هم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وأنابوا إليه حق إنابته، فهداهم سبله.
والمحبوبون هم أهل العناية الأزلية الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله، فالقرآن ليس هدى للفريق الأول من الأشقياء لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم، ولا للثاني لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية بفساد اعتقادهم، فهم أهل الخلود في النار إلا ما شاء الله. فبقي هدى للخمسة الأخيرة الذين يشملهم المتقون، والمحبوب يحتاج إلى هداية الكتاب بعد الجذب والوصول لسلوكه في الله لقوله تعالى لحبيبه:
كذلك لنثبت به فؤادك
[الفرقان، الآية: 32]، وقوله:
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
[هود، الآية: 120]. والمحب يحتاج إليه قبل الوصول والجذب وبعده لسلوكه إلى الله وفي الله.
فعلى هذا، المتقون في هذا الموضع هم المستعدون الذين بقوا على فطرتهم الأصلية، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وزكاء نفوسهم، وبقاء نورهم الفطري، فلم ينقضوا عهد الله. وهذه التقوى مقدمة على الإيمان، ولها مراتب أخرى متأخرة عنه كما سيأتي إن شاء الله.
[2.3-5]
{ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } أي: بما غاب عنهم الإيمان التقليدي، أو التحقيقي العلمي، فإن الإيمان قسمان: تقليدي وتحقيقي. والتحقيقي قسمان: استدلالي وكشفي، وكلاهما إما واقف على حد العلم والغيب، وإما غير واقف. والأول هو الإيقان المسمى علم اليقين. والثاني: إما عيني، وهو المشاهدة المسمى عين اليقين، وإما حقي، وهو الشهود الذاتي المسمى حق اليقين. والقسمان الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية التي هي التزكية، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية، الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث: قلبية، وبدنية، وما حول البدن. فالقلبية هي المعارف، والحكم، والكمالات العلمية والعملية الخلقية. والبدنية هي الصحة والقوة واللذات الجسمانية والشهوات الطبيعية. وما حول البدن هي الأموال والأسباب، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة الجسد، وتقوى القلب ". ويجب الاحتراز عن الأوليين لإحراز الأخيرة المطلوبة بالزهد والعبادة.
فإقامة الصلاة ترك الراحات البدنية وإتعاب الآلات الجسدية، وهي أم العبادات التي إذا وجدت لم يتأخر عنها البواقي
إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت، الآية: 45] إذ هي تحامل على البدن والنفس، ومشقة فادحة عليهما، وإنفاق المال هو الإعراض عن السعادة الخارجية المحبوبة إلى النفس المسمى بالزهد، فإن الإنفاق ربما كان أشد عليها من بذل الروح للزوم الشح إياها، ولم يكتف بالقدر الواجب فقال:
{ ومما رزقناهم ينفقون } ليعتاد القلب ترك الفضول المالية بالجود والسخاء وبذل المال، في وجوه المروات، والهبات، والصدقات الغير الواجبة، فيوقي شح نفسه، وخصص الإنفاق بالبعض بإيراد من التبعيضية لئلا يقع في رذيلة التبذير ببذل القدر الضروري فيحرم فضيلة الجود الذي هو من باب التخلق بأخلاق الله.
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أي: الإيمان التحقيقي الشامل للأقسام الثلاثة المستلزم للأعمال القلبية التي هي التحلية، وهي تفرس القلب بالحكم والمعارف المنزلة في الكتب الإلهية والعلوم المتعلقة بأحوال المعاد، وأمور الآخرة، وحقائق علم القدس. ولهذا قال: { وبالآخرة هم يوقنون } وأهل الآخرة الذين ما جاوزوا حد التزكية، ولم يصلوا إلى التحلية التي هي ميراثها، لقوله عليه السلام:
" من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم "
وأهل الله الموقنون الجامعون لها كلهم على هدى من ربهم إما إليه وإما إلى داره، دار السلامة والفضل والثواب واللطف، وهم أهل الفلاح لا غير إما من العقاب وإما من الحجاب ولهذا قال:
{ أولئك } أي: الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من التزكية والتحلية. { على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } لأجلها، فعلى هذا الذين يؤمنون مبتدأ، والذين يؤمنون الثاني معطوف عليه، وأولئك خبره، ولو جعل صفة للمتقين لكان المراد بهم الكاملين في التقوى بعد الهداية. وكان مجازا من باب تسمية الشيء بما سيؤول إليه.
[2.6-9]
{ إن الذين كفروا } - إلى قوله - { عظيم } هم الفريق الأول من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي لا ينجح فيهم الإنذار ولا سبيل إلى خلاصهم من النار، أولئك حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون، وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار، سدت عليهم الطرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهي الذي هو محل الإلهام، فحجبوا عنه بختمه. والسمع والبصر هما المشعران الأنسيان، أي الظاهران اللذان هما بابا الفهم والاعتبار، فحرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلم الذوقي الكشفي ولا في الظاهر إلى العلم التعلمي والكسبي، فحبسوا في سجون الظلمات، فما أعظم عذابهم.
{ ومن الناس من يقول آمنا } هم الفريق الثاني من الأشقياء، سلب عنهم الإيمان مع ادعائهم له بقولهم { آمنا بالله } لأن محل الإيمان هو القلب لا اللسان.
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات، الآية: 14]. ومعنى قولهم: { آمنا بالله وباليوم الآخر } ادعاء على التوحيد والمعاد اللذين هما أصل الدين- وأساسه أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق ولا من أهل الكتاب المحجوزين عن الدين والمعاد، لأن اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد ليس مطابقا للحق. واعلم أن الكفر هو الاحتجاب، والحجاب إما عن الحق كما للمشركين وإما عن الدين كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق الوصول إليه ضرورة، وأما المحجوب عن الدين فقد لا يحجب عن الحق، فهؤلاء ادعوا رفع الحجابين معا فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم، أي ليسوا بمؤمنين ما داموا إياهم يخادعون. والمخادعة استعمال الخدع من الجانبين، وهو إظهار الخير واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء، الآية: 80]، وقوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال، الآية: 17] ولأنه حبيبه.
وقد ورد في الحديث:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ولسانه الذي به يتكلم، ويده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي "
فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان الكفر والعداوة، وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم وإجراء أحكام الإسلام عليهم بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك، وادخار العذاب الأليم والمآل الوخيم، وسوء المغبة لهم وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم لكن الفرق بين الخداعين أن خداعهم لا ينجح إلا في أنفسهم بإهلاكها وتحسيرها وإيراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق واجتماع أسباب الهلكة والبعد والشقاء عليها، وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير ويوبقهم أشد إيباق، كقوله تعالى:
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
[آل عمران، الآية: 54] وهم من غاية تعمقهم في جهلهم لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.
[2.10-11]
{ في قلوبهم مرض } أي شك ونفاق تنكير المرض. وإيراد الجملة الظرفية إشارة إلى عروض المرض واستقراره ورسوخه فيها كما أشرنا إليه في التقسيم، وإلا لقال قلوبهم مرضى أو موتى. { فزادهم الله مرضا } أي: آخر حقدا وحسدا وغلا بإعلاء كلمة الدين، ونصرة الرسول والمؤمنين، والرذائل كلها أمراض القلوب لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة، وهلاكها في العاقبة. وفرق بين العذابين بالألم للمنافقين، والعظم للكافرين، لأن عذاب المطرودين في الأزل أعظم فلا يجدون شدة ألمه لعدم صفاء إدراك قلوبهم، كحال العضو الميت، أو المفلوج والخدل بالنسبة إلى ما يجري عليه من القطع والكي وغير ذلك من الآلام. وأما المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم يجدون شدة الألم فلا جرم كان عذابهم مؤلما مسببا عن المرض العارض المزمن الذي هو الكذب ولواحقه.
وإذا نهوا عن الإفساد في الأرض، أي في الجهة السفلية التي هي النفوس وما يتعلق بها من المصالح بتكدير النفوس، وتهييج الفتن والحروب، والعداوة والبغضاء بين الناس، أنكروا وبالغوا في إثبات الإصلاح لأنفسهم، إذ يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا لأنفسهم خاصة، لتوغلهم في محبة الدنيا وانهماكهم في اللذات البدنية، واحتجابهم بالمنافع الجزئية، والملاذ الحسية عن المصالح العامة الكلية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس.
وإذا دعوا إلى الإيمان الحقيقي، كإيمان فقراء المسلمين والصعاليك المجردين، سفهوهم لمكان تركهم لحطام الدنيا وإعراضهم عن متاعها ولذاتها وطيباتها، لزهدهم الحقيقي. إذ قصارى همومهم، وقصوى مقاصد عقولهم الأسيرة في قيد الهوى المشوبة بالوهم، المؤدية لهم إلى الردى هي تلك اللذات يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ولا يعلمون أن غاية السفه هو اختيار الفاني الأخس على الباقي الأشرف. وفرق بين الفاصلتين بالشعور والعلم، لأن تأثير خداعهم في أنفسهم وإفسادهم في الأرض أمر بين كالمحسوس. وأما ترجيح نعيم الآخرة على نعيم الدنيا المستلزم للفرق بين السفه والحكمة فأمر استدلالي عقلي صرف .
[2.12-14]
{ وإذا لقوا الذين آمنوا } حكاية لنفاقهم اللازم لحصول استعدادين فيهم الفطري النوري، الضعيف المغلوب، القريب من الانطفاء، الذي ناسبوا به المؤمنين، والكسبي الظلماني القوي الغالب الذي تألفوا به الكفار، إذ لو لم يكن فيهم أدنى نور لم يقدروا على مخالطة المؤمنين ومصاحبتهم أصلا كغيرهم من الكفار لتنافي الضروري بين النور والظلمة من جميع الوجوه.
والشيطان فيعال من الشطون، الذي هو البعد، وشياطينهم المتعمقون في البعد وهم المطرودون، ورؤساؤهم البالغون في النفاق واستهزاؤهم بالمؤمنين يدل على ضعف جهة النور وقوة جهة الظلمة فيهم، إذ المستخف بالشيء هو الذي يجد ذلك الشيء في نفسه خفيفا، قليل الوزن والقدر. فهم يستخفون النورانيين لخفة النور عندهم، إذ بالنور يعرف قدر النور، وبرجحان الظلمة فيهم أووا إلى الكفار وألفوهم.
[2.15-16]
{ الله يستهزئ بهم } أي: يستخفهم، لأن الجهة التي هم بها ناسبوا الحضرة الإلهية فيهم خفيفة، ضعيفة. فبقدر ما فنيت فيهم الجهة الإلهية ثبتوا عند أنفسهم، كما أن المؤمنين بقدر ما فنيت فيهم أينيتهم النفسانية وجدوا عند الله شتان بين المرتبتين. { ويمدهم } في ظلماتهم البهيمية والسبعية التي هي الصفات الشيطانية والنفسانية بتهيئة موادها وأسبابها التي هي مشتهياتهم ومستلذاتهم وأموالهم ومعايشهم من الدنيا التي اختاروها بهواهم في حالة كونهم متحيرين. { في طغيانهم يعمهون } والعمه: عمى القلب. وطغيانهم: التعدي عن حدهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه، وذلك الحد هو المصدر، أي وجه القلب الذي يلي النفس كما أن الفؤاد وجهه الذي يلي الروح، فإنه متوسط بينهما ذو وجهين إليهما. والوقوف على ذلك الحد هو التعبد بأوامر الله تعالى ونواهيه، مع التوجه إليه طلبا للتنور ليستنير ذلك الوجه فتتنور به النفس. كما أن الوقوف على الحد الآخر هو تلقي المعارف والعلوم والحقائق والحكم والشرائع الإلهية ليتنقش بها الصدر، فتتزين به النفس. فالطغيان هو الانهماك في الصفات النفسانية البهيمية والسبعية والشيطانية واستيلاؤها على القلب ليسود ويعمى، فتتكدر الروح.
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أي: الظلمة، والاحتجاب عن طريق الحق الذي هو الدين، أو عن الحق. فإن الضلالة تنقسم بإزاء الهداية بالنور الاستعدادي الأصلي. { فما ربحت تجارتهم } إذ كان رأس مالهم من عالم النور والبقاء ليكتسبوا به ما يجانسه من النور الفيضي الكمالي، بالعلوم والأعمال والحكم والمعارف والأخلاق والملكات الفاضلة، فيصيرون أغنياء في الحقيقة، مستحقين للقرب والكرامة والتعظيم والوجاهة عند الله، فما ربحوا بكسبها وضاعت الهداية الأصلية التي كانت بضاعتهم ورأس مالهم بإزالة استعدادهم وتكدير قلوبهم بالرين الموجب للحجاب والحرمان الأبدي، فخسروا بالخسران السرمدي، أعاذنا الله من ذلك.
[2.17-18]
{ مثلهم } أي: صفتهم في النفاق كصفة المستوقد للإضاءة الذي إذا أضاءت ما حوله من الأشياء القريبة منه خمدت ناره وبقي متحيرا، لأن نور استعدادهم بمنزلة النار الموقدة، وإضاءتها لما حولهم هي اهتداؤهم إلى مصالح معاشهم القريبة منهم دون مصالح المعاد البعيدة بالنسبة إليهم وصحبة المؤمنين وموافقتهم في الظاهر وخمودها سريعا انطفاء نورهم الاستعدادي وسرعة زوال ما تمتعوا به من دنياهم ووشك انقضائه. { ذهب الله بنورهم } الاستعدادي بإمدادهم في الطغيان، وخلاهم محجوبين عن التوفيق في ظلمات صفات النفس { لا يبصرون } ببصر القلب، ووجه المخرج ولا ما ينفعهم من المعارف كمن تنطفئ ناره وهو في تيه بين أشغال وأسباب.
{ صم بكم عمي } بالحقيقة لاحتجاب قلوبهم عن نور العقل الذي به تسمع الحق وتنطق به، وتراه في الظاهر لعدم فوائدها، لانسداد الطرق من تلك المشاعر إلى القلب لمكان الحجاب، فلم يصل إليها نور القلب ليحتفظوا بفوائدها ولم ترد مدركاتها على القلب ليفهموا ويعتبروا. { فهم لا يرجعون } إلى الله لوجود السدين المضروبين على قلوبهم المذكورين في قوله:
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
[يس، الآية: 9]. وفائدة التشبيه تصوير المعقول بصورة المحسوس، ليتمثل في نفوس العامة. ثم شبههم ثانيا بقوم أصابهم مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فالمطر هو نزول الوحي الإلهي ووصول إمداد الرحمة إليهم ببركة صحبة المؤمنين، وبقية استعدادهم مما يفيد قلوبهم أدنى لين، وحصول النعم الظاهرة لهم بموافقتهم في الظاهر.
[2.19-20]
والظلمات هي الصفات النفسانية، والشكوك الخيالية والوهمية، والوساوس الشيطانية مما تحيرهم وتوحشهم. والرعد هو التهديد الإلهي والوعيد القهري الوارد في القرآن والآيات والآثار المسموعة والمشاهدة مما يخوفهم فيفيد أدنى انكسار لقلوبهم الطاغية وانهزام لنفوسهم الآبية. والبرق هو اللوامع النورية والتنبهات الروحية عند سماع الوعد وتذكير الآلاء والنعماء مما يطمعهم ويرجيهم، فيفيدهم أدنى شوق وميل إلى الإجابة.
ومعنى { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } يتشاغلون عن الفهم بالملاهي والملاعب عن سماع آيات الوعيد، ولكي لا ينجع فيهم فيقطعهم عن اللذات الطبيعية بهم الآخرة، إذ الانقطاع عن اللذات الحسية هو موتهم، والله قادر عليهم، قاطع إياهم عن تلك اللذات المألوفة بالموت الطبيعي، قدرة المحيط بالشيء الذي لا يفوته منه، فلا فائدة لحذرهم.
{ يكاد البرق } أي: اللامع النوري { يخطف أبصارهم } أي: عقولهم المحجوبة بالنعاس عن نور الهداية والكشف، إذ العقل بصر القلب { كلما أضاء لهم مشوا فيه } أي: ترقوا وقربوا من قبول الحق والهدى، { وإذا أظلم عليهم قاموا } أي: ثبتوا على حيرتهم في ظلمتهم { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } لطمس أفهامهم وعقولهم، ومحا نور استعدادهم، كما للفريق الأول فلم يتأثروا بسماع الوحي أصلا { إن الله على كل شيء قدير } الشيء الموجود الخارجي الواجب والممكن، والموجود الذهني الممكن والممتنع إذ اللاشيء هو المعدوم الصرف الذي ليس في الذهن ولا في الخارج، لكن تعلق القدرة به خصصه بالممكن وأخرج عنه الواجب والممتنع بدليل العقل.
هذا آخر الكلام في الأصناف السبعة على سبيل الإجمال، وفصل بين فريقي الأشقياء وأوجز ذكر الفريق الأول وأعرض عنهم، إذ الكلام فيهم لا يجدي. وبالغ في ذكر الفريق الثاني، وذمهم، وتعييرهم، وتقبيح صورة حالهم، وتهديدهم، وإبعادهم، وتهجين سيرهم، وعاداتهم لإمكان قبولهم للهداية وزوال مرضهم العارض، واشتعال نور قرائحهم بمدد التوفيق الإلهي عسى التقريع يكسر أعواد شكائمهم، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم، فتتزكى بواطنهم وتتنور قلوبهم بنور الإرادة، فيسلكوا طريق الحق. ولعل موادعة المؤمنين وملاطفتهم إياهم ومدجالستهم معهم، تستميل طباعهم فتهيج فيهم محبة ما، وشوقا تلين به قلوبهم إلى ذكر الله، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله، فيتوبوا ويصلحوا كما قال الله تعالى:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما
[النساء، الآيات: 145-146].
[2.21-22]
{ يا أيها الناس } ثم لما فرغ من ذكر السعداء والأشقياء، دعاهم إلى التوحيد. وأول مراتب التوحيد: توحيد الأفعال، فلهذا علق العبودية بالربوبية ليستأنسوا برؤية النعمة، فيحبوه، كما قال:
" خلقت الخلق وتحببت إليهم بالنعم "
فيشكروه بإزائها، إذ العبادة شكر فلا تكون إلا في مقابلة النعمة، وخصص ربوبيته بهم ليخصوا عبادتهم به، وقصد رفع الحجاب الأول من الحجب الثلاثة التي هي حجب الأفعال والصفات والذات، ببيان تجلي الأفعال لأن الخلق في الثلاثة كلهم محجوبون عن الحق بالكون مطلقا، فنسب إنشاءهم وإنشاء ما توقف عليه وجودهم من المبادئ والأسباب والشرائط كمن قبلهم من الآباء والأمهات، وجعل الأرض فراشا لهم لتكون مقرهم ومسكنهم، وجعل السماء بناء لتظلهم، وأنزل الماء من السماء وأخرج النبات به من الأرض ليكون رزقا لهم إلى نفسه لعلهم يتقون نسبة الفعل إلى غيره، فيتنزهون عن الشرك في الأفعال عند مشاهدة جميعها من الله، ولهذا ذكر نتيجة هذه المقدمات بالفاء فقال: { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } ، ما ذكرنا من المقدمات كأنه قال: هو الذي فعل هذه الأفعال، فلا تحق العبادة إلا له، ولا تنبغي أن تجعل لغيره، فلا تجعلوا له ندا بنسبة الفعل إليه، فيستحق أن يعبد عندكم فتعبدوه مع علمكم بهذا. فعبادتهم إنما هي للصانع، وربهم هو المتجلي في صورة الصنع، إذ كل عابد لا يعبد إلا ما يعرفه، ولا يعرف الله إلا بقدر ما وجد من الألوهية في نفسه، وهم ما وجدوا إلا الفاعل المختار فعبدوه. وغاية هذه العبادة الوصول إلى الجنة التي هي كمال عالم الأفعال، فالله مهد لهم أراضي نفوسهم، وبنى عليها سموات أرواحهم، وأنزل من تلك السموات ماء علم توحيد الأفعال، فأخرج به من تلك الأرض نبات الاستسلام والأعمال والطاعات والأخلاق الحسنة ليرزق قلوبهم منها ثمرات الإيقان والأحوال والمقامات، كالصبر والشكر والتوكل.
ولما أثبت التوحيد، استدل على إثبات النبوة ليصح بهما الإسلام، فإنه لا يصح إلا بشهادتين لأن مجرد التوحيد هو الاحتجاب بالجمع عن التفصيل وهو محض الجبر المؤدي إلى الزندقة والإباحة، ومجرد إسناد الفعل والقول إلى الرسول، احتجاب بالتفصيل عن الجمع الذي هو صرف القدر المؤدي إلى المجوسية والثنوية، والإسلام طريق بينهما بالجمع بين قولنا: لا إله إلا الله، وبين قولنا: محمد رسول الله، واعتقاد مظهريته لأفعاله تعالى. فإن أفعال الخلق بالنسبة إلى أفعال الحق كالجسد بالنسبة إلى الروح، فكما أن مصدر الفعل هو الروح ولا يتم إلا بالجسد، فكذلك مبدئ الفعل هو الحق ولا يظهر إلا بالخلق. ولا بد من الرسالة لأن الخلق بسبب احتجابهم وبعدهم عن الحق لا يمكنهم تلقي المعارف من ربهم، فيجب وجود واسطة يجانس بروحه الشاهدة للحق الحضرة الإلهية، وبنفسه المخالطة للخلق الرتبة البشرية، ليتلقى قلبه من روحه الكلمات الربانية، ويلقي إلى نفسه القدسية، ويقبل منه الخلق برابطة الجنسية فقال:.
[2.23]
{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا } أي: في تنزيلنا على محمد فتشكوا في حقية نبوته، فروزوا قواكم البشرية، وأحرزوا عقولكم المحتنكة بالقياس، المحجوبة عن نور الهداية، وأفكاركم الدرية بتركيب الكلام ونظم المعاني، وأنتم ومن حضركم من أبناء جنسكم، هل تقدرون على الإتيان بسورة أي: طائفة من الكلام مثله { إن كنتم صادقين } في نسبته إلى محمد.
[2.24]
{ فإن لم تفعلوا } فاذعنوا وأسلموا وآمنوا، واتركوا العناد المفضي بكم إلى النار. فحذف الملزوم الذي هو الإيمان أو الإسلام، وأقام لازمه الذي هو اتقاء النار مقامه ليكون أدل على أن الإنكار موجب لدخول النار وحصول العذاب لهم. وقوله: { ولن تفعلوا } اعتراض على طريق الإخبار بالغيب للعلم بامتناع عقول المحجوبين عن مثله. والمراد بالنار احتراقهم بثورة نفوسهم، وشرر طباعهم المصروفة عن الروح القدسي الروحاني، والنسيم الذوقي الرحماني، المحرومة عن لذة برد اليقين، وسلامة دار القرار المقطوعة بالمألوفات الحسية، واللذات البدنية الممنوعة، بما ضربت به وألفته مع بقاء حنينها إليه وولهها، ورسوخ هيئات التعلق بالأمور السفلية، ومحبة الأجساد الأرضية فيها التي هي سبب استيقاد نيرانها، ولهذا قال: { وقودها الناس والحجارة } أي: الأمور الجاسية، السفلية، الصامتة، التي تعلقوا بها بالمحبة فرسخت صورتها في أنفسهم، وسجنت نفوسهم بميلهم إليها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" المرء يحشر مع من أحب حتى لو أحب أحدكم حجرا حشر معه "
، وكيف لا، وقد ركزت صورته في نفسه بالمحبة بحيث صار صورة قلبه صورته.
واعلم أن حرارة النار تابعة لصورتها النوعية التي هي روحانيتها وملكوتها، وإلا ساوت سائر الأجسام في خواصها، وتلك الروحانية شرر من نار، قهر الله المعنوية بعد تنزلها في مراتب كثيرة كتنزلها في مرتبة النفس بثورة الغضب، إذ ربما تؤثر ثورة الغضب في إحراق الأخلاق ما لا تؤثر النار في الحطب. ومن هذا يعلم أن كل مسخن لا يجب أن يكون حارا. وإذا كانت النار الجسمانية أثرا للنار الروحانية، فلا جرم أن إيلامها أشد وأدوم من إيلام هذه النار، كيف وكل قوة جسمانية متناهية دون القوى الروحانية؟، ولهذا المعنى يقال: إن نار جهنم غسلت بالماء سبعين مرة، ثم أنزلت إلى الدنيا ليمكن الانتفاع بها { أعدت للكافرين } المحجوبين عن الدين لانقطاعهم دون مرادهم.
[2.25-26]
{ وبشر الذين آمنوا } بالصانع وعملوا ما يصلحهم للجنة بمقتضى عملهم بتوحيد الأفعال أن لهم مراداتهم ومشتهياتهم فوق ما تصوروا وتمنوا، التنكير الجنات، والجنات الجارية من تحتها الأنهار أبهى وأطيب ما يكون من مقام، وألذ وأحلى ما يكون من مرام لأهل الدنيا، فهي لنفوسهم من جنس جنات الدنيا، وأصفى منها بحسب المعاد الجسماني، فإنه حق كما ستعلم. { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } في الدنيا، فإنها مألوفة { وأتوا } بالرزق { متشابها } ولقلوبهم هي مقاماتهم، كالتوكل مثلا، وروضات عالم القدوس التي تنشأ من كل مرتبة منها أنهار علوم تنفع السالكين، وتنفع علة المتعطشين المشتاقين. والثمرات هي الحكم والمعارف، وقولهم: { هذا الذي رزقنا من قبل } إشارة إلى أن تلك العلوم والحكم كانت ثابتة للقلب حالة التجرد، فاحتجبت عنها بالتوغل في الأمور الطبيعية عند التعلق فنسيتها، ثم تذكرت حين تجردت عن ملابسها لقوله عليه الصلاة والسلام:
" الحكمة ضالة المؤمن "
والأزواج لنفوسهم الحور العين المطهرة عن الطمث والفواحش، ولقلوبهم النفوس القدسية المطهرة عن دنس الطبائع وكدر العناصر، ولا جنة لأرواحهم لاحتجابهم عن المشاهدة.
{ إن الله لا يستحي } لا يمتنع امتناع المستحيي { أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } إذ الكافر عنده أحقر من بعوضة، والدنيا من جناحها، كما نطق به الحديث. { أنه الحق من ربهم } لمناسبة الممثل به الممثل له { وما يضل به إلا الفاسقين } الذين خرجوا من مقام القلب إلى مقام النفس، ومن طاعة الرحمن إلى طاعة الرحمن الشيطان. وهم الفريق الثاني من الأشقياء لا الفريق الأول، فإنهم ضالون في نفس الأمر على أي حال كان لا به ولا بسبب آخر. وإضلالهم به مسبب عن فسقهم في الحقيقة، إذ ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية وهي زيادة عنادهم وإنكارهم وحقدهم وغلبة صفات نفوسهم على قلوبهم بورود القرآن فيزيدهم بعدا وظلمة على ظلمة.
[2.27]
{ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } هو الذي أشار إليه في قوله:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف، الآية: 172]. وقد ورد في الحديث:
" أن الله تعالى مسح ظهر آدم بيده وأخرج ذريته منه كهيئة الذر "
.. الحديث. فيد الله هو العقل الأقدس، والروح الأول الذي هو روح العالم المسمى يمين الرحمن، وآدم هو النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم. ومسحه ظهره تأثير العقل فيها وتنويره إياها بنوره بالاتصال الروحاني، وإخراج ذريته منه إيجاد النفوس الشخصية الجزئية التي كانت فيها بالقوة، وإخراجها إلى الفعل. وعهد الله إليهم بقوله: { ألست بربكم } إيداع علم التوحيد في ذواتهم وميثاق ذلك العهد ركز أدلة التوحيد في عقولهم وإلزام ذلك العلم إياهم وجعله من اللوازم الذاتية لهم، بحيث إذا تجردوا عن الصفات النفسانية والغواشي الجسمانية تبين لهم ذلك، وانكشف عليهم أظهر شيء وأبينه وهو إشهادهم على أنفسهم لكون ذلك العلم ضروريا حينئذ، وإجابتهم لذلك بقولهم: { بلى } قبولهم الذاتي له، ونقض ذلك العهد انهماكهم في اللذات البدنية والغواشي الطبيعية وتعبدهم لهواهم وشهواتهم، بحيث احتجبوا بها عن وحدة الله وتعبده، وقطعهم ما أمر الله بوصله إعراضهم عن اتصال روح القدس والمبادئ العالية والأرواح السماوية التي هي الملأ الأعلى، وسكان الحضرة الإلهية من أهل الجبروت والملكوت الذين يجانسونهم بذواتهم وصفاتهم، وهم أهل قرابتهم الحقيقية، ورحمهم الظاهر المأمور بوصله حقيقة بتوجههم إلى العالم السفلي ومحبتهم للجواهر الفاسقة المظلمة، وعشقهم وشغفهم بالأمور الخسيسة الفانية. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويبغض سفاسفها "
، إذ كلما كان مطلوب النفس أخس كانت عن العالم الشريف أبعد.
ضروب الناس عشاق ضروبا
فأغدرهم أشقهم جيوبا
وقد مر تفسير الإفساد في الأرض، والخسران الذي هو تضييع الجوهر النوري الباقي لأجل الظلماني الفاني.
[2.28-29]
{ كيف تكفرون بالله } أي: على أي حال تحجبون عنه { و } الحال أنكم { كنتم أمواتا } نطفا في أصلاب آبائكم { فأحياكم } أي: لم لا تستدلون بالخلق على الخالق { ثم يميتكم } بالموت الطبيعي { ثم يحييكم } بالبعث، إذ الأول معلوم بالمشاهدة، والثاني بالاستدلال عليه بالإنشاء الأول { ثم إليه ترجعون } للمجازاة، أو ثم يميتكم عن أنفسكم بالموت الإرادي الذي هو الفناء في الوحدة ثم يحييكم بالحياة الحقيقية التي هي البقاء بعد الفناء بالوجود الموهوب الحقاني. ثم إليه ترجعون للمشاهدة إن كانت الوحدة وحدة الصفات، أو الشهود إن كانت وحدة الذات.
{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } أي: الجهة السفلية التي هي العالم العنصري جميعا لكونها مبادئ خلقكم ومواد وجودكم وبقائكم { ثم استوى } أي: قصد قصدا مستويا إلى الجهة العلوية، وثم للتفاوت بين الجهتين والإيجادين الإبداعي والتكويني لا للتراخي بين الزمانين ليلزم تقدم خلق الأرض على السماء.
فعدلهن سبع سموات بحسب ما تراه العامة، إذ الثمن والتاسع هو الكرسي والعرش الظاهران. والحقيقة أن الجهة السفلية هي العالم الجسماني كالبدن وأعضائه لدنو رتبته بالنسبة إلى العالم الروحاني الذي هو الجهة العلوية المعبر عنها بالسماء. وثم للتفاوت بين الخلق والأمر. وسواهن سبع سموات إشارة إلى مراتب عالم الروحانيات، فالأول: هو عالم الملكوت الأرضية والقوى النفسانية والجن. والثاني: عالم النفس. والثالث: عالم القلب. والرابع: عالم العقل. والخامس: عالم السر. والسادس: عالم الروح. والسابع: عالم الخفاء الذي هو السر الروحي غير السر القلبي. وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: " سلوني عن طرق السماء، فإني أعلم بها من طرق الأرض " ، وطرقها: الأحوال والمقامات كالزهد، والتوكل، والرضا، وأمثالها.
واعلم أن العقل باصطلاح الحكمة هو الروح باصطلاح أهل التصوف، والذي سميناه ههنا بالعقل على اصطلاح المتصوفة هو القوة العاقلة التي للنفس الناطقة عند الحكماء. ولهذا قالت المتصوفة: العقل هو موضع صقيل من القلب، متنور بنور الروح. والقلب هو النفس الناطقة، فاحفظه لئلا يتشوش الفهم باختلاف الاصطلاح.
[2.30]
{ وإذ قال ربك للملائكة } إذ: إشارة إلى السرمد الذي هو من الأزل إلى الأبد، والقول هو إلقاء معنى تعلق مشيئة الله تعالى بإيجاد آدم في الذوات القدسية الجبروتية التي هي الملائكة المقربون والأرواح المجردة والملكوتية التي هي النفوس السماوية إذ كل ما يحدث في عالم الكون له صورة قبل التكوين في عالم الروح الذي هو عالم القضاء السابق، ثم في عالم القلب الذي هو قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ، ثم في عالم النفس أي: نفس العالم الذي هو لوح المحو والإثبات المعبر عنه بالسماء الدنيا في التنزيل كما قال تعالى:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر، الآية: 21]، فذلك قوله تعالى للملائكة: { إني جاعل في الأرض خليفة } واعتبر بحالك في نفسك، فإن كل ما يظهر على جوارحك التي هي عالم كونك وشهادتك من القول والفعل، له وجود في روحك التي هي ما وراء غيب غيبك، ثم في غيب غيبك، ثم في نفسك التي هي غيبك الأدنى وسماؤك الدنيا، ثم يظهر على جوارحك. والجعل أعم من الإبداع والتكوين، فلم يقل (خالق) لأن الإنسان مركب من العالمين: خليفة يتخلق بأخلاقي، ويتصف بأوصافي، وينفذ أمري، ويسوس خلقي، ويدبر أمرهم، ويظبط نظامهم، ويدعوهم إلى طاعتي.
وإنكار الملائكة بقولهم:
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وتعريضهم بأولويتهم لذلك بقولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } هو احتجابهم عن ظهور معنى الإلهية والأوصاف الربانية فيه التي هي من خواص الهيئة الاجتماعية والتركيب الجامع للعالمين الحاصر لما في الكونين. وعلمهم بصدور الأفعال البهيمية التي هي الإفساد في الأرض، والسبعية المعبر عنها بسفك الدماء اللتين هما من خواص قوة الشهوة والغضب الضروري وجودهما في تعلق الروح بالبدن، وبنزاهة ذواتهم وتقدس نفوسهم عن ذلك، إذ كل طبقة من الملائكة المقدسة تطلع على ما تحتها وما في أنفسها ولا تطلع على ما فوقها، فهي تعلم أنه لا بد في تعلق الروح العلوي النوراني بالبدن السفلي الظلماني من واسطة تناسب الروح من وجه، وتناسب الجسم من وجه، هي النفس، وهي مأوى كل شر، ومنبع كل فساد. ولا تعلم أن الجمعية الإنسانية جالبة للنور الإلهي الذي هو سر { إني أعلم ما لا تعلمون } والفرق بين التسبيح والتقديس، أن التسبيح: هو التنزيه عن الشريك والعجز والنقص. والتقديس: هو التنزيه عن التعلق بالمحل وقبول الانفعال وشوائب الإمكان والتعدد في ذاته وصفاته وكون شيء من كمالاته بالقوة. فالتقديس أخص، إذ كل مقدس مسبح وليس كل مسبح مقدسا، فالملائكة المقربون الذين هم الأرواح المجردة بتجردهم وعدم احتجابهم عن نور ربهم وقهرهم ما تحتهم بإضافة النور عليهم، وتأثيرهم في غيرهم، وكون جميع كمالاتهم بالفعل مقدسون وغيرهم من الملائكة السماوية والأرضية مسبحون ببساطة ذواتهم وخواص أفعالهم وكمالاتهم.
[2.31-33]
{ وعلم آدم الأسماء كلها } أي: ألقى في قلبه خواص الأشياء التي تعرف بها هي ومنافعها ومضارها { ثم عرضهم } أي: عرض مسمياتها { على الملائكة } بشهودهم البنية الإنسانية ومرافقتهم لآدم في التنزيل. ومعنى قوله: { فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } إرادته لانتعاشهم ببعض معلومات الإنسان باقتضاء التركيب الإنساني، وتأذي محسوساته ومعلوماته المتنوعة منها والحادثة فيه بخاصية التركيب والهيئة الاجتماعية إلى ذواتهم بعد ما لم تكن، إذ علومهم تابعة لعلمه وهو معنى إفحامهم وتعلق إرادته بذلك أمر آدم بالإنباء إذ جميع القوى الإنسانية والملائكة التي بحضرته تنتعش بما لا تنتعش هي في غير ذلك المحل، وهو معنى إنباء آدم إياهم.
ومعنى قوله: { قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } شهادة وجوداتهم بالدلالة وألسنة الحال على قصورهم عن الكمالات الإنسانية وتخلفهم عن شأوها، وبتنزيه الله عن فعل ما فيه مفسدة بالإجمال، وعلمهم بامتناع ترقيهم إلى مراتبهم بكسب العلوم، إذ كمالاتهم مقارنة لوجوداتهم، وبأن علمه تعالى فوق علمهم فهو العليم المطلق، والحكيم الذي لا يفعل إلا ما ينبغي. ولهذا قال:
{ يا آدم أنبئهم } ولم يقل علمهم، لأن العلم المكتسب الموجب للترقي هو من خاصية الجمعية الإنسانية فلا يقبل كل منها إلا ما في طباعه من جنس مدركاته لا غير، وكما أن البصر مثلا من كثرة مبصراته لا يزيد علما ورتبة ولا يقبل إلا ما هو من جنس المبصرات فقط، وإن تكثرت عنده فكذلك حال كل قوة باطنة. ومعنى: { ألم أقل } تقريره في طباع الملائكة أنه تعالى يعلم ما لا يعلمون من غيب السموات والأرض الذي هو سر المعرفة والمحبة المودع في الإنسان الذي استأثر الله بعلمه { وأعلم ما تبدون } من علمكم بمفاسد الإنسان { وما كنتم تكتمون } من ترجيحكم ذواتكم عليه لنزاهتها وتقدسها.
[2.34]
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } سجودهم لآدم انقيادهم وتذللهم له ومطاوعتهم وتسخرهم له { فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } وإبليس هو القوة الوهمية لأنها ليست من الملائكة الأرضية الصرفة المحجوبة عن إدراك المعاني بإدراك الصور، فيذعن بالقهر مطاوعة لأمر الله، ولا من السماوية العقلية فتدرك شرف آدم وتوافق عقله فيذعن بالمحبة طالبا لرضا الله. وكان جنيا: أي من جملة الملكوت السفلية والقوى الأرضية، نشأ وتربى بين ظهور الملائكة السماوية لإدراكه المعاني الجزئية وترقيه إلى الأفق العقلي ولهذا كان في الحيوانات العجم بمنزلة العقل في الإنسان وإباؤه عدم انقياده للعقل، وامتناعه لقبول حكمه، واستكباره تفوقه على الخلقة الطينية والملائكة السماوية والأرضية بعدم وقوفه على حده من إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات وتعديه عن طوره بخوضه في المعاني العقلية والأحكام الكلية. { وكان من الكافرين } المحجوبين في الأزل عن الأنوار العقلية والزوجية فضلا عن نور الوحدة.
[2.35]
{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } زوجته: هي النفس، وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحياة هي اللون الذي يغلب عليه السواد كما أن القلب سمي آدم لتعلقه بالجسم دون الملازمة بالانطباع إذ الأدمة هي السمرة أي: اللون الذي يضرب إلى السواد ولولا تعلقه لما سمي آدم. والجنة المأمور بملازمتهما إياها هي سماء عالم الروح التي هي روضة القدس أي ألزما سماء الروح.
{ وكلا منها رغدا حيث شئتما } أي: توسعا وتفسحا في تلقي معانيها ومعارفها وحكمها التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحية توسعا بالغا على أي وجه ومن أي مرتبة وحال ومقام شئتما إذ هي دائمة غير منقطعة ولا محجورة { فتكونا من الظالمين } الواضعين النور في محل الظلمة الذي ليس موضعه والناقصين من نور استعدادكما وحظكما من عالم النور، فإن الظلم في العرف هو وضع الشيء في غير موضعه وفي اللغة نقص الحق والحظ الواجب.
[2.36-37]
{ فأزلهما الشيطان عنها } أي: حملهما على الزلة من مقامهما إ لى مهوى الطبيعة عن الجنة بتسويل الملاذ الجسمانية ودوامها عليهما { فأخرجهما مما كانا فيه } من النعيم والروح الدائم. وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة، فدنت حواء منه وتبعها آدم فوسوس لهما الشيطان من وراء الجدار. وقيل: توسل بحية تتسور الجنة فأخذ بذنبها وصعد الجنة. والأول إشارة إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة. والثاني: إلى توسله بالغضب. وتسوره جدار الجنة: إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة. { وقلنا اهبطوا } أي: ألزمناهم الهبوط إلى الجهة السفلية التي هي العالم الجسماني { بعضكم لبعض عدو } حال من الهبوط مقيد له إذ الهبوط إلى الدنيا التي هي الجهة السفلية يستلزم كون مطالبها جزئية في ضيق المادة محصورة لا تحتمل الشركة. وكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فمنعه، فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية وجمع الخطاب لأن خطابهما خطاب النوع إذ الأصل يتناول الفرع { ولكم في الأرض } أي: في هذه الجهة { مستقر } استقرار { ومتاع } تمتع { إلى حين } أي: حين تجردهما بالموت الإرادي وانقطاع حظوظهما بالموت الطبيعي وقيام أحد القيامتين الكبرى أو الصغرى.
{ فتلقى آدم من ربه كلمات } أي: استقبل من جهة ربه أنوارا وأطوارا، أي: مراتب من الملكوت والجبروت وأرواحا مجردة، إذ كل مجرد كلمة لأنه من عالم الأمر كما سمي عيسى كلمة أو تلقن منه معارف وعلوما وحقائق. { فتاب عليه } تقبل رجوعه إليه بالتجرد عن الملابس الطبيعية والانخراط في سلك الأنوار الملكوتية، والاتصاف بالكمالات القدسية، والتجلي بالعلوم الحقيقية. وأصل تاب عليه: ألقى الرجوع عليه وجعله راجعا. ولعمري إنها هي التوبة المقبولة لا الرجوع الناشئ من قبله. { إنه هو التواب } الكثير القبول لتوبة عباده { الرحيم } الذي سبقت رحمته غضبه، فيرحم عبده في حين غضبه، كما جعل غضبه على آدم سبب كماله ورجوعه إليه وبعده ليتقرب منه.
[2.38-40]
{ قلنا اهبطوا منها جميعا } كرر ذلك الأمر بالهبوط ليفيد أنه هو الذي أراد ذلك ولولا إرادته لما قدر إبليس على إغوائهم، لهذا أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب مما قال لنبيه:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال، الآية: 17] فتفطن منه سر قضائه وقدره وبين وجه حكمة الإهباط بتعقيبه بقوله: { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وإيراده بالفاء إذ لولا الهبوط لما أمكنهم من متابعة الهدى، ولما تميز السعيد والشقي، ولا حصل استحقاق الثواب والعقاب، ولبطل دار الجزاء من الجنة والنار، بل ما وجدت. والهدى هو الشرع فمن تبعه أمن سوء العاقبة فلم يخف مما يأتي من العقاب والفناء، وتسلى عن الشهوات واللذات، فلم يحزن على ما فاته من حطام الدنيا ونعيمها لاكتحال بصيرته بنور المتابعة واهتدائه إلى ما لا يقاس بلذات الدنيا من الأذواق الروحانية، والفتوحات السرية، والمشاهدات القلبية، والعلوم العقلية، والمواجيد النفسية.
{ والذين كفروا } أي: حجبوا عن الدين لكونه في مقابلة اتباع الهدى. وإردافه بقوله: { وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار } أي: نار الحرمان { هم فيها خالدون * يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون } بنو إسرائيل هم أهل اللطف الإلهي، وأرباب نعمة الهداية والنبوة، دعاهم باللطف وتذكير النعمة السابقة، والعهد السالف المأخوذ منهم في التوراة بتوحيد الأفعال بعد العهد الأزلي كما هو عادة الأحباب عند الجفاء.
ألم يك بيننا رحم ووصل
وكان بنا المودة والإخاء
وهذه الدعوة مخصوصة بتوحيد الصفات الذي هو رفع الحجاب الثاني، فهي أخص من الدعوة الأولى العامة لتذكير النعمة الدينية والعهد والتجلي بصفة المنعم والولي، والتهديد على عدم إجابتها بالرهبة التي هي أخص من الخوف، فإن الخوف إنما يكون من العقاب، والرهبة من السخط والقهر، والإعراض والاحتجاب والخشية أخص منها لكونها مخصوصة باحتجاب الذات. قال الله تعالى:
ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب
[الرعد، الآية: 21]. وكذا الهيبة لأنها قرنت بعظمة الذات.
[2.41-43]
{ وآمنوا بما أنزلت } من القرآن على حبيبي من توحيد الصفات { مصدقا لما معكم } في التوراة من توحيد الأفعال { ولا تكونوا أول كافر به } أي: أول محجوب عنه لاحتجابكم باعتقادكم { ولا تشتروا } أي: لا تستبدلوا { بآياتي } الدالة على تجليات ذاتي وصفاتي كسورة (الإخلاص) وآية (الكرسي) وأمثالهما، { ثمنا قليلا } أي: جنتكم النفسية لتألفكم بالملاذ الحسية وثواب الأعمال بتوحيد الأفعال. وإن اتقيتم عن الشرك فاتقوا سطوة قهري وجلالي وحجابي بابتغاء رضاي فلا تثبتوا صفة لغيري.
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } أي: ولا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة كعلمه وقدرته وإرادته بالباطل الذي هو صفات نفوسكم بظهورها بصفاتها وعدم تمييزكم بين دواعيها وخواطرها ودواعي الحق وخواطره، ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وسترها إياها عند ظهورها { وأنتم تعلمون } من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة، فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفة لغيره.
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } طلبا لمرضاتي لا رجاء لثوابي، ومصداقه قوله: { واركعوا مع الراكعين } إذ الركوع هو الخضوع والإذعان لما يفعل به فهو علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات وغايته، أي: ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي والتوجه عند القيام بالفعل علامة طلب الثواب والأجر لاستقلال النفس بصورتها، والسجود الذي هو غاية الخضوع علامة الفناء في الوحدة عند تجلي الذات.
[2.44-48]
{ أتأمرون الناس بالبر } الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب، وزكاء النفس الزائد منها بالتنور { وتنسون أنفسكم } أفلا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات { وأنتم تتلون } كتاب فطرتكم الذي يأمركم باتباع محمد في دينه السالك بكم سبيل التوحيد { أفلا تعقلون } تعيير بالغ، وتهييج لحميتهم.
{ واستعينوا } واطلبوا العون والمدد ممن له القدرة، إذ لا قدرة لكم على أفعالكم { بالصبر } على ما تكرهون مما يفعل بكم وتكلفكم ونيتكم به لكي تصلوا إلى مقام الرضا { والصلاة } التي هي حضور القلب لتلقي تجليات الصفات { وإنها } وإن المراقبة أي الحضور القلبي { لكبيرة } لشاقة ثقيلة { إلا على الخاشعين } المنكسرة، اللينة قلوبهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة واستيلاء سطوات التجليات القهرية، الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم، أي: حضرة الصفات لدلالة الرب عليها في حال لقائه، { وأنهم إليه راجعون } بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته.
كرر الخطاب ليفيد أن الذي هداهم أولا ولطف بهم وفضلهم على عالمي زمانهم المحجوبين بالهداية إلى رفع الحجاب الأول هو الذي يهديهم ثانيا، فكما لم يرد بهم شرا في الهداية الأولى فكذلك في الثانية لا يريد بهم إلا خيرا.
{ واتقوا يوما لا تجزي } أي: حال تجلي صفة القهر حين لا تغني { نفس عن نفس شيئا } من الإغناء لعدم القدرة لأحد { ولا يقبل منها شفاعة } لعدم الشفاعة والمدد إذ كلهم مسلوبو الصفات والأفعال، كقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر
{ ولا يؤخذ منها عدل } أي: فدية لعدم الملك لأحد { ولا هم ينصرون } لامتناع القوة والنصرة لغيره تعالى.
[2.49-50]
{ وإذ نجيناكم من آل فرعون } ظاهره وتفسيره على ما يفهم من تذكير النعمة لتهييج المحبة وباطنه وتأويله { وإذ نجيناكم من آل فرعون } النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها المستعلية على ملك الوجود ومصر مدينة البدن التي استعبدت هي وقواها التي هي الوهم والخيال والتخلية والغضب والشهوة والقوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله يعقوب الروح والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية.
{ يسومونكم سوء العذاب } يكلفونكم المتاعب الصعبة والكد والأعمال الشاقة في جمع المال وادخاره بالحرص والأمل وترتيب الأقوات والملابس وغيرها مما يكدح فيه الحراص من أبناء الدنيا ويستعبدونكم في التفكر فيها والاهتمام بها وضبطها وتحصيل لذاتهم التي هي عذاب لمنعها إياكم عن لذاتكم. { يذبحون أبناءكم } التي هي تلك القوى الروحانية عن العاقلة النظرية، والعاقلة العملية اللتين هما عينا القلب النظرية اليمنى والعملية اليسرى، والفهم الذي هو سمع القلب، والسر الذي هو قلب القلب، والفكر والذكر { ويستحيون نساءكم } القوى الطبيعية المذكورة بمنع الطائفة الأولى عن أفعالها الخاصة بالقهر والاستيلاء وحجبها عن حياة نور الروح ومددها وإقدار الطائفة الثانية عن أفعالها وتمكينها.
{ وفي ذلكم } الإنجاء نعمة عظيمة { من ربكم } هي نعمة مطالعة صفات جلاله وجماله، أو في ذلكم التعذيب نقمة عظيمة من ربكم هي نقمة الاحتجاب والحرمان والبعد، إذ البلاء الذي هو الامتحان يحصل بهما. قال الله تعالى:
وبلوناهم بالحسنات والسيئات
[الأعراف: 168].
{ وإذ فرقنا } بوجودكم { البحر } أي البحر الأسود الزعاق الذي هو المادة الجسمانية لانفلاقها بوجودكم انفلاق الأرض من النبات { فأنجيناكم } بالتجرد منها { وأغرقنا آل فرعون } أي: القوى النفسانية فيها بملازمتها إياها وهلاكها بفسادها، { وأنتم } تشاهدون ذلك. وعلى هذا يمكن أن يؤول بنو إسرائيل في أول الخطاب بتلك القوى الروحانية والنعمة التي أنعم بها عليهم هي التهدي إلى قبول الأنوار الفائضة عليها من عالم الروح وتلقي المعارف والحكم، وإيفاؤهم بالعهد، وإبرازهم ما ركز فيها بحسب الاستعداد الأول من الأدلة التوحيدية والمعاني الكلية الكامنة فيها بالتصفية ومزاولة ما يختص بها من الأفعال، وإيفاؤه بعهدهم إفاضة النور الكمالي عليها عند قيامها بحق النور الاستعدادي بالتصفية واستعمال ما عندهم من المعاني. وإن كنتم رهبتم شيئا فارهبوا احتجاب أنواري بزوال استعدادكم، وآمنوا أي: واقبلوا ما أفيض عليكم من الإشراقات النورية والسوانح الغيبية مصدقا لما في استعدادكم من النور الفطري، ولا تكوونوا في أول رتبة المحتجبين عن قبولها بالتوجه إلى الجهة السفلية ولا تستبدلوا بها لذات النفس ومقاصدها، ولا تخلطوا حق المعارف الروحية والأنوار القدسية بباطل المطالب الحسية والصفات النفسية، وتكتموا تلك الأنوار والمعارف بظهور هذه عليكم. وأقيموا وأديموا التوجه إلى حضرة الروح وامتثال أمره ، وآتوا زكاة معلوماتكم التي هي أموالكم بتصفحها وتركيبها لتحرزوا بها ثواب النتائج واللوازم، وأنفقوها على فقرائكم الذين بحضرتكم من القوى البدنية الطبيعية ليعيشوا بها، ويكتسبوا بها الأخلاق الفاضلة والملكات الجميلة، وعلموها أبناء جنسكم ليكملوا بها، واركعوا واخضعوا لقبول الأوامر العقلية والأنوار الروحية والأعمال القلبية.
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟ أتسوسون ما تحتكم من القوى بالعبادات الجميلة والآداب الحسنة والترقي إلى مقامكم والتأدب بآدابكم وتنسون أنفسكم في التأدب بين يدي الله بآداب الروحانيين والتمرن في المراقبة، والتنور بأنوار الروح في مقام المشاهدة والترقي إلى مقامه عند الفناء في الوحدة، وأنتم تتلون كتاب المعقولات النازلة من رب الروح بواسطة ملك العقل إلى نبي القلب. أفلا تعقلون بالعقل المجرد عن شوب الهوى والوهم؟ واستعينوا بالصبر على ما يظهر عليكم ويرد من سلطنة أنوار سلطان الروح وأحكامه وقهر تجليات العظموت والحضور مع الحق، وأن هذه الاستعانة لشاقة إلا على الخاشعين، المرتاضين، المذعنين لانقياد أمر القلب والروح، المتيقنين بأنهم بحضرته وفي لقائه، وأنهم يرجعون إليه في قبول أنواره. وتفضيلهم على العالمين هو شرفهم على جميع ما في الإنسان من القوى.
[2.51-54]
{ وإذ واعدنا موسى } بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم { أربعين ليلة } يخلص لنا فيها لترفع بها الغشاوات الطبيعية التي حجبت قلبه عن معدن النور في الأربعين التي خلق فيها بدنه عند تكونه جنينا واحتجابه بالنشأة عن الفطرة كما ورد في الحديث
" خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا "
وعن وجه قلبه، وتظهر حكمة التوراة من قلبه على لسانه { ثم اتخذتم } عجل النفس الحيوانية الناقصة إلها من بعد اعتزاله وغيبته عنكم { وأنتم ظالمون } واضعون العبادة في غير موضعها.
{ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } الفعل الشنيع، والظلم القبيح، بتوبتكم عند رجوع موسى إليكم لكي تشكروا نعمة عفوي بتصور تلك النعمة عن المنعم فتستعدوا لقبول تجلي صفة المنعم. وعلى التأويل الثاني: { واعدنا موسى } القلب عند تعلقه بالبدن واحتجابه عن قومه القوى الروحانية الأربعين التي خلقت فيها بنية بدنه ثم تعبدتم عجل النفس الحيوانية الطفل من بعد غيبته واحتجابه في حال الصبا { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } التعبد بالبلوغ الحقيقي، وظهور نور القلب بتجردكم لكي تشكروا نعمة توفيقي إياكم لذلك التجرد وتهيئتي لأسباب كمالكم بسلوك سبيل صفاتي.
{ وإذ آتينا موسى } القلب كتاب المعقولات والحكم والمعارف والتمييز الفارق بين الحق والباطل، لكي تهتدوا بنور هداه. وعلى الوجه الأول غني عن التأويل. { ظلمتم أنفسكم } نقصتم حقوقها وحظوظها من الثواب والتجليات المذكورة { فتوبوا } إلى خالقكم برفع الحجاب الأول لدلالة ذكر البارئ عليه { فاقتلوا أنفسكم } بسيف الرياضة ومنعها عن حظوظها وأفعالها الخاصة بها على سبيل الاستقلال وقمع هواها التي هي روحها التي تحيا هي بها، وعلى الثاني ألهم القلب قواه أنكم نقصتم حقوقكم بتعبد النفس فارجعوا إلى بارئكم بنور هداه فامنعوا أنفسكم بالرياضة عما ضربتم فاقتلوها عن حياتها العارضة لها بغلبة الهوى لتحيوا بحياتكم الأصلية فتقبل توبتكم.
[2.55-57]
{ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن } لأجل هدايتك الإيمان الحقيقي حتى تصل إلى مقام المشاهدة والعيان { فأخذتكم } صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي { وأنتم } تراقبون أو تشاهدون. { ثم بعثناكم } بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله { وظللنا عليكم } غمام تجلي الصفات لكونها حجب شمس الذات المحرقة بالكلية، { وأنزلنا عليكم } من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإسهال رذائل أخلاق النفس كالتوكل والرضا، وسلوى الحكم، والمعارف والعلوم الحقيقية التي تحشرها عليكم رياح الرحمة، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها. { كلوا } أي: تناولوا وتلقوا هذه الطيبات { وما ظلمونا } ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات نفوسهم { ولكن كانوا } ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها. هذا على التأويلين، والخطجاب وإن كان عاما لكنه مخصوص بالسبعين المختارين.
[2.58]
{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } أي: روضة الروح المقدسة التي هي مقام المشاهدة { وادخلوا الباب } الذي هو الرضا كما ورد في الحديث:
" الرضا بالقضاء باب الله الأعظم "
، { سجدا } منحنين، خاضعين، لما يرد عليكم من التجليات الوصفية والفعلية والحملية. وقوله: { وقولوا حطة } أي: اطلبوا أن يحط الله عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم { نغفر لكم خطاياكم } تلويناتكم وذنوب أحوالكم { وسنزيد المحسنين } أي: المشاهدين لقوله عليه الصلاة والسلام:
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه "
ثواب إحسانهم الذي هو كشف الذات أو إحسانهم بالسلوك في الله.
[2.59]
{ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } أي: طلبوا الاتصاف بصفات النفس ابتغاء حظوظها سوى طلب الاتصاف بصفات الله ابتغاء الحظوظ الروحية. كما روي عنهم حنطا سمقاثا أي: نطلب غذاء النفس. { فأنزلنا } على الظالمين خاصة { رجزا } عذابا وضنكا وضيقا وظلمة في حبس النفس وأسرا في وثاق التمني واحتجابا في قيد الهوى، وحرمانا وذلا بمحبة المادة السفلية وتغيرها وزوالها من جهة قهر سماء الروح، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم أي خروجهم عن طاعة القلب إلى طاعة النفس، وتركنا التأويل الثاني لقربه منه جدا.
[2.60]
{ وإذ استسقى موسى } طلب نزول أمطار العلوم والحكم والمعاني من سماء الروح، فأمرناه بضرب عصا النفس التي يتوكأ عليها في تعلقه بالبدن وثباته على أرضه بالفكر على حجر الدماغ الذي هو منشأ العقل { فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } من مياه العلوم على عدد المشاعر الإنسانية التي هي الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة، والعاقلة النظرية والعملية. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" من فقد حسا فقد فقد علما "
{ قد علم كل أناس مشربهم } أي: أهل كل علم مشربهم من ذلك العلم، كأهل الصناعات، والعلماء العاملين من مشرب العقل العملي، والحكماء والعارفين من النظري والصباغين من علم الألوان المبصرة، وأهل صناعة الموسيسقى من علم الأصوات وغير ذلك. وعلى التأويل الثاني: أمرنا موسى القلب، بضرب عصا النفس على حجر الدماغ، { فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } هي المشاعر المذكورة التي تختص كل واحدة منها بقوة من القوى الاثنتي عشرة المذكورة التي هي أسباط يعقوب الروح، قد علم كل منها مشربه { كلوا واشربوا من رزق الله } أي: انتفعوا بما رزقكم الله من العلم والعمل والأحوال والمقامات. { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } ولا تبالغوا في الفساد بالجهل.
[2.61]
{ لن نصبر على طعام واحد } أي: الغذاء الروحاني من العلم والمعرفة والحكمة { فادع لنا ربك } أي: اسأل لنا ربك يوسع علينا، ويرخص لنا فيما تنبته أرض نفوسنا من الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة وكل ما فيه حظ النفس وعذابها. { اهبطوا مصرا } أي: مدينة البدن { فإن لكم } فيها { ما سألتم وضربت عليهم الذلة } اللازمة لاتباع الشهوات والحرص في المقتنيات { والمسكنة } أي: دوام الاحتياج ودوام سكنى الجهة السفلية { وباؤوا } واستحقوا { بغضب } البعد والطرد { من الله ذلك } باحتجابهم عن آيات الله وتجلياته، والباقي ظاهر. وعلى الوجه الثاني: وبقتلهم أنبياء القلوب بغير أمر ثابت لهم عليهم يتوجه به ذلك بل بصرف باطلهم ذلك بعصيانهم أوامر القلوب والعقول واعتدائهم عن ظهورهم.
[2.62]
{ إن الذين آمنوا } الإيمان التقليدي، والظاهريين والباطنيين والذين تعبدوا ملائكة العقول، لاحتجابهم بالمعقولات وكواكب القوى النفسانية لاحتجابهم بالوهميات والخياليات { من آمن } منهم الإيمان الحقيقي { بالله } والمعاد وأيقنوا علم التوحيد والقيامة، وعملوا ما يصلحهم للقاء الله ونيل السعادة في المعاد، فلهم الثواب الباقي الروحاني عند ربهم من جنات الأفعال والصفات { ولا خوف عليهم } من عقوبة أفعالهم { ولا هم يحزنون } بفوات تجليات الصفات. والجملة اعتراض بين خطاب بني إسرائيل.
[2.63-64]
{ وإذ أخذنا ميثاقكم } أي: عهدكم السابق أو اللاحق المأخوذ منهم في التوراة أو بدلائل العقل بتوحيد الأفعال والصفات { ورفعنا فوقكم } طور الدماغ لتمكن من فهم المعاني وقبولها. وقلنا { خذوا } أي: اقبلوا { ما آتيناكم } من التوراة أو كتاب العقل الفرقاني بجد { واذكروا } وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع، لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق { ثم } أعرضتم { من بعد ذلك } بإقبالكم إلى الجهة السفلية { فلولا فضل الله عليكم } بهدايته العقل { ورحمته } بنور البصيرة والشرع { لكنتم من الخاسرين }.
[2.65-66]
{ ولقد علمتم الذين اعتدوا } اعلم: أن الناس لو أهملوا وتركوا وخلي بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية، والغواشي الظلمانية لضراوتهم بها واعتيادهم من الطفولية والصبا حتى زالت استعداداتهم وانحطوا عن رتبة الإنسانية، فمسخوا كما قال تعالى:
من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير
[المائدة: 60]، وإن حفظوا وروعوا بالسياسات الشرعية والعقلية والحكم والآداب والمواعظ الوعدية والوعيدية ترقوا وتنوروا، كما قال الشاعر:
هي النفس إن تهمل تلازم خساسة
وإن تبتعث نحو الفضائل تبهج
فلهذا وضعت العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة لتزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتخاذ اللذات، وارتكاب الشهوات. فتتنور بواطنهم بنور الحضور، وتنتعش قلوبهم بالتوجه إلى الحق عن السقوط في هاوية النفس والعثور، وتستريح بروح الروح، وحب الوحدة عن وحشة الهوى، وتعلق الكثرة، كما قال عليه السلام:
" الصلاة بعد الصلاة كفارة ما بينهما من الصغائر إذا اجتنبت الكبائر "
ألا ترى كيف أمرهم عند الحدث الأكبر ومباشرة الشهوة بتطهير الغسل، وعند الأصغر بالوضوء، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيوية في ساعات اليوم والليل بالصلوات الخمس المزيلة لكدورات الحواس الخمس الحاصلة في النفس بسببها، كل بما يناسبه، فلذلك وضعوا بإزاء وحشة تفرقة الأسبوع وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب، والملابس البدنية، والملاذ النفسانية، اجتماع يوم واحد على العبادة والتوجه لتزول وحشة التفرقة بأنس الاجتماع وتحصل بينهم المحبة والأنس وتزول ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية والإعراض عن الحق بنور العبادة والتوجه، ويحصل لهم التنور فوضع لليهود أول أيام الأسابيع لكونهم أهل المبدأ والظاهر، وللنصارى بعده لأنهم أهل المعاد والروحاني والباطن المتأخرين عن المبدأ والظاهر بالنسبة إلينا، وللمسلمين آخرها الذي هو يوم الجمعة لكونهم في آخر الزمان أهل النبوة الخاتمة وأهل الوحدة الجامعة للكل، وإن جعل السبت آخر الأيام - على ما نقل أنه السابع - فبالنسبة إلى الحق تعالى لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم، وعالم العقل الذي إليه دعوة النصارى أولها، والجمعة هي يوم الجمع والختم، فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا زال نور استعداده، فمسخ كما مسخت أصحاب السبت. نهوا عن الصيد، أي: إحراز الحظوظ النفسانية واقتنائها في يوم السبت، فاحتالوا فيه فاتخذوا حياضا على ساحل البحر ليحبسوا فيها الحيتان ويصطادوها يوم الأحد. أي: ادخروا في سائر أيام الأسبوع من ماء بحر الهيولى الجرمية والجرمانيات المادية في حياض بيوتهم فجمعوا بها أنواع المطاعم والمشارب والملاذ والملاهي، فاجتمع لهم كل الحظوظ النفسانية في يوم السبت ما اكتفوا به سائر أيام الأسبوع ليفرغوا فيها إلى الاشتغال بالمكاسب والصناعات والمهن، كحما هو عادة اليهود اليوم وشطار المسلمين في الجماعات فإن أكثر فسقهم فيها، فذلك اعتيادهم في السبت وهو يدل على أن جميع أوقات حضورهم مصروفة في هموم الدنيا وطلب حظوظ النفس والهوى.
كما ترى اليوم واحدا من المسلمين قالبه في المسجد في الصلاة وقلبه في السوق في المعاملة، حتى قال أحدهم: جريدة حسابي هي الصلاة. أي: إذا فرغت من أشغال الدنيا إلى الصلاة أخذ قلبي في تصفح تجاراتي وما لي على الناس وما للناس علي، وذلك موجب للانحطاط عن العالم العلوي الإنساني إلى الأفق السفلي الحيواني. وهو معنى قوله:
{ فقلنا لهم كونوا قردة } أي: مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم { خاسئين } بعيدين، طريدين. والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة، ووردت به الآيات والأحاديث كقوله تعالى:
وجعل منهم القردة والخنازير
[المائدة، الآية: 60]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يحشر بعض الناس على صور يحسن عندها القردة والخنازير "
وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام:
" المسوخ ثلاثة عشر "
، ثم عدهم وبين أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم. والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده وتمكن في طباعه وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا صار طباعه طباع ذلك الحيوان ونفسه نفسه، فاتصلت روحه عند المفارقة ببدن يناسب صفته فصارت صفته صورته والله أعلم بذلك.
[2.67-71]
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } هي النفس الحيوانية، وذبحها قمع هواها الذي هو حياتها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة { قالوا أتتخذنا } مهزوا بنا، وتستخفنا لنطيعك ونتسخر لك كما جاء في حق فرعون: فاستخف قومه فأطاعوه. { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } الاستخفاف والاستهزاء وطلب الترؤس هو فعل الجهال.
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي: سل لنا ربك ما هي { إنها بقرة لا فارض } أي: غير مسنة لزوال استعدادها ورسوخ اعتقادها وضراوتها بعاداتها كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد. { ولا بكر } أي: فتية، لقصور استعدادها عما يراد منها وعسر احتمالها للرياضة لغلبة القوى الطبيعية وقوتها فيها { عوان } نصفة { بين } ما ذكر { صفراء } لأن لون الجسم أسود لعدم النورية فيه أصلا، ولون النفس النباتية أخضر لظهور النورية فيها، وغلبة السواد عليها لعدم إدراكها، ولون القلب أبيض لتجرده عن الجسم، وقوة إدراكه، وكمال نوريته. فلزم أن يكون لون النفس الحيوانية في الحيوانات العجم أحمر لتركب نورية إدراكها وسواد تعلقها بالجسم، إذ الحمرة لون بين البياض والسواد ومركب منهما، لكن السواد فيه أكثر. وفي الإنسان أصفر لغلبة نورية إدراكها بمجاورة القلب، إذ الصفرة حمرة عليها البياض { فاقع لونها } لصفاء استعدادها وشعشعان شعاع نور القلب عليها { تسر الناظرين } لقوة نور استعدادها وتشعشعها والناظرون هم الكاملون المطلعون على الاستعدادات لوجوب محبتهم للمستعدين المستبصرين وذوقهم بحضورهم. { إن البقر تشابه علينا } لكثرة البقر الموصوف بهذه الصفة، أي: كثرة أصناف المستعدين وما كل مستعد طالبا. كما قيل: ما كل طبع قابلا ولا كل قابل طالبا، ولا كل طالب صابرا، ولا كل صابر واجدا. { وإنا إن شاء الله لمهتدون } إلى ذبح هذه البقرة. وقولهم: إن شاء الله، دليل على استعدادهم لعلمهم بأن الأمور متعلقة بمشيئة الله، ميسرة بتوفيقه. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو لم يستثنوا لما ظفروا بها أبد الدهر ".
{ لا ذلول } غير مذللة، منقادة لأمر الشرع { تثير } أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة والعبادات { ولا تسقي } حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة باستقاء ماء العلوم الكسبية والأفكار الثاقبة، لعدم احتياج مثل هذه البقرة إلى الذبح { مسلمة } سلمها أهلها لترعى، غير مسوسة برسوم وعادات وشرائع وآداب { لا شية فيها } أي: لم يرسخ فيها اعتقاد ومذهب لعدم صلاحيتها للذبح.
{ جئت بالحق } الثابت في بيان المستعد المشتاق، الطالب للكمال { فذبحوها وما كادوا يفعلون } لكثرة سؤالاتهم ومبالغاتهم وتعمقهم في البحث والتفتيش عن حالها، وفضول كلامهم في بيانها التي تدل على عدم انقياد النفس بالسرعة، وإبائها للرياضة، وغلبة الفضول عليها، وتعذر مطلوبهم، وتأخرهم عنه بسبب ذلك .
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم "
، أي: لو لم يكن منهم كثرة فضول البحث والسؤال لما عز عليهم مطلوبهم لقوة قبولهم وإرادتهم، فكان سلس القياد، سهل الانقياد. ونهى صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال، وقال:
" إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال "
قال الله تعالى:
لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم
[المائدة، الآية: 101].
وقيل في قصتها: إن شيخا من بني إسرائيل نتجت له عجلة على هذه الصفة، وكان له ابن طفل، فجاء بها إلى عجوز وقال: إنها لهذا الطفل، سلميها في مرعاها عساها تنفعه إذا بلغ. فلما وقعت هذه الواقعة وسعى بنو إسرائيل في طلب البقرة أربعين سنة سمعت العجوز بها، فأخبرت ابنها بما فعل أبوه وقد ترعرع، فجاء إلى المرعى فوجدها، فأتى بها فساوموه في شرائها ومنعته العجوز عن بيعها حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا. فالشيخ هو الروح، والعجوز الطبيعة الجسمانية، وابنه الطفل هو العقل الذي هو نتيجة الروح، والشاب المقتول هو القلب.
سلم شيخ الروح عجل النفس إلى عجوز الطبع ليرعى في مرعى اللذت الطبيعية حتى يكبر عسى طفل العقل أن ينتفع بها وقت البلوغ في انتزاع المعقولات من محسوساتها واستعمال الفكر الذي هو من قواها في اكتساب العلوم العقلية. وهو الذي جاء بها من المرعى وسعي بني إسرائيل أربعين سنة إشارة إلى السير إلى الله بالأعمال والآداب والتخلق بالأخلاق، إلى أوان البلوغ الحقيقي، وتجرد القلب، كما قال الله تعالى:
بلغ أشده وبلغ أربعين سنة
[الأحقاف، الآية: 15]. ومساومتهم إياها في شرائها إشارة غلى طلب القوى الروحانية المنورة بنور الهداية الشرعية والإرادة، وانتزاعها من العقل المشوب بالوهم، واستعباد العقل إياها بالمعقولات القياسية، وتسخيرها بالفكريات، وحجبها عن نور الهداية الشرعية بالقياسات العقلية، وعدم تحليتها بالشرعيات. وهذا هو الموجب لتشددهم في السؤال وتأخرهم وتباطئهم في الامتثال. ومنع العجوز إياه هو ممانعة الطبع في الانقياد للشرع، وموافقة العقل إياه في ذلك لرعاية العقل جانب الطبع في مصالح المعاش وترفيهه إياه، وترخيصه والتوسيع عليه أكثر من الشرع. وبيعها بملء مسكها ذهبا إشارة إلى تحليها بعد الذبح والسلخ بالعلوم النافعة الشرعية والعقلية الخلقية والأحكام الفرعية الدينية، واشتمال صورتها عليها التي توافق العقل والطبع وتنفعهما باستعمالهما إياها في تحصيل مصالح المعاش والمباغي الطبيعية والمطالب العقلية العملية بإذن الشرع من الوجه الحلال والتصرف المباح وأنواع الرخص في جميع التمتعات بعد حصول الكمال وتمام السلوك.
[2.72]
{ وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها } إشارة إلى بيان سبب الأمر بذبح البقرة، وهو أنه كان شيخ موسر من بني إسرائيل وله ابن شاب فقتله ابنا عمه، أو بنو عمه، طمعا في ميراث أبيه وطرحوه بين أسباط بني إسرائيل على الطريق، فتدافعوا في قتله، فورد الأمر بذبح البقرة وضربه ببعضها ليحيا فيخبر بالقاتل. فالشاب هو القلب الذي هو ابن الروح الموسر بأموال المعارف والحكم، وقتله منعه عن حياته الحقيقية وإزالة العشق الحقيقي الذي هو حياته عنه باستيلاء قوتي الشهوة والغضب اللذين هما ابنا عمه النفس الحيوانية أو جميع قواها عليه، إذ الروح والنفس أخوان باعتبار فيضانهما وولادتهما من أب هو العقل الفعال المسمى { روح القدس } على قياس ما ورد في الحديث:
" أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من بقية طين آدم "
فإن النفس النباتية الكاملة التي إذا كانت عمة النفس الإنسانية، كانت النفس الحيوانية عمتها. قتلاه طمعا في استعمال المعاني العقلية والحكم التي هي ميراث أبيه في تحصيل مطالبهما وكمالاتهما ولذاتهما بأنواع الحيل والمكر وصناعة الفكر. وطرحاه على طرق القوى الروحانية والطبيعية بين محالها وتدافعهم في قتله هو إحالة كل قوة منها الفساد والإثم إلى الأخرى، والصلاح والبراءة إلى نفسها لتنازعها وتجاذبها في أفعالها ولذاتها واحتجاب كل منها بما يلائمها عما يلائم الأخرى ورؤيتها الصلاح فيه والفساد في ضده. { والله مخرج ما كنتم تكتمون } من نور القلب وحياته، بالاستيلاء عليه.
[2.73]
{ فقلنا اضربوه ببعضها } بذنبها أو لسانها، على ما ورد في القصة، ليحيا، فيخبركم بالقاتل. وضرب الذنب إشارة إلى إماتة النفس وتبقية أضعف قواها وآخرها، وجهتها التي تلي النفس النباتية ورابطتها بها كالحس اللمسي مثلا وسائر الحواس الظاهرة فإنها ذنبها. وضرب اللسان إشارة غلى تعديل أخلاقها وقواها وتبقية فكرها الذي هو لسانها، وهما طريقان: طريق الرياضة وإماتة الغضب والشهوة، كما هو طريق التصوف وهو بالنفوس القوية الجانية المستولية الطاغية أولى، وطريق التحصيل وتعديل الأخلاق كما هو سبيل العلماء والحكماء، وهو بالنفوس الضعيفة والصافية المنقادة اللينة أولى. فضربوه، فقام وأوداجه تشخب دما، وأخبر بقاتليه، أي: صار حيا قائما بالحياة الحقيقية وعليه أثر القتل لتعلقه بالبدن وتلوثه بمطالبه بحسب الضرورة، وعرف حال القوى البدنية في منعها إياه عن إدراكه وحجبها له عن نوره. { كذلك يحيي الله الموتى } أي: مثل ذلك الإحياء العظيم، يحيي الله موتى الجهل بالحياة الحقيقية العملية { ويريكم } دلائله وآيات صفاته لكي تعقلون.
[2.74]
{ ثم قست قلوبكم } أي: بعد تطاول الأمد، وتراخي مدة الفترة، وتتابع التلوينات، وتوالي النزغات، قست قلوبكم بكثرة مباشرة الأمور واللذات البدنية، وملابسة الصفات النفسانية { فهي كالحجارة } من عدم تأثرها بالنقش العلمي { أو } شيء { أشد قسوة } منها، كالحديد مثلا. ثم بين أن الحجارة ألين منها بأن حالها منحصر في الوجوه الثلاثة المذكورة، فأفاد أن القلوب أربعة: قلب تنور بالنور الإلهي منطمسا فيه، واستغرق في البحر العلمي منغمسا فيه، فانفجرت منه أنهار العلم، فمن شرب منها يحيا أبدا كقلوب أهل الله السابقين وهو المشار إليه بقوله تعالى: { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } وقلب ارتوى من العلم، فحفظ ووعى، فانتفع به الناس، كقلوب العلماء الراسخين وهو المشار إليه بقوله: { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } وقلب خشع وانقاد واستسلم وأطاع، كقلوب العباد والزهاد من المسلمين، وهو المشار إليه بقوله: { وإن منها لما يهبط من خشية الله } وأدنى أحوال حاله هو الهبوط من خشية الله، أي: الانقياد لما أمر الله من الميل إلى المركز بالسلاسة. وبقي قلب لم يتأثر قط بالعلم ولم يتلين بالخوف آبيا للهدى، متكبرا، ممتلئا بالهوى، متمردا، فلا يوجد من الجواهر ما يشبهه لقبول جميعها ما أمر الله به، فكيف بالحديد الذي يلين لما يراد منه؟ قال النبي عليه السلام:
" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أخاذات أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في الدين فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به "
فبين عليه السلام القلوب الثلاثة الأخيرة، والأول من الأربعة هو القلب المحمدي. { وما الله بغافل عما تعملون } تهديد للقاسية قلوبهم، أي: الله مطلع فيحجبهم عن نوره ويتركهم في ظلماتهم، والآيات التي تتلوها ظاهرة.
[2.75-78]
وتأويل الأولى:
{ أفتطمعون } أن يوحدوا بتوحيد الصفات لأجل هدايتكم { وقد كان فريق منهم } يقبلون صفات الله ثم يحرفونها بنسبتها إلى أنفسهم { من بعد ما عقلوه } أي: علموا توحيد الصفات وما وجدوه بالعيان { وهم يعلمون } أن تلك الصفات لله، لكن نفوسهم ينتحلونها بالإشراك حالة ذهول العقل عن استيلائها على القلب لعدم كون توحيدهم ملكة وحالا، بل علما.
[2.79]
{ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } ، أي: ويل لمن بقيت منه بقايا صفات النفس وهو لا يشعر بها أو يشعر فيحتال أو لا يحتفل بها فيفعل ويقول بنفسه وصفاتها، ويدعي أنه من عند الله ليكتسب به حظا من حظوظ النفس، بل عين ذلك القول والفعل ونسبته إلى الله حظ تام لها وذنب لا ذنب أقوى منه. ويمكن أن تؤول الآيات الثلاث الأول على الوجه الثاني المبني على التطبيق فيقال: أفتطمعون، أيتها القوى الروحانية، أن تؤمن هذه القوى النفسانية لأجل هدايتكم منقادة. وقد كان فريق منهم كالوهم والخيال يسمعون كلام الله، أي: يتلقفون المعاني الواردة من عند الله على القلب ثم ثحرفونه بالمحاكاة وكثرة الانتقالات وجعلها جزئية، وإعطائها أحكام الجزئيات كما في المنامات والواقعات. من بعد ما عقلوه، أي: أدركوه على حاله وهم يعلمون تحريفها وانتقالاتها إلى اللوازم والأشباه والأضداد.
وإذا لقوكم بالتوجه نحوكم، وتلقن مدركاتكم عند حضوركم، ومشابعتها إياكم، وعروجها، إذعنوا وصدقوا. { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } في أوقات الغفلات، منع بعضهم بعضا عن إلقاء ما فتح الله عليهم من مدركاتهم المحسوسة والمخيلة والموهومة ليركبوا منها الحجج ويحاجوهم بها في الحضرة الروحانية عند ربهم.
{ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون } عنكم من مدركاتهم { وما يعلنون } فيطلعكم عليها وينصركم عليهم { ومنهم } أي: القوى الطبيعية الغير المدركة والحواس الظاهرة { لا يعلمون } كتاب المعاني المعقولة { إلا أماني } لذاتهم وشهواتهم وما يتيقنون خاتمة عاقبتها ومضرتها في طريق الكمال، بل يظنون نفعها وخيريتها.
[2.80-82]
{ وقالوا لن تمسنا النار } إلى آخر الآية. اعتقدوا أن زمان العقاب يساوي زمان مباشرة الذنب، ولم يعلموا أن الذنب إذا كان معتقدا فاسدا، ثابتا في النفس، وهيئة راسخة فيها، وصار ملكة كصورة ذاتية لها، كان سببا لتخليد العذاب. وهو معنى قوله تعالى: { وأحاطت به خطيئته } أي: استولت عليه واستوعبت كالسواد المستوعب للثوب. ولو لم يكن كذلك لما كانت الطاعة أيضا سبب خلود الثواب.
[2.83]
{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } عاهدناهم بالتوحيد. ومقتضى التوحيد ملاحظة الحضرة الربوبية ومشاهدة تجلياتها في مظاهرها، والقيام بحقها على حسب ظهور أوصافها. وأول من يظهر عليه صفات الربوبية وآثارها في الظاهر وعالم الشهادة هما الأبوان لمكان النسبة والتربية والعطوفية، التي هي آثار الموجد الرب الرحيم فيهما له. فالإحسان إليهما يجب أن يلي عبادة الله بحسب ظهوره في مظهريهما، ثم ذوي القربى لظهور المواصلة والمرحمة الإلهية فيهم بالنسبة إليه، ثم اليتامى لاختصاص ولايته وحفظه تعالى بهم فوق من عداهم إذ هو ولي من لا ولي له، ثم المساكين لتوليته رعايتهم ورزقهم بنفسه بلا واسطة غيره، ثم سائر الناس للرحمة العامة بينهم التي هي ظل الرحمانية. فالإحسان المأمور به في الآية على درجاته وتفاضله في مراتبه هو تخصيص العبادة بالله مع مشاهدة صفاته في مظاهرها ورعاية حقوق تجلياتها وأحكامها.
[2.84]
{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } بهواكم إلى مقار النفس وصفاتها وميلكم إلى هواها وطباعها، ومتاركتكم حياتكم الحقيقية، وخواص أفعالكم لأجل تحصيل مآربها ولذاتها { ولا تخرجون أنفسكم } أي: ذواتكم. إذ يعبر بالنفس عن الذات { من دياركم } أي: مقاركم الروحانية والروضات القدسية { ثم أقررتم } بقبولكم لذلك { وأنتم تشهدون } عليه باستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية.
[2.85-86]
{ ثم أنتم هؤلاء } الساقطون عن الفطرة، المحتجبون عن نور الاستعداد الأصلي { تقتلون أنفسكم } بغوايتكم ومتابعتكم للهوى { وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } أوطانهم القديمة الأصلية، بإغوائهم وإضلالهم وتحريضهم على ارتكاب المعاصي واتباع الهوى { تظاهرون عليهم } تتعاونون عليهم { بالإثم } بارتكاب الفواحش والمعاصي ليروكم فيتبعوكم فيها { والعدوان } والاستطالة على الناس ليتعدى إليهم ظلمكم، وإلزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها، وتزيينكم لهم إياها كما هو عادة ملاحدة المسلمين من أهل الإباحة المدعين للتوحيد. { وإن يأتوكم أسارى } في قيد تبعات ارتكبوها وشين أفعالهم القبيحة، أخذتكم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار { تفادوهم } بكلمات الحكمة والموعظة والنصيحة الدالة على أن اللذات المستعلية هي: العقلية والروحية وعاقبة اتباع الهوى والنفس والشيطان وخيمة، ومشاركة البهائم والهوام في أفعالها مذمومة رديئة، فيتيقظوا بها ويتخلصوا من قيد الهوى سويعة كما نشاهد من حال علوج مدعي التوحيد والمعرفة والحكمة وأتباعهم في زماننا هذا.
{ أفتؤمنون ببعض الكتاب } أي: كتاب العقل والشرع قولا وإقرارا، فتقرون به وتصدقونه وهو أن اتباع الهوى والنفس مذموم، موجب للوبال والهلاك والخسران { وتكفرون ببعض } فعلا وعملا فلا تنتهون عما نهاكم عنه، وهو إباحتهم واستحلالهم للمحرمات والمنهيات { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي } افتضاح وذلة { في الحياة الدنيا ويوم القيامة } أي: حال المفارقة التي هي القيامة الصغرى { يردون إلى أشد العذاب } الذي هو تعذيبهم بالهيئات المظلمة الراسخة في نفوسهم واختراقهم بنيرانها أو مسخهم عن صورهم بالكلية، وتضاعف البلية { وما الله بغافل } عن أعمالكم، أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم، كما قال تعالى:
يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه
[المجادلة، الآية: 6].
[2.87-101]
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } إلى قوله: { لا يعلمون } ظاهر ومعلوم مما مر. والظاهر أن جبرائيل هو العقل الفعال. وميكائيل هو روح الفلك السادس، وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق العباد. وإسرافيل هو روح الفلك الرابع، وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية، الموكلة بالحيوانات. وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل لالأرواح الإنسانية كلها، يقبضها بنفسه أو بالوسايط التي هي أعوانه ويسلمها إلى الله تعالى.
[2.102]
{ واتبعوا } أي: اتبع اليهود والقوى الروحانية { ما تتلوا } شياطين الإنس الذين هم المتمردة العصاة الأشرار، الأقوياء، وشياطين الجن وهم الأوهام والخيالات والمتخيلات المحجوبة عن نور الروح، العاصية لأمر العقل المتمردة عن طاعة القلب { على } عهد { ملك سليمان } النبي أو سليمان الروح من كتب السحر وعلومه، يزعمون أنه علم سليمان وبه استولى على الملك وسخر ما سخر من الجن والإنس والطير وعلم الحيل والشعبذة والموهومات والمتخيلات والسفسطة. { وما كفر سليمان } بإسناد التأثير إلى غير الله، إذ السحر كفر واحتجاب عن مؤثرية الله، بإسناد التأثير إلى غيره { ولكن الشياطين كفروا } احتجبوا ولم يعلموا أن لا مؤثر إلا الله { يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين } أي: العقل النظري والعملي المائلين إلى النفس المنكوسين من بئر الطبيعة لتوجههما إليها باستجذاب النفس إياهما إليها { ببابل } الصدر المعذبين بضيق المكان بين أبخرة المود وأدخنة نيران الشهوات من العلوم والأعمال من باب الحيل والنيرنجات والطلسمات على التأويلين { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة } امتحان وبلاء من الله لقوة النورية وبقية الملكوتية فيهما، فينبهان على حالهما بالنور العقلي { فلا تكفر } باستعمال هذا العلم في المفاسد والمناهي وإسناد التأثير إليه { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين } القلب والنفس، وبين الروح والنفس، وتكدير القلب { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } أي: إلا إذا أراد الله أن يضره عند ذلك الفعل، فيفعل ما يريد ويكون زيادة ابتلاء للساحر وإمهالا له في كفره واحتجابه لرؤيته ذلك من تأثير سحره. { ويتعلمون ما يضرهم } بزيادة الاحتجاب وشدة الميل والهوى { ولا ينفعهم } في رفع الحجاب برؤيتهم ذلك ابتلاء من الله واستعاذاتهم بالله ليقيهم من شره. { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } أي: نصيب، لإقباله على النفس والهوى بالكلية واستعمال ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها.
[2.103-105]
{ ولو أنهم آمنوا } برؤية الأفعال من الله { واتقوا } الشرك بنسبة التأثير إلى غيره { لمثوبة } دائمة كائنة { من عند الله } من الأنوار الروحية، والمواهب الفتوحية، والأحوال القلبية، والمعارف الإلهية { خير لو كانوا يعلمون }.
[2.106-107]
{ ما ننسخ من آية } بإبطال حكمها وإبقاء لفظها ومعناها، أو لفظها دون معناها، كآية الرجم { نأت بخير منها } أي: بما هو أصلح في بابه منها في بابها أو يساويها في الخير والصلاح. واعلم أن الأحكام المثبتة في اللوح المحفوظ إما مخصوصة وإما عامة، والمخصوصة إما أن تختص بحسب الأشخاص وإما أن تختص بحسب الأزمنة، فإذا نزلت بقلب الرسول فالتي تختص بالأشخاص تبقى بقاء الأشخاص، والتي تختص بالأزمنة تنسخ وتزال بانقراض تلك الأزمنة، قصيرة كانت كمنسوخات القرآن، أو طويلة كأحكام الشرائع المتقدمة. ولا ينافي ذلك ثبوتها في اللوح إذ كانت فيه كذلك، والعامة تبقى ما بقي الدهر كتكلم الإنسان واستواء قامته مثلا.
{ ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } أي: له ملك سموات عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل كله ظاهره وباطنه فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم.
[2.108-112]
{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم } من قبل اللذات الدينية الحسية والشهوات الخسيسة النفسية { كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل } الظلمة ب النور { فقد ضل } الطريق المستقيم.
{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } أي: قالت اليهود: لن يدخل الجنة المعهودة عندهم، أي: جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس إلا من كان هودا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة المعهودة عندهم، أي: جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات، وجنة القلب إلا من كان نصرانيا. ولهذا قال عيسى عليه السلام في دعوتهم إلى جنتهم: " لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين " ، وكانت دعوته إلى السماء، أي: السماء الروحانية { تلك أمانيهم } أي: غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها واحتجبوا بها عما فوقها { قل هاتوا برهانكم } أي: دليلكم الدال على نفي دخول غيركم جنتكم { إن كنتم صادقين } في دعواكم، بل الدليل دل على نقيض مدعاكم.
فإن { من أسلم وجهه } أي: ذاته الموجودة مع جميع لوازمها وعوارضها { لله } بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي والفناء في ذات الله { وهو محسن } أي: مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء، مشاهد ربه في أعماله، راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة بالوجود الحقاني لمكان الاستقامة والعبادة، لا بالوجود النفساني { فله أجره عند ربه } أي: ما ذكرتم من الجنة وأصفى وألذ لاختصاصها بمقام العندية أي المشاهدة التي احتجبتهم عنها { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي: وزيادة على ما لكم من الجنة وهو عدم خوفهم من احتجاب الذات وبقاء النفس اللازم لوجود بقيتهم وعدم حزنهم على ما فتهم بسبب الوقوف بحجاب جنة الأفعال والصفات والتلذذ بها والاستراحة فيها والاستدامة إليها من شهود جمال الذات. فإنهم وإن تركوها بالشوق إلى تجلي الذات فإنها حاصلة لهم وأدنى مقامهم تحت جنة الذات.
[2.113-114]
{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } لاحتجابهم بدينهم عن دينهم، وكذا قالت النصارى لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر كما احتجب اليهود بالظاهر عن الباطن على ما هو حال أهل المذاهب اليوم في الإسلام.
{ وهم يتلون الكتاب } وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب، ورؤية حق كل دين ومذهب، وليس أهل ذلك الدين والمذهب حقهم بباطل لتقيدهم بمعتقدهم، فما الفرق بينهم وبين الذين لا علم لهم ولا كتاب، كالمشركين، فإنهم يقولون مثل قولهم بل هم أعذر، إذ ليس عليهم إلا حجة العقل وهم بحجة العقل والشرع { فالله يحكم بينهم } بالحق في اختلافاتهم { يوم } قيام { القيامة } الكبرى وظهور الوحدة الذاتية عند خروج المهدي عليه السلام. وفي الحديث ما معناه: " إن الله يتجلى لعباده في صورة معتقداتهم فيعرفونه، ثم يتحول عن صورته إلى صورة أخرى فينكرونه " ، وحينئذ يكونون كلهم ضالين محجوبين إلا ما شاء الله وهو الموحد الذي لم يتقيد بصورة معتقده.
{ ومن أظلم } أي: أنقص حقا وأبخس حظا { ممن منع مساجد الله } أي: مواضع سجود الله التي هي القلوب التي يعرف فيها فيسجد بالفناء الذاتي { أن يذكر فيها اسمه } الخاص الذي هو الاسم الأعظم، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب، وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات أو اسمه المخصوص بكل واحد منها، أي الكمال اللائق باستعداده المقتضي له. { وسعى في خرابها } بتكديرها بالتعصبات الباردة وغلبة واستيلاء التمنيات عليها، ومنع أهلها المستعدين عنها بالهرج والمرج وتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس ودواعي الشيطان والوهم { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } ويصلوا إليها، أي: منكسرين لظهور تجلي الحق فيها { لهم في الدنيا خزي } أي: افتضاح وذلة بظهور بطلان دينهم ومعتقدهم، وفسخه بدين الحق وانقهارهم وتحسرهم ومغلوبيتهم. { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } هو الاحتجاب عن الحق بدينهم.
[2.115]
{ ولله المشرق } أي: عالم النور والظهور الذي هو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة هو باطنه { والمغرب } أي: عالم الظلمة والاختفاء الذي هو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة هو ظاهره { فأينما تولوا } أي: أي جهة تتوجهوا من الظاهر والباطن { فثم وجه الله } أي: ذات الله المتجلية بجميع صفاته، أو ولله الإشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم، والغروب فيها بتستره واحتجابه بصورها وذواتها، واختفائه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء. فأي جهة تتوجهوا حينئذ فثم وجهه لم يكن شيء إلا إياه وحده { إن الله واسع } جميع الوجود شامل لجميع الجهات والوجودات { عليم } بكل العلوم والمعلومات.
[2.116-117]
{ وقالوا اتخذ الله ولدا } أي: أوجد موجودا مستقلا بذاته مخصوصا دونه { سبحانه } ننزهه عن أن يكون غيره شيء فضلا عما يجانسه { بل له ما في السموات والأرض } أي: له عالم الأرواح والأجساد وهي باطنه وظاهره، كما تقول: له الذات والوجه والصفات وأمثال ذلك. { كل له قانتون } موجودون بوجوده، فاعلون بفعله، معدومون بذواتهم، وهو غاية الطاعة والقيام بحقه إذ هو الوجود المطلق، فلا يوجد بدونه شيء. والوجودات المعينة صفاته وأسماؤه لامتيازها بتعيناتها التي هي أمور إمكانية عدمية ليست عينه بالاعتبار العقلي يقسمها إلى الوجود والماهية التي هي بدون الوجود ليست شيئا في الخارج، لكن في العقل. والعقليات باطنه ، فهي في الحقيقة ليست غيره فلا يكون غيره موجودا حتى يكون ولدا، أي: معلولا أو مخلوقا أو ما شئت فسمه.
{ بديع السموات والأرض } أي: مبدع سمواته وأرضه غير مسبوقة بمادة ومدة، بل هي ظلال ذاته ومنشأ عالميته منورة باسمه النوراني، موجودة بوجوده الخارجي ولو لم يكن جهات الإمكان واعتبارات العقل بحسب اليقينيات لما اعتبرت وجوداتها أصلا إذ هي بلا هو غير شيء فلا تكون معه موجودة بالمقارنة بل بالتحقيق بوجوده، ولا تكون غيره بالمفارقة بل بالاعتبار العقلي. فهي باعتبار تعيناتها خلق، وباعتبار حقيقتها حق. { وإذا قضى أمرا } أي حكم به { فإنما يقول له كن فيكون } أي: فلا يكون إلا تعلق إرادته به فيوجد بلا تخلل زمان ولا توسط شيء، بل معا. وذلك التعلق هو قوله وإلا لم يكن ثم قول ولا صوت.
[2.118-124]
{ وقال الذين لا يعلمون } علم التوحيد من المشركين { لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } إلى قوله: { تشابهت قلوبهم } في الجهل بعلم التوحيد وبكلام الله وآياته، إذ العلم بهما فرع علم التوحيد { قد بينا } دلائل التوحيد وكيفية المكالمة لأهل الإيقان { ولا تسئل عن أصحاب الجحيم } أي: ولا تؤخذ باحتجابهم وما عليك أن تنتقذهم من ظلمات حجبهم، إنما عليك أن تدعوهم بالبشارة والإنذار. { قل إن هدى الله هو الهدى } أي: طريق الوحدة المخصوصة بالحق هو الطريق لا غير. كما قال علي عليه السلام: " اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة ". { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } أي: من علم التوحيد والمعرفة { ما لك من الله من ولي ولا نصير } لامتناع وجود غيره.
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } أي: بمراتب الروحانيات، كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات، التي يعبر بها على تلك المراتب كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها { فأتمهن } بالسلوك إلى الله وفي الله حتى الفناء { قال إني جاعلك للناس إماما } بالبقاء بعد الفناء، والرجوع إلى الخلق من الحق تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي ويقتدون بك فيهتدون. { قال ومن ذريتي } أي: واجعل بعض ذريتي أيضا إماما { قال } قد يكون منهم ظالمون { ولا ينال عهدي } إياهم، أي: لا يكونون خلفائي ولا أعهد إلى الظالمين بالإمامة.
[2.125]
{ وإذ جعلنا البيت } القلب { مثابة } أي: مرجعا ومبوأ { للناس وأمنا } ومحل أمن أو سبب أمن وسلامة لهم يأمنون بالوصول إليه والسكون فيه شر غوائل صفات النفس وفتك فتاك القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال، وإغوائهم ومكائدهم { واتخذوا من مقام إبراهيم } الذي هو مقام الروح ومقام الخلة { مصلى } موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والمواصلة الإلهية والخلة الذوقية { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى { للطائفين } أي: للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم { والعاكفين } الواصلين إلى مقام القلب بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال المقيمين فيه بلا تلوينات النفس وإزعاجها منه { والركع } أي: الخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات، وكمال مرتبة الرضا والسجود الفانين في الوحدة.
[2.126]
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } الصدر الذي هو حرم القلب { بلدا آمنا } من استيلاء صفات النفس واغتيال العدو اللعين، وتخطف جن القوى البدنية أهله { وارزق أهله } من ثمرات معارف الروح أو حكمه وأنواره { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } من وحد الله منهم وعلم المعاد { قال ومن كفر } أي: ومن احتجب أيضا من الذين سكنوا الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر { فأمتعه } تمتيعا { قليلا } من المعاني العقلية، والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على قدر ما تعيشوا به { ثم أضطره إلى عذاب } نار الحرمان والحجاب { وبئس المصير } مصيرهم، لتعذبهم بنقصانهم وتألمهم بحرمانهم.
[2.127-133]
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } قيل: إن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم ولها بابان إلى المشرق والمغرب، فحج آدم عليه السلام من أرض الهند واستقبله الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله. ثم رفعت في زمان طوفان نوح عليه السلام، ثم أنزلت مرة أخرى في زمان إبراهيم صلوات الله عليه، فزارها ورفع قواعدها وجعل بابيها بابا واحدا. وقيل: ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبرائيل فخبئت فيه في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم عليه السلام، فوضعه إبراهيم مكانه، ثم اسود بملامسة النساء الحيض.
فنزولها في زمان آدم إشارة إلى ظهور القلب في زمانه بوجوده عليه. وكونه ذا بابين شرقي وغربي إشارة إلى ظهور علم المبدأ والمعاد، ومعرفة عالم النور، وعالم الظلمة في زمانه دون علم التوحيد. وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين والاعتدال من عالم الطبيعية الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى الحيوانية والنباتية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب. واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الإذعان والأخلاق الجميلة والملكات الفاضلة والتمرن فيها والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب. وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكنه واستقامته فيه. ورفعه في زمان الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمان نوح عليه السلام عن مقام القلب. وبقاؤه في السماء الرابعة، أي: البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم عليه السلام إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته. ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى تلقي القلب بسلوكه عليه السلام من مقامه إلى مقام الروح الذي هو السر وارتفاع مراتبه ووصوله إلى مقام التوحيد، إذ هو أول من ظهر عليه التوحيد الذاتي كما قال عليه السلام:
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام، الآية: 79]. والحجر الأسود إشارة إلى الروح. وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها بالتفكر والتبعد في طلب ظهوره، ولهذا قيل: خبئت فيه، يعني: احتجبت بالبدن. واسوداده بملامسة النساء الحيض إشارة إلى اختفائه وتكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب واستيلائها عليه وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه. وكذا إسماعيل أيضا كان من الموحدين لعطفه عليه في رفع قواعد البيت.
{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } أي: لا تكلنا إلى أنفسنا فنسلم بأنفسنا بل بك وبجعلك { ربنا وابعث فيهم رسولا } هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال عليه السلام:
" أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي "
وقد رأت في المنام أن نورا خرج منها فأضاءت لها قصور الشام.
{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم } أي: ملة التوحيد { إلا من سفه نفسه } إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية وبقي في مقام ظلمة نفسه. أي: سفه نفسا على التمييز أو في نفسه على انتزاع الخافض { ولقد اصطفيناه } أي: من كان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية فاخترناه حالة الفناء في التوحيد { وهو في الآخرة } أي: حالة البقاء بعد الفناء من أهل الاستقامة الصالحين لتدبير النظام وتكميل النوع { إذ قال له ربه أسلم } أي: وحد وأسلم ذاتك إلى الله، يعني: جعله في الأزل من أهل الصف الأول مسلما موحدا مذعنا لرب العالمين، فانيا فيه { ووصى بها } أي: بكلمة التوحيد { إبراهيم بنيه ويعقوب } بنيه تأسيا { يا بني إن الله اصطفى لكم الدين } أي: دينه الذي يدين به الموحد، لا دين له غيره، ولا ذات، فدينه دين الله وذاته ذات الله { فلا تموتن } إلا على هذا الدين، أي: لا تموتن بالموت الطبيعي موت الجهل، بل كونوا ميتين بأنفسكم، أحياء بالله أبدا، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة.
[2.134]
{ تلك أمة قد خلت } أي: لا تكونوا مقلدين ولا تكتفوا بالتقليد الصرف في الدين إذ لا اعتماد على النقل، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة، لا يجازى أحد بمعتقد غيره ولا بعمله، فكونوا على بصائركم واطلبوا اليقين واعملوا عليه.
[2.135-141]
{ وقالوا كونوا هودا أو نصارى } كل محجوب بدينه يزعم أن الحق دينه لا غير { قل بل ملة إبراهيم } فإن الهدى المطلق هو التوحيد الذي يشمل كل دين، ويرفع كل حجاب كما ذكر بعده في قوله { قولوا آمنا بالله } إلى آخره { لا نفرق بين أحد منهم } بنفي دين البعض وإبطال ملته وإثبات الآخر وحقيته، بل نقول باجتماعهم على الحق واتفاقهم على التوحيد، ونقبل جميع أديانهم بالتوحيد الشامل لكلها { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } من التوحيد الجامع من كل دين ومذهب { فقد اهتدوا } الاهتداء المطلق، أي: كل الاهتداء { وإن تولوا فإنما هم } في طرف من الدين وشق من الهداية يشاقونكم فيه.
{ صبغة الله } أي: آمنا بالله وصبغنا الله صبغة، فإن كل ذي اعتقاد ومذهب باطنه مصبوغ بصبغ اعتقاده ودينه ومذهبه. فالمتعبدون بالملل المتفرقة مصبوغون بصبغ نيتهم، والمتمذهبون بصبغ إمامهم وقائدهم، والحكماء بصبغ عقولهم، وأهل الأهواء والبدع المتفرقة بصبغ أهوائهم ونفوسهم، والموحدون بصبغة الله خاصة التي لا صبغ أحسن منها ولا صبغ بعدها. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، فمن أصاب من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأ ضل "
، فذلك النور هو صبغته.
[2.142]
{ سيقول السفهاء من الناس } سماهم سفهاء خفاف العقول، لعدم وفاء عقولهم بإدراك حقيقة دين الإسلام وقضائها على ما عرفت بحق مذهبها ووقوفها به، ولذلك كانت محاجتهم في الله مع اتفاقهم في التوحيد واختصاص المسلمين بالإخلاص، إذ لو أدركوا الحق لأدركوا إخلاصهم فلم تبق محاجتهم معهم. ولو كانت عقولهم رزينة لاستدلت بالآيات وأدركت في كل دين ومذهب حقه، وفرقت بين ذلك الدين الحق الذي هو كالروح لذلك، وبين باطل أهله الذي اختلط به ولبسه خاصة دين الإسلام، فإن كله حق، بل هو حق الحقوق ولذلك جعلوا أمة وسطا أي: عدلا بين الأمم، فضلاء شهداء عليهم. { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } لأنهم كانوا مقيدين بالجهة فلم يقبلوا إلا مقيدا ولم يعرفوا التوحيد الوافي بالجهات كلها { قل لله المشرق والمغرب } على ما مر من التأويلين { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } أي: طريق الوحدة التي تتساوى الجهات بالنسبة إليها لكون الحق المتوجه إليه لا في جهة ، وكون الجهات كلها فيه وبه وله، كما قال تعالى:
فأينما تولوا فثم وجه الله
[البقرة، الآية: 115].
[2.143]
ومعنى شهادتهم على الناس وشهادة الرسول عليهم، واطلاعهم بنور التوحيد على حقوق الأديان ومعرفتهم بحق أهل كل دين وحق، كل ذي دين من دينه وباطلهم الذي ليس حقهم الذي هو مخترعات نفوسهم وتمنياتهم وأكاذيب أخبارهم وملفقاتهم، ووقوفهم على حد دينهم، وإبطالهم لما عداه من الأديان، واحتجابهم وتقيدهم بظاهره دون التعمق إلى باطنه وأصله وإلا عرفوا حقية دين الإسلام لأن طريق الحق واحد فلا يستخفون بحق سائر الأديان وخاصة دين الإسلام الذي هو الحق الأعظم الأظهر، والرسول مطلع على رتبة كل متدين بدينه في دينه، وحقيقته التي هو عليها من دينه، وحجابه الذي هو به محجوب عن كمال دينه، فهو يعرف ذنوبهم وحدود إيمانهم وأعمالهم وحسناتهم وسيئاتهم وإخلاصهم ونفاقهم وغير ذلك بنور الحق، وأمته يعرفون ذلك من سائر الأمم بنوره.
{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم } بالعلم التفصيلي التابع لوقوع المعلوم لا العلم السابق في عين جميع أول الوجود فإنه معلوم له بذلك العلم قبل وجوده، لأن العلم كله له لا علم لأحد غيره. فعلومنا التي نعلم بها الأشياء تظهر على مظاهرنا من علمه وذلك علمه التفصيلي أي: علمه في تفاصيل الموجودات. فهو يعلم بذلك العلم التفصيلي الظاهر في مظاهرنا الأشياء بعد وجودها، كما يعلمها بالعلم الأول الذي هو في عين الجمع قبل وجودها.
{ من يتبع الرسول } في توحيده { ممن ينقلب على عقبيه } لاحتجابه بالتقييد بالدين { وإن كانت لكبيرة } أي: أنه كانت التحويلة لكبيرة لشاقة ثقيلة { إلا على الذين } هداهم الله إلى التوحيد ونجاهم عن الاحتجاب بالتقييد { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي: صلاتكم إلى بيت المقدس لكونها لله، وإذا كانت له فحيثما توجهتم قبلها. ولعمري إنها إنما شقت على طائفتين: المحجوبين بالحق عن الخلق، والمحجوبين بالخلق عن الحق. فإن الأولى عرفت أن التحويلة الأولى التي كانت من الكعبة إلى بيت المقدس هي صورة العروج من مقام القلب والسر، أي: المكاشفة والمكالمة إلى مقام الروح والخفاء، أي: المشاهدة والمعاينة فحسبوا التحويلة الثانية التي كانت صورة الرجوع إلى مقام القلب حالة الاستقامة والتمكين للدعوة والنبوة ومشاهدة الجمع في عين التفصيل، والتفصيل في عين الجمع، حيث لا احتجاب عن الخلق بالحق، ولا عن الحق بالخلق، هو النزول بعد العروج، والبعد بعد القرب. وظنوا ضياع السعي إلى المقام الأشرف وحصول الهجر بعد الوصول، والسقوط عن الرتبة، فشق عليهم ذلك. وأما الطائفة الثانية فتقيدوا بصورة نسكهم وعملهم وما عرفوا حكمة التحويلة، فظنوا صحة العبادة الثانية دون الأولى، فشق عليهم ضياعها وبطلانها الذي توهموه فهدينا إلى خلاف ما توهموه بما فهم من الآية. { إن الله بالناس لرؤوف } يرؤف بهم بشرح الصدر، ورفع الحجاب حال البقاء بعد الفناء للأولى، وبقبول ما عملت الثانية بصدقهم، وإن لم يعلموا ما يفعلون { رحيم } يرحمهم بالوجود الحقاني للأولى وثواب الأعمال والهداية إلى الحقيقة للثانية، وتوفيقهم للترقي من حالهم ومقامهم إلى مقام اليقين.
[2.144]
{ قد نرى تقلب وجهك } في جهة سماء الروح في مقام الجمع عند الاستغراق في الوحدة والاحتجاب بالحق عن الخلق يؤدك وزر النبوة ومقام الدعوة، لعدم التفاتك إلى الكثرة، ويعسر عليك الرجوع إلى الحق في أول حال البقاء بعد الفناء قبل التمكن لقوة توجهك إلى الحق { فلنولينك قبلة ترضاها } فلنجعلن وجهك يلي قبلة القلب بانشراح الصدر، كما قال تعالى:
ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك
[الشرح، الآيات: 1-3] فإنها قبلة ترضاها لوجود الجمع هناك في صورة التفصيل وعدم احتجاب الوحدة بالكثرة، فترضى تلك القبلة بدعوة الخلق إلى الحق مع بقاء شهود الوحدة { فول وجهك شطر المسجد الحرام } جانب الصدر المشروح المحرم من وصول صفات النفس، ودواعي الهوى والشيطان { وحيث ما كنتم } أيها المؤمنون والمحققون، سواء كنتم في جهة مشرق الروح ومغرب النفس { فولوا وجوهكم } جانبه ليتيسر عليكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأولى، أي: الجهة الشرقية. والترقي عن حالكم ومقامكم، والتوقي عن احتجابكم بدواعي الهوى والشيطان في الثانية. { وإن الذين أوتوا الكتاب } أي: التوراة والإنجيل وكتاب العقل الفرقاني ، أي: العقل المستفاد { ليعلمون أنه الحق من ربهم } لاهتدائهم بما في الكتاب من توحيد الأفعال، والصفات، والدلالة على التوحيد المحمدي الذاتي إليه، أو بنور العقل المنور بالنور الشرعي لا المحجوب بالقياس الفكري.
[2.145]
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } دالة على صحة نبوتك وحقية قبلتك ولو من كتابهم، أو ما كانت عقلية قطعية { ما تبعوا قبلتك } لاحتجابهم بدينهم ومعقولهم وتقيدهم به { وما أنت بتابع قبلتهم } لعلوك عن رتبة دينهم وترقيك عن مقامهم { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } لاحتجاب كل بدينه وتضاد وجههم الناشئ من التضاد المركوز في طباعهم { ولئن اتبعت أهواءهم } المتفرقة { من بعد ما جاءك من } علم التوحيد الجامع إياك { إنك إذا لمن } الناقصين حقك وحق مقامك.
[2.146-148]
{ الذين آتيناهم الكتاب } إيتاء فهم ودراية { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } أي: كالمحسوس المشاهد، القريب الدائم الإحساس لقربهم منه بالحقيقة، وتوسمهم إياه بالدلائل الواضحة { ولكل وجهة هو موليها } أي: ولكل أحد منكم غاية وكمال بحسب استعداده الأول، الله موجه وجهه إليها أو هو نفسه موجه نفسه إليها ويتوجه نحوها بمقتضى هويته واستعداده بإذن الله { فاستبقوا الخيرات } الأمور المقربة إياكم من كمالكم وغايتكم التي خلقتم لأجلها وندبتم إليها { أينما تكونوا } من مقام وحال دونها أو تخالفها لكونها في مقابلها { يأت بكم الله جميعا } إلى تلك الغاية قريبا أو بعيدا بحسب اقتضاء المقربات واستباقها { إن الله على كل شيء قدير }.
[2.149-150]
{ ومن حيث خرجت } من طرق حواسك وميلك إلى حظوظك والاهتمام بمصالحك ومصالح المؤمنين { فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي: فكن حاضرا للحق في قلبك، مواجها صدرك، تشاهد مشاهد فيه، مراعيا جانبه لتكون في الأشياء بالله لا بالنفس { وحيث ما كنتم } أيها المؤمنون { فولوا وجوهكم } جانب الصدر، تشاهدون مشاهدكم فيه، مراعين له غير معرضين عنه في حال { لئلا يكون للناس عليكم حجة } سلطنة بوقوعهم في أعينكم واعتباركم إياهم عند غيبتكم عن الحق، وترفعهم عليكم، أو غلبة بالقول أو الفعل في مقاصدكم ومطالبكم لكونكم بالحق فيها حينئذ، بل يخضعون وينقادون لكم، فإن حزب الله هم الغالبون { إلا الذين ظلموا منهم } أي: الكفار المردودين الذين احتجبوا عن الحق مطلقا، فإنهم يرتفعون عليكم ولا يخضعون، ولا ينقادون لعدم انفعالهم عن الحق مطلقا. وسمى شبهتهم التي يسوقونها مساق الحجة، واعتراضهم على المسلمين قولا وفعلا، وترفهم عليهم في أنفسهم حجة مجازا. وقرئ إلا للتنبيه واستوؤنف الذين ظلموا { فلا تخشوهم } لأنهم لا يغلبونكم ولا يضرونكم { واخشوني } كونوا على هيبة من تجلي عظمتي لئلا يقعوا في قلوبكم وأعينكم ولا يميلوا صدوركم فتميلوا إلى موافقتهم إجلالا لهم وتعظيما لكونكم في الغيبة وبالنفس، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " عظم الخالق عندك يصغر المخلوق في عينك ". ولإتمامي نعمة الكمال عليكم ولإرادتي اهتداءكم أمرتكم بدوام الحضور والمراقبة.
[2.151-154]
{ كما أرسلنا } أي: كما ذكرتم بإرسال رسول { فيكم } من جنسكم ليمكنكم التلقي والتعلم، وقبول الهداية منه لجنسية النفس ورابطة البشرية { فاذكروني } بالإجابة والطاعة والإرادة { أذكركم } بالمزيد والتوالي للسلوك وإفاضة نور اليقين { واشكروا لي } على نعمة الإرسال والهداية بسلوك صراطي على قدم المحبة أزدكم عرفاني ومحبتي { ولا تكفرون } بالفترة والاحتجاب بنعمة الدين عن المنعم، فإنه كفران بل كفر.
{ يا أيها الذين آمنوا } الإيمان العياني { استعينوا بالصبر } معي عند سطوات تجليات عظمتي وكبريائي { والصلاة } أي: الشهود الحقيقي بي { إن الله مع الصابرين } المطيقين لتجليات أنواره.
{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله } أي: يجعل فانيا مقتولة نفسه في سلوك سبيل التوحيد ميتا عن هواه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" موتوا قبل أن تموتوا "
هم { أموات } أي: عجزة مساكين { بل } هم { أحياء } عند ربهم بالحياة الحقيقية، وحياة الله الدائمة السرمدية، شهداء الله بالحضور الذاتي، قادرون به { ولكن لا تشعرون } لعمى بصيرتكم وحرمانكم عن النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدوس وحقائق الأرواح.
[2.155]
{ ولنبلونكم بشيء من الخوف } أي: خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها { والجوع } الموجب لنهك البدن، وضعف قواه، ورفع حجاب الهوى، وسد طريق الشيطان إلى القلب { ونقص من الأموال } التي هي مواد الشهوات المقوية للنفس الزائدة في طغيانها { والأنفس } المستولية على القلب بصفاتها، والمستغنية بذاتها، ليزيد بنقصها القلب ويقوى، أو أنفس الأقرباء والأصدقاء الذين تأوون إليهم وتستظهرون بهم لتنقطعوا إلي وتبتلوا { والثمرات } أي: الملاذ والمتمتعات النفسانية لتلتذوا بالمكاشفات والمعارف القلبية، والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم بالانقطاع منها وخلوص بصائر قلوبكم بنار الرياضة والبلاء والعزلة من غش صفات نفوسكم.
{ وبشر الصابرين } يعني: الصابرين عن مألوفاتهم بلذة محبتي وقوة إرادتي.
[2.156-158]
{ الذين إذا أصابتهم مصيبة } من تصرفاتي فيهم دائما شاهدوا آثار قدرتي، بل أنوار تجليات صفتي و { قالوا إنا لله } أي: سلموا وأيقنوا أنهم ملكي، أتصرف فيه { وإنا إليه راجعون } أي: تفانوا في، وشاهدوا تهلكهم في بي { أولئك عليهم صلوت من ربهم } بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء الموصوف بصفاتي المنور بأنواري { ورحمة } ونور وهداية يهدون بها الخلق إلي { وأولئك هم المهتدون } بهداي كما ورد في الدعاء: " واجعلنا هادين مهديين غير ضالين ولا مضلين ".
{ إن الصفا والمروة } أي: إن صفاء وجود القلب ومروة وجود النفس { من شعائر الله } من أعلام دينه ومناسكه القلبية كاليقين، والرضا، والإخلاص، والتوكل، والقالبية، كالصلاة والصيام وسائر العبادات البدنية { فمن حج البيت } أي: بلغ مقام الوحدة الذاتية ودخل الحضرة الإلهية بالفناء الذاتي الكلي { أو اعتمر } نار الحضرة بتوحيد الصفات والفناء في أنوار تجليات الجمال والجلال { فلا جناح عليه } حينئذ في { أن يطوف بهما } أي: يرجع إلى مقامهما، ويتردد بينهما، لا بوجودهما التكويني، فإنه جناح وذنب، بل بالوجود الموهوب بعد الفناء عند التمكين ولهذا نفي الحرج، فإن في هذا الوجود سعة بخلاف الأول { ومن تطوع خيرا } أي: ومن تبرع خيرا من باب التعاليم وشفقة الخلق والنصيحة ومحبة أهل الخير والصلاح بوجود القلب، ومن باب الأخلاق، وطرق البر والتقوى، ومعاونة الضعفاء والمساكين، وتحصيل الرفق لهم ولعياله بوجود النفس بعد كمال السلوك والبقاء بعد الفناء { فإن الله شاكر } يشكر عمله بثواب المزيد { عليم } بأنه من باب التصرف في الأشياء بالله لا من باب التكوين والابتلاء والفترة.
[2.159-160]
{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } أي: يكتمون ما أفضنا عليهم من بينات أنوار المعارف وعلوم تجليات الأفعال والصفات، وهدى الأحوال والمقامات أو الهداية إلى التوحيد الذاتي بطريق علم اليقين، فإن العياني لا ينكتم بالتلوينات النفسية أو القلبية الحاجبة للمكاشفات القلبية والمسامرات السرية والمشاهدات الروحية { من بعد ما بيناه للناس } في كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة المدركة لآثار أنوار القلوب والأرواح ببركة الصحبة { أولئك يلعنهم الله } يردهم ويطردهم { ويلعنهم اللاعنون } من الملأ الأعلى لخذلانهم وترك إمدادهم من عالم الأبد والنور، ومن المستعدين المشتاقين الذين كانوا قد استأنسوا بنور قلوبهم واستفاضوا منهم النور بقوة صدقهم، واستراحوا إلى صحبتهم وملازمتهم يتبركون بهم وبأنفاسهم عند استشراق لمعان أحوالهم بالهجران والانقطاع عن صحبتهم والصد والإعراض عنهم لفقدانهم ذلك واستشعارهم بتكدر صفائهم { إلا الذين تابوا } أي: رجعوا عن ذنوب أحوالهم وعلموا أن ذلك كان ابتلاء من الله { وأصلحوا } أحوالهم بالإنابة والرياضة { وبينوا } أي: كشفوا وأظهروا بصدق المعاملة مع الله والإخلاص ما احتجب عنهم { فأولئك } أتقبل توبتهم وألقي التوبة عليهم { وأنا التواب الرحيم }.
[2.161]
{ إن الذين كفروا } حجبوا عن الدين أو الحق { وماتوا وهم كفار } أي: بقوا على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم بدين الحجاب، وانقطعوا عن الأسباب التي يمكن بها رفع حجاب الموت { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } أي: استحقوا البعد والحرمان والطرد الكلي عن الحق وعن عالم الملكوت وعن الفطرة الإنسانية المعبر عنه بالطمس.
[2.162-164]
{ خالدين فيها } لطموس استعدادهم وانطفاء نور فطرتهم { لا يخفف عنهم العذاب } لرسوخ هيئاتهم المعذبة في جواهر نفوسهم { ولا هم ينظرون } للزوم تلك الهيئات المظلمة إياهم { وإلهكم إله واحد } ومعبودكم الذي خصصتموه بالعبادة أيها الموحدون معبود واحد بالذات، واحد مطلق لا شيء في الوجود غيره، ولا موجود سواه فيعبد، فكيف يمكنكم الشرك به وغيره العدم البحت فلا شرك إلا للجهل به. { الرحمن } الشامل الرحمة لكل موجود { الرحيم } الذي يخص رحمة هدايته بالمؤمنين الموحدين وهي أول آية نزلت في التوحيد بحسب الرتبة، أي: أقدم توحيد من جهة الحق لا من جهتنا. فإن أول التوحيد من طرفنا توحيد الأفعال وهذا هو توحيد الذات ولما بعد هذا التوحيد عن مبالغ أفهام الناس تنزل إلى مقام توحيد الأفعال ليستدل به عليه فقال:
{ إن في خلق السموات والأرض } إلى آخره، أي: أن في إيجاد سموات الأرواح والقلوب والعقول وأرض النفوس { واختلاف } النور والظلمة بينهما وفلك البدن التي تجري في بحر الجسم المطلق { بما ينفع الناس } في كسب كمالاتهم { وما أنزل الله من السماء } أي: الروح من ماء العلم { فأحيا به } أرض النفس بعد موتها بالجهل { وبث فيها من كل دابة } القوى الحيوانية الحية بحياة القلب { وتصريف } عصوف زيادة الأفعال الحقانية، وسحاب تجلي الصفات الربانية المسخر المهيأ بين سماء الروح وأرض النفس { لآيات } لدلائل { لقوم يعقلون } بالعقل المنور بنور الشرع، المجرد عن شوب الوهم.
[2.165]
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } أي: من يعبد من دون الله أشياء إما أناسي من جنسهم كالأزواج، والأولاد، والآباء، والأجداد، والإخوان، والأحباب، والرؤساء، والملوك، وغيرهم. وإما غير أناسي كالحيوانات، والجمادات، وسائر أموالهم، بالإقبال عليهم والتوجه نحوهم، ومراعاتهم، وحفظهم، والاهتمام بهم وبحالهم، والتفكر في بابهم، يحبونهم كحب الله، أي: كما يجب أن يحب الله، فتكون تلك الأشياء عندهم مساوية في المحبة مع الله فتكون أندادا أو شركاء لله بالنسبة إليهم، أو تكون هي محبوباتهم ومعبوداتهم لا غير، فهي آلهتهم كما أن الله إله الخلق فهم جعلوا لأنفسهم آلهة أندادا لإله سائر الخلق، إله العالمين.
{ والذين آمنوا أشد حبا لله } من غيره لأنهم لا يحبون إلا الله، لا يختلط حبهم له بحب غيره ولا يتغير، ويحبون الأشياء بمحبة الله ولله، وبقدر ما يجدون فيها من الجهة الإلهية كما قال بعضهم: " الحق حبيبنا، والخلق حبيبنا وإذا اختلفا فالحق أحب إلينا " أي: إذا لم تبق جهة الإلهية فيهم بمخالفتهم إياه لم تبق محبتنا لهم، أو أشد حبا من محبتهم لآلهتهم لأنهم يحبون الأشياء بأنفسهم لأنفسهم، فلا جرم تتغير محبتهم بتغيير إعراض النفوس أنفسهم عند خوف الهلاك ومضرة النفس عليهم والمؤمنون يحبون الله بأرواحهم وقلوبهم، بل بالله لله، لا تتغير محبتهم لكونها لا لغرض، ويبذلون أرواحهم وأنفسهم لوجهه ورضاه، ويتركون جميع مراداتهم لمراده ويحبون أفعاله وإن كانت بخلاف هواهم، كما قال أحدهم:
أريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أريد لما يريد
{ ولو يرى الذين ظلموا } أي: أشركوا بمحبة الإنذار في وقت رؤيتهم عذاب الاحتجاب بآلهتهم { أن القوة لله } أي: القدرة كلها لله ليس لآلهتهم شيء منها، وشدة عذاب الله بقرنهم بآلهتهم في نار الحرمان بالسلاسل النارية المستفاد من محبتهم إياها، لكان ما لا يدخل تحت الوصف ولهذا المعنى حذف جواب لو.
[2.166-168]
{ إذ تبرأ } بدل من: إذ يرون العذاب، أي: وقت رؤيتهم العذاب هو وقت تبرئ المتبوعين من التابعين مع لزوم كل منهم الآخر بمقتضى المحبة التي كانت بينهم لتعذب كل منهم بالآخر وتقيده واحتجابه به عن كمالاته ولذاته وانقطاع الأسباب والوصل الموجبة للفوائد والتمتعات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابة، والرحم، والإلفة، والعهد، وسائر المواصلات الدنيوية الجالبة للنفع واللذة، فإنها تنقطع كلها بانقطاع لوازمها وموجباتها دون المواصلات الخيرية والمحبات الإلهية المبنية على المناسبة الروحية والتعارف الأزلي، فإنها تبقى ببقاء الروح أبدا وتزيد في الآخرة بعد رفع الحجب البدنية لاقتضائها محبة الله المفيدة في الآخرة، كما قال تعالى:
" وجبت محبتي للمتحابين في "
والواو في { ورأوا العذاب } واو الحال، أي: تبرؤوا عنهم في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الوصل بينهم، يعني: حال ظهور شر المقارنة وتبعتها، ونفاد خيرها وفائدتها، كحال سفاح الكلاب مثلا { وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة } أي: ليت لنا كرة { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } أي: تنقلب محباتهم وما يبنى عليها من الأعمال حسرات عليهم، وكذا يكون حال القوى الروحانية المصادقة للقوى النفسانية التابعة لها، المسخرة إياها في تحصيل لذاتها.
{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض } أي: تناولوا من اللذات والتمتعات التي في الجهة السفلية من عالم النفس والبدن على وجه يحل ويطيب، أي: على قانون العدالة بإذن الشرع واستصواب العقل بقدر الاحتياج والضرورة، ولا تخطوا حد الاعتدال الذي به تطيب وتنفع إلى حدود الإسراف، فإنها خطوات الشيطان. ولهذا قال تعالى:
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين
[الإسراء، الآية : 27] فإنه عدو لكم. بين العداوة يريد أن يهلككم ويبغضكم إلى ربكم بارتكاب الإسرافات المذمومة فإنه لا يحب المسرفين. واعلم أن العداوة في عالم النفس هي ظل الإلفة في عالم القلب، والاعتدال ظلها في عالم البدن، والإلفة ظل المحبة في عالم الروح وهي ظل الوحدة الحقيقية. فالاعتدال هو الظل الرابع للوحدة والشيطان يفر من ظل الحق ولا يطيقه فيخطو أبدا في مجال تلك الظلال إلى جوانب الإسرافات وحيث يعجز فإلى جوانب التفريطات كما في المحبة والإلفة، ولهذا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا " ، فإن الجاهل سخرة الشيطان.
[2.169-172]
{ إنما يأمركم بالسوء } الإضرار والأذى الذي هو إفراط القوة الغضبية { والفحشاء } أي: القبائح التي هي إفراط القوة الشهوانية { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } الذي هو إفراط القوة النطقية لشوب العقل بالوهم الذي هو الشيطان المسخر له { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله } من مراعاة حد الاعتدال والعدالة في كل شيء على الوجه المأمور به في الشرع { قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا } من الإسرافات المذمومة في الجاهلية تقليدا لهم أتتبعونهم { ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا } من الدين والعلم { ولا يهتدون } إلى الصواب في العمل لجهلهم.
{ ومثل الذين كفروا } أي: مثل داعي الكفار المردودين { كمثل } الناعق بالبهائم فإنها لا تسمع إلا صوتا ولا تفهم ما معناه فكذا حالهم { يا أيها الذين آمنوا } إن كنتم موحدين تخصون العبادة بالله فلا تتناولوا إلا من طيبات ما رزقناكم، أي: ما ينبغي في العدالة أن يستعمل من المرزوقات { واشكروا لله } باستعمالها فيما يجب أن تستعمل على الوجه الذي ينبغي أن تستعمل بالقدر الذي ينبغي، فإن التوحيد يقتضي مراعاة الاعتدال والعدالة في كل شيء اقتضاء الذات ظلها ولازمها
" عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: " إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري " ".
[2.173-177]
{ إنما حرم عليكم الميتة } لجمود الدم فيها، وبعدها عن الاعتدال بانحراف المزاج { والدم } لاختلاطه بالفضلات النجسة البعيدة عن قبول الحياة والعدالة والنورية وعدم صلاحيته لذلك بعد لقصور النضج { ولحم الخنزير } لغلبة السبعية والشره ومباشرة القاذورات والدياثة على طبعه فيولد في أكله مثل ذلك { وما أهل به لغير الله } أي: رفع الصوت بذبحه لغير الله يعني ما قصد بذبحه وأكله الشرك لمنافاته التوحيد سفيرا عن الشرك. ويفهم منه ما يقوي آكله به على الكلام ورفع الصوت لغير الله أي: كل ما يؤكل لا على التوحيد فهو محرم على آكله { فمن اضطر } أي: من الجماعة { غير باغ } على مضطر آخر باستئثاره { ولا عاد } سد الرمق { فلا إثم عليه }. { ما يأكلون في بطونهم } أي: ملء بطونهم إلا ما هو وقود نار الحرمان وسبب اشتعال نيران الطبيعة الحاجبة عن نور الحق المعذبة بهيئات السوء المظلمة الموقعة صاحبها في جحيم الهيولى الجسمانية { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } عبارة عن شدة غضبه عليهم وبعدهم عنه.
{ ليس البر أن تولوا وجوهكم } مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد، فإنه تقيد واحتجاب { ولكن البر } بر الموحدين الذين آمنوا بالله والمعاد في مقام الجمع، إذ التوحيد في مقام الجمع يلزمه البقاء الأبدي الذي هو المعاد الحقيقي. وشاهدوا الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجبوا بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين. { والكتاب } الذي جمع ببين الظاهر بالأحكام والمعارف، وأفاد علم الاستقامة ثم استقاموا بعد تمام التوحيد جمعا وتفصيلا بالأعمال المذكورة، فإن الاستقامة عبارة عن وقوف جميع القوى على حدودها بالأمر الإلهي لتنورها بنور الروح عند تحقق صاحبها بالله في مقام البقاء بعد الفناء وذلك مقام العدالة، فتكون هي في ظل الحق منخرطة في سلك الوحدة بكليتها. { على حبه } أي: في حال الاحتياج إليه والشح به، كما قال ابن مسعود: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان: كذا، ولفلان: كذا. قال الله تعالى:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
[الحشر، الآية: 9] أو على حب الله لئلا يشغل قلبه عنه ولأنه تعالى يرضى بإيتائه أو على حب الإيتاء، يعني: بطيب النفس، فإن الكريم هو الفرح وطيب النفس بالإعطاء. ومن قوله: { وآتى المال } إلى قوله: { وآتى الزكاة } من باب العفة التي هي كمال القوة الشهوانية ووقوفها على حدها فيما يتعلق بها، وقوله: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } من باب العدالة المستلزمة للحكمة التي هي كمال القوة النطقية فإنها ما لم تعلم تبعة الغدر والخيانة وفائدة الفضيلة المقابلة لهما، لم تف بالعهد. وقوله: { والصابرين في البأساء } أي: الشدة والفقر { والضراء } أي: المرض والزمانة { وحين البأس } أي: الحرب من باب الشجاعة التي هي كمال القوة الغضبية { أولئك } الموصوفون بهذه الفضائل كلها، الثابتون في مقام الاستقامة { الذين صدقوا } الله في مواطن التجريد بأفعالهم التي هي البر كله { وأولئك هم المتقون } عن محبة غير الله حتى النفس، المجردون عن غواشي النشأة والطبيعة.
ويمكن أن يؤول المال بالعلم الذي هو مال القلب، لأنه يقوى به ويستغنى، أي: أعطي العلم مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية لقربها منه، ويتامى القوى النفسانية لانقطاعها عن نور الروح الذي هو الأب الحقيقي ومساكين القوى الطبيعية لكونها دائمة السكون لثواب البدن وعلمها علم الأخلاق والسياسات الفاضلة. ثم إذا ارتوى من العلم، علم المعارف والأخلاق والآداب والمعايش جملة وتفصيلا وفرغ من نفسه، أفاض على أبناء السبيل، أي: السالكين والسائلين، أي: طلبة العلم وفي فك رقاب عبدة الدنيا والشهوات من أسرهم بالوعظ والخطابة وأقام صلاة الحضور، أي: أدامها بالمشاهدة، وآتى ما يزكي نفسه عن النظر إلى الغير، والتفاتات الخواطر بالنفي، ومحو الصفات، والموفون بعهد الأزل بملازمة التوحيد وإفناء الذات والآتية، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله دائما، وضراء كسر النفس وقمع الهوى،وحين بأس محاربة الشيطان، أولئك الذين صدقوا الله فى الوفاء بعهده وعزيمة السلوك وعقده، وأولئك هم المتقون عن الشرك، المنزهون عن البقية.
[2.178-184]
القصاص قانون من قوانين العدالة، فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل من ظلال عدله تعالى فإنه إذا تصرف في عبده بإفنائه فيه عوضه عن حر روحه روحا موهوما خيرا منه، وعن عبد قلبه قلبا موهوبا، وعن أنثى نفسه نفسا موهوبة كاملة. { ولكم } في مقاصة الله إياكم بما ذكر { حياة } عظيمة، أي: حياة لا يوصف كنهها { يا أولي الألباب } أي: العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي العينيات والأجرام. فكذا في هذا القصاص - لكي تتقوا تركه وتحافظوا عليه - الوصية والمحافظة عليها قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية، أي: القوة النطقية وقصورها عما يقتضي الحكمة من التصرف في الأموال، والسلطنة على القوتين الأخريين بنور الحق وحكم الشرع، ومنعها عن عدوانها أيضا بتبديل الوصية الذي هو نوع من الجريمة والخيانة، وتحريضها على التحقيق والتدقيق في باب الحكمة التي هي كمالها بالإصلاح بين الموصى لهم على مقتضى الحكمة، إذا توقع وعلم من الموصي إضرارا بالسهو والعمد - الصيام قانون آخر مما فرض لإزالة عدوان القوة البهيمية وتسلطها - واعلم أن قصاص أهل الحقيقة ما ذكر، ووصيتهم هي بالمحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، كما قال تعالى:
ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب
[البقرة: 132]. وصيامهم هو الإمساك عن كل قول وفعل وحركة وسكون ليس بالحق للحق.
[2.185-187]
{ شهر رمضان } أي: احتراق النفس بنور الحق { الذي أنزل فيه } في ذلك الوقت { القرآن } أي: العلم الجامع الإجمالي، المسمى بالعقل القرآني الموصل إلى مقام الجمع - هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع { وبينات من الهدى } ودلائل متصلة من الجمع والفرق، أي: العلم التفصيلي المسمى بالعقل الفرقاني - فمن حضر منكم في ذلك الوقت، أي: بلغ مقام شهود الذات { فليصمه } أي: فليمسك عن قول وفعل وحركة ليس بالحق فيه { ومن كان مريضا } أي: مبتلى بأمراض قلبه من الحجب النفسانية المانعة من ذلك الشهود { أو على سفر } أي: في سلوك بعد ولم يصل إلى الشهود الذاتي، فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إلى ذلك المقام { يريد الله بكم اليسر } بالوصول إلى مقام التوحيد والامتداد بقدرة الله { ولا يريد بكم العسر } أي: تكلف الأفعال بالنفس الضعيفة العاجزة { ولتكملوا العدة } ولتتمموا تلك المراتب والأحوال والمقامات الموصلة. ولتعظموا الله وتعرفوا عظمته وكبرياءه على هدايته إياكم إلى مقام الجمع { ولعلكم تشكرون } بالاستقامة أمركم بذلك.
{ وإذا سألك عبادي } السالكون الطالبون المتوجهون إلي، عن معرفتي { فإني قريب } ظاهر { أجيب دعوة } من يدعوني بلسان الحال والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله واستعداده { فليستجيبوا لي } بتصفية الاستعداد بالزهد والعبادة، فإني أدعوهم إلى نفسي وأعلمهم كيفية السلوك إلي، وليشاهدوني عند التصفية، فإني أتجلى عليهم في مرائي قلوبهم لكي يرشدوا بالاستقامة، أي: لكي يستقيموا ويصلحوا.
{ أحل لكم } أي: أبيح لكم { ليلة الصيام } أي: في وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك المذكور في زمان حضوركم { الرفث إلى نسائكم } التنزل إلى مقارفة نفوسكم بحظوظها إذ لا مصابرة لكم عنها لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونها بالتعلق الضروري { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } باستراق الحظوظ في أزمنة تلك السلوك والرياضة والحضور { فتاب عليكم وعفا عنكم } { فالآن } أي: في وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء { باشروهن } في أوقات الغفلات { وابتغوا ما كتب الله لكم } من التقوى والتمكن بتلك الحظوظ على توفير حقوق الاستقامة والقيام بما أمر الله به من العبودية والدعوة إليه { وكلوا واشربوا } أي: كونوا مع رفقها { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } حتى تظهر عليكم بوادي الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها، ثم كونوا على الإمساك المذكور بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة، لولا ذلك لما أمكنه القيام بمصالح معاشه ومهماته. ولا تقاربوهن في حال كونكم معتكفين مقيمين حاضرين في مساجد قلوبكم وإلا لتشوش وقتكم بظهورها.
[2.188-189]
{ ولا تأكلوا أموالكم } معارفكم ومعلوماتكم { بينكم } بباطل شهوات النفس ولذاتها بتحصيل مآربها واكتساب مقاصدها الحسية والخيالية باستعمالها { وتدلوا بها } وترسلوا إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء { لتأكلوا فريقا من أموال } القوى الروحانية { بالإثم } أي: بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية { وأنتم تعلمون } أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه.
{ يسئلونك عن الأهلة } أي: عن الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها { قل هي مواقيت للناس } أي: أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك، وطواف بيت القلب، والوقوف في مقام المعرفة { وليس البر بأن تأتوا } بيوت قلوبكم { من ظهورها } من طرق حواسكم ومعلوماتكم المأخوذة من المشاعر البدنية فإن ظهر القلب هو الجهة التي تلي البدن { ولكن البر } بر { من اتقى } شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس { وأتوا البيوت من أبوابها } الباطنة التي تلي الروح والحق، فإن باب القلب هو الطريق الذي انفتح منه إلى الحق { واتقوا الله } في الاشتغال بما يشغلكم عنه { لعلكم تفلحون }.
[2.190-194]
{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } من الشيطان وقوى النفس الأمارة { ولا تعتدوا } في قتالها بأن تميتوها عن قيامها بحقوقها والوقوف على حدودها حتى تقع في التفريط والقصور والفتور { إن الله لا يحب المعتدين } لكونهم خارجين عن ظل المحبة والوحدة الذي هو العدالة.
{ واقتلوهم حيث } وجدتموهم أزيلوا حياتهم وامنعوهم عن أفعالها بقمع هواها الذي هو روحها حيث كانوا { وأخرجوهم } من مكة الصدر عند استيلائها عليها كما أخرجوكم عنها باستنزالكم إلى بقعة النفس وإخراجكم عن مقر القلب. وفتنتهم التي هي عبادة هواها وأصنام لذاتها أشد من قمع هواها وإماتتها الكلية، أو محنتكم وابتلاؤكم بها عند استيلائها أشد عليكم من القتل الذي هو طمس غرائزكم ومحو استعدادكم بالكلية لزيادة الألم هناك { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } الذي هو مقام القلب، أي: عند الحضور القلبي إذا وافقوكم في توجهكم فإنها أعوانكم على السلوك حينئذ { حتى يقاتلوكم فيه } وينازعوكم في مطالبهم ويجروكم عن جناب القلب ودين الحق إلى مقام النفس ودينهم الذي هو عبادة العجل { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } من تنازعهم ودواعيهم وتعبدهم { ويكون الدين لله } بتوجيه جميعها إلى جناب القدس ومشايعتها للسر في التوجه إلى الحق، ليس للشيطان والهوى فيه نصيب { فإن انتهوا فلا عدوان } عليهم إلا العادين المجاوزين عن حدودهم.
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي: وقت منعها إياكم عن مقصدكم ودينكم وهو بعينها وقت منعكم إياها عن عقوقها حتى ترضى بالوقوف على حدودها، وشهرها الحرام هو وقت قيامها بحقوقها، وشهركم الحرام هو وقت الحضور والمراقبة.
[2.195-196]
{ وأنفقوا في سبيل الله } ما معكم من العلوم بالعمل بها ولا تدخروها لوقت آخر عسى لا تدركونه فلا شيء أضر من التسويف { ولا تلقوا بأيديكم إلى } تهلكة التفريط وتأخير العمل بالعلم وإنفاقه في مصالح النفس فإنه موجب للحرمان { وأحسنوا } أي: وكونوا في عملكم مشاهدين { إن الله يحب المحسنين } المشاهدين في أعمالهم ربهم، مخلصين له فيها.
{ وأتموا } حج توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات بإتمام جميع المقامات والأحوال، بالسلوك إلى الله وفي الله، { فإن أحصرتم } بمنع كفار النفس الأمارة إياكم عنهما { فما استيسر من الهدي } فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب أو عرصة ما تمنى منها القلب من المقام. وما استيسر إشارة إلى أن النفوس مختلفة في استعداداتها وصفاتها، فبعضها موصوف بصفات حيوان ضعيف، وبعضها بصفات حيوان قوي. ولكل ما تيسر أو بعضها بصفات حيوان ذلول سهل الانقياد، وبعضها بصفات حيوان صعب عسر الانقياد، وربما كان لبعضها صفة لم يتيسر قمعها وإن تيسر قمع سائر صفاتها. ومثل هذا الحاج محصر أبدا.
{ ولا تحلقوا رؤوسكم } ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتخاروا طيب القلب وفراغ الخاطر من الهموم والتعلقات كلها، والعادات والعبادات وتقتصروا على صفاء الوقت كما هو مذهب القلندرية { حتى يبلغ } هدي النفس { محله } أي: مكانه، وهو مذبحه أو منحره الذي يقتضي أن تكون أفعالها التي كانت محرمة عند حياتها بهواها تصير حلا عند قتلها لكونها بالقلب فتأمنوا من بقاياها، وإلا لتشوش وقتكم وتكدر صفاؤكم بظهورها ونشاطها بالدعوى عند بسط القلب كما هو حال أكثر القلندرية اليوم.
{ فمن كان منكم مريضا } أي: ضعيف الاستعداد مملوء القلب بعوارض لازمة في جبلتها أو مكتسبة من العادات { أو به أذى من رأسه } أو ممنوعا مبتلى بهموم وتعلقات ورذائل وهيئات، ولم يتيسر له السلوك والمجاهدة على ما ينبغي وأراد أن يقتصر على طيب القلب وصفاء الوقت ليبقى على الفطرة ولا ينتكس وينحط عن درجته وإن لم يترق. فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله النفسانية. أو فعل بر أو رياضة ومجاهدة تقمع بعض القوى المزاحمة، فليحفظ وقته وليراع صفاءه بزهد ما أو عبادة أو مخالفة نفس { فإذا أمنتم } من العدو المحصر { فمن تمتع } بذوق تجلي الصفات متوسلا به إلى حج تجلي الذات { فما استيسر من الهدي } بحسب حاله { فمن لم يجد } لضعف نفسه وخمودها وانقهارها { فصيام ثلاثة أيام } فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء في الوحدة فإنها لا بد من أن تحجب وتجر إلى حضيض النفس والصدر، وهي العقل والوهم والمتخيلة { وسبعة إذا رجعتم } إلى مقام التفصيل والكثرة وهي الحواس الخمس الظاهرة والغضب والشهوة ليكون عند الاستقامة في الأشياء بالله { تلك عشرة كاملة } فذلكة، أي: تلك الإمساكات المذكورة عن أفعال هذه القوى والمشاعر جميع التفاصيل الكاملة الموجبة لأفاعيل قوى وجوده الموهوب بالحق عند حصول الكمال، كما قال:
" كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به "
إلى آخر الحديث. { ذلك } الحكم { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } من المحبوبين الكاملين الحاضري مقام القلب في الوحدة، فإنه لا هدى له ولا مجاهدة ولا رياضة في وصوله وسلوكه إلى الله، بل هو للمحبين.
[2.197-199]
{ الحج أشهر معلومات } أي: وقت الحج أزمنة معلومة، وهو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين، كما قال تعالى في وصف البقرة:
لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك
[البقرة، الآية: 68]، { فمن فرض فيهن الحج } على نفسه بالعزيمة والتزم { فلا رفث } أي: فاحشة ظهور القوة الشهوانية { ولا فسوق } أي لأسباب يعني خروج القوة الغضبية عن طاعة القلب { ولا جدال } أي: تعدي القوة النطقية بالشيطنة { في الحج } أي: في قصد بيت القلب { وما تفعلوا من خير } من فضيلة من أفعال هذه القوى الثلاث بأمر الشرع والعقل دون رذائلها { يعلمه الله } ويثبكم عليه { وتزودوا } من فضائلها التي يلزمها الاجتناب عن رذائلها { فإن خير الزاد التقوى } منها { واتقون } في أعمالكم ونياتكم { يا أولي الألباب } فإن قضية اللب أي: العقل الخالص من شوب الوهم وقشر المادة اتقائي.
{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } أي: لا حرج عليكم عند الرجوع إلى الكثرة في أن تطلبوا رفقا لأنفسكم وتمتعوها بحظوظها على مقتضى الشرع بإذن الحق، فإن حظها حينئذ يقويها على موافقة القلب في مقاصده ولأنها غير طاغية لتنورها بنور الحق { فإذا أفضتم } أي: دفعتم أنفسكم من مقام المعرفة التامة الذي هو نهاية مناسك الحج وأمها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" الحج عرفة "
{ فاذكروا الله عند المشعر الحرام } أي: شاهدوا جمال الله عند السر الروحي المسمى بالخفي، فإن الذكر في هذا المقام هو المشاهدة، والمشعر هو محل الشعور بالجمال المحرم من أن يصل إليه الغير { واذكروه كما هداكم } إلى ذكره في المراتب فإنه تعالى هدى أولا إلى الذكر باللسان وهو ذكر النفس ثم إلى الذكر بالقلب وهو ذكر الأفعال الذي تصدر نعماء الله وآلاؤه منه. ثم ذكر السر وهو معاينة الأفعال ومكاشفة علوم تجليات الصفات. ثم ذكر الروح وهو مشاهدة أنوار تجليات الصفات مع ملاحظة نور الذات. ثم ذكر الخفي وهو مشاهدة جمال الذات مع بقاء الإثنينية. ثم ذكر الذات وهو الشهود الذاتي بارتفاع البقية { وإن كنتم من قبله } أي: من قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها { لمن الضالين } عن هذه الأذكار.
{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ثم أفيضوا إلى ظواهر العبادات والطاعات وسائر وظائف الشرعيات والمعاملات من حيث، أي: من مقام إفاضة سائر الناس فيها، وكونوا كأحدهم. قيل لجنيد رحمة الله عليه: ما النهاية؟ قال: الرجوع إلى البداية. { واستغفروا الله } من ظهور النفس وتبرمها بالحال وطغيانها. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" اللهم ثبتني على دينك "
، فقيل له في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم:
" أو ما يؤمنني، إن مثل القلب كمثل ريشة في فلاة، تقلبها الرياح كيف شاءت ".
" ولما تورمت قدماه فقالت له عائشة رضي الله عنها: أما غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أفلا أكون عبدا شكورا " "
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: " أعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ".
[2.200-205]
{ فإذا قضيتم مناسككم } وفرغتم من الحج { فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } أي: فلا تكونوا كأهل العادة مشغولين بذكر الأنساب والمفاخرات وسائر أحوال الدنيا، فإن ذلك يكدر وقتكم ويقسي قلوبكم بل كونوا مشتغلين بأنواع الذكر والمذاكرة مع الإخوان مثل ما كنتم تذكرون أحوال الأنساب وسائر أحوال الدنيا قبل السلوك أو كما يذكر الناس هذه الأحوال بالعادة وأبلغ أو أقوى وأكثر ذكرا منها ليبقى صفاؤكم ويهتدي بكم الناس { فمن الناس من يقول ربنا } أي: لا يطلب إلا متاع الدنيا ولا يشتغل إلا بذكرها ولا يعبد الله إلا لأجلها { وما له في الآخرة من خلاق } فإن توجهه إلى الأخس يمنعه عن قبول الأشرف لعدم نهوض همته إليه واكتساب الظلمة المنافية للنور.
{ ومنهم من يقول ربنا آتنا } أي: يطلب خير كل من الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذب بنيران الطبيعة والحرمان عن أنوار الرحمة { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } من حظوظ الآخرة وأنوار دار القرار واللذات الباقية بالأعمال الصالحة بعد المحاسبة وحط بعض الحسنات بالسيئات والتعذيب بحسبها أو العفو.
{ واذكروا الله في أيام معدودات } أي: مراتب معدودة بعد الفراغ من الحج، وهو مرتبة الروح والقلب والنفس، لأن الواصل إذا رجع، رجع إلى هذه المراتب وعليه في المراتب الثلاث أن يكون بالله فذلك ذكره { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أي: فمن تعجل إلى حظوظه في مرتبة الروح والقلب فلا إثم عليه إذ الروح والقلب وحظوظهما لا يحجبان ولا يضران. ومعنى التعجل هو أن الحركة إذا كانت بالله كانت أسرع ولا يكون معها لبث ولا وقوف ريثما يظهر القلب أو الروح ويصير حجابا نوريا كما يكون لأصحاب التلوين { ومن تأخر } إلى الثالث الذي هو مرتبة النفس { فلا إثم عليه لمن اتقى } أي: ذلك الحكم لمن اتقى أن يكون مع حظوظ النفس بالنفس، فإن النفس ألزم لحظها من صاحبيها وحظها أغلظ وأبعد من النور من حظوظهما وسريعا ما تظهر للزوم الطيش والحركة إياها بخلاف صاحبيها وحظها أيضا كثيرا ما يحجب، وإذا حجب كان حجابه غليظا ظلمانيا فالاحتراز هناك والاحتياط واجب وأولى من الباقيين لأنهما إن ظهرا رق حجابهما وسهل زواله، أو ذلك التخيير لمن اتقى في المراتب الثلاث. { واتقوا الله } في المواطن الثلاثة من ظهور الأنانية والآنية حتى تكونوا في الحظوظ به لا بالنفس ولا بالقلب ولا بالروح { واعلموا أنكم إليه تحشرون } أي: أنكم محشورون معه تحشرون من اسم إلى اسم حاضرون بحضرته فأنتم على خطر عظيم بخلاف سائر الناس كما ورد في الحديث:
" المخلصون على خطر عظيم "
وعن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى:
" بشر المذنبين بأني غفور وأنذر الصديقين بأني غفور ".
{ ومن الناس من يعجبك } أي: يدعي المحبة وهو ألد الخصام لكونه في مقام النفس زنديقا، ولهذا قال: { قوله في الحياة الدنيا } إذ ليس له قول في الآخرة بالقلب { وإذا تولى سعى في الأرض } لإباحته وتزندقه كما ترى عليه أكثر مدعي المحبة والتوحيد { والله لا يحب الفساد } أي: هو مفسد ويدعي محبة الله. وكيف تتأتى له والمحب لا يفعل إلا ما يحب محبوبه، والله لا يحب ما يفعله فلا يكون صادقا في دعواه، كما قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا قبيح بالفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
[2.206-212]
{ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم } أي: حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجا وأشرا لظهور نفسه حينئذ وزعمه أنه أعلم بما يفعل من ناصحه { فحسبه جهنم } أي: غايته عمق حضيض رتبته التي هو فيها وظلمتها، فإن جهنم معناه: مهوى بعيد العمق مظلمة { يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } يبذل نفسه في سلوك سبيل الله طلبا لرضاه { ادخلوا في السلم } أي: في الاستسلام وتسليم الوجوه لله، إذ معاداة القوى بعضها بعضا، وعدم موافقتها في التسليم لأمر الله دليل تتبع الشيطان، وهو يريد أن تستحقوا قهر الله بارتكاب الإسرافات المذمومة لعداوته الغريزية لكم لاختلاف جبلته وجبلتكم، وقصوره عن نور فطرتكم، لكونه ناري الخلقة لا يطلب منكم إلا أن تكونوا ناريين مثله لا نورانيين. فهو عدو في الحقيقة في صورة المحب.
{ فإن زللتم } عن مقام التسليم لأمر الله { من بعد ما جاءتكم } دلائل تجليات الأفعال والصفات { فاعلموا أن الله عزيز } غالب يقهركم { حكيم } لا يقهر إلا على مقتضى الحكمة، والحكمة تقتضي قهر المخالف المنازع، ليعتبر المطيع الموافق ويزيد في الطاعة. { هل ينظرون } أي: هل ينتظرون { إلا أن يأتيهم } يتجلى { الله في ظلل } صفات الهوية من جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية. وقضى في اللوح أمر إهلاكهم { وإلى الله ترجع الأمور } فيقابل كل امرئ بجزائه أو تزهق إليه بالفناء.
[2.213-215]
{ كان الناس أمة واحدة } أي: على الفطرة ودين الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كل مولود يولد على الفطرة "
، وهو في عهد الفطرة الأولى على الحقيقة، أو في زمن الطفولة، أو في عهد آدم عليه السلام { كان الناس أمة واحدة } ثم اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم، وتفرق أهوائهم. فإن تضاد أصول بنيتهم ومراكز أبدانهم باختلاف البقاع والأهوية، اقتضى ذلك وكذا ما في طباعهم من جذب النفع الخاص ودفع الضر الخاص لاحتجاب كل بمادة بدنه واقتضاء الحكمة الإلهية ذلك لمصلحة النشوء والنماء يقتضي التعادي والتخالف { فبعث الله النبيين } ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق، ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن العداوة إلى المحبة، فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا، فأما السفليون الذين رسخت في طباعهم محبة الباطل وغلب على قلوبهم الرين وطبع عليها وعميت وزال استعدادهم بغلبة هواهم، فازدادوا خلافا وعنادا، فكأنهم ما اختلفوا إلا عند بعثهم وإتيانهم بالكتاب الذي هو سبب ظهور الحق والوفاق حسدا بينهم، ناشئا من عند أنفسهم، وغلبة هواهم واحتجابهم. وأما العلويون الذين بقوا على الصفاء الأصلي والاستعداد الأول فهداهم الله إلى الحق الذي اختلفوا فيه وزال خلافهم وسلكوا الصراط المستقيم.
{ أم حسبتم أن تدخلوا } جنة تجلي الجمال { ولما يأتكم } حال { الذين } مضوا { من قبلكم مستهم } بأساء الترك والتجريد والفقر والافتقار، وضراء المجاهدة والرياضة وكسر النفس بالعبادة { وزلزلوا } بدواعي الشوق والمحبة عن مقار نفوسهم ليظهروا ما في استعدادهم بالقوة { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } أي: حتى تضجروا من طول مدة الحجاب، وكثرة الجهاد من الفراق، وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال، وذوق الوصال، وطلبوا نصر الله بالتجلي على قمع صفات النفوس مع قوة مصابرتهم، وحسن تحملهم، لما يفعل المحبوب ويريد بهم من ابتلائهم بالهجران، وإذاقتهم طعم الفرقة لاشتداد قوة المحبة، فكيف بغيرهم؟ فأجيبوا إذا بلغ جهدهم ونفدت طاقتهم وقيل لهم { ألا إن نصر الله قريب } أي: رفع الحجاب وظهرت آثار الجمال.
[2.216]
{ كتب عليكم } قتال النفس والشيطان وهو مكروه لكم أمر من طعم العلقم، وأشد من ضغم الضيغم { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } لاحتجابكم بهوى النفس وحب اللذة العاجلة عما في ضمنه من الخير الكثير، واللذة العظيمة الروحانية التي تستحقر تلك الشدة السريعة، الانقضاء بالقياس إلى ذلك الخير الباقي، واللذة السرمدية وكذا عكسه { والله يعلم } ما في الأمور من الخير والشر { وأنتم لا تعلمون } ذلك لاحتجابكم بالعاجل عن الآجل، وبالظاهر عن الباطن.
[2.217-245]
{ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه } يسألونك عن جهاد النفس وأعوانها، والشيطان وجنوده في وقت التوجه والسلوك إلى الحق وجمعية الباطن الحرام فيه حركة السر { قل } الجهاد في ذلك الوقت أمر عظيم شاق، وصرف وجوهكم عن سبيل الله، ومقام السر، ومحل الحضور احتجاب عن الحق، وإخراج أهل القلب الذين هم القوى الروحانية عن مقارهم أعظم وأكبر عند الله، وفتنة الشرك والكفر وبلاؤهما عليكم أشد من قتلكم إياهم بسيف الرياضة. ولا تزال تلك القوى النفسانية والأهواء الشيطانية يقاتلونكم بذبكم عن دينكم ومقصدكم، ودعوتكم إلى دين الهوى والشيطان { حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه } باتباعهم { فأولئك حبطت أعمالهم } التي عملوها في الاستسلام والانقياد { وأولئك أصحاب } نار الحجاب والتعذيب { هم فيها خالدون }.
{ إن الذين آمنوا } يقينا { وهاجروا } أوطان النفس ومألوفات الهوى { وجاهدوا في سبيل الله } وجنود الشيطان والنفس الأمارة { أولئك يرجون رحمة الله } تجليات الصفات وأنوار المشاهدة. { يسئلونك عن } خمر الهوى وحب الدنيا وميسر احتيال النفس في جدب الحظ { قل فيهما إثم } الحجاب والبعد { ومنافع للناس } في باب المعاش وتحصيل اللذة النفسانية، والفرح بالذهول عن الهيئات الرديئة المشوشة والهموم المكدرة. { الم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } أي: أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى، وهم قوم كثير { حذر الموت } الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية { فقال لهم الله موتوا } أي: أمرهم بالموت الإرادي، أو أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي، حتى فنوا في الوحدة { ثم أحياهم } بالحياة الحقيقية العلمية، أو به بالوجود الموهوب الحقاني، والبقاء بعد الفناء. ولا يبعد أن يريد به ما أراد من قصة عزير، أي: خرجوا هاربين من الموت الطبيعي فأماتهم الله { ثم أحياهم } بتعلق أرواحهم بأبدان من جنس أبدانهم ليحصلوا بها كمالهم.
{ وقاتلوا في سبيل الله } النفس والشيطان على الأول والثاني. وعلى الثالث لا تخافوا من الموت في مقاتلة الأعداء، فإن الهرب منه لا ينفع كما لم ينفع أولئك. والله يحييكم كما أحياهم { قرضا حسنا } هو بذل النفس بالجهاد، أو بذل المال بالإيثار { والله يقبض ويبسط } أي: هو مع معاملتكم في القبض والبسط، فإنكم بأوصافكم تستنزلون أوصافه. إن تبخلوا بما في أيديكم يضيق عليكم ويقتر، وإن تجودوا يوسع عليكم بحسب جودكم كما ورد في الحديث:
" تنزل المعونة على قدر المؤونة ".
[2.246-248]
{ طالوت } كان رجلا فقيرا، لا نسب له، ولا مال، فما قبلوه للملك. لأن استحقاق الملك والرياسة عند العامة إنما هو بالسعادة الخارجية التي هي المال والنسب، فنبه نبيهم على أن الاستحقاق إنما يكون بالسعادتين الأخريين: الروحانية التي هي العلم. والبدنية: التي هي زيادة القوى وشدة البنية والبسطة، بقوله: { وزاده بسطة في العلم والجسم } والله أعلم بمن يستحق الملك فيؤتيه { من يشاء والله واسع } كثير العطاء، يؤتي المال كما يؤتي الملك { عليم } بمن له الاستحقاق وما يحتاج إليه من المال الذي يعتضد به، فيعطيه. ثم بين أن استحقاق الملك له علامة أخرى وهي: إذعان الخلق له، ووقوع هيبته ووقاره في القلوب، وسكون قلوبهم إليه، ومحبتهم له، وقبولهم لأمره على الطاعة والانقياد. وهو الذي كان يسميه الأعاجم من قدماء الفرس " خوره ". وما يختص بالملوك كيان خوره، ثم من بعدهم سموه " فر " فقالوا: كان فر للملك في أفريدون، وذهب عن كي كاؤوس فر الملك، فطلبوا من له الفر، فوجدوا للملك المبارك كيخسرو وسماه " التابوت " أي: ما يرجع إليه من الأمور. لأن التابوت فعلوت من التوب، أي: يأتيكم من جهته ما يرجع في ثبوت ملكه من الإذعان والطاعة والانقياد والمحبة له بإلقاء الله له ذلك في قلوبكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" نصرت بالرعب مسيرة شهر "
أو ما يرجع إليه من الحالة النفسانية، والهيئة الشاهدة له على صحة ملكه { فيه سكينة من ربكم } أي: ما تسكن قلوبكم إليه { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } في أولادهم من المعنى المسمى " فر " وهو نور ملكوتي تستضيء به النفس باتصالها بالملكوت السماوية، واستفاضتها ذلك من عالم القدرة مستلزم لحصول علم السياسة وتدبير الملك والحكمة المزينة لها { تحمله الملائكة } أي: ينزل إليكم بتوسط الملائكة السماوية. ويمكن أنه كان صندوقا فيه طلسم من باب نصرة الجيش وغيره من الطلسمات التي تذكر أنها للملك على ما يرى من أنه كان فيه صورة لها رأس كرأس الآدمي والهر، وذنب كذنبه كالذي كان في عهد أفريدون المسمى " درفش كاويان ".
[2.249-254]
{ إن الله مبتليكم بنهر } هو منهل الطبيعة الجسمانية { فمن شرب منه فليس مني } أي: من كرع فيه مفرطا في الري منه. لأن أهل الطبيعة وعبدة الشهوات أذل وأعجز خلق الله، لا قوة لهم بقتال جالوت النفس الأمارة، ولا بجالوت عدو الدين، إذ لا حمية لهم ولا تشدد { إلا من اغترف غرفة بيده } أي: إلا من اقتنع منه بقدر الضرورة والاحتياج من غير حرص وانهماك فيه { فشربوا منه } أي: كرعوا فيه وانهمكوا { إلا قليلا منهم } إذ المتنزهون عن الأقذار الطبيعية، المتقدسون عن ملابسها، المتجردون عن غواشيها قليلون بالنسبة إلى من عداهم. قال الله تعالى:
وقليل ما هم
[ص، الآية: 24]،
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ، الآية: 13] وهم الذين آمنوا معه من أهل اليقين الذين كانوا يعلمون بنور يقينهم أن الغلبة ليست بالكثرة، بل بالنصرة الإلهية، فصبروا على ما عاينوا بقوة يقينهم، فظفروا.
وقل من جد في أمر يطالبه
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
[2.255]
{ الله لا إله إلا هو } في الوجود، فكل ما عبد دونه لم تقع العبادة إلا له، علم أو لم يعلم، إذ لا معبود ولا موجود سواه { الحي } الذي حياته عين ذاته، وكل ما هو حي لم يحيى إلا بحياته { القيوم } الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به. فلولا قيامه ما قام شيء في الوجود { لا تأخذه } غفوة ونعاس، كما يعتري الأحياء من غير قصدهم. فإن ذلك لا يكون إلا لمن حياته عارضة، فتغلبه الطبيعة بالحالة الذاتية طلبا للهدوء والراحة والإبدال عن تحليل اليقظة. فأما من حياته عين ذاته، فلا يمكن له ذلك. وبين كون حياته غير عارضة بقوله { ولا نوم } فإن النوم ينافي كون الحياة ذاتية، لأنه أشبه شيء بالموت. ولهذا قيل: النوم أخو الموت. ومن لا نوم له لذاته، لمنافاته كون الحياة غير ذاته، فلا سنة له، إذ السنة من مقدماته وآثاره كما تقول: ليس له ضحك ولا تعجب، وقوله: { لا تأخذه سنة ولا نوم } بيان لقيوميته { له ما في السموات وما في الأرض } نواصيهم بيده، يفعل بهم ما يشاء. { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } إذ كلهم له وبه يتكلم من يتكلم به وبكلامه، فكيف يتكلم بغير إذنه وإرادته { يعلم } ما قبلهم وما بعدهم، فكيف بهم وبحالهم. أي: علمه شامل للأزمنة والأشخاص والأحوال كلها، فيعلم المستحق للشفاعة، وغير المستحق لها { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } أي: بما اقتضت مشيئته أن يعلمهم، فعلم كل ذي علم شيء من علمه ظهر على ذلك المظهر، كما قالت الملائكة:
لا علم لنآ إلا ما علمتنا
[البقرة، الآية: 32].
{ وسع كرسيه السموات والأرض } أي: علمه، إذ الكرسي مكان العلم الذي هو القلب. كما قال أبو يزيد البسطامي رحمة الله عليه: لو وقع العالم وما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به لغاية سعته. ولهذا قال الحسن: كرسيه: عرشه، مأخوذ من قوله عليه السلام:
" قلب المؤمن من عرش الله "
والكرسي في اللغة: عرش صغير لا يفضل عن مقعد القاعد، شبه القلب به تصويرا وتخييلا لعظمته وسعته. وأما العرش المجيد الأكبر فهو الروح الأول وصورتهما ومثالهما في الشاهد الفلك الأعظم، والثامن المحيط بالسموات السبع وما فيهن { ولا يؤده } أي: ولا يثقله { حفظهما } لأنهما غير موجودين بدونه ليثقله حملهما، بل العالم المعنوي كله باطنه والصوري ظاهره، فلا وجود لهما إلا به وليسا غيره. { وهو العلي } الشأن الذي لا يعلوه شيء وهو يعلو كل شيء، ويقهره بالفناء { العظيم } الذي لا يتصور كنه عظمته، وكل عظمة تتصور لشيء فهي رشحة من عظمته، وكل عظيم فبنصيب من عظمته وحصة منها عظيمة. فالعظمة مطلقا له دون غيره، بل كلها له، ليس لغيره فيها نصيب. وهي أعظم آية في القرآن لعظم مدلولها.
[2.256-258]
{ لا إكراه في الدين } لأن الدين في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي، اللازم للفطرة الإنسانية، المستلزم للإيمان اليقيني. كما قال تعالى:
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم
[الروم، الآية: 30]، والإسلام الذي هو ظاهر الدين مبتن عليه وهو أمر لا مدخل للإكراه فيه. والدليل على أن باطن الدين وحقيقته الإيمان كما أن ظاهره وصورته الإسلام ما بعده { قد تبين } أي تميز { الرشد من الغي } بالدلائل الواضحة لمن له بصيرة وعقل، كما قيل: قد أضاء الصبح لذي عينين.
{ فمن يكفر بالطاغوت } أي: ما سوى الله وينفي وجوده وتأثيره { ويؤمن بالله } إيمانا شهوديا حقيقيا { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي: تمسك بالوحدة الذاتية التي وثوقها واحكامها بنفسها، فلا شيء أوثق منها، إذ كل وثيق بها موثوق، بل كل وجود بها موجود وبنفسه معدوم، فإذا اعتبر وجوده فله انفصام في نفسه لأن الممكن وثاقته ووجوده بالواجب، فإذا قطع النظر عنه فقد انقطع وجود ذلك الممكن ولم يكن في نفسه شيئا. ولا يمكن انفصامه عن وجود عين ذاته، إذ ليس فيه تجزؤ وإثنينية، وفي الانفصام لطيفة وهو أنه انكسار بلا انفصال. ولما لم ينفصل شيء من الممكنات من ذاته تعالى، ولم يخرج منه، لأنه إما فعله وإما صفته، فلا انفصال قطعا، بل إذا اعتبره العقل بانفراده كان منفصما، أي: منقطع الوجود متعلقا وجوده بوجوده تعالى { والله سميع } يسمع قول كل ذوي دين { عليم } بنياتهم وإيمانهم.
{ الله ولي الذين آمنوا } متولي أمورهم ومحبتهم { يخرجهم } من ظلمات صفات النفس وشبه الخيال والوهم، إلى نور اليقين والهدى وفضاء عالم الروح { والذين كفروا أولياؤهم } ما يعبدون من دون الله { يخرجونهم } من نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات.
[2.259]
{ أو كالذي مر على قرية } أي: أرأيت مثل الذي مر على قرية باد أهلها، وسقطت سقوفها، وخرت جدرانها عليها، فتعجب من إحيائها لكونه طالبا سالكا لم يصل إلى مقام اليقين بعد، ولم يستعد لقبول نور تجلي اسم المحيي - والمشهور أنه كان عزير - { فأماته الله } أي: فأبقاه على موت الجهل. كما قال:
أمتنا اثنتين
[غافر، الآية: 11] على قول، وقال تعالى:
وكنتم أمواتا فأحياكم
[البقرة، الآية: 28]. { مائة عام } يمكن أن يكون العام في عهدهم كان مبنيا على دور القمر، فيكون ثمانية أعوام وأربعة أشهر، وأن يكون مبنيا على فصول السنة فيكون خمسة وعشرين سنة، وأن تكون أعمارهم في ذلك الزمان كانت طويلة { ثم بعثه } بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها إلا يوما أو بعض يوم، استصغارا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية ولعدم شعوره بمرور المدة كالنائم الغافل عن الزمان ومروره. ثم لما تفكر نبهه الله تعالى على طول مدة الجهل وموت الغفلة، بأنه مائة عام، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة، فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله، أو أماته حتف أنفه بالموت الطبيعي فتعلق روحه ببدن آخر من جنسه لاكتساب الكمال إما بعد زمان وإما في الحال حتى مر عليه إحدى المدد الثلاث المذكورة، وهو لا يطلع على حاله فيها، ولم يشعر بمبدئه ومعاده وكان ميتا ثم بالحياة الحقيقية فاطلع بنور العلم على حاله وعرف مبدأه ومعاده.
وقوله: { لبثت يوما أو بعض يوم } كقوله تعالى:
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار
[يونس، الآية: 45]، وقوله تعالى:
كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها
[النازعات، الآية: 46]، وقوله:
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة
[الروم، الآية: 55] كل ذلك لغفلتهم عن مرور الزمان وكذا مفارق أخا أو مصاحبا أو شيئا آخر إذا أدرك الوصال بعد طول مدة الفراق كأن تلك المدة حينئذ لم تكن، إذ لا يحس بها بعد مضيها وإن قاساها قبل الوصال { وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } قيل: طعامه التين والعنب، وشرابه الخمر واللبن. فالتين إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله، وكون الجزئيات فيها بالقوة، كالحبات التي في التين، والعنب إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالثجير والعجم. واللبن إشارة إلى العلم النافع كالشرائع. والخمر إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق. لم يتسنه أي: لم يتغير عما كان في الأزل بحسب الفطرة مودعا فيك، فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعدادها، كما قال عليه السلام:
" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة "
فإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها، لم تبطل ولم تتغير عن حالها. حتى إذا رفع الحجاب بصفاء القلب ظهرت كما كانت، ولهذا قال عليه السلام:
" الحكمة ضالة المؤمن ".
{ وانظر إلى حمارك } أي: بدنك بحاله على الوجه الأول والثاني، وكيف نخرت عظامه وبليت على الوجه الثالث { ولنجعلك آية للناس } أي: ولنجعلك دليلا للناس على البعث، بعثناك { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي: نرفعها { ثم نكسوها لحما } على كلا الوجهين ظاهر، فإنه إذا بعث وعلم حاله وتجرده عن البدن على تركيب بدنه برفع العظام وجمعها وكسوتها لحما { فلما تبين له } ذلك البعث والنشور { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }.
[2.260]
{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } أي: بلغني إلى مقام العيان من مقام العلم الإيقاني. ولهذا قرر إيمانه بهمزة الاستفهام التقريرية.
ف { قال أو لم تؤمن } أي: أو لم تعلم ذلك يقينا؟، وأجاب إبراهيم عليه السلام بقوله: { بلى ولكن ليطمئن قلبي } أي: ليسكن وتحصل طمأنينته بالمعاينة، فإن عين اليقين إنما يوجب الطمأنينة لا علمه { قال فخذ أربعة من الطير } أي: القوى الأربعة التي تمنعه عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية. وقيل: كانت طاووسا وديكا وغرابا وحمامة. وفي رواية بطة، فالطاووس هو العجب، والديك الشهوة، والغراب الحرص، والحمامة حب الدنيا لتألفها وكرها وبرجها. والظاهر أنها بطة فتكون إشارة إلى الغالب عليها { فصرهن إليك } أي: أملهن واضممهن إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها. وقيل: أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده، أي: يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس، ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة، ويبقي أصولها فيه.
{ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } أي: من الجبال التي بحضرتك، وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه، أي: اقمعها وأمتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في وجودك وموادها المعدة في طبائع العناصر التي فيك. كانت الجبال سبعة، فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن { ثم ادعهن } أي: أنها إذا أنت حييت بحياتها كانت غير طيعة مستولية عليك، وحشية ممتنعة عن قبول أمرك، فإذا قتلتها كنت حيا بالحياة الحقيقية الموهوبة بعد الفناء والمحو. فتصير هي حية بحياتك لا بحياتها، حياة النفس مطيعة لك منقادة لأمرك فإذا دعوتها { يأتينك سعيا } { واعلم أن الله عزيز } غالب على قهر النفوس { حكيم } لا يقهرها إلا بحكمة. ويمكن حمله على حشر الوحوش والطيور، وعلى هذا فيكون جعل أجزائها على الجبال تغذية الجسم بها ودعاؤه وإتيانه إليه ساعية توجهها إلى الإنسان بعد النشور.
[2.261-262]
{ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } ذكر سبحانه ثلاث إنفاقات وفاضل بينها في الجزاء، أولها: الإنفاق في سبيل الله وهو إنفاق في عالم الملك عن تجلي الأفعال يعطيه صاحبه ليثيبه الله تعالى، فأثابه سبعمائة أضعاف ما أعطى ثم زاد في الأضعاف إلى ما لا يتناهى بحسب المشيئة لأن يده تعالى أبسط وأطول من يده بما لا يتناهى. { والله واسع } كثير العطاء، لا يتقدر بأعطيتنا عطاؤه { عليم } بنيات المعطين واعتقاداتهم أنه من فضل الله تعالى، فيثيبهم على حسب ذلك. وثانيها: الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات على ما سيأتي، وهو الإنفاق لطلب رضاء الله كما أن الأولى هو الإنفاق لطلب عطاء الله. وثالثها: الإنفاق بالله، وهو عن مقام شهود الذات { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } نبه على أن الإنفاق يبطله المن والأذى، لأن الإنفاق إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه: كونه موافقا للأمر بالنسبة إلى الله تعالى، وكونه مزيلا لرذيلة البخل بالنسبة إلى نفس المنفق، وكونه نافعا مريحا بالنسبة إلى المستحق. فإذا من صاحبه فقد خالف أمر الله لأنه منهي وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد بالنعمة والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله، وكلها رذائل أردأ من البخل، لازمة له، ولو لم يكن له إلا رؤية نفسه بالفضيلة لكفاه مبطلا. وأما الوجه الثالث الذي هو بالنسبة إلى المستحق، فيبطله الأذى المنافي للراحة والنفع والمن أيضا مبطل له لاقتضائه الترفع وإظهار الاصطناع وإثبات حق عليه.
[2.263-265]
ثم قال: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } إذ القول الجميل، وإن كان بالرد، يفرح قلبه، ويروح روحه، والصدقة إنما تنفع جسده ولا تفرح القلب إلا بالتبعية وتصور النفع، فإذا قارن ما ينفع الجسد ما يؤذي الروح تكدر النفع وتنغص، ولم يقع في مقابلة الفرح الحاصل من القول الجميل، ولو لم يكن مع التنغيص أيضا لأن الروحانيات أشرف وأحسن وأوقع في النفوس { والله غني } عن الصدقة المقرونة بالأذى، فيعطي المستحق من خزائن غيبه { حليم } لا يعاجل بالعقوبة.
{ مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } هذا هو القسم الثاني من الإنفاق. فضله على الأول بتشبيهه بالجنة، فإن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة، فأشار بها أنه ملك لهم كأنه صفة ذاتية ولهذا قال : { وتثبيتا من أنفسهم } أي: توطينا لها على الجود الذي هو صفة ربانية، وقوله: { بربوة } إشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق وارتقائه عن درجة الأول { أصابها وابل } اي: حظ كثير من صفة الرحمة الرحمانية ومدد وافر من فيض جوده لأنها ملكة الاتصال بالله تعالى بمناسبة الوصف واستعداد قبوله والاتصاف به { فإن لم يصبها وابل } أي: حظ كثير، فحظ قليل { والله بما تعملون بصير } بأعمالكم يرى أنها من أي القبيل.
[2.266-268]
{ أيود أحدكم } تمثيل لحال من عمل صالحا إنفاقا كان أو غيره متقربا به إلى الله مبتغيا رضاه، كما في هذا القسم من الإنفاق، ثم ظهرت نفسه فيه، وتحركت، فكانت حركاتها المتخالفة بحركة الروح ودواعيها المتفاوتة المضادة لداعية القلب إعصارا، فافترض الشيطان حركتها واتخذها مجالا له بالوسوسة، فنفث فيها رؤية عملها أو رياء فكان ذلك النفث نارا أحرقت عملها أحوج ما يكون إليه، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: { اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي ".
{ أنفقوا من طيبات ما كسبتم } أمر بالقسم الثالث من الإنفاق من طيبات ما كسبتم، إذ المختار بالله يختار الأشرف من كل شيء للمناسبة كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " إن الله جميل يحب الجمال " ومن كان في إنفاقه بالنفس لا يقدر على إنفاق الأشرف لضن النفس ومحبتها إياه، واستئثارها به عن تخصيصه بالله، فما كان بالنفس ليس ببر أصلا لقوله تعالى:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[آل عمران، الآية: 92]، { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } تخصونه بالإنفاق كعادة المنفقين بالنفس والطبيعة { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } لمحبتكم الأطيب من المال لأنفسكم لاختصاص محبتكم بالذات إياها، ولهذا لا تؤثرون الله بالمال عليها فتنفقوا أطيبه له { واعلموا أن الله غني } فاتصفوا بغناه فتستفيضوا به عن المال ومحبته { حميد } لا يفعل إلا الفعل المحمود، فاقتدوا به.
{ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } أي: الخصلة القبيحة التي هي البخل، فتعوذوا منه بالله، فإنه { يعدكم مغفرة منه } أي: سترا لصفات نفوسكم بنوره { وفضلا } وموهبة من مواهب صفاته لكم وتجلياتها كالغنى المطلق فلا يبقى فيكم خوف الفقر { والله واسع } يسع ذواتكم وصفاتكم وعطاؤكم لا يضيق وعاء جوده بالعطاء ولا ينفد عطاياه { عليم } بمواقع تجلياته واستعدادها واستحقاقها.
[2.269-272]
{ يؤتي الحكمة من يشاء } لإخلاصه في الإنفاق وكونه فيه بالله، فيعطيه حكمة الإنفاق لينفق من الحكمة الإلهية لكونه متصفا بصفاته { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } لأنها أخص صفات الله { وما يذكر } أن الحكمة أشرف الأشياء وأخص الصفات { إلا اولو الألباب } الذين نور الله عقولهم بنور الهداية فصفاها عن شوائب الوهم وقشور الرسوم والعادات وهو النفس. فجزاء الإنفاق الأول هو الإضعاف، وجزاء الثاني هو الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف، وجزاء الثالث هو الحكمة اللازمة للوجود والموهوب. فانظر كم بينها من التفاوت.
{ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } من أي القبول هو، فيجازيكم بحسبه { وما للظالمين } أي: المنفقين رئاء الناس، الواضعين الإنفاق في غير موضعه، أو الناقصين حقوقهم برؤية إنفاقهم أو ضم المن والأذى إليه أو بالإنفاق من الخبيث { من أنصار } يحفظوا لهم من بأس الله { فهو خير لكم } لبعدها عن الرياء وكونها أقرب إلى الإخلاص { ليس عليك هداهم } إلى الإنفاقات الثلاثة المذكورة المبرأة عن المن والأذى والرياء ورؤية الإنفاق وكونه من الخبيث أي: لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إنما عليك تبليغ الهداية { ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } فما لكم تستطيلون به على الناس؟ وكيف تراؤون فيه؟ { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } ليس لغيركم فيه نصيب، فلا تنفقوا إلا على أنفسكم في الحقيقة، لا على غيركم فلا ينقص به شيء منكم، فما لكم تقصدون الخبيث بالإنفاق منه فثلاثتها مصروفة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة من الإنفاق للتحذير عن آفاتها بتصوير غاياتها.
[2.273-275]
{ للفقراء } أي: اقصدوا بصدقاتكم الفقراء { الذين } أحصرهم المجاهدة { في سبيل الله } { لا يستطيعون ضربا في الأرض } للتجارة والكسب لاشتغالهم بالله واستغراقهم في الأحوال وصرف أوقاتهم في العبادات. { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } عن السؤال والاستغناء عن الناس { تعرفهم بسيماهم } من صفرة وجوههم، ونور جباههم، وهيئة سحناتهم، أنهم عرفاء فقراء، أهل الله، لا يعرفهم إلا الله ومن هو منهم { لا يسألون الناس إلحافا } أي: إلحاحا. والمراد نفي مسئلة الناس بالكلية كقوله:
على لاحب لا يهتدى بمناره
والمراد نفي المنار والاهتداء جميعا، أو نفي الإلحاف وإثبات التعطف في المسألة. { وما تنفقوا من خير } على أي من أنفقتم، غنيا كان أو فقيرا { فإن الله به عليم } أي: بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره، فيجازي بحسبه.
{ الذين ينفقون } عمم الإنفاق أولا وثانيا بحسب الأوقات والأحوال ليعلم أنه لا يتفاوت بها، بل بالقصد والنية { الذين يأكلون الربا لا يقومون } إلى آخره، آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر، فإن كل مكتسب له توكل ما في كسبه قليلا كان أو كثيرا، كالتاجر والزارع والمحترف، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب فهم على غير معلوم في الحقيقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم "
وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه سواء ربح الآخذ أو خسر، فهو محجوب عن ربه بنفسه وعن رزقه بتعيينه، لا توكل له أصلا، فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله، وأخرجه من حفظه وكلاءته، فاختطفه الجن وخبلته، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسه الشيطان فتخبطه لا يهتدي إلى مقصد { ذلك بأنهم قالوا } أي: ذلك بسبب احتجابهم بقياسهم وأول من قاس إبليس فيكونون من أصحابه مطرودين مثله.
[2.276-283]
{ يمحق الله الربا } وإن كان زيادة في الظاهر { ويربي الصدقات } وإن كان نقصانا في الشاهد، لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين. والمال الحاصل من الربا لا بركة له، لأنه حصل من مخالفة الحق فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي إذ كل طعام يولد في أكله دواعي وأفعالا من جنسه، فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة، وإن كان مكروها فإلى أفعال مكروهة، وإن كان مباحا فإلى مباحة، وإن كان من طعام الفضل فإلى مندوبات، وكان في أفعاله متبرعا متفضلا، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك، فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله على ما ورد في الحديث:
" الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول "
، فتزداد عقوباته وآثامه أبدا، ويتلف الله ماله في الدنيا فلا ينتفع به أعقابه وأولاده فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو المحق الكلي. وأما المتصدق، فلكون ماله مزكى، يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل وآكله لا يكون إلا مطيعا في أفعاله، ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعا به وذلك هو الزيادة في الحقيقة، ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة، وأي زيادة أفضل مما تبقى عند الله، ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصا، وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله. { والله لا يحب كل كفار أثيم } أي: آكل الربا كفار أثيم بفعله والله لا يحب من كان كذلك.
[2.284]
{ لله ما في السموات } أي: في العالم الروحاني كله، بواطنه وصفاته وأستار غيوبه ودفائن وجوده { وما في الأرض } أي: في العالم الجسماني كله ظواهره وأسماؤه وأفعاله، تشهد العالمين، وهو على كل شيء شهيد { وإن تبدوا ما في أنفسكم } يشهده بأسمائه وظواهره، فيعلمه ويحاسبكم به، وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه فيعلمه ويحاسبكم به { فيغفر لمن يشاء } لتوحيده وقوة يقينه، وعروض سيئاته، وعدم رسوخها في ذاته، فإن مشيئته مبنية على حكمته { ويعذب من يشاء } لفساد اعتقاده، ووجود شكه، أو رسوخ سيئاته في نفسه { والله على كل شيء قدير } فيقدر على المغفرة والتعذيب جميعا.
[2.285-286]
{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } صدقه بقبوله والتخلق به، كما قالت عائشة: " كان خلقه القرآن والترقي بمعانيه والتحقق ". { والمؤمنون كل آمن بالله } وحده جميعا { وملائكته وكتبه ورسله } أي: وحده تفصيلا عند الاستقامة مشاهدا لوحدته في صورة تلك الكثرة معطيا لكل تجل من تجلياته في مظهر من مظاهره وحكمه { لا نفرق } أي: يقولون: لا نفرق بينهم برد بعض وقبول بعض، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق لشهود التوحيد ومشاهدة الحق فيهم بالحق { وقالوا سمعنا } أي: أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا { غفرانك ربنا } أي: اغفر لنا وجوداتنا وصفاتنا وامحها بوجودك ووجود صفاتك { وإليك المصير } بالفناء فيك.
{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } لا يحملها إلا ما يسعها، ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات، فإن حظ كل أحد من الكشوف والتجليات ما يطيق به وعاء استعداده الموهوب له في الأزل من الفيض الأقدس، ولا يضيق عليه { لها ما كسبت } من الخيرات والعلوم والكمالات والكشوف على أي وجد، سواء كانت بقصدها أو لا بقصدها، فإنها من عالم النور فالخيرات كلها ذاتية لها، ترجع فائدتها إليها دون الشرور من الجهالات والرذائل والمعاصي والنقائص، فإنها أمور ظلمانية غريبة عن جوهرها فلا تضرها ولا تلحق تبعتها بها إلا إذا كانت منجذبة إليها متوجهة بالقصد والاعتمال لتكسبها ولهذا ورد في الحديث:
" إن صاحب اليمين يكتب كل حسنة تصدر عن صاحبها في الحال، وصاحب الشمال لا يكتب حتى تمضي عليه ست ساعات، فإن استغفر فيها وتاب أو ندم، فلم يكتب، وإن أصر كتب "
والمراد بالنفس ها هنا الذات وإلا لكان الأمر بالعكس، فيكون حينئذ معناه لا يكلفها إلا ما يسعها ويتيسر لها من الأعمال دون مدى الجهد والطاقة وذكر الكسب في موضع الخير لكونها غير معتنية به معتملة له، والاكتساب في موضع الشر لكونها منجذبة إليه، معتملة له بالقصد، لكونها مأوى الشر.
{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا } عهدك { أو أخطأنا } في العمل لما سواك، والقران على فراقك محتجبين عنك، فإنا غرباء، بعداء، طال العهد بنا مسافرين عنك، ممتحنين في الظلمات بأنواع البلاء، ولا قدر ولا مقدار لنا في حضرتك، حتى تؤاخذنا بذنوبنا { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } في ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا، فتأصرنا وتحبسنا في مكاننا مهجورين عنك، فإنه لا ثقل أثقل منها { كما حملته على الذين من قبلنا } من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك، ومشاهدة جمالك، بحجب جلالك { واعف عنا } سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها كلها سيئات حجبتنا عنك، وحرمتنا برد عفوك ولذة رضوانك { واغفر لنا } ذنوب وجوداتنا فإنها أكبر الكبائر كما قيل.
إذا قلت ما أذنبت قالت مجيبة
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
{ وارحمنا } بالوجود الموهوب بعد الفناء { أنت مولانا } ناصرنا ومتولي أمورنا { فانصرنا } فإن من حق الولي أن ينصر من يتولاه، أو سيدنا، ومن حق السيد أن ينصر عبيده { على القوم الكافرين } من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها، وجنود شياطين أوهامنا وخيالاتنا، المحجوبين عنك، الحاجبين إيانا بكفرها وظلمتها.
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-6]
{ الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } مر تأويله { نزل عليك الكتاب بالحق } أي: رقاك رتبة فرتبة، ودرجة فدرجة، بتنزيل الكتاب عليك منجما إلى العلم التوحيدي الذي هو الحق باعتبار الجمع المسمى بالعقل القرآني { مصدقا لما بين يديه } من التوحيد الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل } هكذا ثم { أنزل الفرقان } أي: التوحيد التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق المسمى بالعقل الفرقاني، وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة { إن الذين كفروا } أي: احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان التي هي آيات التوحيد في الحقيقة { لهم عذاب شديد } في البعد والحرمان { والله عزيز } أي: قاهر { ذو انتقام } لا يقدر وصفه ولا يبلغ كنهه ولا يقدر على مثله، منتقم { لا يخفى عليه شيء } في العالمين، فيعلم مواقع الانتقام { منه آيات محكمات }.
[3.7-12]
سمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه لا يحتمل إلا معنى واحدا { هن أم } أي: أصل { الكتاب وأخر متشابهات } تحتمل معنيين فصاعدا ويشتبه فيها الحق والباطل، وذلك أن الحق تعالى له وجه هو الوجه المطلق الباقي بعد فناء الخلق لا يحتمل التكثر والتعدد، وله وجوه متكثرة إضافية متعددة بحسب مرائي المظاهر. وهي ما يظهر بحسب استعداد كل مظهر فيه من ذلك الوجه الواحد، يلتبس فيها الحق بالباطل، فورد التنزيل كذلك لتنصرف المتشابهات إلى وجوه الاستعدادات فيتعلق كل بما يناسبه، ويظهر الابتلاء والامتحان. فأما العارفون المحققون الذين يعرفون الوجه الباقي في أية صورة وأي شكل كان، فيعرفون الوجه الحق من الوجوه التي تحتملها المتشابهات فيردونها إلى المحكمات متمثلين بمثل قول الشاعر:
وما الوجه إلا واحد غير أنه
إذا أنت أعددت المزايا تعددا
وأما المحجوبون { الذين في قلوبهم زيغ } عن الحق { فيتبعون ما تشابه } لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة. كما أن المحققين يتبعون المحكم، ويتبعونه المتشابه، فيختارون من الوجوه المحتملة ما يناسب دينهم ومذهبهم { ابتغاء الفتنة } أي: طلب الضلال والإضلال الذي هم بسبيله { وابتغاء تأويله } بما يناسب حالهم وطريقتهم.
إذا اعوج سكين فعوج قرابه
فهم كما لا يعرفون الوجه الباقي في الوجوه، لزم أن لا يعرفوا المعنى الحق من المعاني، فيزداد حجابهم ويغلظ ليستحقوا به العذاب { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } العالمون، يعلمون بعلمه، أي: إنما يعلمه الله جميعا وتفصيلا { يقولون آمنا به } يصدقون علم الله به، فهم يعلمون بالنور الإيماني { كل من عند ربنا } لأن الكل عندهم معنى واحد غير مختلف { وما يذكر } بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إلا الذين صفت عقولهم بنور الهداية وجردت عن قشر الهوى والعادة.
{ ربنا لا تزغ قلوبنا } عن التوجه إلى جنابك، والسعي في طلب لقائك، والوقوف ببابك، بالافتتان بحب الدنيا وغلبة الهوى، والميل إلى النفس وصفاتها، والوقوف مع حظوظها ولذاتها { بعد إذ هديتنا } بنورك إلى صراطك المستقيم، والدين القويم، وبسبحات وجهك إلى جمالك الكريم { وهب لنا من لدنك رحمة } رحيمية تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك { إنك أنت الوهاب } { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } أي: يجمعهم ليوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة الجامعة للخلائق أجمعين الأولين والآخرين، فلا يبقى لهم شك في مشهدهم ذلك { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } بل هي سب حجابهم وبعدهم من الله وتعذيبهم بعذابه لشدة تعلقهم بهم ومحبتهم إياهم.
[3.13-14]
{ قد كان لكم آية } يا معشر السالكين دالة على كمالكم وبلوغكم إلى التوحيد { في فئتين التقتا فئة } القوى الروحانية الذين هم أهل الله وجنوده { تقاتل في سبيل الله وأخرى } هي جنود النفس وأعوان الشياطين محجوبة عن الحق. ترى الفئة الأولى، مع قلة عددهم، مثليهم عند التقائهما في معركة البدن لتأييد الفئة الأولى بنور الله وتوفيقه وخذلان الفئة الثانية وذلهم وعجزهم وضعفهم وانقطاعهم عن عالم الأيد والقدرة. فغلبت الأولى الثانية وقهروهم بتأييد الله ونصره، وصرفوا أموالهم التي هي مدركاتهم ومعلوماتهم في سبيل معرفة الله وتوحيده { والله يؤيد بنصره من يشاء } من أهل عنايته المستعدين للقائه { إن في ذلك لعبرة } أي: اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى الحقيقة للمستبصرين الذين انفتحت أعين بصائرهم واكتحلت بنور الإيقان العلمي من أهل الطريقة يعتبرون به أحوالهم في النهاية.
{ زين للناس حب الشهوات } لأن الإنسان مركب من العالم العلوي والسفلي، ومن نشأته وولادته تحجبت فطرته وخمدت نار غريزته وانطفأ نور بصيرته بالغشاوات الطبيعية والغواشي البدنية، والماء الأجاج من الذات الحسية، والرياح العواصف من الشهوات الحيوانية، فبقي مهجورا من الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة يسار به، مبلوا بأنواع النصب والتعب، فإذا هو بشعشعة نور من التميز ولمعان برق من عالم العقل، وداع ينادينه من الهوى والشيطان، فتبعه فصادف منزلا نزها، وروضة أنيقة، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاستوطنه وشكر سعيه ورضيه مسكنا وقال:
عند الصباح يحمد القوم السري
والداعي قد هيئ له القرى
فذلك حب الشهوات، أي: المشتهيات المذكورة وتزيينها له وهو تمتيع له بحسب ما فيه من العالم السفلي، وكمال لحياته حجب به من تمتيع الحياة الأخرى وكمالها، بحسب ما فيه من العالم العلوي، ولم يتنبه على أنها أبهى وألذ وأصفى مع ذلك وأبقى، وهو معنى قوله: { والله عنده حسن المآب }.
[3.15]
فإن أدركه التوفيق الإلهي والتنبيه السري، وقارنه الإنباء النبوي كما قال: { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } انبعث من باطنه شوق وعشق لحركة العلوي إلى مركزه، واشتعلت ناره التي قد خمدت، وتتتابع عليه لوامع الأنوار الإلهية وطوالع الإشراقات القدسية، فاستنار نور بصيرته الذي قد انطفأ، ورقت الحجب التي منعت فطرته عن طلب المقر والمأوى، وتنغص عيشه الذي هو فيه فتكدر ما هو عليه، واستظلم ما كان قد استصفاه من الحياة الدنيا وسكنت في نفسه سورة الهوى بغلبة الجزء الروحاني على الجسماني، وذاق طعم ماء فرات الحياة الحقيقية فلم يصبر على الملح الأجاج وباشر قلبه خطرات اليقين بجريعات شربها من الماء المعين، فعلم أنه كان أكمن في سرب من الأرض، فاستلمع ضوء الكواكب ليلا وظنه نهارا، فخرج فإذا هو ببرية فيها ماء زعاق وأنواع من الحشائش كالخمخم والجرجير ونحوها، فظنها رياحين وثمارا، فجلس بما وجد عن ضياء الشمس وألوان الطيب والفواكه، فعزم على رحيل الأوبة وغشيته وحشة الغربة، فانتقى ما استطاب واستحلى. ثم سار وخلى حتى إذا أضاء نور صبح عين اليقين، وحان وقت طلوع شمس الوحدة، رأى جنة تحير فيها بصره ودهش في وصفها عقله، وكان ما كان مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فإذا أفاق وقد طلعت الشمس، وجد فيها ألافا وأحبابا وعرف أنه كان له مثوى ومآبا، ورجع إليه الأنس، ونزل محلة القدس، بدار القرار في جوار الملك الغفار، وأشرقت عليه سبحات وجهه الكريم، وحل بقلبه روح الرضا العميم، وذلك معنى قوله: { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } إلى قوله: { والله بصير بالعباد } ، فالجنات جنات الأفعال، والأزواج أصناف روحانيات عالم القدس، والرضوان جنات الصفات.
[3.16-25]
{ الذين يقولون ربنا إننا آمنا } بأنوار أفعالك وصفاتك { فاغفر لنا ذنوبنا } أي: ذنوب وجوداتنا بذاتك { وقنا عذاب النار } أي: نار الهجران ووجود البقية { الصابرين } على غصص المجاهدة والرياضة { والصادقين } في المحبة والإرادة { والقانتين } في السلوك إليه وفيه { والمنفقين } ما عداه من أموالهم وأفعالهم وصفاتهم ونفوسهم وذواتهم { والمستغفرين } عن ذنوب تلويناتهم وبقياتهم في أسحار أيام التجليات النورية عند طلوع طوالع الأنوار، وظهور تباشير صبح يوم القيامة الكبرى بالأفق الأعلى، فأجابهم وقت طلوع شمس الذات من مغرب وجودهم، فلم يبق مغربا بقوله { شهد الله أنه لا إله إلا هو } طلع الوجه الباقي، فشهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته، إذ لم يبق شاهد ولا مشهود غيره. ثم رجع إلى مقام التفصيل فشهد بنفسه مع غيره على وحدانيته في ذلك المشهد فقال: { والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط } أي: مقيما للعدل في تفاصيل مظاهره، وصور كثرتها الذي هو ظل الوحدة في غير الجمع بإعطاء كل ذي حق بحسب استعداده واستحقاقه حقه من جوده وكماله وتجليه فيه على قدر سعة وعائه { لا إله إلا هو } في المشهدين { العزيز } القاهر الذي يقهر كل شيء باعتبار الجمع فلا يصل إليه أحد { الحكيم } الذي يدبر بحكمته كل شيء، فيعطيه ما يليق به باعتبار التفصيل.
{ إن الدين عند الله } هو هذا التوحيد الذي قرره بنفسه. فإن دينه دين إسلام الوجوه كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: " أسلمت وجهي لله " أي: نفسي وجملتي، وانخلعت عن أنانيتي، ففنيت فيه. وأمر الله تعالى حبيبه عليه الصلاة والسلام فيما بعد بقوله: { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن }.
{ إن الذين يكفرون بآيات الله } أي: المحجوبين عن الدين { ويقتلون النبيين بغير حق } لكونهم محجوبين بدينهم لا يقبلون إلا ما هم عليه من التقيد والتقليد، والأنبياء دعوهم إلى التوحيد ومنعوهم عن التقيد فقتلوهم { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } من أتباعهم، إذ العدل ظل التوحيد، فمن لم يكمل له لا يمكنه العدل، وهم قد حجبوا بتقييدهم بدينهم، فقد حجبوا بظلمهم عن العدل فخالفوهم وقتلوهم.
{ أولئك الذين حبطت أعمالهم } التي عملوها على دين نبيهم، لأنهم كانوا بتقليد نبيهم ناجين بالمتابعة، وأنبياؤهم كانوا شفعاءهم بتوسطهم بينهم وبين الله في وصول الفيض إليهم، فإذا أنكروا النبيين وأتباعهم العادلين فقد خالفوا نبيهم لأن الأنبياء كلهم على ملة واحدة في الحقيقة هي ملة التوحيد، لا نفرق بين أحد منهم في كونهم على الحق فمن خالف واحدا فقد خالف الكل، وكذا من خالف أهل العدل من أتباع النبيين فقد ظلم، ومن ظلم فقد خرج بظلمه عن المتابعة وأيضا فمنكر الاتباع منكر المتبوعين، ومنكر الظل منكر الذات خارج عن نورها. وإذا خالفوا نبيهم لم يبق بينهم وبينه من الوصلة والمناسبة ما تمكن به الاستفاضة من نوره، فحجبوا عن نوره وكانت أعمالهم منورة بنوره لأجل المتابعة، لا نور ذاتي لها، إذ لم تكن صادرة عن يقين، فإذا زال نورها العارضي باحتجابهم عن نبيهم فقد أظلمت وصارت كسائر السيئات من صفات النفس الأمارة، وفيه ما سمعت غير مرة من قتل كفار قوي النفس الأمارة أنبياء القلوب والآمرين بالقسط من القوى الروحانية.
[3.26]
{ قل اللهم مالك الملك } تملك ملك عالم الأجسام مطلقا، تتصرف فيه لا مالك ولا متصرف ولا مؤثر فيه غيرك { تؤتي الملك من تشاء } تجعله متصرفا في بعضه { وتنزع الملك ممن تشاء } بجعل التصرف في يد غيره ولا غير ثمة بل تقلبه من يد إلى يد، فأنت المتصرف فيه على كل حال بحسب اختلاف المظاهر { وتعز من تشاء } بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا { وتذل من تشاء } بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا { بيدك الخير } كله، وأنت القادر مطلقا، تعطي على حسب مشيئتك، تتجلى تارة على بعض المظاهر بصفة العز والكبرياء، فتكسوه لباس العز والبهاء، وتارة بصفة القهر والإذلال فتكسوه لباس الهوان والصغار، وتارة بصفة المعز فتكون مذلا، وتارة بصفة المذل فتكون معزا، وتارة بصفة الغني فتعطي المال، وتارة بصفة المغني فتفقره، أي: تجعله مستغنيا عن المال، فقيرا لا يحتاج إلى شيء.
[3.27-29]
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } تدخل ظلمة النفس في نور القلب فيظلم، وتدخل نور القلب في ظلمة النفس فتستنير بخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما { وتخرج الحي } أي: حي القلب { من الميت } أي: من ميت النفس، وميت النفس من حي القلب، بل تخرج حي العلم والمعرفة من ميت الجهل، وتخرج ميت الجهل من حي العلم تحجبه عن النور ، كحال بلعم بن باعورا { وترزق من تشاء } من النعمة الظاهرة والباطنة جميعا، أو من إحداهما { بغير حساب } { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } إذ لا مناسبة بينهم في الحقيقة، والولاية لا تكون إلا بالجنسية والمناسبة، فحينئذ لا يمكن أن تكون المحبة بينهم ذاتية، بل مجعولة مصنوعة بالتصنع والرياء والنفاق وهي خصال مبعدة عن الحق إذ كلها حجب ظلمانية ولو لم يكن فيهم ظلمة تناسب حال الكفرة ما قدروا على مخالطتهم ومصاحبتهم { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي: من ولاية الله في شيء، معتد به، إذ ليس فيهم نورية صافية يناسبون بها الحضرة الإلهية { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أي: إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب أن يتقى، فتوالوهم ظاهرا ليس في قلوبكم شيء من محبتهم، وذلك أيضا لا يكون إلا لضعف اليقين. إذ لو باشر قلوبهم اليقين لما خافوا إلا الله تعالى وشاهدوا معنى قوله تعالى:
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله
[يونس، الآية: 107] فما خافوا غيره ولم يرجوا غيره، ولذلك عقبه بقوله: { ويحذركم الله نفسه } أي: يدعوكم إلى التوحيد العياني كي لا يكون حذركم من غيره بل من نفسه { وإلى الله المصير } فلا تحذروا إلا إياه فإنه المطلع على أسراركم وعلانياتكم، القادر على مجازاتكم إن توالوا أعداءه أو تخافوهم سرا أو جهرا.
[3.30]
{ يوم تجد كل نفس } الآية، كل ما يعمله الإنسان أو يقوله يحصل منه أثر في نفسه وتنتقش نفسه به وإذا تكرر صار النقش ملكة راسخة، وكذا ينتقش في صحائف النفوس السماوية، لكنه مشغول عن هيئات نفسه ونقوشها بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية، لا يفرغ إليها، فإذا فارقت نفسه جسدها ولم يبق ما يشغلها عن هيئاتها ونقوشها وجدت ما عملت من خير أو شر محضرا، فإذا كان شرا تتمنى بعد ما بينها وبين ذلك اليوم أو ذلك العمل لتعذيبها به، فتصير تلك الهيئات والنقوش صورتها إن كانت راسخة وإلا وجدت جزاءها بحسبها وتكرر { ويحذركم الله نفسه } تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه { والله رؤوف بالعباد } فلذا يحذرهم عن السيئات تحذير الوالد المشفق لولده عما يوبقه.
[3.31]
{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } لما كان عليه الصلاة و السلام حبيبه فكل من يدعي المحبة لزمه اتباعه لأن محبوب المحبوب محبوب، فتجب محبة النبي، ومحبته إنما تكون بمتابعته وسلوك سبيله قولا وعملا وخلقا حالا وسيرة وعقيدة، ولا تمشي دعوى المحبة إلا بهذا فإنه قطب المحبة ومظهره وطريقته طلسم المحبة، فمن لم يكن له من طريقته نصيب لم يكن له من المحبة نصيب، وإذا تابعه حق المتابعة ناسب باطنه وسره وقلبه ونفسه باطن النبي صلى الله عليه وسلم وسره وقلبه ونفسه وهو مظهر المحبة. فلزم بهذه المناسبة أن يكون لهذا المتابع قسط من محبة الله تعالى بقدر نصيبه من المتابعة، فيلقي الله تعالى محبته عليه ويسري من باطن روح النبي صلى الله عليه وسلم نور تلك المحبة إليه، فيكون محبوبا لله، محبا له، ولو لم يتابعه لخالف باطنه باطن النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد عن وصف المحبوبية وزالت المحبية عن قلبه أسرع ما يكون، إذ لو لم يحبه الله تعالى لم يكن محبا له { ويغفر لكم ذنوبكم } كما غفر لحبيبه. قال تعالى:
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح، الآية: 2] وذنبه المتقدم ذاته، والمتأخر صفاته، فكذا ذنوب المتابعين كما قال تعالى:
" لا يزال العبد يتقرب إلي... "
إلى آخر الحديث. { والله غفور } يمحو ذنوب صفاتكم وذواتكم { رحيم } يهب لكم وجودا وصفات حقانية خيرا منها. ثم نزل عن هذا المقام لأنه أعز من الكبريت الأحمر.
ودعاهم إلى ما هو أعم من مقام المحبة، وهو مقام الإرادة.
[3.32-34]
فقال: { قل أطيعوا الله والرسول } أي: إن لم تكونوا محبين ولم تستطيعوا متابعة حبيبي فلا أقل من أن تكونوا مريدين، مطيعين لما أمرتم به، فإن المريد يلزمه متابعة الأمر وامتثال المأمور به { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } أي: إن أعرضوا عن ذلك أيضا، فهم كفار منكرون محجوبون، والله لا يحب من كان كافرا. فبترك الطاعة يلزم الكفر، وبترك المتابعة لا يلزم، لأن تارك المتابعة يمكن أن يكون مطيعا بمتابعة الأمر. ومعنى { أطيعوا الله والرسول }: أطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80].
{ إن الله اصطفى آدم ونوحا } الاصطفاء أعم من المحبة الخلة، فيشمل الأنبياء كلهم لأنهم خيرة الله وصفوته، وتتفاضل فيه مراتبهم، كما قال تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
[البقرة، الآية: 253]، فأخص المراتب هو المحبة، وأشار إليه بقوله تعالى:
ورفع بعضهم درجات
[البقرة، الآية: 253] فلذلك كان أفضلهم حبيب الله محمدا صلى الله عليه وسلم ثم الخلة التي هي صفة إبراهيم عليه السلام، وأعمها الاصطفاء، أي: صفة آدم عليه السلام { ذرية بعضها من بعض } في الدين والحقيقة، إذ الولاية قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي يتبع نبيا آخر في التوحيد والمعرفة، وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ في زماننا هذا. وكما قيل: الآباء ثلاثة: أب ولدك، وأب رباك، وأب علمك. فكما أن وجود البدن في الولادة الصورية يتولد في رحم أمه من نطفة أبيه، فكذلك وجود القلب في الولادة الحقيقية يظهر في رحم استعداد النفس من نفحة الشيخ والمعلم. وإلى هذه الولادة أشار عيسى عليه السلام بقوله: " لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ".
واعلم أن الولادة المعنوية أكثرها يتبع الصورية في التناسل، ولذلك كان الأنبياء في الظاهر أيضا نسلا، ثم ثمر شجرة واحدة، فإن عمران بن يصهر أبا موسى وهارون كان من أسباط لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وعمران بن ماثان أبا مريم أم عيسى عليه السلام كان من أسباط يهود بن يعقوب، وكون محمد عليه الصلاة والسلام من أسباط إسماعيل بن إبراهيم مشهور وكذا كون إبراهيم من نوح عليه السلام. وسببه أن الروح في الصفاء والكدورة يناسب المزاج في الاعتدال وعدمه وقت التكون، فلكل مزاج يناسبه ويخصه، إذ الفيض يصل بحسب المناسبة وتفاوت الأرواح في الأزل بحسب صنوفها ومراتبها في القرب والبعد، فتتفاوت الأمزجة بحسبها في الأبد لتتصل بها. والأبدان المتناسلة بعضها من بعض متشابهة في الأمزجة على الأكثر، اللهم إلا لأمور عارضة اتفاقية، فكذلك الأرواح المتصلة بها متقاربة في الرتبة، متناسبة في الصفة. وهذا مما يقوي أن المهدي عليه السلام من نسل محمد صلى الله عليه وسلم.
[3.35-37]
{ والله سميع } حين قالت امرأة عمران: { رب إني نذرت } إلى قولها: { عليم } بنيتها كما شهدت بقولها { إنك أنت السميع العليم }. واعلم أن النيات وهيئات النفس مؤثرة في نفس الولد، كما أن الأغذية مؤثرة في بدنه. فمن كان غذاؤه حلالا طيبا وهيئات نفسه نورية ونياته صادقة حقانية، جاء ولده مؤمنا صديقا أو وليا أو نبيا. ومن كان غذاؤه حراما وهيئات نفسه ظلمانية خبيثة ونياته فاسدة رديئة جاء ولده فاسقا أو كافرا خبيثا. إذ النطفة التي يتكون الولد منها متولدة من ذلك الغذاء، مرباة بتلك النفس، فتناسبها. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الولد سر أبيه "
، فكان صدق مريم وبنوة عيسى عليهما السلام بركة صدق أبيها { وجد عندها رزقا } يجوز أن يراد به الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله، إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونها من الأرزاق اللدنية.
[3.38-41]
{ هنالك دعا زكريا ربه } كان زكريا شيخا هرما، وكان مقدما للناس، إماما، طلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم كما أشار إليه في سورة (كهيعص) فوهب له يحيى من صلبه بالقدرة، بعدما أمر باعتكاف ثلاثة أيام ولك التأويل بالتطبيق على أحوالك وتفاصيل وجودك كما علمت، وهو أن الطبيعة الجسمانية، أي: القوة البدنية. امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس المطمئنة لله تعالى بانقيادها لأمر الحق ومطاوعتها له، فوضعت أنثى النفس فكفلها الله، زكريا الفكر، بعدما تقبلها لكونها زكية، قدسية، فكلما دخل عليها زكريا الفكر محراب الدماغ وجد عندها رزقا من المعاني الحدسية التي انكشفت عليها بصفائها من غير امتياز الفكر إياها. فهنالك دعا زكريا الفكر، تركيب تلك المعاني واستوهب من الله ولدا طيبا مقدسا عن لوث الطبيعية، فسمع الله دعاءه، أي: أجاب، فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم بأمره في تركيب المعلومات، يناجي ربه باستنزال الأنوار، ويتقرب إليه بالتوجه إلى عالم القدس في محراب الدماغ.
{ إن الله يبشرك بيحيى } العقل بالفعل { مصدقا } بعيسى القلب، مؤمنا به، وهو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الأجرام والتولد عن المواد { وسيدا } لجميع أصناف القوى { وحصورا } مانعا نفسه عن مباشرة الطبيعة الجسمانية وملابسة طبائع القوى البدنية { ونبيا } بالإخبار عن المعارف والحقائق الكلية، وتعليم الأخلاق الجميلة، والتدابير السديدة بأمر الحق { من الصالحين }. ومن جملة المفارقات والمجردات التي تصلح بأفعالها أن تكون من مقربي حضرة الله تعالى بعد أن بلغ الفكر كبر منتهى طوره ولم يكن منتهيا إلى إدراك الحقائق القدسية، والمعارف الكلية. وكانت امرأته التي هي طبيعة الروح النفسانية لأنها محل تصرف الفكر عاقرا بالنور المجرد.
وعلامة ذلك، أي: علامة حصول النور المجرد وظهوره من النفس الزكية، إمساكه عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مطالبهم ومآربهم ومخالطتهم في فضول لذاتهم وشهواتهم ثلاثة أيام، كل يوم عقد تام من أطوار عمره عشر سنين، إلا أن يرمز إليهم بإشارة خفية، ويأمرهم بتسبيحهم المخصوص بكل واحد منهم من غير أن يدنو منهم في مقاصدهم، وأن يشتغل في الأيام الثلاثة التي مداها ثلاثون سنة من ابتداء سن التمييز، الذي هو العشر الأول، بذكر ربه في محراب الدماغ والتسبيح المخصوص به دائما.
[3.42-46]
وكذا قالت ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الزكية الطاهرة { إن الله اصطفاك } لتنزهك عن الشهوات { وطهرك } عن رذائل الأخلاق والصفات المذمومة { واصطفاك على نساء } نفوس الشهوانية الملونة بالأفعال الذميمة والملكات الرديئة { يا مريم } أطيعي لربك بوظائف الطاعات والعبادات { واسجدي } في مقام الانكسار والذل والافتقار والعجز والاستغفار { واركعي } في مقام الخضوع والخشوع مع الخاضعين.
{ ذلك من أنباء الغيب } أي: أحوال غيب وجودك { نوحيه إليك } يا نبي الروح { وما كنت لديهم } لدى القوى الروحانية والنفسانية، أي: في رتبتهم ومقامهم { إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } أي: يتسابقون في سهامهم ويتبادرون في حظوظهم أيهم يدبر مريم النفس ويكفلها بحسب رأيه ومقتضى طبعه يترأس عليها ويأمرها بما يراه من مصلحة أمره { وما كنت لديهم } في مقام الصدور الذي هو محل نزاع القوى الروحانية والنفسانية ومحل نزاعهم الذي هو الصدر { إذ يختصمون } يتنازعون ويتجاذبون في طلب الرياسة عند ظهوره قبل الرياضة وفي حالها، إذ غلبت ملائكة القوى الروحانية بتوفيق الحق بعد الرياضة. وقالت لمريم النفس: { إن الله يبشرك بكلمة } القلب موهوبا { منه اسمه المسيح } لأنه يمسحك بالنور { وجيها في الدنيا } لإدراكه الجزئيات وتدبير مصالح المعاش أجود وأصفى وأصوب ما يكون، فيطيعه ويذعن له، ويحتشمه ويعظمه، أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة { و } في { الآخرة } لإدراكه المعاني الكلية والمعارف القدسية وقيامه بتدبير المعاد والهداية إلى الحق، فنعطيه ملكوت سماء الروح، ونكرمه. ومن جملة مقربي حضرة الحق قابلا لتجلياته ومكاشفاته { ويكلم الناس } في مهد البدن { وكهلا } بالغا إلى قرب طور شيخ الروح، غالبا عليه بياض نوره { ومن الصالحين } لمقام المعرفة.
[3.47-51]
{ قالت رب أنى يكون لي ولد } تعجب النفس من حملها وولادتها من غير أن يمسها بشر، أي من غير تربية شيخ وتعليم معلم بشري، وهو معنى بكارتها { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } أي: يصطفي من شاء بالجذب والكشف ويهب له مقام القلب من غير تربية وتعليم كما هو حال المحبوبين وبعض المحبين.
{ ويعلمه } بالتعليم الرباني، كتاب العلوم المعقولة، وحكم الشرائع، ومعارف الكتب الإلهية من التوراة والإنجيل، أي معارف الظاهر والباطن { ورسولا } إلى المستعدين الروحانيين من أسباط يعقوب الروح { أني قد جئتكم بآية من ربكم } تدل على أني آتيكم من عنده { أني أخلق لكم } بالتربية والتزكية والحكمة العملية من طين نفوس المستعدين الناقصين { كهيئة الطير } الطائر إلى جناب القدس من شدة الشوق { فأنفخ فيه } من نفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقية بتأثير الصحبة والتربية { فيكون طيرا } أي: نفسا حية طائرة بجناح الشوق والهمة إلى جناب الحق { وأبرئ الأكمه } المحجوب عن نور الحق الذي لم تنفتح عين بصيرته قط ولم تبصر شمس وجه الحق ولا نوره ولم يعرف أهل بكحل نور الهداية { والأبرص } المعيوب نفسه بمرض الرذائل والعقائد الفاسدة ومحبة الدنيا ولوث الشهوات بطب النفوس { وأحيي } موتى الجهل بحياة العلم { بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون } تتناولون من مباشرة الشهوات واللذات { وما تدخرون في بيوتكم } أي: في بيوت غيوبكم من الدواعي والنيات { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة } أي: من توراة علم الظاهر { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } من أنوار الباطن { وجئتكم بآية } بدليل { من ربكم } هو التوحيد الذي لم يخالفني فيه نبي قط { فاتقوا الله } في مخالفتي، فإني على الحق { وأطيعون } في دعوتكم إلى التوحيد.
[3.52-55]
{ فلما أحس عيسى } القلب من القوى النفسانية { الكفر } الاحتجاب والإنكار والمخالفة { قال من أنصاري إلى الله } أي: اقتضى من القوة الروحانية نصرته عليهم في التوجه إلى الله { قال الحواريون } أي: صفوته وخالصته من الروحانيات المذكورة { نحن أنصار الله آمنا بالله } بالاستدلال وبالتنور بنور الروح { وأشهد بأنا مسلمون } مذعنون منقادون { ربنا آمنا بما أنزلت } من علم التوحيد وفيض النور { واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } الحاضرين لك، المراقبين لأمرك، أو من الشاهدين على وحدانيتك.
{ ومكروا } أي: الأوهام والخيالات في اغتيال القلب وإهلاكه بأنواع التسويلات { ومكر الله } بتغليب الحجج العقلية، والبراهين القاطعة عن تخيلاتها وتشكيكاتها ورفع عيسى القلب إلى سماء الروح، وألقى شبهه على النفس ليقع اغتيالهم { والله خير الماكرين } إذا غلب مكره. وقال لعيسى: { إني متوفيك } أي: قابضك إلي من بينهم { ورافعك إلي } أي: إلى سماء الروح في جواري { ومطهرك من } رجز جوار { الذين كفروا } من القوى الخبيثة ومكرهم وخبث صحبتهم { وجاعل الذين اتبعوك } من الروحانيين { فوق الذين كفروا } من النفسانيات إلى يوم القيامة الكبرى والوصول إلى مقام الوحدة { ثم } يومئذ { إلي مرجعكم فأحكم بينكم } بالحق { فيما كنتم فيه تختلفون } قبل الوحدة من التجاذب والتنازع الواقع من القوى. فأقر كلا في مقره هناك وأعطيه ما يليق به من عندي فيرتفع التخالف والتنازع.
[3.56-58]
{ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا } بالحرمان عن مقام القلب، والاحتجاب بهيئات أعمالهم { وأما الذين آمنوا } من الروحانيات { وعملوا الصالحات } من أنواع التزكية والتحلية والتصفية في إعانة القلب على النفس ومتابعته في التوجه إلى الحق { فيوفيهم أجورهم } من الأنوار القدسية والإشراقات الروحية عليهم { والله لا يحب } الذين ينقصون الأجور من الحقوق.
وأما التأويل بغير التطبيق، فهو أنهم مكروا ببعث من يغتال عيسى عليه السلام، فشبه لهم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله عليه السلام بصورة حقيقة عيسى، فظنوها عيسى فقتلوها وصلبوها، والله رفع عيسى عليه السلام إلى السماء الرابعة لكون روحه عليه السلام فائضا من روحانية الشمس، ولم يعلموا لجهالتهم أن روح الله لا يمكن قتله. ولما تيقن حاله قبل الرفع قال لأصحابه: " إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي " ، أي: أتطهر من عالم الرجس، وأتصل بروح القدس الواهب الصور، المفيض للأرواح والكمالات، المربي للناس بالنفث في الروح، فأمدكم من فيضه. وكان إذ ذاك لا تقبل دعوته ولا يتبع مثله، فأمر الحواريين بالتفرق بعده في البلاد والدعوة إلى الحق، فقالوا: كيف ذاك إذا لم تكن معنا؟ والآن أنت بين أظهرنا ولا تجاب دعوتنا؟ قال: " علامة إمدادي إياكم قبول الخلق دعوتكم بعدي ". فلما رفع لم يدع أصحابه أحدا إلا أجابهم، وظهر لهم القبول في الخلق، وعلت كلمتهم، وانتشر دينهم في أقطار الأرض. ولما لم يصل إلى السماء السابعة التي عرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إليها، المعبر عنها ب " سدرة المنتهى " أعني: مقام النهاية في الكمال، ولم ينل درجة المحبة، لم يكن له بد من النزول مرة أخرى في صورة جسمانية، يتبع الملة المحمدية لنيل درجتها، والله أعلم بحقائق الأمور.
[3.59-60]
{ إن مثل عيسى } أي: إن صفته عند الله في إنشائه بالقدرة من غير أب { كمثل آدم } في إنشائه من غير أبوين. واعلم أن عجائب القدرة لا تنقضي ولا قياس ثمة على أن لتكون الإنسان من غير الأبوين نظيرا من عالم الحكمة، فإن كثيرا من الحيوانات الناقصة الغريبة الخلقة تتولد خلقا في ساعة، ثم تتناسل وتتوالد، فكذا الإنسان، يمكن حدوثه بالتولد في دور من الأدوار، ثم بالتولد، وكذا التكون من غير أب، فإن مني الرجل أحر كثيرا من مني المرأة، وفيه القوة العاقدة أقوى كما في الأنفحة بالنسبة إلى الجبن، والمنعقدة في مني المرأة أقوى، كما في اللبن فإذا اجتمعا تم العقد وانعقد، ويتكون الجنين. فيمكن وجود مزاج إناثي قوي يناسب المزاج الذكوري كما يشاهد في كثير من النسوان، فيكون المتولد في كليتها اليمنى بمثابة مني الذكر لفرط حرارته بمجاورة الكبد لمن مزاج كبدها صحيح قوي الحرارة، والمتولد في كليتها اليسرى بمثابة مني الأنثى فإذا احتملت المرأة لاستيلاء صورة ذكورية على خيالها في النوم واليقظة بسبب اتصال روحها بروح القدس وبملك آخر، ومحاكاة الخيال، ذلك كما قال تعالى: { فتمثل لها بشرا سويا } [مريم، الآية: 17] سبق المنيان من الجانبين إلى الرحم فتكون في المنصب من الجانب الأيمن قوة العقد أقوى، وفي المنصب من الجانب الأيسر قوة الانعقاد، فيتكون الجنين ويتعلق به الروح. وقوله: { كن فيكون } إشارة إلى نفخ الروح وكونه من عالم الأمر ليس مسبوقا بمادة ومدة، كخلق الجسد، فيتناسب آدم وعيسى بما ذكر في اشتراكهما في خرق العادة وبكون جسديهما مخلوقين من تراب العناصر، مسبوقين بمادة ومدة وكون روحهما مبدعا من عالم الأمر ليس مسبوقا بمادة ومدة.
[3.61-63]
{ فمن حاجك فيه } أي: في عيسى، الآية. إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا. فإذا اتصل نفس قدسي به أو ببعض أرواح أجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد. ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية . { وما من إله إلا الله } أي: ليس عيسى من الإلهية في شيء، فلا يستحق العبادة بمجرد تجرد ذاته، فإن عالم الملكوت والجبروت كله كذلك.
[3.64-80]
{ سواء بيننا وبينكم } أي: لم يختلف في كلمة التوحيد نبي ولا كتاب قط { وما كان لبشر أن يؤتيه الله } الآية. الاستنباء لا يكون إلا بعد مرتبة الولاية والفناء في التوحيد. ما ينبغي لبشر محا الله بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقانيا قابلا للكتاب والحكمة الإلهية، ثم يدعو الخلق إلى نفسه، إذ الداعي إلى نفسه يكون محجوبا بالنفس كفرعون وأضرابه من الذين علموا التوحيد وما وجدوه حالا وذوقا، ولم يصلوا إلى العيان ونفوسهم باقية ما ذاقت طعم الفناء، فاحتجبوا بها، فدعوا الخلق إلى نفوسهم وهم ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شر الناس من قامت القيامة عليه وهو حي ". { ولكن } يقول { كونوا ربانيين } منسوبين إلى الرب لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله، أي: كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة { ولا يأمركم } بتعبد معين والتقيد بصورة، فإنه حجاب وكفر ولا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب بعد إسلامكم الوجود لله.
[3.81]
{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } إلى آخره، إن بين النبيين تعارفا أزليا بسبب كونهم أهل الصف الأول، عرفاء الله، وكل عارف يعرف مقام سائر العرفاء ومتعهدهم من الله بعهد التوحيد عام لبني آدم، كما ذكر، وعهد النبيين خاص بهم وبمن يعرفهم بحق المتابعة، فقد أخذ الله من النبيين عهدين أحدهما ما ذكر في قوله:
وإذ أخذ ربك من بني آدم
[الأعراف، الآية: 172] إلى آخره. وثانيهما ما ذكر في قوله تعالى:
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا
[الأحزاب: 7] وهو عهد التعارف بينهم، وإقامة الدين، وعدم التفرق به بتصديق بعضهم بعضا ودعوة الحق إلى التوحيد، وتخصيص العبادة بالله تعالى، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف بعضهم بعضا إلى أممهم وخصوصه بسبب أن معرفة الله تعالى في صورة التفاصيل، وحجب الصفات، وتكثر المظاهر أدق وأخفى من معرفته في عين الجمع وهم من رزق حق المتابعة عارفون بذلك وبأحكام تجليات الصفات التي هي الشرائع خاصة دون من عداهم.
[3.82-84]
{ فمن تولى بعد ذلك } أي: بعدما علم عهد الله مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد الله إليهم { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن دين الله ولا دين غيره معتد به في الحقيقة إلا توهما { أفغير دين الله يبغون } وكل من في السموات والأرض يدين بدينه { طوعا } كما عدا الإنسان والشيطان { وكرها } كالإنسان والشيطان إذ الكفر لا يسع موجودا سواهما، فكلهم ممتثلون لما أمرهم الله، طائعون. والإنسان لاحتجابه بإرادته ونسيانه عهد الله وقبوله لدعوة الشيطان لمناسبته إياه بالظلمة النفسانية لا يؤمن ولا ينقاد إلا كرها، اللهم إلا من عصمه الله واجتباه، والشيطان لاحتجابه بعجبه وأنيته في قوله:
أنا خير منه
[الأعراف، الآية: 12] وإبائه، واستكباره كفر، وهو مع ذلك يعلم عصيانه ويؤمن كرها، ويتحقق أن كفره بإرادته تعالى وذلك عين الإيمان، كما قال تعالى:
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين
[الحشر، الآية: 16]، وقال تعالى:
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب
[الأنفال، الآية: 48]، وفي موضع آخر:
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخي إني كفرت بمآ أشركتمون من قبل
[إبراهيم، الآية: 22]، فهذه الآيات دالة على إيمانه ولكن حين لا ينفعه { وإليه ترجعون } في العاقبة، فلا يبقى دين غير دين الله بل الكل عند الرجوع يدين بدينه.
كل يدين بدين الحق لو فطنوا
وليس دين لغير الحق مشروع
[3.85-90]
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا } المراد من الإسلام ههنا: التوحيد الذي هو دين الله في قوله: { أسلمت وجهي لله } وهو المذكور في الآية التي قبلها، وما وصف شموله لجميع الأديان ويلزمه الانقياد التام الطوعي المذكور في فاصلة الآية بقوله:
ونحن له مسلمون
[البقرة: 133]، { فلن يقبل منه } لعدم وصول دينه إلى الحق تعالى لمكان الحجاب { وهو في الآخرة من الخاسرين } الذين خسروا باشترائهم أنفسهم وما حجبوا به بالحق.
{ كيف يهدي الله قوما } إلى آخره، أنكر هدايته تعالى لقوم قد هداهم أولا بالنور الاستعدادي إلى الإيمان، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقية الرسول صلى الله عليه وسلم وأيقنوا بحيث لم يبق لهم شك، وانضم إليه الاستدلال العقلي بالبينات ثم ظهرت نفوسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم، فقال: { والله لا يهدي القوم الظالمين } لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق، وقبول النور وهم قسمان: قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت وتناهوا في الغي والاستشراء، وتمادوا في البعد والعناد، حتى صار ذلك ملكة لا تزول، وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ولم يصر على قلوبهم رينا، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق، فيندموا ويستحيوا بحكم غريزة العقول. فأشار إلى القسم الأول بقوله: { إن الذين كفروا بعد إيمانهم } إلى آخره. وإلى الثاني بقوله: { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } بالمواظبة على الأعمال والرياضات ما أفسدوا.
[3.91-95]
{ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } إذ لا تقبل هناك إلا الأمور النورانية الباقية لأن الآخرة هي عالم النور والبقاء، فلا وقع ولا خطر للأمور الظلمانية فيها الفانية. وهل كان سبب كفرهم واحتجابهم إلا محبة هذه الفواسق الفانية؟، فكيف تكون سبب نجاتهم وقربهم وقبولهم وندبتهم وهي بعينها سبب هلاكهم وبعدهم وخسرانهم وحرمانهم.
{ لن تنالوا البر } كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبري عما سواه، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به وأشرك شركا خفيا لتعلق محبته بغير الله، كما قال تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله
[البقرة، الآية: 165] وآثر نفسه به على الله، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه وهي: محبة غير الحق، والشرك، وإيثار النفس على الحق. فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده، فقد زال البعد وحصل القرب، وإلا بقي محجوبا وإن أنفق من غيره أضعافه فما نال برا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره.
{ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } أي: العقلاء بحكم الأصل، إذ العقل يحكم بأن الأشياء خلقت لمنافع العباد مطلقا فما يكون من جملة المطعومات خلقت لتناولها { إلا ما حرم إسرائيل } الروح { على نفسه } بالنظر العقلي عند التجربة والقياس ومعرفة مضارها ومنافعها على التفصيل بعد الحكم الإجمالي بحلها، فإن العقل يحكم بحرمة ما يضر أو يهلك.
{ من قبل أن تنزل التوراة } أي: من قبل نزول الحكم الشرعي بالتوراة وسائر الكتب الإلهية وذلك أن الناس اختلفوا بعدما كانوا أمة واحدة على دين الحق، كما ذكر، فبعث الله النبيين لهدايتهم وإصلاح أحوال معاشهم ومعادهم، وردهم إلى الحق والاتفاق، فما اقتضت الحكمة الإلهية بحسب أحوالهم المختلة وطباع قلوبهم المخرفة ونفوسهم المريضة، حرمته من المألوفات والأشياء الصارفة عن الحق الحاجبة بينهم وبين الله، والمهيجة للهوى والشهوات وسائر المفاسد والفتن المانعة إياهم عن كمالهم واهتدائهم حرم عليهم.
[3.96-97]
{ إن أول بيت وضع للناس } قيل: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على وجه الماء، فدحيت الأرض تحته. فالبيت إشارة إلى القلب الحقيقي، وظهوره على وجه الماء تعلقه بالنطفة عند سماء الروح الحيواني، وأرض البدن وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه، وحدوث البدن وتعيينه بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين: طور النفس، وطور القلب. تقدما بالرتبة، إذ الألف رتبة تامة كما سبقت الإشارة إليه، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثير، وكون أشكاله وتخطيطاته وصور أعضائه تابعة لهيئاته فهذا تأويل الحكاية.
واعلم أن محل تعلق الروح بالبدن، واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصوري، وهو أول ما يتكون من الأعضاء، وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن فيكون أول بيت وضع للناس { للذي ببكة } الصدر صورة أو أول متعبد ومسجد وضع للناس للقلب الحقيقي الذي ببكة الصدر المعنوي، وذلك الصدر أشرف مقام من النفس وموضع ازدحامات القوى المتوجهة إليه { مباركا } ذا بركة إلهية من الفيض المتصل منه بجميع الوجود والقوة والحياة، فإن جميع القوى التي في الأعضاء تسري منه أولا إليها { وهدى للعالمين } سبب هداية ونور يهتدى به إلى الله { فيه آيات بينات } من العلوم والمعارف والحكم والحقائق { مقام إبراهيم } أي: العقل الذي هو موضع قدم إبراهيم الروح، يعني محل اتصال نوره من القلب { ومن دخله } من السالكين والمتحيرين في بيداء الجهالات { كان آمنا } من إغواء سعالى المتحيلة، وعفاريت أحاديث النفس، واختطاف شياطين الوهم، وجن الخيالات، واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها.
{ ولله على الناس حج } هذا { البيت } والطواف به { من استطاع إليه سبيلا } من السالكين، المستعدين الصادقين في الإرادة، القادرين على زاد التقوى، وراحلة قوة العزم دون من عداهم من الضعاف في الاستعداد، القاعدين من الضعف والمرض وسائر الموانع الخلقية أو العارضة النفسانية أو البدنية { ومن كفر } أي: حجب استعداده مع القدرة وأعرض عنه بهوى النفس { فإن الله غني } عنه و { عن العالمين } كلهم، أي: لا يلتفت إليه لبعده وكونه غير قابل لرحمته في ذل الحجاب، وهو أن الحرمان مخذولا مردودا.
[3.98-102]
{ ومن يعتصم بالله } بالانقطاع عما سواه، والتمسك بالتوحيد الحقيقي { فقد هدي إلى صراط مستقيم } إذ الصراط المستقيم هو طريق الحق تعالى، كما قال:
إن ربي على صراط مستقيم
[هود، الآية: 56]، فمن انقطع إليه بالفناء في الوحدة كان صراطه صراط الله { اتقوا الله حق تقاته } في بقايا وجودكم، فإن حق اتقائه هو أن يتقى كما يجب، ويحق وهو الفناء فيه، أي: اجعلوه وقاية لكم في الحذر عن بقايا ذواتكم وصفاتكم، فإن في الله خلفا عن كل ما فات { ولا تموتن } إلا على حال إسلام الوجوه له، أي: ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد.
[3.103-105]
{ واعتصموا بحبل الله جميعا } أي: بعهده في قوله:
ألست بربكم
[الأعراف، الآية: 172] مجتمعين على التوحيد { ولا تفرقوا } باختلاف الأهواء، فإن التفرق عن الحق إنما يكون باختلاف الطبائع واتباع الهوى وتجاذب القوى، والموحد عنها بمعزل، إذ تنور قلبه بنور الحق واستنارت نفسه من فيض القلب فتسالمت القوى وتصادقت. { واذكروا نعمة الله عليكم } بالهداية إلى التوحيد المفيد للمحبة في القلوب { إذ كنتم أعداء } لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية، بعداء عن النور والمقاصد الكلية التي تقبل الشركة وتزال بالاتفاق في مهوى الظلمة { فألف بين قلوبكم } بالتحاب في الله لتتنور بنوره { فأصبحتم بنعمته إخوانا } في الدين، أصدقاء في الله { وكنتم على شفا حفرة من النار } هي مهوى الطبيعة الفاسقة ومحل الحرمان والتعذيب { فأنقذكم منها } بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح، وروح جنة الذات { كذلك يبين الله لكم آياته } بتجليات الصفات اللطيفة والإشراقات النورية { لعلكم تهتدون } إلى جماله وتجلي ذاته.
{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } أي: ليكن من جملتكم جماعة عالمون، عاملون، عارفون، أولو استقامة في الدين كشيوخ الطريقة { يدعون إلى الخير } فإن من لم يعرف الله لم يعرف الخير، إذ الخير المطلق هو الكمال المطلق الذي يمكن للإنسان بحسب النوع من معرفة الحق تعالى، والوصول إليه، والإضافي ما يتوصل به إلى المطلق أو الكمال المخصوص بكل أحد على حسب اقتضاء استعداده الخاص. فالخير المدعو إليه، إما الحق تعالى، وإما طريق الوصول.
والمعروف كل أمر واجب أو مندوب في الدين، يتقرب به إلى الله تعالى، والمنكر كل محرم أو مكروه يبعد عن الله تعالى ويجعل فاعله عاصيا أو مقصرا مذموما. فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة، لم يكن له مقام الدعوة ولا مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن غير الموحد ربما يدعو إلى طاعة غير الله وغير المستقيم فى الدين وإن كان موحدا ربما أمر بما هو معروف عنده، منكر في نفس الأمر وربما نهى عما هو منكر عنده، معروف في نفس الأمر، كمن بلغ مقام الجمع واحتجب بالحق عن الخلق، فكثيرا ما يستحل محرما كبعض المسكرات والتصرف في أموال الناس، ويحرم حلالا بل مندوبا كتواضع الخلق ومكافأة الإحسان وأمثال ذلك { وأولئك هم } الأخصاء بالفلاح، الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله في أرضه.
{ ولا تكونوا } ناشئين بمقتضى طباعكم غير متابعين لإمام ولا متفقين على كلمة واحدة باتباع مقدم يجمعكم على طريقة واحدة { كالذين تفرقوا } واتبعوا الأهواء والبدع { واختلفوا من بعد ما جاءهم } الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة، واتفاق الكلمة. فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة وأهواء متفرقة، وعادات وسيرا متفاوتة، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم، ويترتب على ذلك فهوم متباينة، وأخلاق متعادية، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته كانوا مهملين متفرقين فرائس للشيطان كشريدة الغنم تكون للذئب، ولهذا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " لا بد للناس من إمام بر أو فاجر ".
ولم يرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين فصاعدا لشأن إلا وأمر أحدهما على الآخر وأمر الآخر بطاعته ومتابعته ليتحد الأمر وينتظم، وإلا وقع الهرج والمرج، واضطراب أمر الدين والدنيا، واختل نظام المعاش والمعاد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" الله مع الجماعة "
ألا ترى أن الجمعية الإنسانية إذا لم تنضبط برياسة القلب وطاعة العقل كيف اختل نظامها وآلت إلى الفساد والتفرق الموجب لخسارة الدنيا والآخرة، ولما نزل قوله تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
[الأنعام، الآية: 153].
" خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا فقال: " هذا سبيل الرشد " ، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال: " هذه سبل كل سبيل شيطان يدعوه إليه " ".
[3.106-109]
{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق للتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة، وذاك لا يكون إلا بالتوحيد والاستقامة فيه بتنور النفس أيضا بنور القلب. فتكون الجملة متنورة بنور الله واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة حظوظها والإعراض عن الجهة النورية الحقية لمصادقة النفس ومتابعة الهوى في تحصيل لذاتها، وذلك إنما يكون باتباع السبل المتفرقة الشيطانية. { فأما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم: { أكفرتم بعد إيمانكم } أي: احتجبتم عن نور الحق بصفات النفس الظلمانية، وسكنتم في ظلماتها بعد هدايتكم وتنوركم بنور الاستعداد، وصفاء الفطرة وهداية العقل { فذوقوا } عذاب الحرمان باحتجابكم عن الحق { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله } التي هي روح الوصال ونور القدس وشهود الجمال { هم فيها خالدون }.
[3.110-111]
{ كنتم خير أمة } لكونكم موحدين، قائمين بالعدل الذي هو ظله { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } إذ لا يقدر على ذلك إلا الموحد العادل لعلمه بالمعروف والمنكر، كما مر في تأويل قوله:
وكذلك جعلناكم أمة وسطا
[البقرة، الآية: 143]. قال أمير المؤمنين عليه السلام: " نحن النمرقة الوسطى، بنا يلحق التأويل، وإلينا يرجع الغالي ". فيأمرون المقصر بالمعروف الذي يوصله إلى مقام التوحيد، وينهون الغالي المحجوب بالجمع عن التفصيل وبالوحدة عن الكثرة. { وتؤمنون بالله } أي: تثبتون في مقام التوحيد الذي هو الوسط، وكذا في كل تفريط وإفراط واعتدال في باب الأخلاق { ولو آمن أهل الكتاب } لكانوا مثلكم.
{ لن يضروكم إلا أذى } لكونهم منقطعين عن أصل القوى والقدر، كائنين في الأشياء بالنفس التي هي محل العجز والشر، وأنتم معتصمون بالله، معتضدون به، كائنون في الأشياء بالحق الذي هو منبع القهر. فقدرتهم لا تبلغ إلا حد الطعن باللسان والخبث والإيذاء الذي هو حد قدرة النفس ونهايتها، وقدرتكم تفوق كل قدرة بالقهر والاستئصال لاتصافكم بصفات الله تعالى، فلا جرم ينهزمون منكم عند المقاتلة ولا ينصرون.
[3.112]
{ ضربت عليهم الذلة } لأن العزة لله جميعا، فلا نصيب فيها لأحد إلا لمن تخلق بصفاته بمحو صفات البشرية، كالرسول والمؤمنين الذين هم مظاهر عزته، كما قال الله تعالى:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
[المنافقون، الآية: 8]، فمن خالفهم فهو مضاد لصفة العزة، مباين للأعزاء، فتلزمه الذلة وتشمله على أي حال يكون، إلا برابطة ما بينه وبين أهل العزة كقوله: { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } أي: ذمة وعهد، وذلك يكون أمرا عارضيا لا أصل له مرتبطا برابطة مجعولة فلا تقابل صفتهم الذاتية اللازمة لهم التي هي الذلة الناشئة من أصل نفوسهم. واستحقوا غضبا شديدا من عند الله لبعدهم وإعراضهم عن الحق، ولزمتهم المسكنة لانقطاعهم عن الله إلى نفوسهم فوكلهم إلى أنفسهم.
[3.113-117]
{ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } أي: بالله، ثم وصفهم بأحوال أهل الاستقامة، أي منهم أهل التوحيد والاستقامة { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } أي: كل ما يصدر منكم مما يقربكم عند الله يتصل به جزاؤه ومنه لن تحرموا شيئا منه. قال الله تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني مشيا أتيته هرولة "
.. الحديث. وقال تعالى:
" أنا جليس من ذكرني، وأنيس من شكرني، ومطيع من أطاعني "
أي: كما أطعتموه بتصفية الاستعداد والتوجه نحوه، أطاعكم بإفاضة الفيض على حسبه والإقبال إليكم { والله عليم } بالذين اتقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب.
{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } الفانية ولذاتها السريعة الزوال، طلبا للشهوات أو رياء وسمعة في المفاخر، وطلب محمدة الناس، لا يطلبون به وجه الله، وما تهلكه وتفنيه بالكلية من ريح هوى النفس التي فيها برد دنياتكم الفاسدة وأغراضكم الباطلة كالرياء ونحوه { كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } بالشرك والكفر { فأهلكته } عقوبة من الله لظلمهم { وما ظلمهم الله } بإهلاك حرثهم { ولكن } كانوا أنفسهم يظلمون لأنه مسبب عن ظلمهم، كما قيل: مهلا فيداك، وكتا وفوك نفخ.
[3.118]
{ لا تتخذوا بطانة من دونكم } بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع عليه أسراره، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة ، متحابين في الله لا لغرض كما قيل في الأصدقاء: نفس واحدة في أبدان متفرقة، فإذا كان من غير أهل الإيمان فبأن يكون كاشحا أحرى. ثم بين نفاقه واستبطانه العداوة بقوله: { لا يألونكم خبالا } إلى آخره، إذ المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين، لكونها ظل الوحدة فلا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضاد والظلمة. فأين الصفاء والوفاق في عالمهم؟ بل ربما تتآلفهم الجنسية العامة الإنسانية لاشتراكهم في النوع والمنافع والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها، فإذا لم تتحصل أغراضهم من النفع واللذة تهارشوا وتباغضوا وبطلت الإلفة التي كانت بينهم، لكونها مسببة عن أمر قد تغير إذ النفس منشأ التغير والمنافع الدنيوية لا تبقى بحالها، واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها بخلاف المحبة الأولى، فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلا، هذا إذا كانت فيما بينهم، فكيف إذا كانت بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف؟ وأنى يتجانس النور والظلمة؟ ومن أين يتوافق العلو والسفل؟ فبينهما عداوة حقيقية وتخالف ذاتي لا تخفى آثاره كما بين الله تعالى بقوله: { قد بدت البغضاء من أفواههم } لامتناع اختفاء الوصف الذاتي. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما أضمر أحد شيئا إلا وأظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه "
{ وما تخفي صدورهم أكبر } لأنه نار وهذا شرار، ذاك أصل، وهذا فرعه { قد بينا لكم الآيات } دلائل المحبة والعداوة وأسبابهما { إن كنتم تعقلون } أي: تفهمون من فحوى الكلام.
[3.119]
{ ها أنتم أولاء تحبونهم } بمقتضى التوحيد، إذ الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق، ويراهم متصلين بنفسه اتصال الأحماء والأقرباء بل اتصال الأجزاء، فينظر إليهم بنظر الرحمة الإلهية والرأفة الربانية، ويعطف عليهم مترحما إذ يراهم أهل الرحمة شغلوا بالباطل، وابتلوا بالقدر ولا يحبونكم بمقتضى الحجاب والبقاء في ظلمة النفس وتضاد الطبع.
{ وتؤمنون بالكتاب } أي بجنس الكتاب { كله } لشمول علمكم التوحيدي، ولا يؤمنون للتقيد بدينهم والاحتجاب بما هم عليه { وإذا لقوكم قالوا آمنا } لنفاقهم المستجلب لأغراضهم العاجلة { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } لحقدهم الذاتي وبغضهم الكامن والباقي ظاهر.
[3.120-125]
{ وإن تصبروا } على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب، وتثبتوا على مقتضى التوحيد والطاعة { وتتقوا } الاستعانة بهم في أموركم والالتجاء إلى ولايتهم { لا يضركم كيدهم شيئا } لأن المتوكل على الله، الصابر على بلائه، المستعين به لا بغيره، ظافر في طلبته، غالب على خصمه، محفوظ بحسن كلاءة ربه، والمستعين بغيره مخذول موكول إلى نفسه، محروم عن نصرة ربه. كما قال الشاعر:
من استعان بغير الله في طلب
فإن ناصره عجز وخذلان
{ إن الله بما يعملون } من المكايد { محيط } فيبطلها ويهلكها، وقد قيل: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. فالصبر والتقوى من أجمل الفضائل إن لزمتموهما تظفروا على عدوكم.
{ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم } الآية... الصبر على مضض الجهاد وبذل النفس في طاعة الله، وتحمل المكروه طلبا لرضا الله لا يكون إلا عند التقوى بتأييد الحق وتنوره بنور اليقين، وثباته بنزول السكينة والطمأنينة عليه، والتقوى في مخالفة أمر الحق والميل إلى النفع والغنيمة، وخوف تلف النفس لا تكون إلا عند انكسار النفس تحت قهر سلطان القلب والروح، إذ الثبات والوقار صفة الروح والطيش، والاضطراب صفة النفس، فإذا استولى سلطان الروح على القلب وأخذ مملكته عصمه من استيلاء صفات النفس وجنودها عليه، فيعشقه القلب ويسكن إليه لنورانيته المحبوبة لذاتها ويتقوى به على النفس وقواها فيهزمها ويكسرها ويدفع غلبتها وظلمتها عن نفسه، ويجعلها ذلولا مطيعة مطمئنة إليه فيزول عنها الاضطراب وتتنور بنوره وعند ذلك تنزل الرحمة، ويناسب القلب ملكوت السماء في نورانيتها وقهرها لما تحتها، ومحبتها وشوقها لما فوقها. وبذلك التناسب يصل بها ويستنزل قواها وأوصافها في أفعاله خصوصا عند اهتياجه وانقلاعه عن الجهة السفلية، وانقطاعه بقوة اليقين والتوكل إلى الجهة العلوية. ويستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه فذلك نزول الملائكة، وإذا جزع وهلع وتغير وخاف أو مال إلى الدنيا غلبته النفس وقهرته واستولت عليه وحجبته بظلمة صفاتها عن النور، فلم تبق تلك المناسبة، فانقطع المدد ولم تنزل الملائكة.
[3.126-132]
{ وما جعله الله إلا بشرى لكم } أي: ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم في التوجه إلى الحق والتجريد للسلوك { ولتطمئن به قلوبكم } فتتحقق الفيض بقدر التصفية والخلف بقدر الترك.
{ وما النصر إلا من عند الله } لا من الملائكة ولا من غيرهم، فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة، ولا بالخلق عن الحق، فإنها مظاهر لا حقيقة لها ولا تأثير، { العزيز } القوي الغالب بقهره { الحكيم } الذي ستر قهره ونصرته بصور الملائكة بحكمته.
{ ليقطع طرفا من الذين كفروا } يقتل بعضهم تقوية للمؤمنين { أو يكبتهم } يخزيهم ويذلهم بالهزيمة إعزازا للمؤمنين { أو يتوب عليهم } بالإسلام تكثيرا لسواد المؤمنين { أو يعذبهم } بسبب ظلمهم وإصرارهم على الكفر تفريحا للمؤمنين. وأوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله: { ليس لك من الأمر في شيء } اعتراضا لئلا يغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور، فيحتجب عن التوحيد ولا يزول، وتتغير شهوده في الأقسام كلها، أي: ليس لك من أمرهم شيء كيفما كان، ما أنت إلا بشر مأمور بالإنذار، إن عليك إلا البلاغ، إنما أمرهم إلى الله.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا } أي: توكلوا على الله في طلب الرزق فلا تكسبوه بالربا، فإنه واجب عليكم كما يجب عليكم التوكل عليه في طلب الفتح وجهاد العدو لئلا تجبنوا بكلاءة الله وحفظه. واعلموا أن جزاء المرابي هو جزاء الكافر، فاحذروه لكونه محجوبا عن أفعاله تعالى كما أن الكافر محجوب عن صفاته وذاته، والمحجوب غير قابل للرحمة وإن اتسعت، فارفعوا الحجاب بالطاعة وترك المخالفة كي تدرككم رحمة الله.
[3.133-134]
{ وسارعوا إلى } ستر أفعالكم التي هي حجابكم عن مشاهدة أفعال الحق بأفعاله تعالى، فإنما حرمتم عن التوكل وجنة عالم الملك التي هي تجلي الأفعال برؤية أفعالكم، أي: إلى ما يوجب ستر أفعالكم بأفعاله، وجنة الأفعال من الطاعات بعد كما ورد:
" أعوذ بعفوك من عقابك "
ولأن المراد بالجنة هنا جنة الأفعال، وصف عرضها بمساواة عرض السموات والأرض، إذ توحيد الأفعال هو توحيد عالم الملك وإنما قدر طولها لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية، وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي يتقدره الناس. وأما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدرها، إذ الفعل مظهر الوصف، والوصف مظهر الذات، فلا نهاية له ولا حد. فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا عرض هذه الجنة، وأما البارزون لله الواحد القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حد لطولها فلا يقدر قدرها طولا ولا عرضا.
{ أعدت للمتقين } الذين يتقون حجب أفعالهم وشرك نسبة الأفعال إلى غير الحق. { الذين ينفقون في السراء والضراء } لا تمنعهم الأحوال المضادة عن الإنفاق لصحة توكلهم على الله برؤية جميع الأفعال منه { والكاظمين الغيظ } لذلك أيضا، إذ يرون الجناية عليهم فعل الله فلا يعترضون، ولو لم يغيظوا كانوا في مقام الرضا وجنة الصفات { والعافين عن الناس } لما ذكرنا، ولتعوذهم بعفوه تعالى عن عقابه { والله يحب المحسنين } الذين يشاهدون تجليات أفعاله تعالى.
[3.135-136]
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } كبيرة من الكبائر، برؤية أفعالهم صادرة عن قدرتهم { أو ظلموا أنفسهم } نقصوا حقوقها بارتكاب الصغائر وظهور أنفسهم فيها { ذكروا الله } في صدور أفعالهم برؤيتها واقعة بقدرة الله وتبرأ عنها إليه لرؤيتهم ابتلاءه إياهم بها { فاستغفروا } طلبوا ستر أفعالهم التي هي ذنوبهم بأفعاله بالتبري عن الحول والقوة إليه { ومن يغفر الذنوب } أي وجودات الأفعال { إلا الله } أي علموا أن لا غافر إلا هو { ولم يصروا على ما فعلوا } في غفلتهم وحالة ظهور أنفسهم، بل تابوا ورجعوا إليه في أفعالهم { وهم يعلمون } أن لا فعل إلا الله { ونعم أجر العاملين } بمقتضى توحيد الأفعال.
[3.137-142]
{ قد خلت من قبلكم } بطشات ووقائع مما سنه الله في أفعاله بالذين كذبوا بالأنبياء في توحيد الأفعال { فسيروا في الأرض فانظروا } في آثارها فتعلموا كيف كان عاقبتهم { هذا } الذي ذكر { بيان للناس } من علم توحيد الأفعال وتفصيل المتقين الذين هم أهل التمكين في ذلك، والتائبين الذين هم أهل التلوين، والمصرين المحجوبين عنه المكذبين به، وزيادة هدى وكشف عيان وتثبت واتعاظ للذين اتقوا رؤية أفعالهم أو هدى لهم إلى توحيد الصفات والذات. { ولا تهنوا } في الجهاد عند استيلاء الكفار { ولا تحزنوا } على ما فاتكم من الفتح وما جرح واستشهد من إخوانكم { وأنتم الأعلون } في الرتبة لقربكم من الله وعلو درجتكم بكونكم أهل الله { إن كنتم } موحدين، لأن الموحد يرى ما يجري عليه من البلاء من الله فأقل درجاته الصبر إن لم يكن رضا يتقوى به فلا يحظن ولا يهن { الأيام } الوقائع وكل ما يحدث من الأمور العظيمة يسمى يوما وأياما، كما قال تعالى:
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم، الآية: 5] وقد مر تفسير { وليعلم الله } من ظهور العلم التفصيلي التابع لوقوع المعلوم.
{ ويتخذ منكم شهداء } الذين يشهدون للحق فيذهلون عن أنفسهم، أي: نداول الوقائع بين الناس لأمور شتى وحكم كثيرة، غير مذكورة، من خروج ما في استعدادهم إلى الفعل من الصبر والجلد وقوة اليقين، وقلة المبالاة بالنفس، واستيلاء القلب عليها، وقمعها وغير ذلك. ولهذين العلتين المذكورتين ولتخليص المؤمنين من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله بالعقوبة والبلية إذا كانت عليهم، ومحق الكافرين وقهرهم وتدميرهم إذا كانت لهم. وقد اعترض بين العلل قوله: { والله لا يحب الظالمين } ليعلم أن من ليس على صفة الإيمان والشهادة وتمحيص الذنوب وقوة الثبات لكمال اليقين، بل حضر القتال لطلب الغنيمة أو لغرض آخر فهو ظالم والله لا يحبه.
[3.143-144]
{ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } الآية، كل موقن إذا لم يكن يقينه ملكة بل كان خطرات، فهو في بعض أحواله يتمنى أمورا ويدعي أحوالا بحسب نفسه دائما، وكذلك حال غير اليقين وعند إقبال القلب هو صادق ما دام موصوفا بحاله. أما في غير تلك الحالة، وعند الإدبار، فلا يبقى من ذلك أثر وكذا كل من لم يشاهد حالا ولم يمارسه، ربما يتمناه لتصوره في نفسه وعدم تضرره به حال التصور. أما في حال وقوعه وابتلائه فلا يطيق تحمل شدائده كما حكي عن سمنون المحب رحمه الله لما قال في أبياته:
فكيفما شئت فاختبرني
فابتلي بالأسر، فلم يطق، فكان يتردد في الطرق ويرضخ إلى الصبيان ما يلعبون به كالجوز، ويقول: ادعوا على عمكم الكذاب. وفي هذا المعنى قال الشاعر:
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
فلا يلتفت بحال إلا إذا صار مقاما، ولا يعتبر مقاما إلا إذا امتحن في مواطنه، فإذا خلص من الامتحان فقد صح وهذا أحد فوائد مداولة الأيام بينهم ليتمرنوا بالموت ويتقوى يقينهم ويتوفر صبرهم ويتحقق مقامهم بالمشاهدة كما قال: { فقد رأيتموه } من قتل إخوانكم بين أيديكم { وأنتم } تشاهدون ذلك. وفيه توبيخ لهم على أن يقينهم كان حالا لا مقاما، ففشلوا في الموطن.
{ وما محمد إلا رسول } أي: إنه رسول بشر، سيموت أو يقتل كحال الأنبياء قبله، فمن كان على يقين من دينه فبصيرة من ربه لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا يفتر عما كان عليه، لأنه يجاهد لربه لا للرسول كأصحاب الأنبياء السالفين. وكما قال أنس عم أنس بن مالك يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاع الخبر، وانهزم المسلمون، وبلغ إليه تقاول بعضهم: ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقول المنافقين: لو كان نبيا ما قتل!، يا قوم، إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد حي لا يموت!، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل. { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } إنما ضر نفسه بنفاقه وضعف يقينه { وسيجزي الله الشاكرين } لنعمة الإسلام، كأنس بن النضر وأضرابه من الموقنين.
[3.145-151]
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا } فمن كان موقنا شاهد هذا المعنى، فكان من أشجع الناس كما حكى حاتم بن الأصم عن نفسه أنه شهد مع الشقيق البلخي رحمهما الله، بعض غزوات خراسان. قال: فلقيني شقيق وقد حمى الحرب، فقال: كيف تجد قلبك يا حاتم؟ قلت: كما كان ليلة الزفاف، بين الحالين . فوضع سلاحه وقال: أما أنا فهكذا. ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى سمعت غطيطه. وهذا غاية في سكون القلب إلى الله ووثوقه به لقوة اليقين { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } الآية، جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم، لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس من وقوع ظل الوحدة عليها عند تنورها بنور القلب المنور بنور الوحدة، فلا تكون تامة حقيقة إلا للموحد الموقن في توحيده. وأما المشرك فلأنه محجوب عن منبع القوة والقدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم لإمكانه الخفي الوجود، الضعيف، الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة ولا وجود ولا ذات في الحقيقة، ولم ينزل الله بوجوده حجة لوجوده أصلا لتحقق عدمه بحسب ذاته، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل، إذ لا يكون أقوى من معبوده وإن اتفقت له دولة أو صولة أو شوكة فشيء لا أصل له ولا ثبات ولا بقاء كنار العرفج مثلما كانت دولة المشركين.
[3.152-153]
{ ولقد صدقكم الله وعده } أي: وعدكم النصر إن تصبروا وتتقوا، فما دمتم على حالكم من قوة الصبر على الجهاد وتيقن النصر والثبات على اليقين واتفاق الكلمة بالتوجه إلى الحق والاتقاء عن مخالفة الرسول وميل النفوس إلى زخرف الدنيا والإعراض عن الحق، مجاهدين لله لا للدنيا، كان الله معكم بالنصر، وإنجاز الوعد، وكنتم تقطعونهم بإذنه وتهزمونهم { حتى إذا فشلتم } أي: جبنتم بدخول الضعف في يقينكم وفساد اعتقادكم في حق نفسه بتجويز غلوله في الغنيمة { وتنازعتم } في أمر الحرب بعد الاتفاق وما صبرتم عن حظ الدنيا، وعصيتم الرسول بترك ما أمركم به من ملازمة المركز، وملتم إلى زخرف الدنيا { من بعد ما أراكم ما تحبون } من الفتح والغنيمة وحان زمان شكركم لله، وشدة إقبالكم عليه، فذهلتم عنه، فكان أشرفكم يريد الآخرة والباقون يريدون الدنيا، ولم يبق فيكم من يريد الله منعكم نصره { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } بما فعلتم فكان الابتلاء لطفا بكم وفضلا { والله ذو فضل على المؤمنين } في الأحوال كلها، إما بالنصرة وإما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف خفي ليعلموا أن أحوال العباد جالبة لظهور أوصاف الحق عليهم فما أعدوا له نفوسهم موهوب لهم من عند الله كما مر في قوله: " مطيع من أطاعني ". كما يكونون مع الله يكون الله معهم، ولئلا يناموا إلى الأحوال دون المسلكات، وليتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكا لهم، ومقاما، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يذهلوا عن الحق، ولا يبيعوه بالدنيا والآخرة، وليكون عقوبة عاجلة للبعض فيتمحصوا عن ذنوبهم وينالوا درجة الشهادة برفع الحجب، خصوصا حجاب محبة النفس، فيلقوا الله طاهرين. ولهذا قال تعالى:
ولقد عفا عنكم
[آل عمران: 152]، إذ الابتلاء كان سبب العفو.
{ فأثابكم غما بغم } أي: صرفكم عنهم فجازاكم غما بسبب غم لحق رسول الله من جهتكم، بعصيانكم إياه، وفشلكم وتنازعكم، أو غما بعد بغم أي: غما مضاعفا لتتمرنوا بالصبر على الشدائد والثبات فيها، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم فلا { تحزنوا على ما فاتكم } من الحظوظ والمنافع { ولا ما أصابكم } من الغموم والمضار.
[3.154]
{ ثم } خلى عنكم الغم بالأمن وإلقاء النعاس على الطائفة الصادقين دون المنافقين الذين { أهمتهم أنفسهم } لا نفس الرسول ولا الذين وافقوا علامة للعفو { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } لقوله تعالى:
مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ
[الحديد، الآية: 22].
{ وليبتلي الله ما في صدوركم } أي: وليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص واليقين والصبر والتوكل والتجرد وجميع الأخلاق والمقامات، ويخرجها من القوة إلى الفعل { وليمحص ما في قلوبكم } أي: وليخلص ما برز منها من مكمن الصدر إلى مخزون القلب من عثرات وساوس الشيطان ودناءة الأحوال وخواطر النفس، فعل ذلك فإن البلاء سوط من سياط الله يسوق به عباده إليه بتصفيتهم عن صفات نفوسهم وإظهار ما فيهم من الكمالات، وانقطاعهم عنده من الخلق ومن النفس إلى الحق. ولهذا كان متوكلا بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانا لفضله:
" ما أوذي نبي مثل ما أوذيت "
، كأنه قال: ما صفى نبي مثل ما صفيت. ولقد أحسن من قال:
لله در النائبات فإنها
صدأ اللئام وصيقل الأحرار
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان.
[3.155]
{ استزلهم } أي: طلب منهم الزلة ودعاهم إليها، وهي زلة التولي { ببعض ما كسبوا } من الذنوب. فإن الشيطان إنما يقدر على وسوسة الناس وإنفاذ أمره إذا كان له مجال بسبب أدنى ظلمة في القلب، حادثة من ذنب، وحركة من النفس كما قيل: الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول. { ولقد عفا الله عنهم } بالاعتذار والندم.
[3.156-160]
{ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } أي: يجعل ذلك القول والاعتقاد ضيقا وضنكا وغما في قلوبهم لرؤيتهم القتل والموت مسببا عن فعل، ولو كانوا موقنين موحدين لرأوا أنه من الله، فكانوا منشرحي الصدور { والله يحيي } من يشاء في السفر والجهاد وغيره { ويميت } من يشاء في الحضر وغيره { لمغفرة من الله ورحمة } أي: لنعيمكم الأخروي من جنة الأفعال وجنة الصفات خير لكم من الدنيوي لكونكم عاملين للآخرة و { لإلى الله تحشرون } لمكان توحيدكم، فحالكم فيما بعد الموت أحسن من حالكم قبله.
{ فبما رحمة من الله } أي فباتصافك برحمة رحيمية، أي: رحمة تامة، كاملة، وافرة، هي صفة من جملة صفات الله، تابعة لوجودك الموهوب الإلهي لا الوجود البشري { لنت لهم ولو كنت فظا } موصوفا بصفات النفس التي منها الفظاظة والغلظة { لانفضوا من حولك } لأن الرحمة الإلهية الموجبة لمحبتهم إياك تجمعهم { فاعف عنهم } فيما يتعلق بك من جنايتهم لرؤيتك إياه من الله بنظر التوحيد وعلو مقامك من التأذي بفعل البشر، والتغيظ من أفعالهم، وتشفي الغيظ بالانتقام منهم { واستغفر لهم } فيما يتعلق بحق الله لمكان غفلتهم وندامتهم واعتذارهم { وشاورهم } في أمر الحرب وغيره مراعاة لهم واحتراما، ولكن إذا عزمت ففوض الأمر إلى الله بالتوكل عليه ورؤية جميع الأفعال والفتح والنصر والعلم بالأصلح والأرشد منه، لا منك، ولا ممن تشاوره. ثم حقق معنى التوكل والتوحيد في الأفعال بقوله: { إن ينصركم الله } إلى آخره.
[3.161-169]
{ وما كان لنبي أن يغل } لبعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل، وامتناع صدور ذلك منهم مع كونهم منسلخين عن صفات البشرية، معصومين عن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم، قائمين بالله متصفين بصفاته { يأت بما غل } أي: يظهر على صورة غلوله بما غل بعينه.
{ أفمن اتبع رضوان الله } أي: النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات، لاتصافه بصفات الله، والغال في مقام السخط لاحتجابه بصفات نفسه { ومأواه } أسفل حضيض النفس المظلمة، فهل يتشابهان؟ { هم درجات } أي: كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات أو هم مختلفون اختلاف الدرجات { قل هو من عند أنفسكم } لا ينافي قوله تعالى:
قل كل من عند الله
[النساء، الآية: 78] لأن السبب الفاعلي في الجميع هو الحق تعالى، والسبب القابلي أنفسهم، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه، وباعتبار الفاعل يكون من عند الله، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم. واستعداد الأنفس إما أصلي وإما عارضي، والأصلي من فيضه الأقدس على مقتضى مشيئته، والعارضي من اقتضاء قدره. فهذا الجانب أيضا ينتهي إليه، ومن وجه آخر ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله نظرا إلى التوحيد، إذ لا غير ثمة { وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } أي: وليتميز المؤمنون والمنافقون في العلم التفصيلي.
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } سواء كان قتلهم بالجهاد الأصغر، وبذل النفس طلبا لرضا الله، أو بالجهاد الأكبر، وكسر النفس، وقمع الهوى بالرياضة { أمواتا بل أحياء عند ربهم } بالحياة الحقيقية مجردين عن دنس الطبائع، مقربين في حضرة القدس { يرزقون } من الأرزاق المعنوية، أي المعارف والحقائق واستشراق الأنوار، ويرزقون في الجنة الصورية كما يرزق سائر الأحياء. فإن للجنان مراتب بعضها معنوية وبعضها صورية، ولكل من المعنوية والصورية درجات على حسب الأعمال، فالمعنوية جنة الذات وجنة الصفات وتفاضل درجاتها على حسب تفاضل درجات أهل الجبروت والملكوت، والصدورية جنة الأفعال وتفاوت درجاتها على حسب تفاوت درجات عالم الملك من السموات العلى، وجنات الدنيا وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
" لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، تدور في أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، معلقة في ظل العرش "
فالطير الخضر: إشارة إلى الأجرام السماوية، والقناديل هي الكواكب، أي تعلقت بالنيرات من الأجرام السماوية لنزاهتها، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها، وثمارها الأحوال والمعارف والأنهار، والثمار الصورية على حسب جنتهم المعنوية أو الصورية. فإن كل ما وجد في الدنيا من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس وسائر الملاذ والمشتهيات، موجود في الآخرة وفي طبقات السماء ألذ وأصفى مما في الدنيا.
[3.170-172]
{ فرحين بما آتاهم الله من فضله } من الكرامة والنعمة والقرب عند الله { ويستبشرون } بحال إخوانهم { الذين لم يلحقوا بهم من من خلفهم } ولم ينالوا درجاتهم بعد من خلفهم لاستسعادهم عن قريب بمثل حالهم ولحوقهم بهم { ألا خؤف عليهم ولا هم يحزنون } بدل اشتمال من الذين، أي: يستبشرون بأنهم آمنوا، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون { يستبشرون بنعمة } أي: أمنهم بنعمة عظيمة لا يعلم كنهها، هي جنة الصفات بحصول مقام الرضوان المذكورة بعده لهم { وفضل } وزيادة عليها هي جنة الذات والأمن الكلي من بقية الوجود وذلك كمال كونهم شهداء لله، ومع ذلك فإن الله لا يضيع أجر إيمانهم الذي هو جنة الأفعال وثواب الأعمال. { الذين استجابوا لله } بالفناء في الوحدة الذاتية { والرسول } بالمقام بحق الاستقامة { من بعد ما أصابهم القرح } أي: كسر النفس { للذين أحسنوا منهم } أي: ثبتوا في مقام المشاهدة { واتقوا } بقاياهم { أجر عظيم } وراء الإيمان هو روح المشاهدة.
[3.173-178]
{ الذين قال لهم الناس } قبل الوصول إلى المشاهدة { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } أي: اعتبروا لوجودكم واعتدوا بكم فاعتدوا بهم { فزادهم } ذلك القول { إيمانا } أي: يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به، وتوصلوا بنفي ما سوى الله إلى إثباته بقولهم { حسبنا الله } فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة فقالوا: { ونعم الوكيل } وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار فصارت بردا وسلاما عليه { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } أي: رجعوا بالوجود الحقاني في جنة الصفات والذات كما مر آنفا { لم يمسسهم سوء } البقية ورؤية الغير.
{ و } هم { اتبعوا رضوان الله } الذي هو جنة الصفات في حال سلوكهم حين لم يعلموا ما أخفي لهم من قرة أعين وهي جنة الذات المشار إليها بقوله: { والله ذو فضل عظيم } فإن الفضل هو المزيد على الرضوان { يخوف أولياءه } المحجوبين بأنفسهم مثله من الناس أو يخوفكم أولياءه { فلا تخافوهم } ولا تعتدوا بوجودهم { وخافون إن كنتم } موحدين، أي لا تخافوا غيري لعدم عينه وأثره { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية خوف أن يضروك { إنهم لن يضروا الله شيئا } إملاء الكفار وطول حياتهم سبب لشدة عذابهم وغاية هوانهم وصغارهم لازديادهم بطول عمرهم حجابا على حجاب، وبعدا على بعد. وكلما ازدادوا بعدا عن الحق الذي هو منيع العزة ازدادوا هوانا.
[3.179-180]
{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان { حتى يميز الخبيث } من صفات النفس وشكوك الوهم وحظوظ الشيطان، ودواعي الهوى من طيبات صفات القلب كالإخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدات الروح ومناغيات السر ومسامراته، وتخلص المعرفة والمحبة لله بالابتلاء ووقوع الفتن والمصائب بينكم.
{ وما كان الله ليطلعكم على } غيب وجودكم من الحقائق والأحوال الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول لبعد ما بينكم وبينه وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } فيطلعه على أسراره وحقائقه بالكشف ليهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية النفسانية التي بينه وبينكم، الموجبة لإمكان اهتدائكم به { فآمنوا بالله ورسله } بالتصديق القلبي والإرادة والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي والقبول منهم { وإن تؤمنوا } بعد ذلك الإيمان بالتحقيق والسلوك إلى اليقين والمتابعة في الطريقة { وتتقوا } الحجب النفسانية وموانع السلوك { فلكم أجر عظيم } من كشف الحقيقة { بما أتاهم الله من فضله } من المال والعلم والقدرة والنفس ولا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين والمستعدين والأنبياء والصديقين في الذب عنهم أو الفناء في الله { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } أي: يجعل غل أعناقهم وسبب تقييدهم وحرمانهم عن روح الله ورحمته وموجب هوانهم وحجابهم عن نور جماله لمحبتهم له وتعلقهم به { ولله ميراث السموات والأرض } من النفوس وصفاتها كالقوى والقدر والعلوم والأموال وكل ما ينطبق عليه اسم الوجود فما لهم يبخلون بماله عنه.
[3.181-187]
{ لقد سمع الله } إلى قوله { إن كنتم صادقين } روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله فتأتي نار من السماء تأكله. وتأويله: أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله ويدعون الله بالزهد والعبادة، فتأتي نار العشق من سماء الروح تأكله وتفنيه في الوحدة، فبعد ذلك صحت نبوتهم وظهرت فسمع به عوام بني إسرائيل فاعتقدوا ظاهره، وإن كان ممكنا من عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية كما توهموا من إقراض الله الذي هو بذل المال في سبيل الله بالإنفاق لاستيفاء الثواب وبذل الأفعال والصفات بالمحو في السلوك لاستبدال صفات الحق وأفعاله وتحصيل مقام الإبدال، فقر الحق وغناهم، أو كابروا الأنبياء في الموضعين بعدما فهموا.
[3.188-191]
{ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } أي: يعجبوا بما فعلوا من طاعة وإيثار، وكل حسنة من الحسنات، ويحجبون برؤيته { ويحبون أن يحمدوا } أي: يحمدهم الناس، فهم محجوبون بعرض الحمد والثناء من الناس، أو أن يكونوا محمودين في نفس الأمر عند الله { بما لم يفعلوا } بل فعله الله على أيديهم إذ لا فعل إلا لله،
والله خلقكم وما تعملون
[الصافات، الآية: 96] فائزين من عذاب الحرمان { ولهم عذاب أليم } لمكان استعدادهم واحتجابهم عما فيه، وكان من حقهم أن ينسبوا الفضيلة والفعل الجميل إلى الله ويتبرأوا عن حولهم وقوتهم إليه ولا يحتجبوا برؤية الفعل من أنفسهم، ولا يتوقعوا به المدح والثناء.
{ ولله ملك السموات والأرض } ليس لأحد فيها شيء حتى يعطي غيره فيعجب بعطائه { والله على كل شيء قدير } لا يقدر غيره على فعل ما، حتى يعجب برؤيته، فيفرح به فرح إعجاب .
{ الذين يذكرون الله } في جميع الأحوال وعلى جميع الهيئات { قياما } في مقام الروح بالمشاهدة { وقعودا } في محل القلب بالمكاشفة { وعلى جنوبهم } أي: تقلباتهم في مكان النفس بالمجاهدة { ويتفكرون } بألبابهم أي: عقولهم الخالصة عن شوب الوهم { في خلق } عالم الأرواح والأجساد. يقولون عند الشهود { ربنا ما خلقت هذا } الخلق { باطلا } أي: شيئا غيرك، فإن غير الحق هو الباطل، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك { سبحانك } ننزهك أن يوجد غيرك، أي: يقارن شيء فردانيتك أو يثني وحدانيتك { فقنا عذاب } نار الاحتجاب بالأكوان عن أفعالك، وبالأفعال عن صفاتك، وبالصفات عن ذاتك وقاية مطلقة تامة كافية.
[3.192-195]
{ ربنا إنك من تدخل النار } بالحرمان { فقد أخزيته } بوجود البقية التي كلها ذل وعار وشنار { وما للظالمين } الذين أشركوا برؤية الغير مطلقا أو البقية { من أنصار } { ربنا إننا سمعنا } بأسماع قلوبنا { مناديا } من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن { ينادي } إلى الإيمان العياني { أن آمنوا بربكم } أي: شاهدوا ربكم، فشاهدنا { ربنا فاغفر لنا } ذنوب صفاتنا بصفاتك { وكفر عنا } سيئات أفعالنا برؤية أفعالك { وتوفنا } عن ذواتنا في صحبة الأبرار من الأبدال الذين تتوفاهم بذاتك عن ذواتهم، لا الأبرار الباقين على حالهم في مقام محو الصفات غير المتوفين بالكلية { ربنا وآتنا ما وعدتنا على } اتباع { رسلك } أو محمولا على رسلك من البقاء بعد الفناء، والاستقامة بالوجود الموهوب بعد التوحيد { ولا تخزنا يوم القيامة } الكبرى ووقت بروز الخلق لله الواحد القهار بالاحتجاب بالوحدة عن الكثرة، وبالجمع عن التفصيل { إنك لا تخلف الميعاد } فتبقى مقاما وراءنا لم نصل إليه.
{ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر } القلب من الأعمال القلبية كالإخلاص واليقين والكشف { أو أنثى } النفس من الأعمال القالبية، كالطاعات والمجاهدات والرياضات { بعضكم من بعض } يجمعكم أصل واحد وحقيقة واحدة هي الروح الإنسانية، أي: بعضكم منشأ من بعض، فلا أثيب بعضكم وأحرم بعضا { فالذين هاجروا } عن أوطان مألوفات النفس { وأخرجوا من } ديار صفاتها أو هاجروا من أحوالهم التي التذوا بها، وأخرجوا من مقاماتهم التي يسكنون إليها { وأوذوا في سبيلي } أي: ابتلوا في سبيل سلوك أفعالي بالبلايا والمحن والشدائد والفتن ليتمرنوا بالصبر، ويفوزوا بالتوكل في سبيل سلوك صفاتي بسطوات تجليات الجلال والعظمة والكبرياء ليصلوا إلى الرضا { وقاتلوا } البقية بالجهاد في { وقتلوا } وأفنوا في بالكلية { لأكفرن عنهم سيئاتهم } كلها من الصغائر والكبائر، أي: سيئات بقاياهم { ولأدخلنهم } الجنات الثلاثة المذكورة { ثوابا } أي: عوضا لما أخذت منهم من الموجودات الثلاثة { والله عنده حسن الثواب } أي: لا يكون عند غيره الثواب المطلق الذي لا يبقى منه شيء، ولهذا قال: والله، لأنه الاسم الجامع لجميع الصفات، فلم يحسن أن يقول: والرحمن، في هذه الموضع أو اسم آخر غير اسم الذات.
[3.196-200]
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا } أي: حجبوا عن التوحيد الذي هو دين الحق في المقامات والأحوال.
{ متاع قليل } أي: هو يعني الاحتجاب بالمقامات والتقلب فيها تمتع قليل { ثم مأواهم جهنم } الحرمان { وبئس المهاد } { لكن الذين اتقوا ربهم } من المؤمنين، أي: تجردوا عن الوجودات الثلاثة، لهم الجنات الثلاث، { نزلا } معدا { من عند الله } { وإن من أهل الكتاب } أي: المحجوبين عن التوحيد، والمذكورين بصفة التقلب في الأحوال والمقامات { لمن يؤمن بالله } أي: يتحقق بالتوحيد الذاتي { وما أنزل إليكم } من علم التوحيد والاستقامة { وما أنزل إليهم } من علم المبدأ والمعاد { خاشعين لله } قابلين لتجلي الذات.
{ لا يشترون بآيات الله } التي هي تجليات صفاته ثمن البقية الموصوف بالقلة { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } من الجنان المذكورة { إن الله سريع الحساب } يحاسبهم ويجازيهم فيعاقب على بقايا من بقي منهم شيء، أو يثيب بنفي البقايا على حسب درجاتهم في المواطن الثلاثة.
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا } لله { وصابروا } مع الله { ورابطوا } بالله، أي: اصبروا في مقام النفس بالمجاهدة، وصابروا في مقام القلب مع سطوات تجليات صفات الجلال بالمكاشفة، ورابطوا في مقام الروح ذواتكم بالمشاهدة حتى لا يغلبكم فترة أو غفلة أو غيبة بالتلوينات { واتقوا الله } في مقام الصبر عن المخالفة والرياء، وفي المصابرة عن الاعتراض والامتلاء وفي المرابطة عن البقية والجفاء لكي تفلحوا الفلاح الحقيقي السرمدي الذي لا فلاح وراءه ، إن شاء الله.
[4 - سورة النساء]
[4.1]
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم } احذروه في انتحال صفته عند صدور الخيرات منكم، واتخذوا الصفة وقاية لكم في صدور ما صدر منكم من الخير، وقولوا صدر عن القادر المطلق { الذي خلقكم من نفس واحدة } هي النفس الناطقة الكلية، التي هي قلب العالم، وهو آدم الحقيقي { وجعل منها زوجها } أي: النفس الحيوانية الناشئة منها. وقيل: إنها خلقت من ضلعه الأيسر من الجهة التي تلي عالم الكون، فإنها أضعف من الجهة التي تلي الحق، ولولا زوجها لما أهبط إلى الدنيا. كما اشتهر أن إبليس سول لها أولا فتوسل بإغوائها إلى إغواء آدم ولا شك في أن التعلق البدني لا يتهيأ إلا بواسطتها { وبث منهما رجالا كثيرا } أي: أصحاب قلوب ينزعون إلى أبيهم { ونساء } أصحاب نفوس وطبائع ينزعون إلى أمهم { واتقوا الله } في ذاته عن إثبات وجودكم، واجعلوه وقاية لكم عند ظهور البقية منكم في الفناء في التوحيد حتى لا تحتجبوا برؤية الفناء { الذي تساءلون به } لا بكم { والأرحام } أي: احذروا الأرحام الحقيقية، أي أقربة المبادئ العالية من المفارقات وأرواح الأنبياء والأولياء في قطعها بعدم المحبة، واجعلوها وقاية لكم في حصول سعاداتكم وكمالاتكم، فإن قطع الرحم بفقد المحبة، توجه عن الاتصال والوحدة إلى الانفصال والكثرة، وهو المقت الحقيقي والبعد الكلي عن جناب الحق تعالى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" صلة الرحم تزيد في العمر "
، أي: توجب دوام البقاء. واعلم أن الرحم من الظاهر صورة الاتصال الحقيقي في الباطن، وحكم الظاهر في التوحيد كحكم الباطن، فمن لا يقدر على مراعاة الظاهر فهو أحرى بأن لا يقدر على مراعاة الباطن { إن الله كان عليكم رقيبا } يراقبكم لئلا تحتجبوا عنه بظهور صفة من صفاتكم، أو بقية من بقاياكم فتتعذبوا.
[4.2-30]
{ وآتوا اليتامى } يتامى قواكم الروحانية، المنقطعين عن تربية الروح القدسي الذي هو أبوهم { أموالهم } أي: معلوماتهم وكمالاتهم، وربوهم بها { ولا تتبدلوا الخبيث } من المحسوسات والخياليات والوساوس ودواعي الوهم وسائر قوى النفس التي هي أموالها { بالطيب } من أموالهم { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } أي: لا تخلطوها بها، فيشتبه الحق بالباطل وتستعملوها في تحصيل لذاتكم الحسية وكمالاتكم النفسية، فتنتفعوا بها في مطالبكم الخسيسة الدنيوية وتجعلوها غذاء نفوسكم { إنه كان حوبا كبيرا } حجبة وحرمانا.
[4.31-36]
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } من إثبات الغير في الوجود الذي هو الشرك ذاتا وصفة وفعلا، فإن أكبر الكبائر إثبات وجود غير وجوده تعالى كما قيل:
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
ثم إثبات الإثنينية في الذات بإثبات زيادة الصفات عليها، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام. وكما قال: " الإخلاص له نفي الصفات عنه ".
{ نكفر عنكم سيئاتكم } بظهور النفس والقلب بصفة من صفاتها أحيانا، فإنها بعد ظهور نور التوحيد لا تثبت { وندخلكم مدخلا كريما } أي: حضرة عين الجمع لا كرم إلا فيها { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } من الكمالات المرتبة بحسب الاستعدادات الأولية، فإن كل استعداد يقتضي بهويته في الأزل كمالا وسعادة تناسبه، وحصول ذلك الكمال الخاص لغيره محال. ولذلك ذكر بلفظ التمني الذي هو طلب ما يمتنع حصوله للطالب لامتناع سببه { للرجال } أي: الأفراد الواصلين { نصيب مما اكتسبوا } بنور استعدادهم الأصلي { وللنساء } أي: الناقصين القاصرين عن الوصول { نصيب مما اكتسبن } بقدر استعدادهن { واسألوا الله من فضله } أي: اطلبوا منه إفاضة كمال يقتضيه استعدادكم بالتزكية والتصفية حتى لا يحول بينكم وبينه فتحتجبوا وتتعذبوا بنيران الحرمان منه { إن الله كان بكل شيء } مما يخفى عليكم، كامنا في استعدادكم بالقوة { عليما } فيجيبكم بما يليق بكم كما قال:
وآتاكم من كل ما سألتموه
[إبراهيم، الآية: 34] أي: بلسان الاستعداد الذي ما دعاه أحد به إلا أجاب، كما قال:
ادعوني أستجب لكم
[غافر، الآية: 60].
{ واعبدوا الله } خصصوه بالتوجه إليه، والفناء فيه، الذي هو غاية التذلل { ولا تشركوا به شيئا } بإثبات وجوده { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بالروح والنفس اللذين تولد القلب منهما وهو حقيقتكم، لستم إلا إياه، ووفوا حقوقهما وراعوهما حق المراعاة بالاستفاضة من الأول، والتوجه إليه بالتسليم والتعظيم وتزكية الثانية، وحفظها من أدناس محبة الدنيا، والتذلل بالحرص والشره وأمثالهما، ومن شر الشيطان وعداوته إياها وأعينوها بالرأفة والحمية بتوفير حقوقها عليها، ومنع الحظوظ عنها { وبذي القربى } الذي يناسبكم في الحقيقة بحسب القرب في الاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية { واليتامى } المستعدين المنقطعين عن نور الروح القدسي الذي هو الأب الحقيقي، بالاحتجاب عنه { والمساكين العاملين الذين لا مال لهم، أي: لا حظ من العلوم والمعارف والحقائق، فسكنوا ولم يقدروا على المسير وهم السعداء الصالحون الذين مآلهم إلى جنة الأفعال.
{ والجار ذي القربى } الذي هو في مقام من مقامات السلوك، قريب من مقامك { والجار الجنب } الذي هو في مقامه بعيد من مقامك، { والصاحب بالجنب } والرفيق الذي هو في عين مقامكم ويرافقكم في سيركم { وابن السبيل } أي: السالك في طريق الحق، الداخل في الغربة عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام من مقامات أهل الله { وما ملكت أيمانكم } من أهل إرادتكم ومحبتكم، الذين هم عبيدكم كلا بما يناسبه ويليق به من أنواع الإحسان، وإن شئت أولت ذي القربى بما يتصل به من الملكوت العالية من المجردات واليتامى بالقوى الروحانية كما مر. والمساكين بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها. والجار ذي القربى بالعقل، والجار الجنب بالوهم، والصاحب بالجنب بالشوق والإرادة، وابن السبيل بالفكر، والمماليك بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة.
{ إن الله لا يحب من كان مختالا } يسعى في السلوك بنفسه لا بالله، معجبا بأعماله { فخورا } مبتهجا بأحواله ومقاماته وكمالاته، محتجبا برؤيتها ورؤية اتصافه بها.
[4.37-41]
{ الذين يبخلون } أولا بإمساك كمالاتهم وعلومهم في مكامن قرائحهم ومطامير غرائزهم، لا يظهرونها بالعمل بها في وقتها ثم بالامتناع عن توفير حقوق ذوي الحقوق عليهم، لا يبذلون صفاتهم وذواتهم بالفناء في الله لمحبتهم لها، ولا ينفقون أموال علومهم وأخلاقهم وكمالاتهم على ما ذكرنا من المستحقين. { ويأمرون الناس بالبخل } يحملونهم على مثل حالهم { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } من التوحيد والمعارف والأخلاق والحقائق في كتم الاستعداد وظلمة القوة كأنها معدومة { وأعتدنا للكافرين } المحجوبين عن الحق { عذابا مهينا } في ذل وجوههم وشين صفاتهم.
{ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } أي: يبرزون كمالاتهم من كتم العدم، ويخرجونها إلى الفعل، محجوبين برؤيتها لأنفسهم، يراؤون الناس بأنها لهم { ولا يؤمنون بالله } الإيمان الحقيقي، فيعلمون أن الكمال المطلق ليس إلا له، ومن أين لغيره وجود حتى يكون له؟ فيتخلصون عن حجاب رؤية الكمال لأنفسهم، وينجون عن إثم العجب. { ولا باليوم الآخر } أي: الفناء في الله والبروز للواحد القهار، فيتبرؤون من ذنب الشرك، وذلك لمقارنة شيطان الوهم إياهم { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } لأنه يضله عن الهدى، ويحجبه عن الحق { وماذا عليهم لو آمنوا بالله } أي: لو صدقوا الله بالتوحيد والفناء فيه، ومحو كمالاتهم التي رزقهم الله بإضافتها إلى الله؟ { وكان الله بهم عليما } يجازيهم بالبقاء بعد الفناء، وكونهم مع تلك الصفات والكمالات بالله لا بأنفسهم.
{ إن الله لا يظلم } أي: لا ينقص من تلك الكمالات بالفناء فيه { مثقال ذرة } بل يضاعفها بالتأييد الحقاني { وإن تك حسنة يضاعفها } ولا تكون حسنة إلا إذا كانت له { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } هو ما أخفي له من قرة أعين، أي: الشهود الذاتي الذي لا حجبة معه عن تفاصيل الصفات.
{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } إلى آخره، الشهيد والشاهد: ما يحضر كل أحد مما بلغه من الدرجة في العرفان، وهو الغالب عليه، فهو يكشف عن حاله وعمله وسعيه ومبلغ جهده مقاما كان أو صفة من صفات الحق أو ذاتا، فلكل أمة شهيد بحسب ما دعاهم إليه نبيهم وعرفه لهم وما دعاهم إلا إلى ما وصل إليه من مقامه في المعرفة، ولا يبعث نبي إلا بحسب استعداد أمته فهم يعرفون الله بنور استعدادهم في صورة كمال نبيهم. ولهذا ورد في الحديث: إن الله يتجلى لعباده في صورة معتقدهم، فيعرفه كل واحد من الملل والمذاهب، ثم يتحول عن تلك الصورة، فيبرز في صورة أخرى فلا يعرفه إلا الموحدون الداخلون في حضرة الأحدية من كل باب. وكما أن لكل أمة شهيدا، فكذلك لكل اهل مذهب شهيد، ولكل واحد شهيد يكشف عن حال مشهوده، وأما المحمديون فشهيدهم الله المحبوب الموصوف بجميع الصفات لمكان كمال نبيهم وكونه حبيبا مؤتى جوامع الكلم، متمما لمكارم الأخلاق، فلا جرم يعرفونه عند التحول في جميع الصور إذا تابعوا نبيهم حق المتابعة، وكانوا أوحديين محبوبين كنبيهم.
[4.42-43]
{ يومئذ يود الذين كفروا } بالاحتجاب عن الحق { وعصوا الرسول } بالاحتجاب عن الدين { لو تسوى بهم } أرض الاستعداد، فتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة { ولا يكتمون الله حديثا } أي: لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش حتى لا يتعذبون بعقابه.
{ يا أيها الذين آمنوا } بالإيمان العلمي، فإن المؤمن بالإيمان العيني لا يكون في صلاته غافلا { لا تقربوا الصلاة } أي: لا تقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله في حال كونكم { سكارى } من نوم الغفلة، أو من خمور الهوى ومحبة الدنيا { حتى تعلموا ما تقولون } في مناجاتكم ولا تشتغل قلوبكم بأشغال الدنيا ووساوسها فتذهلوا عنه، ولا في حال كونكم بعداء عن الحق بشدة الميل إلى النفس ومباشرة لذاتها وشهواتها وحظوظها والركون إليها { إلا عابري سبيل } أي: مارين عليها، سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة والمصلحة كعبور طريق الاغتذاء بالمطعم والمشرب لسد الرمق وحفظ القوة، والاكتساء لدفع الحر والبرد وستر العورة، والمباشرة لحفظ النسل لا منجذبين إليها بالكلية بمجرد الهوى فتنطبع فيكم فلا يمكن زوالها أو يتعذر { حتى تغتسلوا } أي: تتطهروا عن تلك الهيئة الحاصلة من الانجذاب إلى الجهة السفلية بماء التوبة والاستغفار وعيون التنصل والاعتذار { وإن كنتم مرضى } القلوب، فاقدي سلامتها بأمراض العقائد الفاسدة والرذائل المهلكة { أو على سفر } في تيه الجهل والحيرة لطلب لذة النفس ومادة الرجس بالحرص { أو جاء أحد منكم } من الاشتغال بلوث المال وكسب الحطام ملوثا بهيئة محبته وميله راسخة فيه تلك الهيئة { أو لامستم النساء } لازمتم النفوس وباشرتموها في لذاتها وشهواتها { فلم تجدوا ماء } علما يهديكم إلى التفصي منها ويهذبكم بالتطهر عنها { فتيمموا صعيدا طيبا } فتوجهوا صعيد استعدادكم الطيب، واقصدوه وارجعوا إلى أصل الاستعداد الفطري { فامسحوا } من نوره { بوجوهكم وأيديكم } أي: ذواتكم الموجودة وصفاتكم بالنزول ومحو هيئات العلق بها، والتصرف فيها ، فإن ذلك التراب يمحو آثارها ويذرها صافية كما كانت { إن الله كان عفوا } يعفو عن تلك الهيئات المظلمة ورسوخ تلك الملكات الحاجبة بتركها والإعراض عنها، فيزيلها بالكلية فيصفو استعدادكم وتستعدوا للقائه ومناجاته { غفورا } يستر صفاتكم وذواتكم بصفاته وذاته.
[4.44-46]
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } أي: بعضا هو اعترافهم بالحق مع احتجابهم عن الدين { يشترون الضلالة } يستبدلون الاحتجاب عن الدين الذي هو طريق الحق بنور هداية استعدادهم ويريدون بكم ذلك أيضا وهم أعداؤكم، علم الله عداوتهم إياكم إذا { وكفى بالله وليا } يلي أمركم بالتوفيق لطريق التوحيد، ونصيرا ينصركم على أعدائكم بالقمع.
[4.47]
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب } كتاب الاستعداد { آمنوا } إيمانا حقيقيا عيانيا بإخراج ما في كتاب استعدادكم إلى الفعل من توحيد الذات { من قبل أن نطمس وجوها } بإزالة استعدادها ومحوه { فنردها على أدبارها } التي هي أسفل سافلي عالم الجسم الذي هو خلف كل عالم { أو نلعنهم } نعذبهم بالمسخ كما مسخنا { أصحاب السبت } { وكان أمر الله مفعولا } أي: مقضيا إلى الأبد، لا يغيره أحد ولا ينقضه.
[4.48-55]
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } إشارة إلى أن الشقاوة العلمية الاعتقادية مخلدة لا تتدارك أبدا دون العملية، أي: لا يستر بوجوده ولا يفني بذاته من يثبت غيره في الوجود وكيف وأنه يناوبه بوجوده. { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } أي: يزيلون صفات نفوسهم بنفوسهم، وذلك غير ممكن كما لا يمكن لأحدنا حمل نفسه إذ هي لوازم النفس باقية لازمة لها، ولهذا قال تعالى:
ومن يوق شح نفسه
[الحشر، الآية: 9]، إذ الرذائل معجونة فيها، باقية ببقائها. وقال عليه الصلاة والسلام:
" شر الناس من قامت عليه القيامة وهو حي "
أي: يقف على علم التوحيد ونفسه لم تمت بالفناء حتى تحيى بالله، فإنه حينئذ زنديق قائل بالإباحة في الأشياء. { بل الله يزكي من يشاء } بمحو صفاته وإزالتها بصفاته تعالى { ولا يظلمون فتيلا } أي: لا ينقصون شيئا حقيرا من صفاتهم وحقوقها فإن الله لا يأخذ شيئا منها مع ضعفها وسرعة انقضائها حتى يعطي بدله من صفاته مع قوتها ودوامها { انظر كيف يفترون على الله الكذب } بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت، أو بانتحال صفات الله إلى أنفسهم لوجود نفوسهم.
{ ألم تر } إلى آخره، { يؤمنون بالجبت والطاغوت } لإثباتهم وجود الغير، وذلك إضلالهم عن الدين الذي هو طريق التوحيد { ويقولون } لأجل الذين حجبوا عن الحق { هؤلاء أهدى } من الموحدين { سبيلا } لموافقتهم في الشرك دون المؤمنين، فإنهم يخالفونهم في الطريق والمقصد، إذ المعترفون بالتوحيد لما ضلوا السبيل لم يصلوا إلى المقصد الذي اعترفوا به فلزمهم شرك خفي قريب من حال المحجوبين عن الحق الذين أشركوا شركا جليا فناسبوهم وصوبوهم وزعموا أنهم أهدى الموحدين على ما نرى عليه بعض الظاهريين من الإسلاميين { أولئك الذين لعنهم الله } بمسخ الاستعداد، ومن طرده الله فلا يمكن لأحد نصرته بالهداية والتقريب والإنجاء.
[4.56-58]
{ إن الذين كفروا بآياتنا } أي: حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا. إذ مطلع الآية كونه متجليا بالعلم والحكمة والملك في آل إبراهيم { سوف نصليهم } نار شوق الكمال لاقتضاء غرائزهم وطبائعهم بحسب استعدادهم ذلك مع رسوخ الحجاب ولزومه، أو نار قهر من تجليات صفات قهره تناسب أحوالهم، أو نار شره نفوسهم وحدة شوقها وطلبها لما ضريت بها من كمالات صفاتها وشهواتها مع حرمانها عنها { كلما نضجت جلودهم } رفعت حجبهم الجسمانية بانسلاخهم عنها { بدلناهم } حجبا غيرها جديدة { ليذوقوا العذاب } نيران الحرمان { إن الله كان عزيزا } قويا يقهرهم ويذلهم بذل صفات نفوسهم، ويحرقهم بنيران توقانها إلى كمالاتهم مع حرمانهم أبدا { حكيما } يجازيهم بما يناسبهم من العذاب الذي اختاروه لأنفسهم بدواعيهم الغضبية والشهوية وغيرها، وميولهم إلى الملاذ الجسمانية فلذلك بدلوا حجبا ظلمانية بعد حجب.
{ والذين آمنوا } بتوحيد الصفات { وعملوا } ما يصلحهم لقبول تجلياتها { سندخلهم جنات } الاتصاف بها ومقاماتها { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار علوم تجلياتها من علوم القلب. والأزواج ههنا الأرواح المقدسة التي هي مظاهر الصفات الإلهية المطهرة بالهيئات البدنية { وندخلهم ظلا ظليلا } أي: ظل الصفات الإلهية الدائم روحها بمحو الصفات البشرية.
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } أي: حق كل ذي حق إليه بتوفية حق الاستعداد أولا، ثم بتوفية حقوق القوى كلها من كمالاتها التي تقتضيها، ثم بتوفية حق الله تعالى من أداء الصفات إليه، ثم أداء الوجود فتكونوا فانين في التوحيد. فإذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء، وحكمتم بين الناس، كنتم قائمين في الأشياء بالله، قوامين بالقسط، متصفين بعدل الله بحيث لا يمكن صدور الجور منكم. وأقل الدرجات في العدل هو المحو في الصفات، إذ القائم بالنفس لا يقدر على العدل أبدا { إن الله كان سميعا } بأقوالكم فيما بين الناس من المحاكمات، هل هي صائبة بالحق أم فاسدة بالنفس؟ { بصيرا } بأعمالكم، هل تصدر من صفات نفوسكم أو من صفات الحق؟.
[4.59-63]
{ يا أيها الذين آمنوا } بتوحيد الصفات { أطيعوا الله } بتوحيد الذات والفناء في الجمع { وأطيعوا الرسول } بمراعاة حقوق التفصيل في عين الجمع وملاحظة ترتيب الصفات بعد الفناء في الذات { وأولي الأمر منكم } ممن استحق الولاية والرياسة كما مر في حكاية طالوت. { ألم تر } أي: تعجب من { الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك } من علم التوحيد { وما أنزل من قبلك } من علم المبدأ والمعاد { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } وهو ينافي ما ادعوه إذ لو كان إيمانهم صحيحا لما أثبتوا غيرا حتى يكون له حكم، فإنهم بحكم الإيمان الحقيقي مأمورون بالكفر بغيره، ومن لم ينسلخ عن صفاته وأفعاله ولم تنطمس ذاته في الله تعالى فهو غيره، ومن توجه إلى الغير فقد أطاع الشيطان ولا يريد الشيطان بهم إلا الضلال البعيد الذي هو الانحراف عن الحق بالشرك، إذ الزيغ عن الدين هو الضلال المبين.
[4.64-65]
{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } الآية، الفرق بين الرسول والنبي هو: أن الرسالة، باعتبار تبليغ الأحكام:
يأيها الرسول بلغ
[المائدة، الآية: 67] والنبوة باعتبار الإخبار عن المعارف والحقائق التي تتعلق بتفاصيل الصفات والأفعال. فإن النبوة ظاهر الولاية التي هي الاستغراق في عين الجمع والفناء في الذات، فعلمها علم توحيد الذات ومحو الأفعال والصفات. فكل رسول نبي، وكل نبي ولي، وليس كل ولي نبيا، ولا كل نبي مرسلا ، وإن كانت رتبة الولاية أشرف من النبوة، والنبوة من الرسالة كما قيل:
مقام النبوة في برزخ
دوين الولي وفوق الرسول
فلا يرسل الرسول إلا للطاعة، إذ حكمه حكم الله باعتبار التبليغ فيجب أن يطاع، ولا يطاع إلا بإذنه، فإن من حجب عنه بقصور الاستعداد كالكافر الأصلي والشقي الحقيقي، أو بالرين ومحو الاستعداد كالمنافق ليس بمأذون له في الطاعة في الحقيقة. { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بمنعها عن حقوقها التي هي كمالاتها الثابتة فيها بالقوة، وتكدير الاستعداد بالتوجه إلى طلب اللذات الحسية والأغراض الفانية { جاؤوك } بالإرادة التي هي مقتضى استعدادهم { فاستغفروا الله } طلبوا من الله ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال الحاجبة لما في استعدادهم بنور صفاته { واستغفر لهم الرسول } بإمدادهم بنور صفاته التي هي صفات الله عز وجل لرابطة الجنسية التي بينهم وبين نفسه، ومكان الإرادة والمحبة التي تستلزم قربهم منه وامتزاجهم به { لوجدوا الله توابا } مطهرا، مصفيا لاستعدادهم بنوره، إذ قبول التوبة هو إلقاء نور الصفات عليهم، وتنوير بواطنهم بهيئة نورية تعصمهم من الخطأ في الأفعال لبعد النور عن الظلمة { رحيما } يفيض عليهم رحمة الكمال اللائق بهم من الإيقان العلمي أو العيني أو الحقي.
{ فلا وربك لا يؤمنون } الإيمان الحقيقي التوحيدي { حتى يحكموك } لكون حكمك حكم الله، وإنما حجبت الذات بالصفات، والصفات بالأفعال، فإذا تشاجروا وقفوا مع صفاتهم محجوبين عن صفات الحق أو مع أفعالهم محجوبين عن أفعال الحق، فلم يؤمنوا حقيقة. فإذا حكموك انسلخوا عن أفعالهم، وإذا لم يجدوا في أنفسهم حرجا من قضائك انسلخوا عن إرادتهم فصاروا إلى مقام الرضا، وعن علمهم وقدرتهم فصاروا إلى مقام التسليم فلم يبق لهم حجاب من صفاتهم واتصفوا بصفات الحق فانكشف لهم في صورة الصفات فعلموا أنك هو قائم به، لا بنفسك، عادل بالحقيقة بعدله، فتحقق إيمانهم بالله.
[4.66-96]
{ ولو أنا كتبنا } أي: فرضنا { عليهم أن اقتلوا أنفسكم } بقمع الهوى الذي هو حياتها وإفناء صفاتها { أو اخرجوا من دياركم } مقاماتكم التي هي الصبر والتوكل والرضا وأمثالها، لكونها حاجبة عن التوحيد كما قال الحسين بن منصور قدس الله روحه لإبراهيم بن أدهم رحمه الله، لما سأله عن حاله، وأجابه بقوله: أدور في الصحاري، وأطوف في البراري، حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر، هل يصح حالي في التوكل أم لا؟، فقال: إذا أفنيت عمرك في عمران بطنك فأين الفناء في التوحيد؟.
{ ما فعلوه إلا قليل منهم } وهم: المحبون المستعدون للقائه، الأكثرون قدر الأقلون عددا كما قال تعالى:
وقليل ما هم
[ص، الآية: 24]، { لكان خيرا لهم } بحسب كمالهم الحاصل لهم عند رفع حجب صفات النفس بالاتصاف بصفات الحق أو بالوصول إلى عين الجمع { وأشد تثبيتا } بالاستقامة في الدين عند البقاء بعد الفناء { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما } من تجليات الصفات عند قتل النفس { ولهديناهم صراطا مستقيما } عند الخروج عن الديار، أي: منازل النفس والمقامات، وهو طريق الوحدة والاستقامة في التوحيد { ومن يطع الله } بسلوك طرق التوحيد والجمع { والرسول } بمراعاة التفصيل { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } بالهداية { من النبيين والصديقين } الذين صدقوا بنسبة الأفعال والصفات إلى الله، بالانخلاع عن صفاتهم والاتصاف بصفاته ولو ظهروا بصفات نفوسهم لكانوا كاذبين { والشهداء } اي: أهل الحضور { والصالحين } أي: أهل الاستقامة في الدين.
{ ذلك الفضل } أي: التوفيق لتحصيل الكمال الذي ناسبوا به النبيين ومن معهم فرافقوهم. { عليما } يعلم ما في استعدادهم من الكمال فيظهره عليهم { خذوا حذركم } أي: ما تحذرون من إلقاء الشيطان ووساوسه وإهلاكه إياكم بالإغواء، ومن ظهور صفات نفوسكم واستيلائها عليكم، فإنها أعدى عدوكم { فانفروا ثبات } اسلكوا في سبيل الله جماعات، كل فرقة على طريقة شيخ كامل عالم { أو انفروا جميعا } في طريق التوحيد والإسلام على متابعة النبي { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } إلى آخره، ثبت أنهم قدريون يضيفون الخيرات إلى الله والشرور إلى الناس، يتشبهون بالمجوس في الثبات، مؤثرين مستقلين في الوجود، وإضافتهم الشرور إلى الرسول لا إلى أنفسهم كانت لأنه باعثهم ومحرضهم على ما يلقون بسببه الشر عندهم. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى توحيد الأفعال ونفي التأثير عن الأغيار والإقرار بكونه فاعل الخير والشر بقوله: { قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } لاحتجابهم بصفات النفوس وارتجاج آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي. ثم بين أن لله فضلا وعدلا، فالخيرات والكمالات كلها من فضله، والشرور من عدله، أي: يقدرها علينا ويفعلها بنا لاستعداد واستحقاق فينا يقتضي ذلك.
وذلك الاستحقاق إنما يحدث من ظهور النفس بصفاتها وارتكابها المعاصي والذنوب الموجبة للعقاب لا بفعل آخر كما نسبوا ما أصابهم من الشر إلى الرسول، لأن الاستحقاق مرتب على الاستعداد، ولا يعرض ما يقتضيه استعداد أحد لغيره، كما قال تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام، الآية: 164]، فكذبهم وخطأهم في قدريتهم بإثبات أن: السبب الفاعلي للخير والشر ليس إلا لله وحده بمقتضى فضله وعدله. وأما السبب القابلي فهو وإن كان أيضا منه في الحقيقة إلا أن قابلية الخير هو من الاستعداد الأصلي الذي هو من الفيض الأقدس الذي لا مدخل لفعلنا واختيارنا فيه، وقابلية الشر من الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب، المكدرة لجوهره، حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب لا من قبل الرسول أو غيره.
[4.97-99]
{ إن الذين توفاهم الملائكة } إلى آخره، التوفي هو: استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه، وهو على ثلاثة أوجه: توفي الملائكة، وتوفي ملك الموت، وتوفي الله. أما توفي الملائكة فهو لأصحاب النفوس وهم إما سعداء أهل الخير والصفات الحميدة والأخلاق الحسنة من الصالحين المتقين
الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون
[النحل، الآية: 32] فمعادهم إلى جنة الأفعال. وإما أشقياء أهل الشر والصفات الرديئة والأخلاق السيئة فلا يقبض أرواحهم إلا القوى الملكوتية التي هي للعالم بمثابة قواهم التي هم في مقامها، محتجبون بصفات النفس ولذات القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية من الكافرين:
الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم
[النحل، الآية: 28] فمعادهم إلى النار. وأما توفي ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب، ورجعوا إلى الفطرة، فتنوروا بنورها، فتقبض أرواحهم النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم باتصالهم بها، هذا إذا قبض أرواحهم ملك الموت بنفسه، أما إذا قبض بأعوانه وقواهم فهم الفريق الأول. وقد يقبض بنفسه ويذرهم في ملكوت العذاب حتى يحاسبوا ويعاقبوا بحسب رذائلهم ويتخلصوا، وذلك للكمال العلمي والنقصان العلمي كما خلص من الجهل والشرك وتحلى بالعلم والتوحيد، ولكن تراكمت على قلبه الهيئات المظلمة والملكات الرديئة بسبب الأعمال السيئة والأخلاق الذميمة. وللعلم بالتوحيد والجهل بالمعاد كالموحد المنكر للجزاء، فينهمك في المعاصي كما قال تعالى:
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم
[السجدة، الآية: 11]. وأما توفي الله تعالى، فهو للموحدين الذين عرجوا عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربهم حجاب، فهو يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم، الآية: 85]، كما قال تعالى:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر: 42].
{ ظالمي أنفسهم } بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها { فيم كنتم } حيث قصرتم في السعي لما قدرتم وفرطتم في جنب الله، وقصرتم عن بلوغ كمالكم الذي هيئ لكم وندبتم إليه { قالوا كنا مستضعفين } في أرض الاستعداد الذي جبلنا عليه باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى بشيطان الوهم، أسرونا في قيودهم، وجبرونا على دينهم، وأكرهونا على كفرهم. { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة } ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم خطوات يسيرة، بحيث إذا ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى، وتقويتم بإمداد أعوانكم القوى الروحانية، ونصرتم بأنوار القلب، فخرجتم عن القرية، الظالم أهلها، التي هي مدينة النفس إلى بلد القلب الطيبة، فتداركتكم رحمة ربكم الغفور { فأولئك مأواهم جهنم } نفوسهم الشديدة التوقان مع حصول الحرمان { وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال } أي: أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذهبوا لقواهم الوهمية والخيالية، فيبطلوا استعداداتهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود { والنساء } أي: القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي، وسلوك طريق التحقيق، الضعفاء القوى والأحلام، الذين قال في حقهم: " أكثر أهل الجنة البله ".
{ والولدان } أي: الناقصين القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لغيرة تلحقهم من قبل صفات النفس { لا يستطيعون حيلة } لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر صفات النفس وقمع الهوى بالرياضة { ولا يهتدون سبيلا } لعدم علمهم بكيفية السلوك وحرمانهم عن نور الهداية الشرعية { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم { وكان الله عفوا } العفو عن الذنوب ما دامت الفطرة لم تتغير { غفورا } يستر بنور صفاته صفات نفوسهم.
[4.100]
{ ومن يهاجر } أي مقار النفس المألوفة في سبيل طريق الحق بالعزيمة { يجد } في أرض استعداده مهاجر ومساكن ومنازل كثيرة فيها رغم أنوف قوى نفسه الوهمية والخيالية والبهيمية والسبعية وإذلالها { وسعة } وانشراحا في الصدر عند الخلاص من ضيق صفات النفس وأسر الهوى { ومن يخرج } من المقام الذي هو فيه سواء كان مقر استعداده الذي جبل عليه أو منزلا من منازل النفس أو مقاما من مقامات القلب { مهاجرا إلى الله } بالتوجه إلى توحيد الذات { ورسوله } بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات { ثم يدركه } الانقطاع قبل الوصول { فقد وقع أجره على الله } بحسب ما توجه إليه، فإن المتوجه إلى السلوك له أجر المنزل الذي وصل إليه، أي: المرتبة من الكمال الذي حصل له إن كان، وأجر المقام الذي وقع نظره عليه وقصده. فإن ذلك الكمال وإن لم يحصل له بحسب الملك والقدم لكنه اشتاق إليه بحسب القصد والنظر، فعسى أن يؤيده التوفيق بعد ارتفاع الحجب بالوصول إليه { وكان الله غفورا } يغفر له ما يمنعه عن قصده من الموانع { رحيما } يرحمه، بأن يهب له الكمال الذي توجه إليه ووقع نظره عليه.
[4.101-104]
وإذا سافرتم في أرض الاستعداد بالطريق العلمي لطلب اليقين { فليس عليكم جناح أن تقصروا } أي: تنقصوا من الأعمال البدنية وأداء حقوق العبودية من الشكر والحضور، لقوله عليه الصلاة والسلام:
" من أوتي حظه من اليقين فلا يبالي بما انتقص من صلاته وصومه ".
{ إن خفتم أن يفتنكم } أي: يغويكم ويضلكم { الذين كفروا } أي: حجبوا من قوى الوهم والتخيل وشياطين الإنس الضالين المضلين لما علم من قوله صلى الله عليه وسلم:
" لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ".
[4.105-108]
{ إنا أنزلنا عليك الكتاب } أي: علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها بالحق ملتبسا بالعدل والصدق أو قائما بالحق لا بنفسك لتكون حاكما بين الخلق { بما أراك الله } من عدله { ولا تكن للخائنين } الذين لا يؤدون أمانة الله التي أودعها عندهم في الأزل بما ركز في استعدادهم من إمكان كمال معرفته وخانوا أنفسهم وغيرهم بنهب حقوقهم وصرفها في غير وجهها { خصيما } يدفع عنهم العذاب وتسليط الله الخلق عليهم بالإيذاء ويحتج عنهم على غيرهم أو على الله بالاعتراض بأنه لم خذلهم وقهرهم فإنهم الظالمون لا حجة لهم بل الحجة عليهم { واستغفر الله } لنفسك بترك الاعتراض والاحتجاج عنهم لنغفر تلوينك الذي ظهر عليك بوجود قلبك وبصفاته { ولا تجادل } ظهر تأويله من هذا { يستخفون من الناس } بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم التي هي معايبهم عنهم { ولا يستخفون من الله } بإزالتها وقلعها وهو شاهدهم يعلم بواطنهم { إذ يبيتون } أي: يقدرون في عالم ظلمة النفس والطبيعة { ما لا يرضى من القول } من الوهميات والتخيلات الفاسدة التي يلفقونها في تحصيل أغراضهم من حطام الدنيا ولذاتها { وكان الله بما يعملون محيطا } يجازيهم بحسب صفاتهم وأعمالهم.
[4.109-112]
{ ها أنتم هؤلاء } ظاهر مما مر { ومن يعمل سوءا } بظهور صفة من صفات نفسه { أو يظلم نفسه } بنقص شيء من كمالاته التي هي مقتضى استعداده بتقصير فيه وارتكاب عمل ينافيه ثم يطلب من الله ستر تلك الصفة والهيئة الساترة لكماله بالتوجه إليه والتنصل عن الذنب { يجد الله غفورا } يستر ذلك السوء والهيئة المظلمة بنور صفته { رحيما } يهب ما يقتضيه استعداده. { ومن يكسب خطيئة } بظهور نفسه { أو إثما } يمحو ما في استعداده وكسب هيئة منافية لكماله { ثم يرم به بريئا } بأن قال: حملني على ذلك فلان، ومنعني عن طلب الحق فلان، وهذا جريمة فلان، كما هو عادة المتعللين بالأعذار { فقد احتمل بهتانا } بنسبة فعله إلى الغير إذ لو لم يكن في نفسه ميل لما يضاد كماله ومناسبة لمن وافقه وأطاعه لما قبل ذلك منه، فما كان إلا من قبل نفسه كما قال لهم الشيطان:
إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم
[إبراهيم، الآية: 22] إذ لو لم يكن في نفوسهم ظلمة بكسبها وظهور صفاتهم لم يكن فيهم محل لوسوسته وقابلية لدعوته { وإثما مبينا } ظاهرا متضاعفا لتركبه من هيئة الخطيئة والامتناع من الاعتراف، ونسبة التقصير إلى أنفسهم لتنكسر فتضعف عن الاستيلاء على القلب وحجبه عن الكمال.
[4.113-116]
{ ولولا فضل الله عليك } أي: توفيقه وإمداده لسلوك طريقه بما يخرج كمالك إلى الفعل ويبرز ما فيك كامنا من العلم { ورحمته } هبته لذلك الكمال المطلق الذي أودعه فيك في الأزل وهي الرحمة التي ليس وراءها رحمة { وما يضلون إلا أنفسهم } لكون الضلال ناشئا من أصل استعدادهم لكونهم مجبولين على الشقاوة أزلا فكيف يرجع ذلك الضلال المعجون فيهم إلى غيرهم.
{ وأنزل الله عليك الكتاب } أي: العلم التفصيلي التام بعد الوجود الموهوب { والحكمة } وعلم أحكام التفاصيل وتجليات الصفات مع العمل به { وعلمك ما لم تكن تعلم } لأنه علم الله لا يعلمه إلا هو، فلما كشف لك عن ذاته بفنائك فيه ثم أبقاك بالوجود الحقاني فصار قلبك وحجبك بحجاب ذلك القلب علمك علمه، إذ الصفة تابعة للذات { وكان فضل الله } في إظهار هذا الكمال عليك بالتوفيق للعمل الذي أوصلك إلى ما أوصلك { عظيما } { لا خير في كثير من نجواهم } فإنها فضول، والفضول يجب تركها على السالك كما قال عليه الصلاة السلام:
" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
{ إلا من أمر } أي: إلا نجوى من أمر { بصدقة } أي: بفضيلة السخاء التي هي من باب العفة { أو معروف } قولي كتعليم علم وحكمة من باب فضيلة الحكمة، أو فعلي كإغاثة ملهوف وإعانة مظلوم من باب الشجاعة { أو إصلاح بين الناس } من باب العدالة { ومن يفعل ذلك } أي: يجمع بين الكمالات المذكورة { ابتغاء مرضات الله } لا لطلب المحمدة أو الرياء والسمعة، فتصير به الفضيلة رذيلة { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } من جنات الصفات.
[4.117-133]
{ إن يدعون من دونه إلا إناثا } أي: نفوسا، إذ كل من يشرك بالله فهو عابد لنفسه بطاعة هواها، وعابد لشيطان الوهم بقبول إغوائه وطاعته، أو كل ما يعبد من دون الله لأنه ممكن وكل ممكن فهو متأثر عن الغير قابل لتأثيره محتاج إليه وهي صفة الإناث { نصيبا مفروضا } أي: غير المخلصين الذين أخلصوا دينهم بالتوحيد { ولآمرنهم } بالعادات الفاسدة والأهواء المردية والأفعال الشنيعة المخالفة للعقل والشرع { والذين آمنوا } الإيمان الحقيقي التوحيد، لأنهم في مقابلة المشركين { وعملوا } ما يصلح لهم في الوصول إلى الجمع أو يصلح للناس أجمعين بالاستقامة في الله وبالله بعد الفناء وحصول البقاء { سندخلهم } الجنات الثلاثة المذكورة { ليس } حصول الموعود { بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } أي: ما بقيتم مع نفوسكم وصفاتها وأفعالها، فإرادتكم مجرد تمن والتمني طلب ما يمتنع وجوده في العادة.
{ ومن أحسن دينا } أي طريقا { ممن أسلم وجهه } أي: وجوده { لله } وأخلص ذاته من شوب الآنية والإثنينية بالفناء المحض { وهو محسن } مشاهد للجمع في عين التفصيل، مراع لحقوق تجليات الصفات وأحكامها، سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال { واتبع ملة إبراهيم } في التوحيد { حنيفا } مائلا عن كل شرك في ذاته وصفاته وأفعاله، وعن كل دين باطل، أي: طريق يؤدي إلى إثبات فعل لغيره أو صفة أو ذات، إذ دينه دين الحق، أعني: سيره حينئذ سير إلى الله لا سير في الله بسلوك طريق الصفات، ولا إلى الله بقطع صفات النفس ومناهل صفات القلب، فلا دين أحسن من دينه.
{ واتخذ الله إبراهيم خليلا } يخاله، أي: يداخله في خلال ذاته وصفاته بحيث لا يذر منها بقية، أو يسد خلله ويقوم بدل ما يفنى منه عند تكميله وفقره إليه. فالخليل وإن كان أعلى مرتبة من الصفي، لكنه أدون من الحبيب، لأن الخليل محب يوشك أن يتوهم فيه بقية غيرية، والحبيب محبوب لا يتصور فيه ذلك. ولهذا ألقي في نار العشق دونه.
[4.134-143]
{ من كان يريد ثواب الدنيا } بالوقوف مع هوى النفس فما له يطلب أخس الأشياء ويقف في أدنى المراتب { فعند الله ثواب } الدارين جميعا، بالفناء فيه لأنه الوجود المحيط بالكل فلا يفوته شيء { وكان الله سميعا } بأحاديث نفوسكم { بصيرا } بنياتكم وإرادتكم بأعمالكم { يا أيها الذين آمنوا } بالتوحيد العلمي وإرادة ثواب الدارين { كونوا } ثابتين في مقام العدالة التي هي أشرف الفضائل { قوامين } بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيكم لا يمكن معها صدور جور وميل منكم في شيء، ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جذب نفع دنيوي أو دفع مضرة. { يا أيها الذين آمنوا } بالإيمان التقليدي { آمنوا } بالإيمان التحقيقي أو آمنوا بالإيمان العلمي، أو آمنوا بالإيمان العيني.
{ إن الذين آمنوا ثم كفروا } إلى آخره، أي: تحيروا وترددوا بين جهتي الربوبية العلوية والسفلية لشدة النفاق وغلبة نور الفطرة تارة واستيلاء ظلمة النفس والهوى أخرى، لاستواء الحالتين فيهم حتى استحكمت الهيئات المظلمة وازدادت الحجب ورسخت العقائد الفاسدة والملكات الكاسدة باستيلاء صفات النفس واستعلائها مطلقا فرانت على قلوبهم { ما كان الله ليغفر لهم } لمكان الرين الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد { ولا ليهديهم سبيلا } إلى الحق ولا إلى الكمال ولا إلى الفطرة الأصلية لعدم قبولهم الهداية وصرف عذابهم بالإيلام لمكان استعدادهم في الأصل.
{ الذين يتخذون الكافرين أولياء } لمناسبتهم إياهم في الاحتجاب { من دون المؤمنين } لعدم الجنسية { أيبتغون } التعزز بهم في الدنيا والتقوي بمالهم وجاههم فلا سبيل إلى ذلك، وهم قد أخطأوا لأن العزة كلها صفة من صفات الله تعالى منيع القوى والقدر، له قوة القهر والغلبة للكل فبقدر القرب منه وقبول نوره وقوته والاتصاف بصفاته تحصل العزة فهي بأهل الإيمان أولى وأهل الحجاب والكفر بالزلة أولى { قاموا كسالى } لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لظلمة استعدادهم باستيلاء الهوى.
[4.144-151]
{ لا تتخذوا الكافرين أولياء } لئلا يتعدى إليكم كفرهم واحتجابهم بالصحبة والمخالطة فإنه لا شيء أقوى تأثيرا من الصحبة والميل إلى ولايتهم لا يخلو عن جنسية بينهم لوجود هوى كامن فيهم وضراوة بعادة رديئة تشملهم لا يؤمن عليهم الوقوع في الكفر بغلبة الهوى والنفس.
{ سلطانا مبينا } حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى ولايتهم بصحبتهم ومجالستهم { في الدرك الأسفل } باعتبار زيادة عذابه وشدة إيلامه وإحراقه لا باعتبار كونه أدون مرتبة، إذ تأثير النار في المنافق أشد وأكثر إيلاما لبقية استعداد فيه. وأما الكافر الأصلي البهيم فلعدم استعداده لا يتألم بعذابه كما يتألم المنافق وإن كان أسوأ حالا منه وأعظم عذابا وهوانا { نصيرا } ينصرهم من عذاب الله لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله { إلا الذين تابوا } رجعوا إلى الله ببقية نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق { وأصلحوا } ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجب القوى بالزهد والرياضة { واعتصموا بالله } بالتمسك بحبل الإرادة وقوة العزيمة في التوجه إليه { وأخلصوا دينهم لله } بإفناء موانع السلوك من صفات النفس وإزالة خفاء الشرك وقطع النظر عن الغير في السير { فأولئك مع المؤمنين } الموقنين { أجرا عظيما } من مشاهدة تجليات الصفات وجنة الأفعال.
{ إن الذين يكفرون } يحتجبون عن الحق والدين وعن الجمع والتفصيل { ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } بالاحتجاب عن الدين دون الحق والتفصيل دون الجمع، فينكرون الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل، وذلك هو إيمانهم بالبعض وكفرهم بالبعض.
{ ويريدون أن يتخذوا } بين الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل طريقا { أولئك هم الكافرون } المحجوبون { حقا } بذواتهم وصفاتهم فإن معرفتهم وهم وغلط وتوحيدهم زندقة ليسوا من الدين ولا من الحق في شيء { مهينا } يهينهم بوجود الحجاب وذل النفس وصفاتها.
[4.152-159]
{ والذين آمنوا بالله ورسله } جمعا وتفصيلا { أجورهم } من الجنات الثلاثة { وكان الله غفورا } يستر عنهم ذواتهم وصفاتهم التي هي ذنوبهم وحجبهم بذاته وصفاته { رحيما } يرحمهم بتمتيعهم بالجنات الثلاثة وبالوجود الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي { كتابا من السماء } علما يقينيا بالمكاشفة من سماء الروح { أكبر من ذلك } لأن المشاهدة أكبر وأعلى من المكاشفة { بظلمهم } بطلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم إذ وجود البقية عند المشاهدة وضع الشيء في غير موضعه وطلب المشاهدة مع البقية طغيان من النفس ينشأ من رؤيتها كمالات الصفات لنفسها وذلك ظلم { سلطانا } تسلطا بالحجة عليهم بعد الإفاقة { بل رفعه الله إليه } إلى قوله { ليؤمنن به } رفع عيسى عليه السلام اتصال روحه عند المفارقة عن العالم السفلي بالعالم العلوي. وكونه في السماء الرابعة إشارة إلى أن مصدر فيضان روحه روحانية تلك الشمس الذي هو بمثابة قلب العالم ومرجعه إليه وتلك الروحانية نور يحرك ذلك الفلك بمعشوقيته وإشراق أشعته على نفسه المباشرة لتحريكه ولما كان مرجعه غلى مقره الأصلي ولم يصل إلى الكمال الحقيقي وجب نزوله في آخر الزمان، بتعلقه ببدن آخر وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب، أي: أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موت عيسى بالفناء في الله، وإذ آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وقيامهم عن حال غفلتهم ونومهم الذي هم عليه الآن { شهيدا } شاهدهم يتجلى عليهم الحق في صورته كما أشير إليه.
[4.160-165]
{ فبظلم } عظيم { من الذين هادوا } أي: بعباداتهم عجل النفس واتخاذه إلها وامتناعهم عن دخول القرية التي هي حضرة الروح واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله واحتجابهم عن تجليات الصفات الذي هو كفرهم بآيات الله والانغماس في الرذائل كلها، كقتل الأنبياء والافتراء على الله بكون قلوبهم غلفا أي: مغشاة بحجب خلقية لا سبيل إلى رفعها وبهتانهم على مريم، وادعائهم قتل عيسى عليه السلام من الخصال التي اجتماعها ظلم لا يعرف كنهه { حرمنا عليهم طيبات } جنات النعيم من تجليات الأفعال والصفات وشهود الذات التي هي طيبات لا يعرف كنهها { أحلت لهم } بحسب قابلية استعدادهم لولا هذه الموانع { وبصدهم } الناس بصحبتهم ومرافقتهم ودعوتهم إلى الضلال أو بصد قواهم الروحانية { عن سبيل الله وأخذهم } ربا فضول العلوم كالخلاف والجدل واللذات البدنية والحظوظ التي نهوا عنها { وأكلهم أموال الناس بالباطل } برذيل الحرص والطبع كأخذ الرشا وأجر التزويرات والتلبيسات أو استعمال علوم القوى الروحانية بين الفكر والعقل النظري والعلمي في تحصيل المآكل والمشارب وكسب الحطام، وتحصيل اللذات والشهوات الحسية والمآرب السبعية والبهيمية عذابا مؤلما لوجود استعدادهم.
{ لكن الراسخون في العلم } أي: المحققون { منهم والمؤمنون } بالإيمان التقليدي المطابق الثابت { يؤمنون بما أنزل إليك } إلى آخره، أي: يتصفون بالتزكية والتحلية { والمؤمنون } الموحدون بالتوحيد العياني { واليوم الآخر } المعاينون لأحوال المعاد على ما هو عليه { أجرا عظيما } من حظوظ تجليات الصفات وجناتها.
{ رسلا مبشرين } بتجليات صفات اللطف { ومنذرين } بتجليات صفات القهر { لئلا يكون للناس على الله حجة } ظهور وسلطنة بوجود صفة ما بعد رفعها ومحوها بإمداد الرسل { وكان الله عزيزا } قويا يقهرهم بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم { حكيما } لا يفعل ذلك إلا بحكمة اتصافهم بصفاته أو بقائهم بذاته.
[4.166-170]
{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك } لكونك في مقام الجمع وهم محجوبون لا يقرون به بل هو يشهد { أنزله بعلمه } ملتبسا بعلمه، أي: في حالة كونه عالما به بحيث إنه علمه الخاص لا علمك ولا علم غيرك من غيره.
{ والملائكة يشهدون } لكونك مراعيا للتفصيل في غير الجمع فهو الشاهد بذاته وبأسمائه وصفاته { وكفى بالله شهيدا } أي: الذات مع الصفات تكفي في الشهادة إذ لا موجود غيره { كفروا } حجبوا عن الحق لكون ضلالهم بعيدا { إن الذين كفروا } حجبوا عن الدين { وظلموا } منعوا استعداداتهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل وتسليط صفات النفس على قلوبهم { لم يكن الله ليغفر لهم } لرسوخ هيئات الرذائل فيهم وبطلان الاستعداد { ولا ليهديهم طريقا } لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد وعدم علمهم بطريق ما من طرق الكمال { إلا طريق جهنم } نيران أشواق نفوسهم إلى ملاذها مع حرمانهم عنها { وكان ذلك } سهلا على الله لانجذابهم إليها بالطبيعة.
[4.171-173]
{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } أما اليهود فبالتعمق في الظاهر ونفي البواطن وحط عيسى عن درجة النبوة ومقام الاتصاف بصفات الربوبية. وأما النصارى فبالتعمق في البواطن ونفي الظواهر ورفع عيسى إلى مقام الألوهية { ولا تقولوا على الله إلا الحق } بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفصيل كما هو عليه التوحيد المحمدي، والقول: بكون عيسى مظهر الصفات الإلهية، حيا بحياته داعيا إلى مقام توحيد الأوصاف و { كلمته } نفسا مجردة هي كلمة من كلمات الله، أي: حقيقة من حقائقه الروحانية وروحا من أرواح { فآمنوا بالله ورسله } بالجمع والتفصيل { ولا تقولوا ثلاثة } بزيادة الحياة والعلم على الذات، فيكون الإله ثلاثة اشياء ويكون عيسى جزء من حياته بالنفخ أو بالتفرقة بين ذات الحق وعالم النور وعالم الظلمة، فيكون عيسى متولدا من نوره. بل قولوا بالكل من حيث هو كل فيكون العلم والحياة عين الذات وكذا عالم النور والظلمة. ويكون عيسى فانيا فيه موجودا بوجوده، حيا بحياته، عالما بعلمه، وذلك وحدته الذاتية المعبر عنها بقوله { إنما الله إله واحد سبحانه } نزهه عن أن يكون موجود غيره، فيتولد منه وينفصل ويجانسه بأنه موجود مثله، بل هو الموجود من حيث هو وجود.
{ له ما في السموات } الأرواح { والأرض } الأجساد بكونها أسماءه وظاهره وباطنه { وكيلا } يقوم مقام الخلق في أفعالهم وصفاتهم وذواتهم عند فنائهم في التوحيد، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " لا إله إلا الله بعد فناء الخلق ".
{ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله } في مقام التفصيل، إذ باعتبار الجمع لا وجود للمسيح ولا لغيره فلا ممكن أصلا. وأما باعتبار التفصيل فكل ما ظهر بتعين فهو ممكن، والممكن لا وجود له بنفسه فضلا عن شيء غيره فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية وإن كان غنيا عن تعلق الأجسام بالتجرد المحض والتقدس عن دنس الطبائع كالملائكة المقربين الذين هم الأرواح المجردة والأنوار المحضة { ومن يستنكف عن عبادته } بظهور أنيته { ويستكبر } بطغيانه في الظهور بصفاته { فسيحشرهم إليه جميعا } بظهور نور وجهه وتجليه بصفة قاهريته حتى يفنوا بالكلية في عين الجمع، كما قال تعالى:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر، الآية: 16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ".
{ فأما الذين آمنوا } بالفناء في عين الجمع بمحو الصفات وطمس الذات { وعملوا الصالحات } بالاستقامة في الأعمال ومراعاة تفاصيل الصفات وتجلياتها { فيوفيهم أجورهم } وصفاتهم من جنات صفاته { ويزيدهم من فضله } بالوجود الموهوب بعد الفناء في الذات { وأما الذين استنكفوا } بظهور أنيتهم { واستكبروا } طغوا عند تجليات الصفات وتنورهم بنورها، فظهروا بها ونسبوها إلى أنفسهم كمن قال: أنا ربكم الأعلى.
{ فيعذبهم عذابا أليما } باحتجابهم ببقايا ذواتهم وصفاتهم وحرمانهم عن مقام الجمع { ولا يجدون } غير الله { وليا } يواليهم برفع حجاب الذات { ولا نصيرا } ينصرهم في رفع حجاب الصفات البرهاني وهو التوحيد الذاتي والنور المبين وهو التفصيل في عين الجمع، أي: القرآن الذي هو علم الجمع والفرقان الذي هو علم التفصيل.
[4.174-176]
{ فأما الذين آمنوا } بالتوحيد الذاتي واعتصموا به أي: في كثرة الصفات وتفرقها وراعوا الجمع في التفاصيل { فسيدخلهم في رحمة } من جنات الصفات التي لا يعرف كنهها { وفضل } من جنات الذات { ويهديهم إليه صراطا مستقيما } بالاستقامة إلى الوحدة في تفاصيل الكثرة أو رحمة من جنات الأفعال وفضل من جنات الصفات، { ويهديهم إليه صراطا مستقيما } من تفاصيل الصفات إلى الفناء في الذات، والأول أولى بهذا المقام، ولك التطبيق على تفاصيل وجودك وأحوالك في نفسك حيث أمكن من هذه السورة على القاعدة التي مرت في سورة { آل عمران } والله تعالى أعلم.
[5 - سورة المائدة]
[5.1-2]
{ يا أيها الذين آمنوا } بالإيمان العلمي { أوفوا بالعقود } أي: العزائم التي أحكمتموها في السلوك. والفرق بين العهد والعقد ههنا: أن العهد هو إيداع التوحيد فيهم في الأزل كما مر، والعقد هو إحكام عزائم التكليف عليهم ليتأدى بهم إلى الإيفاء بما عاهدوا عليه. فالعهد سابق والعقد لاحق، فكل عزيمة على أمر يوجب إخراج ما في الاستعداد بالقوة إلى الفعل عقد بينه وبين الله يجب الوفاء به والامتناع عن نقضه بفتور أو تقصير { أحلت لكم } جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التي لا تغلب عليها السبعية والشره، كالنفوس التي هي على طباع الأنعام الثلاثة { إلا ما يتلى عليكم } من التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة فإنها منهي عنها لحجبها عن الكمال الشخصي والنوعي { غير محلي الصيد وأنتم حرم } أي: لا متمتعين بالحظوظ في تجريدكم للسلوك وشروعكم في الرياضة عند السير إلى الله لطلب الوصول فإنه يجب حينئذ الاقتصار على الحقوق، إذ الإحرام في الظاهر صورة الإحرام الحقيقي للسالكين في طريق كعبة الوصال، والقاصدين لدخول الحرم الإلهي وسرادقات صفات الجلال والكمال { إن الله يحكم ما يريد } على من يريده من أوليائه.
{ لا تحلوا شعائر الله } من المقامات والأحوال التي يعلم بها حال السالك في سلوكه كالصبر والشكر والتوكل والرضا وأمثالها، أي: لا ترتكبوا ذنوب الأحوال ولا تخرجوا عن حكم المقامات فإنها شعائر دين الله الخالص. وكما أن المواضع المعلومة المعلمة بما يفعل فيها كالمطاف والمسعى والمنحر وغيرها والأفعال المعلومة في الحج شعائر يشعر بها الحاج. فهذه المقامات والمراتب والأحوال شعائر يشعر بها حال السالك وكما أنه لا يجوز في ظاهر الشرع تغييرها عن موضعها والخروج عن حكمها فكذلك هذه في شرع المحبين كما يحكى عن أحدهم أنه كان يتكلم في الصبر فدب عقرب على ساقه وأخذت تضربه وهو على حاله لا ينحيها فسئل عنه فقال: أستحي من أن أتكلم في مقام وأنا أفعل ما ينافيه { ولا الشهر الحرام } أي: وقت الإحرام بالحج الحقيقي وهو وقت السلوك والوصول بالخروج عن حكمه والاشتغال بما ينافيه ويصده عن وجهته ويثبطه في سيره { ولا الهدي } ولا النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى فناء الحضرة الإلهية على ما أشير إليه باستعمالها في شغل يصرفها عن طريقها أو يضعفها أو حمل فوق طاقتها من الرياضة، فينقطع دون البلوغ إلى المحل { ولا القلائد } ولا ما قلدته النفس من شعار أهل السلوك والسنن والأعمال الظاهرة بتركها وتغييرها عن وضعها { ولا آمين البيت الحرام } ولا القاصدين المجدين في السلوك المجتهدين بتغيرهم ومنعهم عن الرياضة وإيهان عزائمهم بالمخالطة وتقليل السعي وإيهامهم أنه لا حاجة بهم إليه وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم { يبتغون فضلا من ربهم } بتجليات الأفعال { ورضوانا } بتجليات الصفات.
{ وإذا حللتم } بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء والاستقامة { فاصطادوا } أي: فلا حرج عليكم في الحظوظ بل ربما كان تمتيع النفس بالحظوظ إعانة لها في مشاهداتها ومكاشفاتها لشرفها وذكائها وشدة صفائها { ولا يجرمنكم شنآن قوم } إلى آخره، أي: لا يكسبنكم بعض القوى النفسانية المانعة عن سلوككم أن تقهروها بالكلية بمنعها عن الحقوق التي تقوم بها فتبطلوها أو تضعفوها عن منافعها وما يحتاج إليه من أفعالها بسبب صدها إياكم، فإن وبال ذلك عائد إليكم. أو عداوة قوم من أهليكم وأقاربكم وأصدقائكم بسبب منعهم إياكم عن التجريد والرياضة في السلوك { أن تعتدوا } عليهم بإضرارهم ومقتهم وإرادة الشر بهم فإنه أضر بكم في السلوك من منعهم إياكم { وتعاونوا على البر والتقوى } بتدبير تلك القوى وسياستها بالإحسان إليها بحقوقها ومنعها من حظوظها أو بمراعاة الأهلين والأقارب والأصدقاء بمواساتهم والإحسان إليهم، والمعروف في حقهم مع مخالفتهم إلى ما يمنعكم عنه والاجتناب عن ذلك، كما قال تعالى:
فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا
[لقمان، الآية: 15]، { واتقوا الله } واجعلوه وقاية لكم في هذه الأمور واحذروه في خلافها { إن الله شديد العقاب } يعاقبكم بالصد والحرمان.
[5.3]
{ حرمت عليكم الميتة } هذه هي الأمور المستثناة من أنواع التمتعات المحللة، وهي الميتة أي: خمود الشهوة التي هي رذيلة التفريط المنافية للعفة كالخنوثة والعجز عن الإقدام على القدر الضروري من التمتعات والتمتع بفقدان اعتدال القوة الشهوانية على ما يفعله الخناثى وبعض المغزلين والمتقشفين والمتزهدين بالطبع، القاصرين عن السلوك لنقصان الاستعدادات { والدم } أي: التمتع بهوى النفس في الأعمال فإن مزج الهوى وشوبه يفسد الأعمال كلها { ولحم الخنزير } ووجوه التمتعات الحاصلة بالحرص والشره، فإن قوة الحرص أخبث القوى وأسدها لطرق الكمال والنجاة { وما أهل لغير الله به } أي: الرياضات والأعمال بالرياء وكل ما يفعل لغير الله. فإن كسر النفس وقمعها ومخالفتها لا يكون فعلا جميلا وفضيلة ومعينا في السلوك إلا إذا كان لله، فأما إذا كان لغير الله فهو شرك والشرك أكبر الكبائر { والمنخنقة } أي: حبس النفس عن الرذائل ومنعها عن القبائح بحصول صور الفضائل وصدور الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها. فإن الأفعال النفسية إنما تحسن بقمعها وقهرها لله وخروج الهوى الذي هو قوتها وحياتها عنها وقيامها بإرادة القلب كخروج الدم الذي هو قوة الحيوان وحياته منه بذبحه لله { والموقوذة } أي: صدور الفضائل في الظاهر عن النفس مع كره منها وإجبار عليها { والمتردية } التي تتعلق بالتفريط والنقصان والميل إلى الجهة السفلية وانحطاط النفس عن الهمم العلية والدرجة القوية { والنطيحة } التي تصدر عن خوف وقهر من مثله كالعفاف الحاصل بواسطة زجر المحتسب وخوف الفضيحة { وما أكل السبع } كفضائل العفة التي تحصل لشدة القوة الغضبية من الأنفة والحمية واستيلاء الغضب، فإن الغضب إذا استولى منع الشدة عن فعلها أو لقهر من قهار كالملك والأمير { إلا ما ذكيتم } إلا ما قرنت واعتادت وانقادت لكم بعد قهر من غير، فكانت تصدر عنها الفضائل بإرادة قلبية من غير مزج الهوى.
{ وما ذبح على النصب } ما يفعل بناء على العادات التي يجب رفعها إلا لغرض عقلي أو شرعي { وأن تستقسموا بالأزلام } وأن تطلبوا السعادات والكمالات بالرسوم والطوالع اتكالا على ما قضى الله وقدر وتتركوا السعي والجد في الطلب، وتجعلوا ذلك علة للتقصير بأن تقولوا: ليس لنا نصيب فيها، ولو كان لنا نصيب لحصل. فإنه ربما كان مجرد تعليل وقد علق في القدر كماله بسعيه، فإنه لم يطلع على ذلك { ذلكم فسق } خروج عن الدين الذي هو طريق الحق { اليوم } أي: وقت حصول الكمال بتمرن النفس بالفضائل، وتثبتها في العزائم { يئس الذين كفروا } أي: حجبوا من قوى نفوسكم أو من أبناء جنسكم وأهل جلدتكم من الطبيعيين والمتزندقين { من دينكم } أي: من أن يصدوكم عن طريق الحق { فلا تخشوهم } فإنهم يستولون عليكم بعد ذلك { واخشوني } بأن لا تقفوا عند تجلي صفة من صفاتي وتهيبوا عظمة ذاتي حتى تصلوا إلى مقام الفناء.
{ اليوم أكملت لكم دينكم } ببيان الشعائر وكيفية السلوك { وأتممت عليكم نعمتي } بالهداية إلي { ورضيت لكم } الاستسلام والانقياد بالانمحاء عند تجليات الأفعال والصفات أو إسلام الوجه للفناء عند تجلي الذات { دينا فمن اضطر } إلى أمر من هذه الأمور المحرمة التي عددناها { في مخمصة } في هيجان شديد من النفس وغلبة لظهور صفة من صفاتها { غير متجانف لإثم } غير منحرف عن الدين والوجهة إلى رذيلة مانعة لقصد منه وعزيمة { فإن الله غفور } يستر ذلك عنه بنور صفة من صفاته تقابلها { رحيم } يرحم بمداد التوفيق لإظهار الكمال ورفع موانعه.
[5.4-5]
{ قل أحل لكم الطيبات } من الحقائق والمعارف الحقية والفضائل العلمية التي تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم { وما علمتم } من جوارح حواسكم الظاهرة والباطنة وسائر قواكم وآلاتكم البدنية في اكتساب الفضائل والآداب، محرضين { تعلمونهن مما علمكم الله } من علوم الأخلاق والشرائع التي تبين طريق الاحتظاء من الحظوظ على وجه العدالة { فكلوا مما أمسكن عليكم } مما حصلن لكم بتعليمكم على ما ينبغي بنية وإرادة قلبية وغرض صحيح يؤدي إلى كمال الشخص أو النوع لا يهجن ويثبن وينزن عليه بميلهن وحرصهن لطلب لذتهن وشهوتهن { واذكروا اسم الله عليه } واحضروا بقلوبكم أنها للصورة الإنسانية الكاملة تقصد وتراد، لا لغرض آخر. واجعلوا الله وقاية لكم في فعلها حتى تكون حسنة { إن الله سريع الحساب } يحاسبكم بها في آن لا في أزمنة، كحصول هيآتها في أنفسكم عند ارتكابها.
[5.6-11]
{ يا أيها الذين آمنوا } الإيمان العلمي { إذا قمتم إلى الصلاة } انبعثتم عن نوم الغفلة وقصدتم إلى صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق { فاغسلوا وجوهكم } أي: طهروا وجود قلوبكم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات التي تتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس { وأيديكم } أي: وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس { إلى المرافق } إلى قدر الحقوق والمنافع { وامسحوا برؤوسكم } بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوجه إلى العالم السفلي ومحبة الدنيا بنور الهدى. فإن الروح لا يتكدر بالتعلق، بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفي في انتشار نوره صقل الوجه العالي من القلب الذي إليه، فإن القلب ذو وجهين أحدهما: إلى الروح والرأس ههنا إشارة إليه. والثاني: إلى النفس وقواها، فأحرى بالرجل أن تكون إشارة إليه { وأرجلكم } وجهات قواكم الطبيعية البدنية بنفض غبار الانهماك في الشهوات والإفراط في اللذات { إلى الكعبين } إلى حد الاعتدال الذي يقوم به البدن. فعلى هذا من انهمك في الشهوات وأفرط في اللذات احتاج إلى غسلها بماء علم الأخلاق وعلم الرياضات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة، ومن قرب حوضه فيها من الاعتدال كفاه المسح ولهذا مسح من مسح وغسل من غسل { وإن كنتم جنبا } بعداء عن الحق بالانجذاب إلى الجهة السفلية والإعراض عن الجهة العلوية والميل الكلي إلى النفس { فاطهروا } بكليتكم عن تلك الهيئة المظلمة والصفة الخبيثة الموجبة للبعد والاحتجاب.
{ وإن كنتم مرضى } إلى آخره مكرر، { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات والمكابدات { ولكن يريد } أن يطهركم من الهيآت المظلمة والصفات الخبيثة { وليتم نعمته عليكم } بالتكميل { ولعلكم تشكرون } نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء { نعمة الله عليكم } بالهداية إلى طريق الوصول { وميثاقه } أي: عقود عزائمه المذكورة إذ قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة { هو أقرب للتقوى } أي: العقل أقرب للتجرد عن ملابس صفات النفس واتخاذ صفات الله تعالى وقاية لأنه أشرف الفضائل الذي إذا حصل تبعه الجميع { واتقوا الله } واجعلوه وقاية لكم في صدور العدل منكم فإن منبع الكمالات والفضائل ذاته تعالى { إن الله خبير بما تعملون } أنه من صفات نفوسكم أو منه.
{ وعد الله الذين آمنوا } منكم بالتوحيد العلمي { وعملوا الصالحات } التي توصلهم إلى التوحيد العيني وتعدهم لذلك { لهم مغفرة } من صفاتهم { وأجر عظيم } من تجليات صفاته تعالى. { إذ هم قوم } من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها { أن يبسطوا إليكم أيديهم } بالاستيلاء والقهر والاستعلاء لتحصيل مآربها وملاذها فمنعها عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه { واتقوا الله } واجعلوه وقاية في قهرها ومنعها { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } برؤية الأفعال كلها منه.
[5.12-13]
{ ميثاق بني إسرائيل } هو العهد المذكور والنقباء الإثنا عشر هم الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والعاقلة العلمية { وقال الله إني معكم } أي: في العقد اللاحق أوفقكم وأعينكم لئن قمتم بحقوق التزكية والتخلية من الإعراض عن السعادات البدنية بالعبادة وترك السعادات الخارجية بالزهد، وإيثار الثالثة التي هي الإيمان برسل العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب، وإمداد الملكوت وتعزيرهم أي: تعظيمهم بتسليطهم على شياطين الوهم وتقويتهم ومنعهم وساوسها وإلقاء الوهميات والخياليات والخواطر النفسانية { وأقرضتم الله قرضا حسنا } بالبراءة من الحول والقوة والعلم والقدرة إلى الله بالجملة من الأفعال والصفات كلها ثم من الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى الله { لأكفرن عنكم سيئاتكم } أي: وجودات هذه الثلاث التي هي حجبكم وموانعكم عنكم { ولأدخلنكم جنات } من أفعالي وصفاتي وذاتي { تجري من تحتها الأنهار } علوم التوكل والرضا والتسليم والتوحيد. وبالجملة علوم تجليات الأفعال والصفات والذات، فمن احتجب بعد ذلك العهد وبعث النقباء منكم { فقد ضل } السبيل المستقيم بالحقيقة.
{ قاسية } قست باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية الجاسية الصلبية فحجبت عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله واستبدلوا قوى نفوسهم بها، واستعملوا وهمياتهم وخيالياتهم بدل معارفها وحقائقها من المعاني المعقولية أو خلطوها بها، وذلك هو تحريف الكلم عن مواضعه. { ونسوا حظا } أي: نصيبا وافرا مما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعدادهم بالقوة، فذكروا به في العهد اللاحق { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } أي: على نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء صفات النفس والشيطان عليهم وقساوة قلوبهم { المحسنين } الذين يشاهدون ابتلاء الله إياهم فلا يقابلونهم بالعقاب فيستعملون معهم الصفح والعفو.
[5.14-22]
{ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء } أي: الزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم السبعية والبهيمية والشيطانية وميلهم إلى الجهة السفلية الموجب للتضاد والتعاند لاحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي الذي فيه المقاصد كلية لا تقتضي التجاذب والتعاند إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح والقيامة الكبرى بظهور نور التوحيد { ينبئهم الله } بعقاب ما صنعوا عند الموت وظهور الحرمان والخسران بظهور الهيآت القبيحة المؤذية الراسخة فيهم.
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح } بأن حصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه { أن يهلك المسيح ابن مريم } إلى قوله { جميعا } بالإفناء في التوحيد والطمس في غير الجمع كما قال:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص، الآية: 88].
{ ولله ملك السموات } أي: عالم الأرواح { والأرض } عالم الأجساد { وما بينهما } من الصور والأعراض كلها ظاهرة وباطنة وأسماؤه وصفاته وأفعاله { ادخلوا الأرض المقدسة } أي: حضرة القلب التي هي مقام تجلي الصفات، فإنه بالنسبة إلى سماء الروح أرض { كتب الله لكم } عين لكم في القضاء السابق وأودع في استعدادكم الوصول إليها والمقام بها { ولا ترتدوا على أدباركم } في الميل إلى مدينة البدن والإقبال عليه بتحصيل مآربه ولذاته وطلب موافقته وتزيين هيآته فإنه مقام خلف مقامكم وأدنى وأسفل من رتبتكم { فتنقلبوا خاسرين } باستبدال ظلمات البدن بأنوار القلب وخبائثه بطيباته { إن فيها قوما جبارين } من سلطان الوهم وأمراء الهوى والغضب والشهوة وسائر صفات النفس الفرعونية أخذوها عنوة وقهرا واستولوا عليها مستعلين يجبرون كلا على هواهم ما لنا بهم يدان ولا نقدر على مقاومتهم، قالوا ذلك لاعتيادهم بالذات الطبيعية والشهوات الجسمانية وغلبة الهوى عليهم، فلم يقدروا على الرياضة وقمع الهوى وكسر صفات النفس بالمجاهدة { وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } أي: يصرفهم الله عنها بلا رياضة منا ومجاهدة أو ينصرفوا بالطبع مع إحالته أو يضعفوا عن الاستيلاء كما في الشيخوخة مع امتناع دخولهم فيها حينئذ.
[5.23-26]
{ قال رجلان من الذين يخافون } كانا من النقباء الإثني عشر وهم: العقل النظري والعقل العلمي يخافون سوء عاقبة ملازمة الجسم ووبال العقوبة بهيآته المظلمة { أنعم الله عليهما } بالهداية إلى الطريق المسقيم والدين القويم { ادخلوا عليهم الباب } باب قرية القلب وهو التوكل بتجلي الأفعال كما أن باب قرية الروح هو الرضا { فإذا } دخلتم مقام التوكل الذي هو باب القرية { فإنكم غالبون } بخروجكم عن أفعالكم وعن أحوالكم وبكونكم فاعلين بالله، وإذا كان الحول والقوة بالله يهرب شيطان الوهم والتخيل والهوى والغضب منكم فغلبتم عليهم. ويدل على أن الباب هو التوكل قوله: { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } بالحقيقة، إذ الإيمان بالغيبة عن المؤمن به أقل درجات حضور تجلي الأفعال { قالوا يا موسى } أي: أصروا على إبائهم وامتناعهم عن الدخول { فاذهب أنت وربك } أي: إن كنت نبيا فادفعهم عنا بقوة نفسك، واقمع الهوى، وتلك القوى فينا بلا رياضة ومجاهدة منا، وسل ربك يدفعها عنا كما يقول الشطار والوغود عند موعظتك إياهم، وزجرك وتهديدك لهم. ادفع بهمتك عنا هذه الشقاوة إما استهزاء وعنادا وإما جدا واعتقادا { إنا ها هنا قاعدون } ملازمون مكاننا في مقام النفس، معتكفون على هوى نفوسنا ولذات أبداننا كما قالوا: حطا سمقاثا.
{ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } هي مدة بقائهم في مقام النفس، أي: بقوا في تيع الطبيعة يتحيرون أربعين سنة إلى قرية القلب، فإن دخول مقام القلب مع استيلاء جبابرة صفات النفس عليه حرام ممتنع، ولهذا قال تعالى:
بلغ أشده وبلغ أربعين سنة
[الأحقاف، الآية: 15]، فإنه وقت البلوغ الحقيقي. وقيل في قصة التيه: إنهم كانوا يسيرون جادين طول النهار في ستة فراسخ، فإذا أمسوا كانوا على المقام الذي ارتحلوا عنه، أي: كان سعيهم في تحصيل المناجح الجسمانية والمباغي البدنية المحصورة في الجهات الست ولم يخرجوا عن الجهات بالتجرد، فكانوا على المقام الأول لعدم توجههم إلى سمت القلب بطلب التجرد والتنزه عن الهيآت البدنية والصفات النفسانية. وكان ينزل من السماء بالليل عمود من نار يسيرون وينتفعون بضوئه، أي: ينزل عليهم نور عقل المعاش من سماء الروح فيهتدون به إلى مصالحهم. وقيل: من نار لأنه عقل مشوب بالوهم ليس عقلا صرفا، وإلا لاهتدوا به إلى طريق القلب. وأما الغمام والمن والسلوى فقد مر ذكرها وتأويلها وقيل: كان على كل مولود ولد في التيه قميص بقدر قامته يزيد بزيادته، يعنون به: لباس البدن والله أعلم. وإن شئت أن تطبق القصة على حالك أولت موسى بالقلب وهارون بالروح، فإنه كان أخاه الأكبر، ولهذا قال:
هو أفصح مني لسانا
[القصص، الآية: 34] وبني إسرائيل بالقوة الروحانية، والأرض المقدسة بالنفس المطمئنة، ثم أجريت القصة بحالها إلى آخرها. { فلا تأس } أي: لا تهتهم بهدايتهم، ولا تغتم على عقوبتهم، فإنهم فسقوا وخرجوا عن طريق القلب بهواهم وطغيانهم.
[5.27]
{ واتل عليهم نبأ ابني آدم } القلب للذين هما هابيل القلب وقابيل الوهم، إذ كان لكل منهما توأمة. أما توأمة العقل فالعاقلة العلمية المدبرة لأمور المعاش والمعاد بالآراء الصلاحية المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات. وأما توأمة الوهم: فالقوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزويج الوهم بتوأمة العقل التي هي العاقلة العلمية لتتسلط عليه بالقياسات العقلية البرهانية وتدربه بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية، وتسخره للعقل فيطيع أب القلب، ويحسن إليه، ويبره بأنواع الرجاء الصادقة ويعينه في الأعمال الصالحة ويمتنع من عقوقه بالتسويلات والتزينات الشيطانية الفاسدة، وإغراء النفس عليها بالهيئات الفاسقة والأفعال السيئة، وتزويج العقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وتهيج أحاديث النفس الكاذبة فيستريح أبوها منها ويستعملها في المعقولات والمحسوسات والمعاني الكلية والجزئية، فتصير مفكرة عاملة في تحصيل العلوم فينتفع أبوها. فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب لمناسبتها إياه، فأمر أبوهما القلب بأن يقرب كل واحد منهما قربانا أي: نسكا يتقرب به إلى الله بإفاضة النتيجة وإفناء صورة القياس وقبول الصورة المعقولة الكلية المطابقة لما في نفس الأمر التي هي نسيكته التي يتقرب بها إلى الله منه، وعدم قبول قربان الوهم الذي هو صورة المغالطة أو الصورة الموهومة الجزئية امتناع اتصال العقل به بإفاضة النتيجة إذ لا نتيجة لها أو امتناع قبول الصورة الوهمية إذ لا تطابق ما في نفس الأمر فزاد حسده عليه.
{ قال لأقتلنك } أي: لما زاد قرب العقل من الله وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته كان الوهم أحرص على إبطال عمله ومنعه عن فعله كما ترى في التشكيكات الوهمية ومعارضاته العقل في تحصيل المطالب النظرية العميقة الغور وقتله عبارة عن منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الذي به حياة العقل عنه { من المتقين } الذين يتخذون الله وقاية في صدور الخيرات منهم أو يحذرون آثام الهيئات المظلمة البدنية والأكاذيب الباطلة والأضاليل المغوية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة.
[5.28-31]
{ ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } لأني لا أبطل أعمالك التي هي شديدة في مواضعها من المحسوسات ولا أقطع عنك حياتك التي هي مدد النفس والهوى ولا أمنعك عن فعلك الخاص بك إذ العقل يعلم أن المصالح الجزئية وأحكام المحسوسات والمعاني الجزئية المعلقة بها وترتيب أسباب المعاش كلها لا تحصل ولا تتيسر إلا بالوهم ولولا الرجاء وحصول الأماني والآمال الصادرة عن الوهم لم يتيسر لأحد ما يتمعش به { إني أخاف الله رب العالمين } لأني أعرفه، وقال:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر، الآية: 28] واعلم بأنه إنما خلقك لشأن وأوجدك لحكمة، فلا أتعرض له في ذلك { إني أريد أن تبوء } بإثم قتلي وإثم قتلك من الآراء الباطلة والتصورات الفاسدة التي لم يتقبل قربانك لأجلها { فتكون من أصحاب } نار الحجبة والحرمان { وذلك جزاء الظالمين } الواضعين الأشياء في غير موضعها كوضعك الأحكام الحسية في المعقولات.
{ فطوعت } فسهلت وسولت { له نفسه قتل أخيه فقتله } بمنعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية { فأصبح من الخاسرين } لتضرره باستيلائه على العقل واستبدال ضلالته وخطئه بهداية العقل وصوابه، فإن الوهم إذا انقطع عن معاضدة العقل حمل النفس بأنواع التسويلات والتزيينات على إقدام أمور يتضرر به النفس والبدن جميعا، كالإسرافات المذمومة من باب اللذات البهيمية، والسبعية مثل شدة الحرص في طلب المال والجاه والإفراط فيضعف الوهم أيضا أو يبطل { فبعث الله } غراب الحرص { يبحث في } أرض النفس { ليريه كيف يواري سوأة أخيه } أي: الوهم، إذ بقطع العقل عن نور الهداية وحجبها عن السير في العالم العلوي لتحصيل الكمال وطلب سعادة المآل تحير في أمره، فانبعث الحرص فهداه في تيه الضلالة وأراه كيف يواري ويدفع عورته أي: جثته المقتولة التي حملها الوهم على ظهره حتى أنتنت فصار عقل المعاش في تراب الأرض وهو صورة العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس المدفون فيها تأكله ديدان القوى الطبيعية باستعمالها في تحصيل لذاتها ومطالبها { أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب } الذي دفن فرخه أي: داعيته أو كماله في أرض النفس بإفناء ما يحصل له وكتمانه فيها { فأواري سوأة أخي } بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها { فأصبح من النادمين } عند الخسران وحصول الحرمان.
[5.32-49]
{ فكأنما قتل الناس جميعا } لأن كل شخص يشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج ولا اعتبار بالعدد فإن النوع لا يزيد بحسب الحقيقة بتعدد الأفراد ولا ينقص بانحصاره في شخص.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } بالتزكية { وابتغوا إليه الوسيلة } بالتحلية { وجاهدوا في سبيله } بمحو الصفات والفناء بالذات { لعلكم تفلحون } من ظهور بقايا الصفات والذات { ما في الأرض } أي: ما في الجهة السفلية لأنها أسباب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا في الجهة العلوية من المعارف والحقائق النورية.
{ وأنزلنا إليك الكتاب } علم الفرقان الذي هو ظهور تفاصيل كمالك { بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب } أي: علم القرآن وهو العلم الإجمالي الثابت في استعدادك وحافظا عليه بالإظهار أو لما بين يديه العلوم النازلة على الأنبياء السابقين زمانا فإن الغالب على موسى عند الرجوع إلى البقاء عند الفناء بالوجود الموهوب قوة النفس وسلطانها، ولهذا بطش بأخيه كما قال تعالى:
وأخذ برأس أخيه يجره إليه
[الأعراف، الآية: 150]، وقال عند طلب التجلي:
أرني أنظر إليك
[الأعراف، الآية: 143] فكان أكثر التوراة علم الأحكام الذي يتعلق بأحوال النفس وتهذيبها ودعوته إلى الظاهر والغالب على عيسى قوة القلب ونوره، ولهذا تجرد عن ملابس الدنيا وأمر بالترهب. وقال لبعض أصحابه: إذا لطمت في خدك فأدر الخد الآخر لمن لطمك. وكان أكثر الإنجيل علم تجليات الصفات والأخلاق والمواعظ والنصائح التي تتعلق بأحوال القلب وتصفيته وتنويره ودعوته إلى الباطن والغالب على محمد عليه الصلاة والسلام سلطان الروح ونوره، فكان جامعا لمكارم الأخلاق متمما لها، عادلا في الأحكام، متوسطا فيها. وكان القرآن شاملا لما في الكتابين من العلوم والأحكام والمعارف مصدقا له، حافظا عليه، مع زيادات في التوحيد والمحبة ودعوته إلى التوحيد.
{ فاحكم بينهم بما أنزل الله } من العدل الذي هو ظل المحبة التي هي ظل الوحدة التي انكشفت عليك { ولا تتبع أهواءهم } في تغليب أحد الجانبين، إما الظاهر وإما الباطن { عما جاءك من الحق } من التوحيد واملحبة والعدل، فإن التوحيد يقتضي المحبة، والمحبة العدل، ويقع ظله من سماء الروح على القلب بالمحبة، وعلى النفس بالعدالة { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } موردا كمورد النفس ومورد القلب ومورد الروح، وطريقا كعلم الأحكام والمعاملات التي تتعلق بالقلب وسلوك طريق الباطن الموصل إلى جنة الصفات، وعلم التوحيد والمشاهدة الذي يتعلق بالروح وسلوك طريق الفناء الذي يوصل إلى جنة الذات { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } موحدين على الفطرة الأولى، متفقين على دين واحد { ولكن } ليظهر عليكم ما آتاكم بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد منكم فتتنوع الكمالات { فاستبقوا الخيرات } أي: الأمور الموصلة إلى كمالكم الذي قدر لكم بحسب استعدادكم المقربة إياكم إليه بإخراجه إلى الفعل { إلى الله مرجعكم جميعا } في عين جمع الوجود على حسب المراتب لا عين جمع الذات { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي: يظهر عليكم ما اختلفتم فيه بحسب اختلاف استعداداتكم من طلب إحدى الجنان الثلاث، والوصول إليها، والحرمان بموانعها التي احتجبتم بها عما في استعدادكم من الكمال { ببعض ذنوبهم } ذنوب اليهود حجب الأفعال وذنوب النصارى حجب الصفات ففسق اليهود هو الخروج عن حكم تجليات الأفعال الإلهية برؤية النفس أفعالها وفسق النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية النفس صفاتها واحتجابها بها كما أن فسق المحمديين هو الالتفات إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة الذاتية.
[5.50-54]
{ أفحكم الجاهلية يبغون } أي: ما يطلبون بجهلهم إلا حكما صادرا عن مقام النفس بالجهل لا صادرا عن علم إلهي { من يرتد } من يرجع عن طريق الحق إلى الاحتجاب ببعض الحجب، أي حجاب كان وخرج عنه فهو من المردودين لا من أهل المحبة ولا ينثلم ولا ينتقض دين الحق بارتداده، فإن الله سوف يأتي بقوم يحبهم بحسب العناية الأولى لا لعلة بل لذواتهم، ويحبون ذاته لا لصفة من صفاته ككونه لطيفا أو رحيما أو منعما فإن محبة الصفات تتغير باختلاف تجلياتها ومن يحب اللطيف لم تبق محبته إذا تجلى بصفة القهر، ومن يحب المنعم انمحت محبته إذا تجلى بصفة المنتقم. وأما محبة الذات فهي باقية ببقائها لا تتغير باختلاف التجليات فيحب محبها القهار عند القهر كما يحب اللطيف عند اللطف، ويحب المنتقم حالة الانتقام كما يحب المنعم حالة الإنعام فلا تفاوت في الرضا وعدمه، ولا تختلف محبته في أحواله ويشكر عند البلاء كما يشكر عند النعماء. وأما من يحب المنعم فلا يشكر عند البلاء بل يصبر ومثل هذه المحبة يلزم المحبة الأولى التي هي لله ولأوليائه فيحبونه بحبه إياهم، وإلا فمن أين لهم المحبة لله، ما للتراب ورب الأرباب.
{ أذلة على المؤمنين } لينين حانين عليهم، عطوفين في تواضعهم لهم لمكان الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الأزلية والمناسبة الفطرية بينهم { أعزة } أشداء غلاظ { على } المحجوبين لأضداد ما ذكر { يجاهدون في سبيل الله } بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم التي هي حجب مشاهداتهم { ولا يخافون لومة لائم } من نسبتهم إلى الإباحة والزندقة والكفر، وعذلهم بترك الدنيا ولذاتها، بل بترك الآخرة ونعيمها كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " اعبدوا الله لا لرغبة ولا لرهبة " ، فهم من الفتيان الذين قيل فيهم:
وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه
هانت عليه ملامة العذال
[5.55-64]
{ إنما وليكم الله ورسوله } والمؤمنون لا هم للتنافي الحقيقي بينكم وبينهم، أي: يتولى الله ورسوله والمؤمنون إياكم أو لا يتولى الله وأولياءه من الرسول والمؤمنين المحجوبون للتضاد الحقيقي بينهم، إنما تتولون الله ورسوله والذين آمنوا أنتم. جمع أولا في إثبات ولايتهم لله مطلقا ثم فصلها بحسب الظاهر، فقال: { ورسوله والذين آمنوا } ، كما فعل في الشهادة في قوله تعالى:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران، الآية: 18].
{ الذين } آمنوا { يقيمون } صلاة الشهود والحضور الذاتي { ويؤتون } زكاة البقايا { وهم راكعون } خاضعون في البقاء بالله بنسبة كمالاتهم وصفاتهم إلى الله كأمير المؤمنين عليه السلام النازل في حقه هذا القائل: لا إله إلا الله بعد فناء الخلق، لا منتصبون في مقام الطغيان بنسبتها إلى أنفسهم. { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } فهو من أهل الله، وإن أهل الله { هم الغالبون } بالله.
{ وترى كثيرا منهم يسارعون } أي: يقدمون على جميع الرذائل بالسرعة لاعتيادهم بها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم فالإثم رذيلة القوة النطقية لأنه الكذب، والعدوان رذيلة القوة الشهوية.
[5.65-71]
{ ولو أن أهل الكتاب آمنوا } آمنوا الإيمان التوحيدي الحقيقي { واتقوا } واجتنبوا عن شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم { لكفرنا عنهم سيئاتهم } من بقاياهم { ولأدخلناهم } الجنات الثلاث { ولو أنهم أقاموا التوراة } بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات { والإنجيل } بتحقق عنوان الباطن، والقيام بحقوق تجليات الصفات، والمحافظة على أحكامها { و } احكموا { ما أنزل إليهم } من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء { لأكلوا من فوقهم } أي: لرزقوا من العالم العلوي الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية اليقينية، والمعارف الحقانية التي بها اهتدوا إلى معرفة الله ومعرفة الملكوت والجبروت { ومن تحت أرجلهم } أي: من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والمدركات الحسية التى اهتدوا بها إلى معرفة عالم الملك، فعرفوا الله باسمه الظاهر والباطن، بل بجميع الأسماء والصفات ووصلوا إلى مقام التوحيدين المذكورين { منهم أمة مقتصدة } عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات { وكثير منهم } لم يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات، فساء عملهم لأنه من صفات نفوسهم فهو حجابهم الأكثف.
{ وأرسلنا إليهم رسلا } على حسب مراتبهم فلما كانوا محجوبين من جميع الوجوه أرسلنا موسى لرفع حجاب الأفعال والدعوة إلى توحيد الملك، فما هوته أنفسهم لأن دعوته كانت مخالفة لهواها لضراوتها بأفعالها وبتجمعها بها وبلذاتها وشهواتها فكذبوه وعبدوا عجل النفس واعتدوا في السبت وفعلوا ما فعلوا حتى إذا آمن به من آمن وبرز من حجاب الأفعال حسب أنه الكمال المطلق، فأرسلنا عيسى برفع حجاب الصفات والدعوة إلى الباطن، وتوحيد الملكوت فما هوته أنفسهم لمخالفة دعوته هواها من حسبان الكمال، فكذبوه وفعلوا ما فعلوا حتى إذا آمن به من آمن وبرز عن حجاب الصفات بقي على حاله، حاسبا لنفسه الكمال المطلق فأرسلنا محمدا برفع حجاب الصفات والدعوة إلى توحيد الذات فما هوته أنفسهم فكذبوه.
{ وحسبوا أن لا تكون فتنة } شرك عند توحيد الأفعال وظهور الدعوة العيسوية { فعموا } عن تجليات رؤية الصفات { وصموا } عن سماع علمها { ثم تاب الله عليهم } بفتح أسماع قلوبهم وأبصارها، فتابوا، فقبل توبتهم { ثم عموا وصموا } عند الدعوة المحمدية عن مشاهدة الوجه الباقي وسماع علم توحيد الجمع المطلق { والله بصير } بعملهم في المقامات الثلاث ورد الدعوات وإنكار الأنبياء فيجازيهم على حسب حالهم.
[5.72]
{ اعبدوا الله ربي وربكم } أي: خصصوا عبادتكم بالذات الموصوفة بجميع الصفات والأسماء التي هي الوجود المطلق، ولا تعينوه باسم وصفة، فإن نسبة ربوبيته إلى الكل سواء ومن حصر ألوهيته في صورة وخصصها باسم معين وكلمة معينة وصفة معينة، فقد أثبت غيره ضرورة وجود ما سواه من الأسماء والصور والصفات. ومن أثبت غيره فقد أشرك به ومن أشرك به { فقد حرم الله عليه } جنة شهوده بذاته وصفاته وأفعاله أي: الجنة المطلقة الشاملة، يعني: فقد حجبه مطلقا { ومأواه } نار الحرمان لظلمه بالشرك { وما للظالمين من أنصار } ينصرونهم فينقذونهم من العذاب.
[5.73-81]
{ لقد كفر } حجب { الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } واحد من جملة ثلاثة أشياء: الفعل الذي هو ظاهر عالم الملك، والصفة التي هي باطن عالم الملكوت، والذات التي تقوم بها الصفة ويصدر عنها الفعل، إذ ليس هو ذلك الواحد الذي توهموه بل الفعل والصفة في الحقيقة عين الذات، ولا فرق إلا بالاعتبار، وما الله إلا الواحد المطلق، وإلا لكان بحسب كل اسم من أسمائه إله آخر، فتعدد الآلهة سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا { وإن لم ينتهوا عما يقولون } من كون الصفة والفعل غير الذات { ليمسن } المحجوبين { عذاب } مؤلم لقصورهم في العرفان مع كونهم مستعدين { أفلا يتوبون إلى الله } بالرجوع عن إثبات التعدد في الله إلى عين الجمع المطلق، ويستغفرونه عن ذنب رؤية وجودهم ووجود غيرهم { والله غفور } يسترهم بذاته { رحيم } يرحمهم بكمال العرفان والتوحيد { ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } إذ لا فعل له فيضر أو ينفع، بل لا وجود فضلا عن الفعل. وقال: ما لا يملك دون من ، وإن كان المراد عيسى للتنبيه على أنه شيء يعتبر اعتبارا من حيث تعينه ولا وجود له حقيقة { قد ضلوا من قبل } بالاحتجاب عن أنوار الصفات { وأضلوا كثيرا وضلوا } الآن { عن سواء السبيل } طريق الوحدة الذاتية التي هي الاستقامة إلى الله.
[5.82-86]
{ لتجدن } إلى آخره، الموالاة والمعاداة إنما يكونان بحسب المناسبة والمخالفة، فكل من والى أحدا دل على رابطة جنسية بينهما، وكل من عاداه دل على مباينة ومضادة بينهما. ولما كان اليهود محجوبين عن الذات والصفات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال كانت مناسبتهم مع المحجوبين المشركين مطلقا أقوى من مناسبتهم مع المؤمنين الموحدين مطلقا. ولما كان النصارى برزوا من حجاب الصفات ولم يتولهم إلا حجاب الذات كانت مناسبتهم مع المؤمنين أقوى، فلذلك كانوا أقرب مودة لهم من غيرهم. والمشركون واليهود أشد عداوة لقوة حجابهم، أما ترى كيف علل قربهم في المودة بعلمهم وعبادتهم وعدم استكبارهم؟، فإن العبادة توصل إلى جنة الأفعال لتجردهم فيها عن أفعال نفوسهم فاعلين ما أمر الله، والعلم يوصل إلى جنة الصفات لتنزههم به عن جنة النفوس والوصول إلى مقام القلب الذي هو محل المكاشفة وقبول العلم الإلهي، وعدم الاستكبار يدل على أنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفات العبادة والعلم ولا نسبوا فعلهم وعلمهم إليها بل إلى الله وإلا استكبروا وأظهروا العجب.
{ ترى أعينهم تفيض من الدمع } شوقا إلى ما عرفوا من توحيد الذات لأنهم كانوا أهل رياضة وذوق فهاجت نفوسهم بسماع الوحي وذكروا الوحدة { مما عرفوا من الحق } بصفاته أو سمعوا من الحق كلامه، فبكوا اشتياقا كما قال:
ويبكي إن نأوا شوقا إليهم
ويبكي إن دنوا خوف الفراق
{ آمنا } بالتوحيد الذاتي إيمانا عينيا فاجعلنا من { الشاهدين } الحاضرين الذين مقامهم الشهود الذاتي واليقين الحقي، وإيمانا علميا يقينيا فاجعلنا مع المعاينين { وما لنا لا نؤمن } إيمانا حقيقيا بذاته وما جاءنا من كلامه أو لا نؤمن بالله جمعا { وما جاءنا من الحق } تفصيلا { مع القوم الصالحين } الذي استقاموا بالبقاء بعد { جنات تجري من تحتها الأنهار } من التجليات الثلاث مع علومها { وذلك جزاء المحسنين } المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله.
{ والذين } حجبوا عن الذات { وكذبوا } بآيات الصفات { أولئك أصحاب } الحرمان الكلي في جحيم صفات النفوس.
[5.87-93]
{ يا أيها الذين آمنوا } إيمانا عمليا { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات بتقصيركم في السلوك { ولا تعتدوا } بطغيان النفس وظهورها بصفاتها واجعلوا ما رزقكم الله من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم سائغا طيبا واجعلوا الله وقاية لكم في حصول تلك الكمالات بأن تروها منه وله لا منكم ولكم فتطغوا { إن كنتم } موحدين.
{ وأطيعوا الله } بالفناء فيه فتنقادوا فيما يستعملكم فيه كالميت { وأطيعوا الرسول } بالبقاء بعد الفناء، فتستقيموا فيه مراعين للتفصيل، أحياء بحياته { واحذروا } ظهور البقاء حالة الاستقامة { فإن توليتم فاعلموا } أن التقصير منكم وما على الرسول إلا البلاغ لا الإلزام.
{ ليس على الذين آمنوا } الإيمان الغيبي بتوحيد الأفعال { وعملوا } بمقتضى إيمانهم أعمالا تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق، حرج وضيق فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله وقاية في صدور الأفعال منهم { وآمنوا } بتوحيد الصفات { وعملوا } ما يخرجهم عن حجب الصفات ويصلحهم لمشاهدة التجليات الإلهية بالمحو فيها { ثم اتقوا } بقايا صفاتهم واتخذوا الله وقاية في صدور صفته عليهم { وآمنوا } بتوحيد الذات { ثم اتقوا } بقية ذواتهم واتخذوا الله وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء { والله يحب المحسنين } المشاهدين للوحدة في عين الكثرة، المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني.
[5.94]
{ يا أيها الذين آمنوا } بالغيب { ليبلونكم الله } حال سلوككم وإحرامكم لزيادة كعبة الوصول { بشيء } من الحظوظ يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليها { ليعلم الله } العلم التفصيلي التابع للوقوع الذي يترتب عليه جزاء { من يخافه } في حالة الغيبة فإن الخوف لا يكون إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالخطاب الذي هو من باب الأفعال. وأما في حالة الحضور فأما الخشية فبتجلي الربوبية والعظمة، وأما الهيبة فبتجلي الذات . فالخوف من صفات النفس، والخشية من صفات القلب، والهيبة من صفات الروح { فمن اعتدى بعد ذلك } بارتكاب الحظوظ بعد الابتلاء { فله عذاب } مؤلم للاحتجاب بفعله عن الشوق.
[5.95-96]
{ لا تقتلوا الصيد } لا ترتكبوا الحظوظ النفسانية في حالة الإحرام الحقيقي، ومن ارتكبه قصدا منه ونية بميل قوى من النفس وانجذاب إليه لا لأمر اتفاقي أو رعاية خاطر ضيف أو صاحب { جزاء } أي: فحكمه جزاء قهره تلك القوة التي ارتكب بها الحظ النفساني من قوى النفس البهيمية بأمر يوازي ذلك الحظ { يحكم به ذوا عدل } من العاقلتين النظرية والعملية { منكم } أي: من أنفسكم أو من شيوخكم أو من أصحابكم المقدمين السابقين يعينان كيفيته وكميته { هديا بالغ الكعبة } الحقيقية، أي: في حال كون تلك القوة البهيمية هديا بإفنائها في الله إن كان صاحبها من الأقوياء ملبيا قادرا { أو كفارة } أي: ستر بصدقة أو صيام يزيل ذلك الميل ويستر تلك الهيئة عن نفسه أو بإيتاء حق تلك القوة والاقتصار عليه دون الحظ فإنها مسكينة أو إمساك عن أفعال تلك القوة بقدر ذلك الحظ كيما يزول عنها الميل { ليذوق وبال أمره ومن عاد فينتقم الله منه } بالحجب والحرمان { والله عزيز } لا يمكن الوصول إلى جنات عزه مع كدورات صفات النفس { ذو انتقام } يحجب بهيئة مظلمة وظهور صفة ووجود بقية، كما
" قال تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: " أنذر الصديقين بأني غيور " ".
{ أحل لكم صيد } بحر العالم الروحاني من المعارف والمعقولات والحظوظ العلمية في إحرام الحضرة الإلهية { وطعامه } من العلم النافع الذي هو حق واجب تعلمه في المعاملات والخلاق تمتيعا { لكم } أيها السالكون لطريق الحق { وللسيارة } المسافرين لسفر الآخرة، المحرزين لأرباح النعيم الباقي { وحرم عليكم صيد } بر العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية. واجعلوا الله وقاية لكم في سيركم لتسيروا به واجعلوا نفوسكم وقاية الله في صدور الشرور المانعة منها وتيقنوا أنكم { إليه تحشرون } بالفناء في الذات، فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وراء الحجاب.
[5.97-99]
{ جعل الله } كعبة حضرة الجمع { البيت } المحرم من دخول الغير فيه كما قيل: جل جناب الحق من أن يكون شريعة لكل وارد. { قياما للناس } من موتهم الحقيقي وانتعاشا لهم به وبحياته وقدرته وسائر صفاته { والشهر الحرام } أي: زمان الوصول، وهو زمان الحج الحقيقي الذي يحرم ظهور صفات النفس فيه { والهدي } أي: النفس المذبوحة بفناء تلك الكعبة { والقلائد } وخصوصا النفس القوية، الشريفة، المطيعة، المنقادة، فإن التقرب بها أفضل وشأنها عند البقاء والقيام بالوجود الثاني والحياة الحقيقية أرفع { ذلك } أي: جعل تلك الحضرة قياما لكم { لتعلموا } بعلمه عند القيام به { إن الله يعلم } حقائق الأشياء في عالم الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء، إذ لا يمكن إحاطة علمكم بعلمه.
{ اعلموا أن الله شديد العقاب } بالحجب لمن ظهر بصفة أو بقية حال الوصول أو ضرب بخطأ واشتغل بغير حال السلوك وانتهك حرمة من حرماته { غفور } للتلوينات والفترات { رحيم } بهيئة الكمالات والسعادات التي لا يعلم قدرها إلا هو.
{ ما على الرسول إلا } التبليغ لا الإيصال { والله يعلم } سركم وعلانيتكم { ما تبدون } من الأعمال والأخلاق { وما تكتمون } من النيات والعلوم والأحوال، هل تصلح للتقرب بها إليه؟ وهل تستعدون بها للقائه أم لا؟.
[5.100-108]
{ قل لا يستوي الخبيث } من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال { والطيب } منها عند الله تعالى، فإن الطيب مقبول موجب للقرب والوصول والخبيث منها مردود موجب للبعد والطرد والحرمان { ولو أعجبك } الخبيث بكثرته ووفوره لمناسبته للنفس ولملاءمته لصفاتها، فاجعلوا الله وقاية لكم في الاجتناب عن الخبيث واختيار الطيب. يأكل من له لب أي: عقل خالص عن شوب الوهم ومزج هوى النفس { لعلكم تفلحون } بالخلاص عن نفوسكم وصفاتها وخبائثها والوصول إلى الله بالفناء فيه.
[5.109-111]
{ يوم يجمع الله الرسل } في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات { فيقول ماذا } أجابكم الأمم حين دعوتموهم إلي؟ أي: هل تطلعون على مراتبهم في كمالاتهم التي توجهوا إليها في متابعتكم { قالوا لا علم لنا } أي: العالم كله لك جمعا وتفصيلا ليس لغيرك علم لفناء صفاتنا في صفاتك { إنك أنت علام الغيوب } فغيوب بواطننا وبواطنهم كلها علمك { نعمتي عليك } بالهداية الخاصة ومقام النبوة والولاية { وعلى والدتك } بالتطهير والتزكية والاصطفاء { تكلم الناس } في مهد البدن { وكهلا } بالغا إلى نور شيب الكمال بالتجرد عن البدن وملابسه { وإذ علمتك } كتاب الحقائق والمعارف الثابتة في اللوح المحفوظ بتأييد روح القدس وحكمة السلوك في الله بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد، وتوراة العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها، وإنجيل العلوم الباطنة من علوم تجليات الصفات وأحكامها وأحكام أحوال القلب وصفاته وأعماله.
{ وإذ تخلق } من طين العقل الهيولاني الذي هو الاستعداد المحض بيد التربية والحكمة العملية { كهيئة } طير القلوب الطائرة إلى حضرة القدس لتجردها عن عالمها وكمالها { بإذني } أي: بعلمي وقدرتي وتيسيري عند تجلي صفات حياتي وعلمي وقدرتي لك وإنصافك واستنبائي إياك { فتنفخ فيها } من روح الكمال، حياة العلم الحقيقي بالتكميل والإضافة { فتكون طيرا } نفسا مجردة كاملة تطير إلى جناب القدس بجناح العشق { وتبرئ الأكمه } المحجوب عن نور الحق. { والأبرص } المعيب بمرض محبة الدنيا وغلبة الهوى { وإذ تخرج } موتى الجهل من قبور البدن وأرض النفس { بإذني } { وإذ كففت بني إسرائيل } المحجوبين عن نور تجليات الصفات الجاهلين المضادين لك لجهلهم بحالك ومقامك { عنك إذ جئتهم بالبينات } بالحجج والدلائل الواضحة { فقال الذين } حجبوا { منهم } عن دين الحق { إن هذا إلا سحر مبين } لحيرتهم فيه.
{ وإذ أوحيت إلى الحواريين } أي: ألهمت في قلوبهم النورانيين الذين طهروا نفوسهم بماء المنافع والأعمال المزكية حتى قبلوا دعوتك لصفاء نفوسهم وأحبوك بالإرادة التامة لمناسبتهم إياك بنور الفطرة وصفاء الاستعداد { أن آمنوا بي } إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات والمحو { وبرسولي } برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل. { قالوا آمنا واشهد } يا إلهنا بعلمك الشامل المحيط بالكل أننا منقادون لك مسلمين وجودات صفاتنا إليك.
[5.112-115]
{ إذ قال الحواريون } إذ اقترح عليك أصحابك فقالوا { هل يستطيع ربك } أي: شاهدك من عالم الربوبية، فإن رب كل واحد هو الاسم الذي يربه ويكمله ولا يعبد أحد إلا ما عرفه من عالم الربوبية ولا عرف إلا ما بلغ إليه من المرتبة في الألوهية فيستفيض منه العلوم ويستنزل منه البركات ويستمد منه المدد الروحاني، ولهذا قالوا مع إقرارهم وإسلامهم: ربك، ولم يقولوا: ربنا، لأن ربهم لا يستطيع { أن ينزل علينا مائدة من السماء } شريعة من سماء عالم الروح تشتمل على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام فيها غذاء القلوب وقوت النفوس وحياتها وذوقها { قال اتقوا الله } احذروه في ظهور صفات نفوسكم واجعلوه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأخلاق والأفعال تنجوا من تبعاتها وتفوزوا وتفلحوا إن تحقق إيمانكم فلا حاجة بكم إلى شريعة جديدة.
{ قالوا نريد أن } نستفيد { منها } ونعمل بها ونتقوى بها { وتطمئن قلوبنا } فإن العلم غذاء القلب وقوته { ونعلم } صدقك في الإخبار عن ربك ونبوتك وولايتك بها وفيها { ونكون عليها من الشاهدين } الحاضرين أهل العلم نخبر بها من عدانا من الغائبين ونعلمهم وندعوهم بها إلى الله { تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا } أمرا أي: شرعا ودينا يعود إليه من في زماننا من أهل ديننا ومن بعدنا ممن سيوجد من النصارى { وآية منك } علامة وعلما منك تعرف بها وتعبد { وارزقنا } ذلك الشرع والعلم النافع والهداية { وأنت خير الرازقين } لا ترزق إلا ما ينفعنا ويكون صلاحنا فيه { فمن يكفر } يحتجب عن ذلك الدين بعد إنزاله ووضوحه { فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } لبيان الطريق ووضوح الدين والحجة مع وجود استعدادهم فلا ينكرونه إلا معاندين والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل، إذ الشعور بالمحجوب عنه يوجب شدة الإيلام.
[5.116-120]
{ أأنت } دعوت الناس إلى نفسك وأمك أو إلى مقام قلبك ونفسك فإن من بقي فيه وجود الأنائية وبقية النفس والهوى، أو كان فيه تلوين بوجود القلب وظهوره بصفته يدعو الخلق إما إلى مقام نفسه وإما إلى مقام قلبه لا إلى الحق { قال سبحانك } تنزيه لله عن الشريك وتبرئة له عن وجود البقية { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } فإني لا وجود لي بالحقيقة فلا ينبغي ولا يصح أن أقول قولا ليس لي ذلك القول بالحقيقة، فإن القول والفعل والصفة والوجود كلها لك { إن كنت قلته فقد علمته } أي: إن كان صدر مني قول فعن علمك ولا وجود لما لا تعلم وما وجد بعلمك وجد { تعلم ما في نفسي } لإحاطتك بالكل، فعلمي بعض علمك { ولا أعلم ما في نفسك } أي: ذاتك لأني لا أحيط بالكل { ما قلت لهم } وما أمرتهم إلا ما كلفتني قوله وألزمتني إياه { أن اعبدوا الله ربي وربكم } أي: ما دعوتهم إلا إلى الجمع في صورة التفصيل وهو الذي نسبة ربوبيته إلى الكل سواء فغلطوا فما رأوه إلا في بعض التفاصيل لضيق وعائهم { وكنت عليهم شهيدا } رقيبا حاضرا أراعيهم وأعلمهم { ما دمت فيهم } أي: ما بقي مني وجود بقية { فلما توفيتني } أفنيتني بالكلية بك { كنت أنت الرقيب عليهم } لفنائي فيك { وأنت على كل شيء شهيد } حاضر، يوجد بك، وإلا لم يكن ذلك الشيء.
{ إن تعذبهم } بإدامة الحجاب { فإنهم عبادك } أحقاء بالحجب والحرمان وأنت أولى بهم تفعل بهم ما تشاء { وإن تغفر لهم } برفع الحجاب { فإنك أنت العزيز } القوي القادر على ذلك لا تزول عزتك بتقريبهم ورفع حجابهم { الحكيم } تفعل ما تفعله من التعذيب بالحجب والحرمان والتقريب باللطف والغفران بحكمتك البالغة { هذا يوم } نفع صدقك إياك، وصدق كل صادق لكونه خميرة الكمالات وخاصية الملكوت { لهم جنات } الصفات بدليل ثمرة الرضوان فإن الرضا لا يكون إلا بفناء الإرادة ولا تفنى إرادتهم إلا إذا غلبت إرادة الله عليهم فأفنتها، ولهذا قدم رضوان الله عنهم على رضوانهم عنه، أي: لما أرادهم الله تعالى في الأزل بمظهرية إرادته ومحل رضوانه ورضي بهم محلا وأهلا لذلك سلب عنهم إرادتهم بأن جعل إرادته مكانها وأبدلهم بها فرضي عنهم وأرضاهم { ذلك الفوز العظيم } أي: الفلاح العظيم الشأن ولو كان فناء الذات لكان الفوز الأكبر والفلاح الأعظم. له ما في العالم العلوي والسفلي باطنه وظاهره { وما فيهن } أسماؤه وصفاته وأفعاله { وهو على كل شيء قدير } إن شاء أفنى بظهور ذاته، وإن شاء أوجد بتستره بأسمائه وصفاته.
[6 - سورة الأنعام]
[6.1-8]
{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } ظهور الكمالات، وصفات الجمال والجلال على مظاهر تفاصيل الموجودات بأسرها الذي هو كمال الكل. والحمد المطلق مخصوص بالذات الإلهية الجامعة لجميع صفاتها وأسمائها باعتبار البداية الذي أوجد سموات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم وأنشأ في عالم الجسم ظلمات مراتبه التي هي حجب ظلمانية لذاته وفي عالم الأرواح نور العلم والإدراك { ثم } أي: بعد ظهور هذه الآيات { الذين كفروا } حجبوا مطلقا { بربهم يعدلون } غيره يثبتون موجودا يساويه في الوجود { هو الذي خلقكم من طين } المادة الهيولانية { ثم قضى أجلا } مطلقا غير معين بوقت وهيئة، لأن أحكام القضاء الثابت الذي هو أم الكتاب كلية منزهة عن الزمان، متعالية عن المشخصات إذ محلها الروح الأولى المقدس عن التعلق بالمحل، فهو الأجل الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب هويته المسمى أجلا طبيعيا بالنظر إلى نفس ذلك المزاج الخاص والتركيب المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية { وأجل مسمى } معين { عنده } هو الأجل المقدر الزماني الذي يجب وقوعه عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع المثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر المقارن لوقت معين ملازما له، كما قال تعالى:
فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
[الأعراف، الآية: 34]. { ثم أنتم } بعدما علمتم قدرته على إبدائكم وإفنائكم وإحاطة علمه بكم تشكون فيه وفي قدرته، فتتبتلون لغيره تأثيرا وقدرة.
{ وهو الله } في صورة الكل سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي { يعلم سركم } في عالم الأرواح الذي هو عالم الغيب { وجهركم } في عالم الأجسام الذي هو عالم الشهادة { ويعلم ما تكسبون } فيهما من العلوم والعقائد والأحوال والحركات والسكنات والأعمال صحيحها وفاسدها، صوابها وخطئها، خيرها وشرها، فيجازيكم بحسبها.
[6.9-17]
{ ولو جعلناه } الرسول { ملكا لجعلناه رجلا } أي: لجسدناه لأن الملك نور غير مرئي بالبصر وهم ظاهريون لا يدركون إلا ما كان محسوسا وكل محسوس فهو جسم أو جسماني ولا صورة تناسب الملك الذي ينطبق بالحق حتى يتجسد فيها إلا الصورة الإنسانية، إما لكونه نفسا ناطقة تقتضي هذه الصورة وإما لوجوب وجود الجنسية التي لو لم تكن لما أمكنهم السماع منه وأخذ القول { كتب على نفسه الرحمة } أي: ألزم ذاته من حيث هي إفاضة الخير والكمال بحسب استعداد القوابل فما من مستحق لرحمة وجود أو كمال إلا أعطاه عند حصول استحقاقه لها.
{ ليجمعنكم إلى يوم القيامة } الصغرى والإعادة أو الكبرى في عين الجمع المطلق { لا ريب فيه } في كل واحد من الجمعين في نفس الأمر عند التحقيق، وإن لم يشعر به المحجوبون وهم { الذين خسروا أنفسهم } بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية ومحبة ما يفنى سريعا من حطام الدنيا، وكل محب لشيء فهو محشور فيه. فهؤلاء لمحبتهم إياها واحتجابهم بها عموا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية { فهم لا يؤمنون } { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } قال ذلك مع قوله:
ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا
[النحل، الآية: 123]، وكذلك قال موسى:
سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
[الأعراف، الآية: 143] لأن مراتب الأرواح مختلفة في القرب والبعد من الهوية الإلهية. وكل من كان أبعد فإيمانه بواسطة من تقدمه في الرتبة، وأهل الوحدة كلهم في المرتبة الإلهية أهل الصف الأول فكان إيمانهم بلا واسطة وإيمان غيرهم بواسطتهم الأقدم فالأقدم، وكل من كان إيمانه بلا واسطة فهو أول من آمن وإن كان متأخر الوجود بحسب الزمان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
" نحن الآخرون السابقون "
فلا يقدح اتباعه لملة إبراهيم في سابقيته لأن معنى الاتباع هو السير في طريق التوحيد مثل سيره في الزمان الأول. ومعنى أوليته كونه في الصف الأول مع السابقين.
[6.18-21]
{ وهو القاهر فوق عباده } فإفنائهم ذاتا وصفة وفعلا بذاته وصفاته وأفعاله، فيكون قهره عين لطفه كما لطف بهم بإيجادهم وتمكينهم وإقدارهم على أنواع التمتعات وهيأ لهم ما أرادوا من أنواع النعم والمشتهيات فحجبوا بها عنه وذلك عين قهره. فسبحان الذي اتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته واشتدت نقمته على أعدائه في سعة رحمته { وهو الحكيم } يفعل ما يفعل من القهر الظاهر المتضمن للطف الواسع أو اللطف الظاهر المتضمن للقهر الكامل بالحكمة { الخبير } الذي يطلع على خفايا أحوالهم واستحقاقها للطف والقهر { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } بإثبات وجود غيره { أو كذب } بصفاته بإظهار صفات نفسه، فأشرك به. وغاية الظلم الشرك بالله { إنه لا يفلح الظالمون } لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله وصفاته.
[6.22-29]
{ ويوم نحشرهم جميعا } في عين جمع الذات { ثم نقول للذين أشركوا } بإثبات الغير { أين شركائي الذين كنتم تزعمون } لفناء الكل في التجلي الذاتي { ثم لم تكن } عند تجلية الحال وبروز الكل للملك القهار نهاية شركهم وعاقبته { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } لامتناع وجود شيء نشركه بالله.
{ انظر كيف كذبوا على أنفسهم } بافتراء الوجود والصفات لها وضاع { عنهم ما كانوا يفترون } فلم يجدوه شيئا بل وجدوه لا شيء سوى المفتري أو كذبوا على أنفسهم بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها.
{ ولو ترى إذ وقفوا على } نار الحرمان والتعذب بهيآت نفوسهم المظلمة واستيلاء صور المفتريات عليهم في العذاب { فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا } من تجليات صفاته { ونكون من المؤمنين } الموحدين، لكان ما لا يدخل تحت الوصف { بل بدا } ظهر { لهم ما كانوا يخفون } من العقائد الفاسدة والصفات المهلكة والهيآت المظلمة ببروزهم لله وانقلاب باطنهم ظاهرا، فتعذبوا به { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } لرسوخ تلك الاعتقادات والملكات فيهم { وإنهم لكاذبون } في الدنيا والآخرة لكون الكذب ملكة راسخة فيهم.
[6.30]
{ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } في القيامة الكبرى وهو تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإلا لم يكن ثم قول ولا جواب، لحرمانهم عن لحضور والشهود، وإن كانوا في عين الجمع المطلق.
واعلم أن الوقف على الشيء غير الوقوف معه، فإن الوقوف مع الشيء يكون طوعا ورغبة، والوقف على الشيء لا يكون إلا كرها ونفرة، فمن وقف مع الله بالتوحيد كمن قال:
وقف الهوى من حيث أنت فليس
لي متأخر عنه ولا متقدم
لا يوقف للحساب، بل هو من أهل الفوز الأكبر الذين قال فيهم:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
[الكهف، الآية: 28]،
ما عليك من حسابهم من شيء
[الأنعام، الآية: 52] ويثاب بأنواع النعيم في الجنان كلها. ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب وعذب بجميع أنواع العذاب في مراتب النيران كلها، لكون حجابه أغلظ وكفره أعظم. ومن وقف مع الناسوت بمحبة اللذات والشهوات، ولبث في حجاب الآثار وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان عن المراد، وسلط عليه زبانية الهيآت المظلمة، وقرن بشياطين الأهواء المردية. ومن وقف مع الأفعال وخرج عن حجاب الآثار، وقف على الجبروت، وعذب بنار الطمع والرجاء، ورد إلى مقام الملكوت. ومن وقف مع الصفات وخرج عن حجاب الأفعال، وقف على الذات، وعذب بنار الشوق في الهجران وإن كان من أهل الرضا وهذا الموقف ليس هو الموقف على الرب، فإن الموقوف على الذات يعرف ربه الموصوف بصفات اللطف كالرحيم، والرؤوف، والكريم، دون الموقوف على الرب فهو حجاب الأنية كما أن الواقف مع الأفعال في حجاب أوصافه، والواقف مع الناسوت في حجاب أفعاله التي هي من جملة الآثار. فالمشرك موقوف في المواقف الأربعة أولا على الرب فيحجب بالبعد والطرد، كما قال:
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون: 108]، وقال:
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
[آل عمران، الآية: 106]، ثم على الجبروت فيطرد بالسخط والقهر كما قال:
ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم
[آل عمران، الآية: 77]، ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن كما قيل:
ادخلوا أبواب جهنم
[الزمر، الآية: 72] ثم على النار، فيعذب بأنواع النيران أبدا، كما قال على لسان مالك:
إنكم ماكثون
[الزخرف، الآية: 77]، فيكون وقفه على النار متأخرا عن وقفه على الرب، معلولا منه، كما قال:
ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون
[يونس، الآية: 70]. وأما الواقف مع الناسوت فيقف للحساب على الملكوت ثم على النار، وقد ينحى لعدم السخط وقد لا ينحى لوجوده. والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا، بل يحاسب ويدخل الجنة. وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين:
رضي الله عنهم ورضوا عنه
[المائدة، الآية: 119] والله أعلم بحقائق الأمور.
[6.31-33]
{ قد خسر الذين } المحجوبون المكذبون بلقاء الحق { حتى إذا جاءتهم } القيامة الصغرى ندموا على تفريطهم فيها { وهم يحملون أوزارهم } من أعباء التعلقات، وأفعال محبة الجسمانيات، ووبال السيئات، وآثام هيئات الحسيات { على ظهورهم } أي: ارتكبتهم واستولت عليهم للرسوخ في نفوسهم فحجبتهم وعذبتهم وثبطتهم عما أرادوا { وما الحياة الدنيا } أي: الحياة الحسية، لأن المحسوس أدنى إلى الخلق من المعقول { إلا لعب } أي: إلا شيء لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء { وللدار الآخرة } أي: عالم الروحانيات { خير للذين } يتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية { أفلا تعقلون } حتى تختاروا الأشرف الأطيب على الأخس الأدون الفاني. { قد نعلم إنه ليحزنك } عتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بظهور نفسه بصفة الحزن { لا يكذبونك } إلى آخره، أي: ليس إنكارهم تكذيبك لأنك لست في هذه الدعوة قائما بنفسك ولا هذا الكلام صفة لك، بل تدعوهم بالله وصفاته وهذه عادة قديمة.
[6.34-38]
{ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا } بالله، سلاه بالله بعدما عاتبه لئلا يبقى في التلوين ولا يتأسف بعد ذهابه عليه فيقع في القبض بل يطمئن قلبه، ولهذا عقبه بقوله: { ولا مبدل لكلمات الله } أي: صفات الله التي يتجلى بها لعباده ولا تتغير ولا تتبدل بإنكار المنكرين ولا يمكنهم تبديلها. ونفى عنه القدرة وعجزه بقوله: { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت } إلى آخره، لئلا تظهر نفسه بصفاتها { فلا تكونن من الجاهلين } الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات، فتتأسف على احتجاب من احتجب. فإن المشيئة الإلهية اقتضت هداية بعض وحرمان بعض لحكمة ترتب النظام وظهور الكمالات الظاهرة والباطنة، فلا يستجيب إلا من فتح الله سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفات الاستعداد ونور الفطرة، لا موتى الجهل الذين ماتت غريزتهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية، أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم لا يمكنهم السماع، بل: { يبعثهم الله } بالإعادة في النشأة الثانية { ثم إليه يرجعون } في عين الجمع المطلق للجزاء أو المكافأة مع احتجابهم. وقد يمكن رفع الحجب في الآخرة للفريق الثاني دون الباقين { ولكن أكثرهم لا يعلمون } نزول الآيات، فإن ظهور كل صفة من صفاته على كل مظهر من مظاهر الأكوان آية له يعرفه بها أهل العلم.
{ وما من دابة في الأرض } إلى آخره، يمكن حمله على المسخ أي: أمم أمثالكم في الاحتجاب والاعتداء وارتكاب الرذائل كأصحاب السبت الذين مسخوا قردة وخنازير { ما فرطنا } ما قصرنا في كتابهم الذي فيه صور أعمالهم وهو صحيفة النفس الفلكية أو صحيفة نيتهم التى ثبتت فيها صور أعمالهم { ثم إلى ربهم يحشرون } للجزاء، محجوبين في عين الجمع المطلق. والظاهر أن المراد أنهم أمم أمثالكم مربوبون بما احتاجوا إليه من معايشهم، مكفيون مؤنتهم بتقدير من الله وحكمه. ما قصرنا في كتاب اللوح المحفوظ من شيء يصلحهم بل أثبتنا فيه أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وكل ما احتاجوا إليه، { ثم إلى ربهم يحشرون } لجزاء أعمالهم كما هو مروي في الحديث من حشر الوحوش، وقصاص الأعمال بينهم، وكل واحدة منها آية لكم تعرف بها أحوالكم وأرزاقكم وآجالكم وأعمالكم، فاعتبروا بها ولا تصرفوا هممكم ومساعيكم في طلب الرزق وإصلاح الحياة الدنيا فتخسروا أنفسكم وتضروها وتشقوا بها في آخرتكم.
[6.39-50]
{ والذين كذبوا } بتجليات صفاتنا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم { صم } بآذان القلوب فلا يسمعون كلام الحق { وبكم } بألسنتها التي هي العقول فلا ينطقون بالحق في ظلمات صفات نفوسهم وجلابيب أبدانهم وغشاوات طبائعهم كالدواب، فكيف يصدقونك وما هداهم الله لذلك بالتوفيق { من يشأ الله يضلله } بإسبال حجب جلاله { ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } بإشراق نور وجهه وسبحات جماله { قل أرأيتكم } إلى آخره، أي: كل مشرك عند وقوعه في العذاب أو عند حضور الموت إن فسرنا الساعة بالقيامة الصغرى أو رفع الحجاب بالهداية الحقانية إلى التوحيد الحقيقي، إن فسرناها بالقيامة الكبرى يتبرأ عن حول من أشركه بالله وقوته ويتحقق أن لا حول ولا قوة إلا بالله ولا يدعو إلا الله، وينسى كل من تمسك به وأشركه بالله من الوسائل، ولهذا قيل: البلاء سوط من سياط الله، يسوق عباده. أما ترى كيف عقب كلامه بمقارنة الأخذ بالبأساء والضراء بإرسال الرسل.
لعل تضاعف أسباب اللطف، كقود الأنبياء وسوق العذاب، يزعجهم عن مقار نفوسهم ويكسر سورتها وشدة شكيمتها، فيطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة القهر وتأثيرها فيهم، ثم بين أنهم ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غش الهوى وحب الدنيا وميل اللذات الجسمانية.
[6.51-53]
{ وأنذر به الذين يخافون } أي: أنذر بما أوحي إليك المستعدين الذين هم أهل الخوف والرجاء، وأعرض عن الذين قست قلوبهم فإنه لا ينجع فيهم كما قال في أول الكتاب:
هدى للمتقين
[البقرة، الآية: 2]. { أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } أي: يعلمون بصفاء استعدادهم أنه لا بد من الرجوع إلى الله، فيخافون أن يحشروا إليه في حال كونهم محجوبين عنه بحجب صفاتهم وأفعالهم لا ولي ينصرهم غير الله فينقذهم من ذلة البعد وعذاب الحرمان، ولا شفيع يشفع لهم فيقربهم منه، ويكرمهم لفناء الذوات والقدر كلها في الله، وقهره إياهم، كما قال تعالى:
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر، الآية: 16]، فيتعظون بسماعهم له ويحدث فيهم الرجاء فيشمرون في السلوك بالجد والاجتهاد { لعلهم يتقون } لكي يحذروا حجب افعالهم وصفاتهم وذواتهم، ويتجردوا عنها بالمحو والفناء في الله، ويتجه أن يكون الولي القلب، والشفيع الروح، أي: لم يصلوا إلى مقام القلب الذي هو ولي النفس فينقذها من العذاب وينصرها من الحرمان، ولا إلى مقام الروح فتشفع لهم بإمداد مدد القرب لها واستمدادها من الله وتتوسل بينهم وبين الله.
{ ولا تطرد الذين يدعون } أي: لا تزجرهم به، وهم أهل الوحدة الكاملون الواصلون، فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينفع في الذين طاشت قلوبهم في الله وتلاشت { ربهم بالغداة والعشي } أي: يخصونه بالعبادة دائما بحضور القلب وشهود الروح وتوجه السر إليه، لا يريدون بالعبادة إلا ذاته بالمحبة الأزلية لا يجعلون عبادتهم معللة بغرض من توقع ثواب جنة أو خوف عقاب أو نقمة، ولا يريدونه بمحبة الصفات فتتغير إرادتهم باختلاف تجلياتها ولا يستحلون توسيط ذاته في مقصد أو مطلب بل شاهدوا فناء الوسائط والوسائل فيه ولم يبق في شهودهم شيء يقع نظرهم عليه حتى ذواتهم { ما عليك من حسابهم } فيما يعملون من شيء، أي: لا واسطة بينهم وبين ربهم من ملك أو نبي فلست من دعوتهم إلى طاعة أو إلى جهاد أو إلى غير ذلك في شيء، فحسابهم على الله إذ عملهم ليس إلا بالله وفي الله { وما من حسابك عليهم من شيء } أي: لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة للإسلام ولا بدفع وقمع للكفر لاشتغالهم بالله عما سواه ودوام حضورهم كما قال تعالى:
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج، الآية: 23] لا يعنيهم شأن من أمرك ونبوتك { فتطردهم } عما هم عليه من دوام الحضور بإنهاضهم لشغل ديني أو مصلحة أو تشوش وقتهم وجمعيتهم { فتكون من الظالمين } { وكذلك فتنا } أي: مثل ذلك الفتن والابتلاء العظيم فتنا { بعضهم } وهم المحجوبون بالبعض، فإن المحجوبين لما لم يروا منهم إلا صورتهم وسوء حالهم في الظاهر وفقرهم ومسكنتهم، ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن، استحقروهم وازدرتهم أعينهم بالنسبة إلى ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش فقالوا فيهم:
{ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } بالهداية استخفافا وهم والله الأطيبون عيشا، الأرفعون حالا ومنزلا، الأعظمون قدرا ورتبة عند الله وعند من يعرفهم كما قال نوح عليه السلام:
ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا
[هود، الآية: 31] بل الخير كل الخير ما آتاهم الله { أليس الله بأعلم بالشاكرين } الذين يشكرونه بالحقيقة باستعمال نعمة وجودهم وصفاتهم وجوارحهم وما يقوم به من أرزاقهم ومعايشهم في طاعة الله فشكروه بإزاء النعمة الخارجية بالعبادة وتصورها من المنعم وصرفها في مراضي الله، وبإزاء نعمة الجوارح باستعمالها في عبادته وسلوك طريقه وتحصيل معرفته ومعرفة صفاته، وبإزاء نعمة الصفات بمحوها في الله والاعتراف بالعجز عن معرفته وشكره وعبادته، وبإزاء نعمة الوجود بالفناء في عين الشهود حتى شكر الله سعيهم بالوجود الموهوب الحقاني، وعلمهم أنه الشاكر المشكور لنفسه بنفسه، لا يقدر على شكره أحد إلا هو، فقالوا: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، وذلك هو علمه بشكرهم وجزاؤه منه.
[6.54-58]
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } بمحو صفاتهم { فقل سلام عليكم } لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها { كتب ربكم على نفسه الرحمة } ألزم ذاته إبدال صفاتكم بصفاته رحمة لكم، لأن في الله خلفا عن كل ما فات { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة } أي: ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة وغفلة، ثم رجع عن تلوينه من بعد ظهور تلك الصفة وفاء إلى الحضور فعرفها وقمعها بالإنابة إلى الله والتضرع بين يديه والرياضة { فإنه غفور } يسترها عنه { رحيم } يرحمه بهبة التمكين ونعمة الاستقامة. { وكذلك نفصل الآيات } أي: مثل ذلك التبيين الذي بينا لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا { ولتستبين سبيل } المحجوبين بصفاتهم الذين يفعلون ما يفعلون بها وذلك إجرامهم. { قل إني نهيت أن أعبد } ما سوى الله من الذين تعبدون بهواكم من مال أو نفس أو شهوة أو لذة بدنية أو غير ذلك، فلا { أتبع أهواءكم } بعبادتها فأضل إذا باحتجابي بها فلا أهتدي إلى التوحيد ومعنى الماضي أنه تحقق ضلالي على هذا التقدير وما أنا من الهدى في شيء.
[6.59-60]
{ وعنده مفاتح الغيب } إلى آخره، اعلم أن الغيب مراتب أولها غيب الغيوب وهو علم الله المسمى بالعناية الأولى، ثم غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل ما وجد وسيوجد من الأزل والأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم المسمى بأم الكتاب على وجه كلي، وهو القضاء السابق. ثم غيب عالم القلوب وهو ذلك الانتقاش بعينه مفصلا تفصيلا علميا كليا وجزئيا في عالم النفس الكلية التي هي قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ ثم غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية المنطبعة في أجرامها معينة مشخصة مقارنة لأوقاتها على ما يقع بعينه، وذلك العالم هو المعبر عنه في الشرع بالسماء الدنيا إذ هو أقرب مراتب الغيوب إلى عالم الشهادة ولوح القدر الإلهي الذي هو تفصيل قضائه وعلم الله، وهو العناية الأولى عبارة عن إحاطته بالكل بحضور ذاته لكل هذه العوالم التي هي عين ذاته فيعلمها مع جميع تلك الصور التي فيها بأعيانها لا بصورة زائدة فهي عين علمها ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض فالمفاتح إن كان جمع مفتح بفتح الميم الذي هو المخزن فمعناه عنده هذه الخزائن المشتملة على جميع الغيوب لحضور ذاته لها { لا يعلمها إلا هو } وإن كان جمع مفتح بكسر الميم بمعنى المفتاح، فمعناه إما ذلك المعنى بعينه يعني أبوابها مغلقة ومفاتيحها بيده لا يطلع على ما فيها أحد غيره. وإما أن أسباب إظهارها وإخراجها من مكانها إلى عالم الشهادة حتى يطلع عليه الخلق بيد قدرته وتصرفه محفوظة عنده لا يقدر غيره على انتزاعها منه حتى يطلع على ما فها وهي أسماؤه تعالى، والكتاب المبين لا يقدر غيره على انتزاعها منه حتى يطلع على ما فيها وهي أسماؤه تعالى، والكتاب المبين هو السماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها مع عددها وتشخصها.
{ ثم يبعثكم فيه } أي: فيما جرحتم من صواب أعمالكم ومكاسبكم للجزاء { ليقضى أجل } عينه للبعث والإحياء. ثم إلى ربكم ترجعون في عين الجمع المطلق فينبئكم بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها.
[6.61-62]
{ وهو القاهر فوق عباده } بتصرفه فيهم كما شاء وإفنائهم في عين الجمع المطلق إذ لا شيء إلا وهو مقهور فيه { ويرسل عليكم حفظة } هي قواهم التي ينطبع فيها كل حال بحسب الرسوخ وعدمه، فيظهر عليهم عند انسلاخهم عن البدن فيتمثل بصور تناسبها إما روحانية لطيفة توصل إليها الروح والثواب، وإما جسمانية مظلمة توصل إليها العذاب بل تظهر تلك الصور على جوارحها وأعضائها فتتشكل بهيآتها وتنطق عليهم بأعمالها بلسان الحال. والقوى السماوية التي أشرنا إليها وإلى انتقاش جميع الحوادث الجزئية فيها فتظهر عليهم بأسرها عند مفارقتها عن بدنها، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها عليهم وهي بأعيانها الرسل التي توفتهم عند الموت. والرد أيضا يكون في عين الجمع المطلق فإنه للجزاء { وهو أسرع الحاسبين } لوقوع حسابهم في آن وهو: توفيهم.
[6.63-65]
{ قل من ينجيكم من ظلمات البر } التي هي حجب الغواشي البدنية والصفات النفسانية { و } ظلمات { البحر } التي هي حجب صفات القلوب وفكر العقول { تدعونه } إلى كشفها { تضرعا } في نفوسكم { وخفية } في أسراركم { لئن أنجيتنا من هذه } الحجب { لنكونن من } الذين شكروا نعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين { قل الله ينجيكم منها } بكشف تلك الحجب بأنوار تجليات صفاته { ومن كل كرب } أي: ما بقي في استعدادكم بالقوة من كمالاتكم بإبرازها حتى لو كانت بقية من بقايا وجودكم كربا لكم لاستعدادكم للفناء والخلاص منها بالكلية لقوة الاستعداد وكمال الشوق لأنجاكم منها { ثم أنتم } بعد علمكم بهذا المقام الشريف وما ادخر لكم { تشركون } به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها.
{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانيات { أو من تحت أرجلكم } باحتجابكم بالحجب الطبيعية { أو يلبسكم شيعا } أو يخلطكم فرقا متفرقة كل فرقة على دين قوة من قواكم هي أمامهم تقابل الفرقة الأخرى فيقع بينكم الهرج والمرج والقتال، أو فرقا مختلفة العقائد كل فرقة على دين دجال أو شيطان أنسي أو جني هو إمامهم، أو يجعل أنفسكم شيعا باستيلاء كل قوة من قواكم على القلب بطلب لذتها المخصوصة بها، إحداها تجذبه إلى غضب والأخرى إلى شهوة أو طمع أو غير ذلك، فيغرق القلب عاجزا فيما بينهم، أسيرا في قبضتهم، كلما هم بتحصيل لذة هذه منعته الأخرى، ويقع بينهم الهرج والمرج في وجودكم لعدم ارتياضهم بسياسة رئيس واحد قاهر يقهرهم ويسوسهم بأمر وحداني يقيم كلا منهم في مقامها، مطيعة منقادة فتستقيم مملكة الوجود ويستقر الملك على رئيس القلب. وعلى هذا التأويل يكون كل واحد منهم فرقة أو فرقا متفرقة على أديان شتى لا شخصا واحدا.
[6.66-70]
{ وكذب به } أي: بهذا العذاب { قومك وهو الحق } الثابت النازل بهم { قل لست عليكم بوكيل } بموكل يحفظكم ويمنعكم من هذا العذاب { لكل } ما ينبأ عنه محل وقوع واستقرار { وسوف تعلمون } حين يكشف عنكم أغطية أبدانكم فيظهر عليكم ألم هذا العذاب بصور ما تقتضيه نفوسكم.
{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } أي: صفاتنا بإظهار صفات نفوسهم وإثبات العلم والقدرة لا { فأعرض عنهم } فإنهم محجوبون مشركون { وإما ينسينك الشيطان } بتسويل بعض الأباطيل والخرافات عليك، ووسوسة نفسك فتظهر ببعض صفاتها وتجانسهم بذلك فتميل إلى صحبتهم { فلا تقعد بعد } ما تذكرت بتذكيرنا إياك { مع القوم } الذين ظلموا أنفسهم بوضع صفاتهم موضع صفاتي وحجبوها بصفاتهم فإن صحبتهم تؤثر فيوشك أن تقع في الاحتجاب بشؤم صحبتهم على سبيل التلوين.
{ وما على } الموحدين الذين يتجردون عن ملابس صفاتهم ويجتنبون هيآتها من حساب أولئك المحجوبين { من شيء } أي: لا يحتجبون بواسطة مخالطتهم فيكونون معهم سواء ولكن ذكرناهم لعلهم يحترزون عن صحبتهم وما عسى يقعون فيه من التلوين أو وبالهم وشأنهم وحسابهم حتى يصاحبونهم ولكن فليذكروهم أحيانا بأدنى مخالطة لعلهم يحذرون شركهم وحجبهم فينجون ببركة صحبتهم أو وما عليهم مما يحاسب به من أعمالهم ووبالها من شيء ولكن فليذكروهم بالزجر والنهي لعلهم يحترزون عنها.
{ وذر الذين اتخذوا } أي: اترك الذين دينهم وعاداتهم الهوى واللهو لأنهم لا يرفعون بذلك رأسا لرسوخ ذلك الاعتقاد فيهم واغترارهم بالحياة الحسية وأعرض عنهم وأنذر بالقرآن كراهة أن تحجب نفس بكسبها، أي: لا يكون دينها وديدنها ذلك ولم ترسخ تلك العقيدة فيها لكن ترتكب بالميل الطبيعي أفعالا مثل أفعالهم فتحتجب بسببها فإنها تتأثر به وتتعظ فتنتهي، فأنذرها حتى لا تصير مثلهم فتحبس بعملها عن الهداية وحينئذ لا يقبل منها فدية إذ حجبت بكسبها. والشراب الحميم هو شدة شوقها إلى الكمال لقوة استعدادها. والعذاب الأليم حرمانها عنه باحتجابها بأعمالها وهيآتها.
[6.71-73]
{ قل أندعو من دون الله } أي: أنعبد ما لا قدرة ولا وجود له حقيقة فينفع أو يضر { ونرد } إلى الشرك { على أعقابنا بعد إذ هدانا الله } الهداية الحقيقية إلى التوحيد { كالذي } ذهبت به شياطين الوهم والتخيل في مهمة أرض النفس { حيران } لا يدري أين يمشي وما يصنع بلا طريق ولا مقصد { له أصحاب } رفقاء من الفكر والعاقلة العملية والنظرية { يدعونه إلى الهدى } يقولون { ائتنا } فإن هذا هو الطريق ولا يسمع لارتتاق سمع قلبه بالهوى { قل إن } هداية الله التي هي طريق التوحيد { هو الهدى } لا غير { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } لننقاد لصفة الربوبية بمحو صفاتنا في المتجلى بها وإسلامها إليه ونقسم صلاة الحضور القلبي ونتقيه ونجعله وقاية لنا في الصفات ليكون هو الموصوف به، فنتخلص به عن وجودنا فيكون هو المحشور إليه بذاته عند فنائنا فيه.
{ وهو الذي خلق } سموات الأرواح وأرض الجسم قائما بالعدل الذي هو مقتضى ذاته { ويوم يقول كن فيكون } أي: وقت السرمدي الذي هو أزل آزال ظهور الأشياء في أزلية ذاته التي هي أزلية الأزل مطلقا وهو حين تعلق إرادته القديمة بالظهور في تعينات ذاته المعبر عنه بقوله: كن، وهو بعد أزلية الآزال بالاعتبار العقلي لا أنها تتأخر عن تلك الأزلية بالزمان بل بالترتيب العقلي الاعتباري في ذاته تعالى، فإن التعينات تتأخر عن مطلق الهوية المحضة عقلا وحقيقة وظهورها بالإرادة المسماة بقوله: { كن فيكون } بلا فصل وتأخير يعبر عنه ب: (يكون)، لأنها لم تكن في الأزل فكانت { قوله الحق } أي: في ذلك الوقت سيما سرمدي إرادته التي اقتضت وجود المبدعات على ما هي عليه ثابتة في حالها غير متغيرة، اقتضت ما اقتضت وجود المبدعات على ما هي عليه ثابتة في حالها غير متغيرة، اقتضت ما اقتضت على أحسن ما يكون من النظام والترتيب وأعدل ما يكون من الهيئة والتركيب.
{ يوم ينفخ في الصور } وقت نفخه في الصور أي: إحياء صور المكونات بإفاضة أرواحها عليها لا ملك إلا له فإنها بنفسها ميتة لا وجود لها ولا حياة فضلا عن المالكية { عالم الغيب } أي: حقائق عالم الأرواح التي هي ملكوته { والشهادة } أي: صور عالم الأجسام التي هي ملكه { وهو الحكيم } الذي أوجدها ورتبها بحكمته فأفاض على كل صورة ما يليق بها من الأرواح { الخبير } الذي علم أسرارها وعلانيتها وخواصها وأفعالها، تلخيصه: هو مبدع الأرواح والجسم المطلق بإرادته القديمة الأزلية الثابتة التي لا تغير فيها أبدا إبداعا على وجه العدل والحكمة الذي اقتضاه ذاته ومكون الكائنات بإنشائها في عالم الملك الذي هو مالكه لا غير، كيف شاء عالما بما يجب أن يكون عليها حكيما في اتقانها ونظامها وترتيبها، خبيرا بما يحدث فيها من الأحوال الحادثة على حسب إرادته بذاته لا شريك له في ذلك كله.
[6.74-75]
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه } أي: اذكر وقت سلوك إبراهيم طريق التوحيد عند تبصيرنا وهدايتنا إياه واطلاعه على شرك قومه واحتجابهم بظهور عالم الملك عن حقائق عالم الملكوت وربوبيته تعالى للأشياء بأسمائه معتقدين لتأثير الأجرام والأكوان، ذاهلين بها عن المكون فعيرهم بذلك وقال لمقدمهم وأكبرهم أبيه: { أتتخذ أصناما آلهة } وتعتقد تأثيرها { إني أراك وقومك في ضلال مبين } ظاهر يعرف بالحس، ومثل ذلك التبصير والتعريف العام الكامل نعرف إبراهيم ونريه { ملكوت السموات والأرض } أي: القوى الروحانية التي يدبر الله بها أمر السموات والأرض، فإن لكل شيء قوة ملكوتية تحفظه وتدبر أمره بإذن الله { وليكون من الموقنين } فعلنا ذلك أي: بصرناه ليعلم ويعرف أن لا تأثير إلا لله، يدبر بأسمائه التي هي ذاته مع كل واحدة من الصفات، فتتكثر الأفعال من رواء حجب الأكوان. فالمحجوب بالكون واقف مع الحس يرى تلك الأفعال من الأكوان والمجاوز عنه الذي خرق حجاب الكون ووقف مع العقل محبوسا في قيده يراها من الملكوت، والمهتدي بنور الهداية الإلهية المنفتحة عين بصيرته يرى أن الملكوت بالنسبة إلى ذات الله تعالى كالملك بالنسبة إلى الملكوت، فكما لا يرى التأثير من الأكوان لا يراها من ملكوتها بل من مالكها ومكونها، فيقول حقا: لا إله إلا الله.
[6.76-79]
{ فلما جن عليه الليل } أي: فلما أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية في صباه وأول شبابه { رأى } كوكب ملكوت الهيكل الإنساني التي هي النفس المسماة روحا روحانية وجد فيضه وحياته وربوبيته منها إذ كان الله تعالى يريه في ذلك الحين باسمه المحيي، فقال بلسان الحال: { هذا ربي فلما أفل } بعبوره عن مقام النفس وطلوع نور القلب وإشراقه عليه بآثار الرشد والتعقل ومعرفته لإمكان النفس ووجوب انطباعها في الجسم { قال لا أحب الآفلين } الغاربين في مغرب الجسم، المحتجبين به، المتسترين بظلمة الإمكان والاحتياج إلى الغير { فلما رأى } قمر القلب بازغا بوصوله إلى مقام القلب وطلوعه من أفق النفس بظهوره عليه ورأى فيضه بمكاشفات الحقائق وعلمه وربوبيته منه، إذ كان الله تعالى يريه حينئذ باسمه العالم والحكيم { قال هذا ربي فلما افل } باحتجابه عنه وعبوره عن طوره وشعوره بأن نوره مستفاد من شمس الروح وإنه قد يتغيب في ظلمة النفس وصفاتها فيحتجب بها ولا نور له أعرض عن مقامه سالكا طريق تجلي الروح قائلا: { لئن لم يهدني ربي } إلى نور وجهه { لأكونن من القوم الضالين } الذين يحتجبون بالبواطن عنه كالنصارى الواقفين مع الحجب النورانية.
{ فلما رأى الشمس } الروح { بازغة } بتجليها عليه وظهور نورها وجد فيضه وشهوده وربوبيته منها إذ كان الله تعالى يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم { قال هذا ربي هذا أكبر } لعظمته وشدة نورانيته { فلما أفلت } باستيلاء أنوار تجلي الحق وطلوع سبحات الوجه الباقي، وانكشاف حجاب الذات بوصوله إلى مقام الوحدة رأى النظر إلى الروح وإلى وجوده مشركا فقال: { يا قوم إني بريء مما تشركون } به أي: أي شيء كان إذ لا وجود لغيره { إني وجهت وجهي } أي: أسلمت ذاتي ووجودي { للذي } أوجد سموات الأرواح وأرض النفس مائلا عن كل ما سواه حتى عن وجودي بالفناء فيه { وما أنا من المشركين } أي: لست من الشرك في شيء، كوجود البقية وظهورها وغير ذلك.
[6.80-92]
{ وحاجه قومه } في نفي التأثير عن الأجرام والأكون وترك تعبد كل ما سوى الله { قال أتحاجوني في الله وقد هدان } إلى توحيده { ولا أخاف ما تشركون } وتقولون بتأثيره أبدا { إلا } وقت { أن يشاء ربي شيئا } من جهتها بي من مكروه أو ضر يلحقني من جهتها وذلك منه وبعلمه لا منها. { وسع ربي كل شيء علما } يعلم حالي وما فيه صلاحي، إن علم إضراري من جهتها أولى بي فعل { أفلا تتذكرون } فتميزوا بين العاجز والقادر.
{ الذين آمنوا } بالتوحيد الذاتي { ولم } يخلطوا { إيمانهم بظلم } من ظهور نفس القلب أو وجود بقية فإنها شرك خفي { أولئك لهم الأمن } الحقيقي الذي لا خوف معه { وهم مهتدون } بالحقيقة إلى الحق { وتلك حجتنا } أي: حجة التوحيد التي احتج بها إبراهيم على قومه { كل من الصالحين } الذين يقومون بصلاح العالم وضبط نظامه وتدبيره لاستقامتهم بالوجود الموهوب الحقاني بعد فناء الوجود البشري { وكلا فضلنا على } عالمي زمانهم.
{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } أي: ما عرفوه حق معرفته إذ بالغوا في تنزيهه حتى جعلوه بعيدا من عباده بحيث لا يمكن أن يظهر من علمه وكلامه عليهم شيء ولو عرفوه حق معرفته لعلموا أن لا وجود لعباده ولا لشيء آخر إلا به. والكل موجود بوجوده لا وجود إلا له جميع عالم الشهادة ظاهره وعالم الغيب باطنه، ولكل باطن ظاهر، فأي حرج من ظهور بعض صفاته على مظهر بشري بل لا مظهر لكمال علمه الباطن وحكمته إلا الإنسان الكامل. فالنبي من حيث الصورة ظاهره، ومن حيث المعنى باطنه ينزل علمه على قلبه ويظهر على لسانه ويدعو به عباده إلى ذاته ولا إثنينية إلا باعتبار تفاصيل صفاته. وأما باعتبار الجمع فلا أحد موجود إلا هو لا النبي ولا غيره، فإذا اعتبرنا تفاصيل صفاته وأسمائه يظهر النبي تبعية الخاص في ذاته تعالى ببعض صفاته فيصير اسما من أسمائه، وإذا كان كاملا في نبوته يكون الأعظم الذي لا تنفتح أبواب خزائن غيبه ووجوده وحكمته إلا به كما سمعت. فلا تنكر إن عجبت وحرمت من فهمه وبهت، فعسى أن يفتح الله عين بصيرتك فترى ما لا عين رأت أو سمع قلبك، فتسمع ما لا أذن سمعت أو ينور قلبك فتدرك ما لا خطر على قلب بشر.
[6.93-94]
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } بادعاء الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وازدحامها مع بقائها فيه فيكون في أقواله وأفعاله بالنفس وهو يدعي أنه بالله { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } أي: حسب مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا من عند الله وفيضا من الروح القدسي فتنبأ { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } أي: تفرعن بوجود أنائيته وتوهم التوحيد العلمي عينيا، فادعى الإلهية { ولو ترى إذ الظالمون } أي: هؤلاء الظلمة من المدعين للكمال المحجوبين الذين يزعمون كون أفعالهم إلهية وهي نفسانية والمتنبئين والمتفرعنين { في غمرات الموت } أي: شدائده وسكراته لافتقادهم في دعواهم وغلطهم في حسبانهم أنهم قد فنوا عن أنفسهم وتجردوا عن ملابس أبدانهم مع شدة تعلقهم بها وقوة محبة الدنيا ورسوخ الهوى فيهم لأنهم ما ماتوا بالموت الإرادي والتجرد عن الشهوات واللذات البدنية، وما فنوا عن صفات نفوسهم ودواعيها حتى يسهل عليهم الموت الطبيعي { والملائكة } أي: قوى العالم التي كانت تمد قواهم النفسانية من النفوس الكوكبية والفلكية وتأثيراتها التي كانت تستولي عليهم في حياتهم مع ظنهم أنهم تخلصوا منها بالتجرد كما أشرنا إليه { باسطو أيديهم } قوية التأثير فيهم، بالغة فيه كنه قواها وقدرها { أخرجوا أنفسكم } أي: تعنفهم وتقهرهم لشدة تعكفهم وكثرة تحسرهم وصعوبة مفارقة الأبدان عليهم { اليوم تجزون عذاب الهون } والصغار بوجود صفات نفوسكم وهيآتها المظلمة المؤذية وحجب أنائيتكم وتفرعنكم كما قال:
سيجزيهم وصفهم
[الأنعام، الآية: 139] { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } أي: بسبب افترائكم على الله، أعمالكم وأقوالكم الصادرة من صفات نفوسكم وأهوائها { وكنتم عن آياته تستكبرون } وبسبب احتجابكم بأنائيتكم وتفرعنكم معجبين بصفاتكم غير مذعنين بمحوها لصفاتنا محجوبين عنها بوجودها مستكبرين بها عنها.
{ ولقد جئتمونا فرادى } مجردين عن الصفات والعلائق والأهل والأقارب والوجود بالاستغراق في عين جمع الذات { كما خلقناكم أول مرة } بإنشاء ذرات هوياتكم في الأزل عند أخذ الميثاق { وتركتم ما خولناكم } من الوسائل والعلوم والفضائل { وراء ظهوركم وما نرى معكم } وسائلكم وأسبابكم وما آثرتموه بهواكم وتعلقتم بها من محبوباتكم ومعبوداتكم { الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } بمحبتكم إياها وتعبدكم لها ونسبتكم التأثير إليها واعتباركم واعتدادكم بها قد وقع التفرق بينكم بتغير الأحوال وتبدل الصور والأشكال { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } شيئا موجودا بشهودكم ثناء الكل في الله.
[6.95-98]
{ إن الله فالق } حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف ونوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم { يخرج } حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها { ومخرج } ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه. { ذلكم الله } القادر على تقليب أحوالكم وتغليبكم في أطواركم { فأنى } تصرفون منه إلى غيره { فالق الإصباح } أي: فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها { وجاعل } ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها للارتفاق والاسترواح أحيانا أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب وشمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة، معتدا بهما. أو علمي حسب الأحوال والأوقات تعتبر بهما { ذلك تقدير العزيز } القوي على ذلك { العليم } بأحوال البروز والانكشاف والتستر والاحتجاب بهما يعز تارة باحتجابه بهما وعنهما في ستور جلاله، وتارة بتجليه وقهرهما وإفنائهما يعلم ما يفعل بحكمته.
{ وهو الذي جعل لكم } نجوم الحواس { لتهتدوا بها في ظلمات } بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر القلوب باكتساب العلوم بها { قد فصلنا الآيات } أي: الروح والقلب والحواس { لقوم يعلمون } ذلك { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } هي النفس الكلية { فمستقر } في أرض البدن حال الظهور { ومستودع } في عين جمع الذات حال الفناء. { قد فصلنا } آيات ظهور النفس واستقرارها واستيداعها { لقوم يفقهون } بتنور قلوبهم وصفاء فهومهم.
[6.99-101]
{ وهو الذي أنزل } من سماء الروح ماء العلم { فأخرجنا به نبات } كل صنف من الأخلاق والفضائل { فأخرجنا } من النبات هيئة خضرة النفس وزينة حسنة جميلة وبهجة بالعلم والخلق { نخرج } من تلك الهيئة والنفس الطرية الغضة أعمالا مترتبة شريفة مرضية، ونيات صادقة يتقوى بها القلب، ومن نخل العقل من ظهور تعلقها معارف وحقائق قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية { وجنات من أعناب } الأحوال والأذواق وخصوصا أنواع المحبة القلبية المسكر عصيرها وسلافها، وزيتون التفكر، ورمان التوهمات الصادقة التي هي الهمم الشريفة، والعزائم النفيسة { مشتبها } بعضها ببعض كالتعقلات والتفكرات والمعارف والحقائق والأعمال والنيات وكمحبة الذات ومحبة الصفات { وغير متشابه } كأنواع المحبة مع الأعمال مثلا، أو مشتبها في رتبتها وقوتها وضعفها وجلائها وخفائها وغير متشابه فيه { انظروا إلى ثمره إذا أثمر } وراعوه بالمراقبة عند السلوك وبدء الحال، وليكن نظركم من اللذات إلى هذه الثمرات { وينعه } وكماله عند الوصول بالحضور { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } بالإيمان العلمي، ويوقنون هذه الآيات والأحوال التي عددناها.
{ وجعلوا لله شركاء الجن } أي: جعلوا جن الوهم والخيال شركاء لله في طاعتهم لها وانقيادهم. وقد علموا أن الله خلقهم فكيف يعبدون غيره { وخرقوا له } اختلقوا بالافتراء المحض { بنين } من العقول { وبنات } من النفوس يعتقدون أنها مؤثرات ومجردات مثله تولدت منه { بغير علم } منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به { سبحانه وتعالى } تنزه عن أن يكون وجودا مجردا مخصوصا بتعين خاص واحدا من الموجودات المتعينة يصدر عنه وجودات العقول المجردة والنفوس وتعاظم { عما يصفون } به علوا كبيرا.
{ بديع السموات والأرض } أي: عديم النظير والمثل في سموات عالم الأرواح وأرض عالم الأجساد { أنى يكون له ولد } أي: كيف يماثله شيء { ولم تكن له صاحبة } لأن الصاحبة لا تكون إلا متجانسة وهو لا يجانس شيئا، وإذا لم يجانس شيئا لم يماثله فلم يكن له مثل يتولد منه { وخلق كل شيء } بتخصيصه يتعين في ذاته وإيجاده بوجوده لا بأنه موجود مثله { وهو بكل شيء عليم } يحيط علمه بالعقول والنفوس وغيرها كما يحيط وجوده بها وهي محاطة لا تحيط بعلمه ولا تعلم إلا بعلمه ولا توجد إلا بوجوده فلا تماثله لأنها بأنفسها معدومة، وأنى يماثل المعدوم الموجود المطلق.
[6.102-108]
{ ذلكم } البديع العديم المثل الموصوف بجميع هذا الصفات { الله ربكم لا إله } في الوجود { إلا هو } أي: لا موجود إلا هو باعتبار الجمع { خالق كل شيء } باعتبار تفاصيل صفاته فخصوا العبادة به، أي: بالوجود الموصوف بجميع الصفات الذي هو الله دون من سواه { وهو على كل شيء وكيل } أي: لا يستحق العبادة إلا المبدئ لكل شيء وهو مع ذلك وكيل على الكل يحفظها ويدبرها ويوصل إليها الأرزاق وما تحتاج إليه حتى تبلغ الكمال اللاحق بها.
{ لا تدركه الأبصار } أي: لا تحيط به لأنه اللطيف الجليل عن إدراكها، وكيف تدركه وهي لا تدرك أنفسها التي هي نور منه؟! { وهو يدرك الأبصار } لإحاطته بكل شيء ولطف إدراكه { قد جاءكم بصائر من ربكم } أي: آيات بينات هي صور تجليات صفاته التي هي أنوار بصائر القلوب. والبصيرة نور يبصر به القلب، كما أن البصر نور تبصر به العين، { فمن أبصر } أي: صار بصيرا بها، فإنما فائدة إبصاره وهدايته لنفسه ومن حجب عنها فإنما مضرة احتجابه لا تتعدى إلى غيره بل إليه { وما أنا عليكم بحفيظ } رقيب يرقبكم ويحفظكم عن الضلال، بل الله حفيظ يحفظكم ويحفظ أعمالكم { ولو شاء الله ما أشركوا } أي: كل ما يقع فإنما يقع بمشيئة الله ولا شك أن استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك وأسباب ذلك من تعليم الآباء والعادات وغيرها أيضا واقعة بإرادة من الله وإلا لم تقع. فإن آمنوا بذلك فبهداية الله وإلا فهون على نفسك { وما جعلناك عليهم حفيظا } تحفظهم عن الضلال { وما أنت } بموكل عليهم بالإيمان. ولا ينافي هذا ما قال في تعييرهم فيما بعد بقوله:
سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا
[الأنعام، الآية: 148] لأنهم قالوا ذلك عنادا ودفعا للإيمان بذلك التعلل لا اعتقادا، فقولهم ذلك وإن كان صدقا في نفس الأمر لكنهم كانوا به كاذبين، مكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين أيضا بإرادة الله وكذا كل دين. فلم يعاندوا ولم يعادوا أحدا، ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله لما بقوا مشركين بل كانوا موحدين، لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد وإثبات أنه لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم فلذلك عيرهم به لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر، فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق لم يرد إيمانهم الآن إذ ليس كل منهم مطبوع القلب بدليل إيمان من آمن منهم. فلم لا يجوز أن يكون بعضهم كانوا مستعدين للإيمان والتوحيد واحتجبوا بالعادة وما وجدوا من آبائهم فأشركوا ثم إذا سمعوا الإنذار وشاهدوا آيات التوحيد اشتاقوا إلى الحق وارتفع حجابهم فوحدوا؟، فلذلك وبخهم على قولهم وطلب منهم الحجة على أن الله أرادهم بذلك دائما وأنذرهم بوعيد من كان قبلهم لعل من كان فيه أدنى استعداد إذا انقطع عن حجته وسمع وعيد من قبله من المنكرين، ارتفع حجابه ولان قلبه فآمن، ويكون ذلك توفيقا له ولطفا في شأنه، فإن عالم الحكمة يبتنى على الأسباب. وأما من كان من الأشقياء المردودين المختوم على قلوبهم، فلا يرفع لذلك رأسا ولا يلقى إليه سمعا.
[6.109-111]
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية } إلى آخره، طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات، لأنهم كانوا محجوبين بالحس والمحسوس، فلم تنجع فيهم الدعوة بالحكمة والإثبات بالحجة كما تنجع في العقلاء والمستعدين. { قل إنما الآيات } أي: خوارق العادات التي اقترحوها إنما هي من عالم القدرة ليست إلا عنده { وما يشعركم } أنهم لا يؤمنون عند مجيئها، أي: أنا أعلم بهم منكم أنهم لا يؤمنون بها، أو وما يشعركم أنهم يؤمنون عند مجيئها لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ومن لم يرد الله منه الإيمان يقلب قلبه وبصره عند مجيء الآية التي اقترحها وزعم أنه يؤمن عند نزولها، فيقول: هذا سحر، ولا يؤمن به كما لا يؤمن قبل مجيء الآية ويذره في ظهور نفسه بصفاتها واحتجابه بها، ولهذا قال في آخر الآية الثانية: { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } يعني: من استعد للإيمان فهم المعقول وأدرك الحجة، وانفتحت عين بصيرته بأدنى نور من هداية الله وآمن بأدنى سبب، ومن لم يستعد لذلك ولم يخلق له لو رأى كل آية من خوارق العادات وغيرها ما آثر فيه { ولكن أكثرهم يجهلون } أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات، وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس وإقرار باللسان وليس في القلب من معناه شيء كإيمان أصحاب السامري. والإيمان لا يكون إلا بالجنان، كما قال تعالى:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات، الآية: 14].
[6.112-114]
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا } إلى آخره، يلزم من ترتب مراتب الأرواح أن مقابلة أصفى الاستعدادات وأنورها بأكدرها وأظلمها وأبعدها ولزم منه وجود عدو لكل نبي للتضاد الحقيقي بينهما. وفائدة وجود العدو في مقابلته له أن الكمال الذي قدر له بحسب استعداده لا يظهر عليه إلا بقوة المحبة للاستمداد، وأما القهر فلانكسار نفسه به وبإهانته واستخفافه له، وتثبته عند مقابلته في مقام القلب وتجلده معرضا عن النفس ولذاتها لاشتغاله بالعدو ذاهلا عنها لفرط الحمية والحرص على الفضيلة التي يقهر بها العدو والاحتراز عن الملابس الحيوانية والشيطانية ليبعد بها عن مقامه ومناسبته ولئلا يتطرق له سبيل إلى طعنه وتحقيره وازدرائه بها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" ما أوذي نبي قط مثل ما أوذيت "
، إذ لا كمال لأحد مثل كماله فيجب أن يكون سبب إخراجه إلى الفعل أقوى لغاية بعده عن صفات النفس وعاداتها.
{ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } ولتميل إليه المحجوبون لمناسبتهم { وليرضوه } لمحبتهم إياه، فتقوى غوايتهم ويتظاهرون ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل، ويزدادوا طغيانا وتعديا على النبي صلى الله عليه وسلم فتزداد قوى كماله وتهيج أيضا بسببه دواعي المؤمنين، والذين في استعدادهم مناسبة للنبي صلى الله عليه وسلم فتنبعث حميتهم، وتزداد محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرهم إياه، فتظهر عليهم كمالاتهم ويتقوى بهم النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل: إن شهرة المشايخ وكثرة مريديهم لا تكون إلا بواسطة المنكرين إياهم.
[6.115-122]
{ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } أي: تم قضاؤه في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم وكفر من كفر ومحبة من أحب أحدا، وعداوة من عادى قضاء مبرما وحكما صادقا مطابقا لما يقع عادلا بمناسبة كل قول وكل كمال وحال، لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له { لا مبدل } لأحكامه الأزلية { وهو السميع } لما يظهرون من الأقوال والأفعال المقدرة { العليم } بما يخفون { أكثر من في الأرض } أي: من في الجهة السفلية بالركون إلى الدنيا وعالم النفس والطبيعة { يضلوك عن سبيل الله } بتزيينهم زخارفهم عليك ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه { إن يتبعون إلا الظن } لكونهم محجوبين في مقام النفس بالأوهام والخيالات عن اليقين { وإن هم إلا } يخمنون المعاني بالصور والآخرة بالدنيا، ويقدرون أحوال المعاد وذات الحق وصفاته كأحوال المعاش وذواتهم وصفاتهم فيشركون ويحلون بعض المحرمات.
{ فكلوا } إلى آخره، معلوم مما مر في (المائدة) ومسبب للنهي عن طاعة المضلين واتباعهم { ظاهر الإثم } سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح { وباطنه } العقائد الفاسدة والعزائم الباطلة { أو من كان ميتا } بالجهل، وهو النفس وباحتجابه بصفاتها { فأحييناه } بالعلم ومحبة الحق أو بكشف حجب صفاته بتجليات صفاتنا { وجعلنا له نورا } من هدايتنا وعلمنا أو نورا من صفاتنا أو نورا منا بقيوميتنا له بذاتنا على حسب مراتبه، كمن صفته هذا، أي: هذا القول وهو أنه في ظلمات من نفسه وصفاتها وأفعالها ليس بخارج منها { كذلك زين } للمحجوبين عملهم فاحتجبوا به.
[6.123-125]
{ وكذلك جعلنا في كل قرية } للحكمة المذكورة في إعلاء الأنبياء وكذا في قرية وجود الإنسان التي هي البدن، جعلنا أكابر مجرميها من قوى النفس الأمارة ليمكروا فيها بإضلال القلب وفتنته وإغوائه { وما يمكرون إلا بأنفسهم } لأن عاقبة مكرهم راجعة إليهم باحتراقهم بنيران فقدان الآلات والأسباب في جحيم الهوى والحرمان عن اللذات والشهوات وحصول الآلات الجسمانية عند خراب البدن وعند المعاد والبعث في أقبح الصور على أسوأ الأحوال.
{ وإذا جاءتهم آية } من صفة قلبية وإشراق نوري من هيئة ملكية خلقية، أو علم وحكمة وفيض من روح ينكرونها بالإعراض عنها، ويتمنون من قبل الوهم والخيال إدراكات مثل إدراكات العقل والفكر وتركيبات تخيلية ومغالطات وهمية يعارضون بها البراهين الحقة حتى يؤمنوا بها ويذعنوا لها. { الله أعلم حيث يجعل رسالته } لا يضعها إلا مواضعها من القوى الروحانية المجردة من المواد الهيولانية { سيصيب الذين أجرموا } باحتجابهم ومكرهم في إضلالهم من استعد للهدى أو اهتدى من القلوب الصافية { صغار عند الله } بزوال قدرتهم وتمكنهم بخراب البدن { وعذاب شديد } بحرمانهم عما يلائمهم ووصول ما ينافيهم في المعاد الجسماني بسبب مكرهم.
{ فمن يرد الله أن يهديه } من هذه القوى للانقياد للعقل { يشرح صدره } أي: يسهل عليه ويجعل وجهه الذي يلي القلب ذا نتوء وسعة لقبول نوره وممكنا من استسلامه له { ومن يرد أن يضله يجعل صدره } يعسر عليه ويعجزه عن ذلك { حرجا } ذا ظلمة وقصور استعداد عن قبول النور كأنما يزاول أمرا ممتنعا في الاستنارة بنور القلب وطلب الفيض منه. على هذا التأويل الذي ذكرناه وعلى المعنى الظاهر المراد من الآية السابقة. فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره بقبول نور الحق وإسلام الوجود إلى الله بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي النفس، فيفسح لقبول نور الحق. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا باستيلائها عليه وضغطها له { كأنما يصعد } في سماء روحه مع تلك الهيآت البدنية وذلك أمر محال.
{ كذلك يجعل الله } رجس التلوث بلوث التعلقات المادية أو رجس التعذب بالهيآت البدنية { على الذين لا يؤمنون }.
[6.126-128]
{ وهذا } أي: طريق التوحيد وإسلام الوجه إلى الله { صراط ربك مستقيما } لا اعوجاج فيه بوجه من الوجوه يميل إلى جانب الصورة وإلى جانب المعنى أو إلى النظر إلى الغير والشرك به { قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون } المعارف والحقائق التي هي مركوزة في استعدادهم فيهتدوا بها { لهم دار السلام } السلامة من كل نقص وآفة وخوف ظهور صفة ووجود بقية { عند ربهم } في حضرة صفاته أو حضرة ذاته { وهو وليهم } يعطيهم محبته وكماله، ويدخلهم في ظل صفاته وذاته، ويجعلهم في أمانه بالبقاء السرمدي بعد فناء حدثانهم بسبب أعمالهم القلبية والقالبية في سلوكهم.
{ يوم يحشرهم } في يوم عين الجمع المطلق { جميعا }. قلنا { يا معشر } جن القوى النفسانية { قد استكثرتم من الإنس } أي: من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم وأهل طاعتكم إياهم، وتسويلكم وتزيينكم الحطام الدنيوية واللذات الجسمانية عليهم، ووسوستكم إياهم بالمعاصي { وقال أولياؤهم من الإنس } الذين تولوهم { ربنا استمتع بعضنا ببعض } بانتفاع كل منا في صورة الجمعية بالآخر { و } قد { بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } بالموت أو بالمعاد الجسماني على أقبح الصور وأسوأ العيش { قال النار } نار الحرمان عن اللذات ووجدان الآلام { مثواكم خالدين فيها إلا } وقت { ما شاء الله } أن تخفف، أو ينجي منكم من لا يكون سبب تعذبه شركا راسخا في اعتقاده { إن ربك حكيم } لا يعذبكم إلا بهيآت نفوسكم التي كسبتم على ما تقتضيه الحكمة { عليم } بمن يتعذب باعتقاده فيدوم عذابه أو بهيآت سيئات أعماله فيعذب على حسبها ثم ينجو منه.
[6.129-150]
{ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } أي: مثل ذلك الجعل العظيم الهائل نجعل بعضهم ولي بعض بتوافق مكاسبهم وتناسبها، فيتوالون ويحشرون معا في العذاب كالجن والإنس الذين ذكرناهم أو نجعل بعضهم والى بعض بتعذيبه بمكسوباته في النار { رسل منكم } من البشر الذين هم جنسكم وعلى التآويل المذكورة من عقولكم التي هي قوى من جنسكم وهذه الأسئلة والأجوبة والشهادات كلها بلسان الحال وإظهار الأوصاف، كما قيل:
قال الجدار للوتد: لم تشقني؟
قال الوتد: سل من يدقني
وكشهادة الأيدي والأرجل بصورها التي تناسب هيآت أفعالها وتعذبها بها { ذلك } إشارة إلى إرسال الرسل وتبيين الآيات وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد، أي: الأمر ذلك لأن ربك لم يكن مهلك القرى على غفلتهم ظالما لأنه ينافي الحكمة.
{ ولكل درجات } في القرب والبعد من أعمالهم التي عملوها { إن يشأ يذهبكم } بفناء عينكم { ويستخلف من بعدكم } من أهل طاعته برحمته { ذلك } أي: تحريم الطيبات عليهم جزاء { جازيناهم } بظلمهم { وإنا لصادقون } في إيعادهم بجزاء الظلم { فإن كذبوك } بأن الله واسع المغفرة فلا يعذبنا بظلمنا { فقل } بلى { ربكم ذو رحمة واسعة } ولكنه ذو قهر شديد فلا ترد رحمته بأسه { عن القوم المجرمين } بل ربما أودع قهره في صورة لطفه ولطفه في صورة قهره { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي: كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله عنادا وعتوا فعذبوا بكفرهم.
{ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } أي: إن كان لكم علم بذلك وحجة فبينوا، وإنما قال ذلك إشارة إلى قولهم: { لو شاء الله ما أشركنا } لأنهم لو قالوا ذلك عن علم لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء لا يقع إلا بإرادة الله فلم يعادوهم ولم ينكروهم، بل والوهم، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف. ولعمري إنهم لو قالوا ذلك عن علم لما كانوا مشركين، بل كانوا موحدين ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد، وعلى ما سمعوا من الرسل إلزاما لهم وإثباتا لعدم امتناعهم عن الرسل لأنهم محجوبون في مقام النفس، وأنى لهم اليقين؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله؟.
{ قل فلله الحجة البالغة } أي: إن كان ظنكم صدقا في تعليق شرككم بمشيئة الله فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين، لكون كل دين حينئذ بمشيئة الله، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم وإقراركم بأنكم أشركتم بمن لا يقع أمر إلا بإرادته ما لا أثر لإرادته أصلا فأنتم أشقياء في الأزل، مستحقون للبعد والعقاب { فلو شاء لهداكم أجمعين } أي: بلى صدقتم، ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلكم، فبأي شيء علمتم أنه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع عن الشرك ويؤمن.
[6.151]
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } لما أثبت أن المشركين في التحريم والتحليل يتبعون أهواءهم، إذ الشرك في نفسه ليس إلا عبادة الهوى والشيطان. فلما احتجبوا بصفات النفس عن صفات الحق، وأمروا عليهم الهوى وعبدوه وأطاعوا أوامره ونواهيه في التحريم والتحليل، بين أن التحريم والتحليل المتبع فيهما أمر الله تعالى ما هما، ولما كان الكلام معهم في تحريم الطيبات عدد المحرمات ليستدل بها على المحللات فحصر جميع أنواع الفضائل بالنهي عن أجناس الرذائل وابتدأ بالنهي عن رذيلة القوة النطقية التي هي أشرفها. فإن رذيلتها أكبر الكبائر، مستلزمة لجميع الرذائل، بخلاف رذيلة أخويها من القوتين البهيمية والسبعية فقال: { ألا تشركوا به شيئا } إذ الشرك من خطئها في النظر وقصورها عن استعمال العقل ودرك البرهان وعقبه بإحسان الوالدين، إذ معرفة حقوقهما تتلو معرفة الله في الإيجاد والربوبية لأنهما سببان قريبان في الوجود والتربية وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده وربوبيته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله "
فعقوقهما يلي الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته، ثم بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر، فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق وأن أرزاق العباد بيده يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. والاحتجاب عن سر القدر، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير الآجال، فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى، والثانية من خطئها في معرفة صفاته، والثالثة من معرفة أفعاله فلا يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا منكوس، محجوب عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وهذه الحجب أم الرذائل وأساسها. ثم بين رذيلة القوة البهيمية لأن رذيلتها أظهر وأقدم، فقال: { ولا تقربوا الفواحش } من الأعمال القبيحة الشنيعة عند العقل { ما ظهر منها } كالزنا في الحانات، وشرب الخمر وأكل الربا { وما بطن } كقصد هذه الفواحش المذكورة ونيتها والهم بها وإخفائها كالسرقة وارتكاب المحظورات في الخفية.
ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } أي: بالقصاص والكفر، وختم الكلام بقوله: { ذلكم } اي: الاجتناب عن أجناس رذائل النفوس الثلاث { وصاكم به لعلكم تعقلون } أي: لا تجتنبها إلا العقلاء ومن ارتكبها فلا عقل له.
[6.152-153]
ثم أراد أن يبين أن الرذائل الثلاث مستلزمة باجتماعها رذيلة الجور التي هي أعظمها وجماعها كما أن فضائلها تستلزم العدالة التي هي كمالها والشاملة لها فقال: { ولا تقربوا مال اليتيم } بوجه من الوجوه { إلا بالتي هي أحسن } إلا بالخصلة التي هي أحسن من حفظه وتثميره { حتى يبلغ أشده } فينتفع به، لا بالأكل والإنفاق في مآربكم والإتلاف فإنه أفحش. ولما بين تحريم أجناس الرذائل الأربع بأسرها على التفصيل أمر بإيجاب الفضائل الأربع بالإجمال، إذ تفصيل الرذائل يغني عن تفصيل مقابلاتها وذلك أنها مندرجة بأسرها في العدالة فأمر بها في جميع الوجوه فعلا وقولا وقال: { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } أي: حافظوا على العدل فيما بينكم وبين الخلق مطلقا { وإذا قلتم فاعدلوا } أي: لا تقولوا إلا الحق { ولو كان } المقول فيه { ذا قربى } فلا تميلوا في القول له أو عليه إلى زيادة أو نقصان { وبعهد الله أوفوا } أي: بالتوحيد والطاعة وكل ما بينكم وبين الله من لوازم العهد السابق بالعقد اللاحق. ولما كان سلوك طريقة الفضيلة التي هي طريقة الوحدة والتوجه إلى الحق صعبا، كما قيل: أدق من الشعرة وأحد من السيف، وخصوصا في الأفعال إذ مراعاة الوسط فيها بلا ميل ما إلى طرف الإفراط والتفريط في غاية الصعوبة. قال بعد قوله: { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } فبين أنه جمع في هذا المقام بين النهي عن جميع الرذائل والأمر بجميع الفضائل كلها بحيث لا يخرج منها جزئي ما من جزئياتها، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: إن هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب. واتفق على قوله أهل الكتابين وجميع الملل والنحل. وقال كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إنها لأول شيء في التوراة. { ذلكم } أي: ما ذكر من وجوب الانتهاء عن جميع الرذائل والاتصاف بجميع الفضائل { وصاكم به } في جميع الكتب على ألسنة جميع الرسل { لعلكم تذكرون } عند سماعها ما وهب الله لكم من الكمال وأودع استعدادكم في الأزل.
{ وأن هذا } أي: طريق الفضائل لأن منبع الفضيلة هي الوحدة. ألا ترى أنها أواسط واعتدالات بين طرفي إفراط وتفريط لا يمكن سلوكها على التعيين بالحقيقة إلا لمن استقام في دين الله إليه وأيده الله بالتوفيق لسلوك طريق الحق حتى وصل إلى الفناء عن صفاته ثم عن ذاته. ثم اتصف في حال البقاء بعد الفناء بصفاته تعالى حتى قام بالله فاستقام فيه وبه فحينئذ يكون صراطه صراط الحق وسيره سير الله { صراطي مستقيما } أي: طريقي لا يسلكها إلا من قام بي مستويا غير مائل إلى اليمين والشمال لغرض { فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } من المذاهب المتفرقة والأديان المختلفة فإنها أوضاع وضعها أهل الاحتجاب بالعادات والأهواء، أي: وضع لهم لئلا يزدادوا ظلمة وعتوا وحيرة. وروى ابن مسعود
" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه خط خطا فقال: " هذا سبيل الرشاد " "
، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال:
" هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "
ثم تلا هذه الآية: { فتفرق بكم عن سبيله ذلكم } أي: سلوك طريق الوحدة والفضيلة { وصاكم به لعلكم تتقون } السبل المتفرقة بالاجتناب عن مقتضيات الأهواء ودواعي النفوس وتجعلون الله وقاية لكم في ملازمة الفضائل ومجانبة الرذائل.
[6.154-157]
{ ثم آتينا موسى الكتاب } أي: بعدما وصاكم بسلوك طريق الفضيلة في قديم الدهر
آتينا موسى الكتاب
[البقرة، الآية: 153] { تماما على الذي أحسن } أي: تتميما لكرامة الولاية ونعمة النبوة مزيدا على الذي أحسنه موسى من سلوك طريق الكمال وبلوغه إلى ما بلغ من مقام المكالمة والقرب بالوجود الموهوب بعد الفناء في الوحدة، كما قال تعالى:
فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
[الأعراف، الآية: 143] بالتكميل ودعوة الخلق إلى الحق { وتفصيلا لكل شيء } يحتاج إليه الخلق في المعاد { وهدى } لهم إلى ربهم في سلوك سبيله { ورحمة } عليهم بإفاضة كمالاته عليهم بواسطة موسى وكتابه { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } الإيمان العلمي أو العياني.
{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك } بزيادة الهداية إلى محض التوحيد والإرشاد إلى سواء السبيل يهدي بأقرب الطرق إلى أرفع الدرجات من الكمال { فاتبعوه واتقوا } كل ما سوى الله حتى ذواتكم وصفاتكم { لعلكم ترحمون } رحمة الاستقامة بالله وفي الله بالوجود الموهوب. { أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } لقوة استعداداتنا وصفاء أذهاننا إن صدقتم { فقد جاءتكم بينة من ربكم } بيان لكيفية سلوككم { وهدى } إلى مقصدكم { ورحمة } بتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات.
[6.158]
{ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } لتوفي روحهم { أو يأتي ربك } بتجلية في جميع الصفات كما مرت الإشارة إليه من تحول الصورة في القيامة، فلا يعرفه إلا الموحدون الكاملون. وأما أهل المذاهب والملل المختلفة فلا يعرفونه إلا في صورة معتقدهم { أو يأتي بعض آيات ربك } تجليه في بعض الصفات التي لم يعرفوه بها { يوم يأتي بعض آيات ربك } بعض تجلياته التي لم يأنسوا بها أو لم يعرفوها { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل } فإن الناس إما محجوبون مطلقا أو ليسوا كذلك، وهم إما مؤمنون لعرفانهم ببعض الصفات أو بكلها، والمؤمنون به العارفون إياه بكلها إما محبون للذات وإما محبون للصفات، فإذا تجلى الحق ببعض الصفات لا ينفع إيمان المحجوبين مطلقا، وإيمان المؤمنين الذين لم يعرفوه بهذه الصفة من قبل هذا التجلي، إذ الإيمان إنما ينفع إذا صار عقيدة ثابتة راسخة يتمثل بها القلب وتتنور بها النفس وتشاهد بها الروح، لا الذي يقع عند الاضطرار دفعة { أو كسبت في إيمانها خيرا } كإيمان العارفين، المحبين للصفات، فإنهم وإن آمنوا به وعرفوا بتجليه بكل الصفات. فلما لم يكتسبوا المحبة الذاتية، والكمال المطلق، وأحبوه ببعض الصفات، كالمنعم مثلا أو اللطيف أو الرحيم فإذا تجلى بصفة المنتقم أو القهار أو المبلي لم ينفعهم الإيمان به، إذ لم يطيعوه من قبل بهذا الوصف ولم يتمرنوا بتجليه ولم يحبوا الذات فيلتذوا بشهوده في أي صفة كانت.
[6.159-160]
{ إن الذين فرقوا دينهم } أي: جعلوا دينهم أهواء متفرقة، كالذين غلبت عليهم صفات النفس بجذبهم هذه إلى شيء وهذه إلى شيء فحدثت فيهم أهواء مختلفة، فبقوا حيارى لا جهة لهم ولا مقصد { وكانوا شيعا } فرقا مختلفة بحسب غلبة تلك الأهواء يغلب على بعضهم الغضب وعلى بعضهم الشهوة وإن دانوا بدين جعلوا دينهم بحسب غلبة هواهم مادة التعصب ومدد استيلاء تلك القوة الغالبة على القلب ولم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع، يعبد كل منهم إلها مجعولا في وهمه، مخيلا في خياله ويجعله سبب الاستطالة والتفرق على الآخر كما نشاهد من أهل المذاهب الظاهرة { لست منهم في شيء } أي: لست من هدايتهم ودعوتهم إلى التوحيد في شيء إذ هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة لا يجتمع همهم ولا يتحد قصدهم. { إنما أمرهم إلى الله } في جزاء تفرقهم لا إليك { ثم ينبئهم } عند ظهور هيآت نفوسهم المختلفة والأهواء المتفرقة عليهم بمفارقة الأبدان { بما كانوا يفعلون } من السيئات .
{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } هذا أقل درجات الثواب وذلك أن الحسنة تصدر بظهور القلب، والسيئة بظهور النفس، فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام القلب الذي يتلو مقام النفس في الارتقاء تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد. { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } لأنه لا مقام أدون من مقام النفس، فينحط إليه بالضرورة فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل. ومن هذا يعلم أن الثواب من باب الفضل فإنه يزيد به صاحبه ويتنور استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق فيتقوى على إضعاف ما فعل ويكتسب به أجورا متضاعفة إلى غير نهاية بازدياد القبول عند فعل كل حسنة، وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله، كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة:
والله يضاعف لمن يشآء
[البقرة، الآية: 261] وأن العقاب من باب العدل، إذ العدل يقتضي المساواة ومن فعل بالنفس إذا لم يعف عنه يجازى بالنفس سواء وتذكر ما قيل في قوله تعالى:
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
[البقرة، الآية: 286] فإن الفضيلة للإنسان ذاتية موجبة لترقيه البتة، والرذيلة عارضة ظلمتها للفطرة، فمهما لم تكن بقصد ونية من صاحبها أو كانت ولم يصر عليها، عفي عنها ولم تحجب صاحبها. وإن كانت وأصر عليها جوزي في مقام النفس بالمثل. والحسنة والسيئة المذكورتان ههنا من قبيل الأعمال وإلا فرب سيئة من شخص تعادل حسنة من غيره، كما قال عليه السلام: " حسنات الأبرار سيئات المقربين " ، بوجود القلب عند الشهود، وسيئات الأبرار بظهور النفس عند السلوك، وحسناتهم بظهور القلب، ورب سيئة توجب حجاب الأبد كاعتقاد الشرك مثلا.
[6.161-165]
{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } إلى طريق التوحيد الذاتي { دينا قيما } ثابتا أبدا لا تغيره الملل والنحل ولا تنسخه الشرائع والكتب { ملة إبراهيم } التي أعرض بها عن كل ما سواه بالترقي عن جميع المراتب مائلا عن كل دين وطريق باطل فيه شرك ما، ولو بصفة من صفات الله تعالى.
{ قل إن صلاتي } أي: حضوري بالقلب وشهودي بالروح { ونسكي } أي: تقربي أو كل ما أتقرب به بالقلب { ومحياي } بالحق { ومماتي } بالنفس كلها { لله } لا نصيب لي ولا لأحد غيري فيها لأني قمت به له بالفناء فلا وجود لي ولا لغيري حتى يكون لي حظ ونصيب { رب العالمين } أي: له باعتبار الجمع في صورة تفاصيل الربوبية { لا شريك له } في ذلك جمعا وتفصيلا { وبذلك أمرت } أي: أمرت أن لا أرى غيره في عين الجمع ولا في صورة التفاصيل حتى أعمل له كما وصفني تعالى بقوله:
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم، الآية: 17] فهو الآخر والمأمور، والرائي والمرئي { وأنا أول المسلمين } المنقادين للفناء فيه بإسلام وجهي له باعتبار الرتبة في تفاصيل الذات وإلا فلا أول ولا آخر ولا مسلم ولا كافر.
{ قل أغير الله } الذي هذا شأنه { أبغي ربا } فأطلب مستحيلا أو غير الذات الشامل لجميع الصفات الذي هو الكل من حيث هو كل أبغي متعينا فيكون مربوبا لا ربا { وهو رب كل شيء } وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته مربوب { ولا تكسب كل نفس } شيئا { إلا } هو وبال { عليها } إذ كسب النفس شرك في أفعاله تعالى، وكل من أشرك فوباله عليه باحتجابه { ولا تزر وازرة وزر أخرى } لرسوخ هيئة وزرها فيها ولزومه إياها تحتجب هي به، فكيف يتعدى إلى غيرها.
{ وهو الذي جعلكم خلائف } في أرضه بإظهار كمالاته في مظاهركم ليمكنكم إنفاذ أمره { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في مظهرية كمالاته على تفاوت درجات الاستعدادات، { ليبلوكم فيما آتاكم } من كمالاته بحسب الاستعدادات من يقوم بحقوق ما ظهر منها عليه ومن لا يقوم، ومن يقوم بحقي في سلوك طريقها حتى يظهرها الله بإخفاء صفات نفسه فيكون مؤديا لأمانات الله ومن لا يقوم فيكون خائنا وتظهر عليكم أعمالكم بحسبها فيترتب عليها الجزاء معا، إما بمثوبة الاحتجاب حالة التقصير فيكون ربك سريع العقاب، وإما بمثوبة البروز والانكشاف فيكون غفورا يستر أفعالكم وصفات نفوسكم الساترة الحاجبة لتلك الصفات الإلهية والكمالات الربانية، رحيما يرحمكم بإظهارها عليكم، والله أعلم بحقائق الأمور.
[7 - سورة الأعراف]
[7.1-7]
{ المص كتاب أنزل إليك } - إلى قوله - { ذكرى للمؤمنين } (ا) إشارة إلى الذات الأحدية، و (ل) إلى الذات مع صفة العلم كما مر، و (م) إلى التميمة الجامعة التي هي معنى محمد، أي: نفسه وحقيقته، و (ص) إلى الصورة المحمدية التي هي جسده وظاهره.
وعن ابن عباس، أنه قال صلى الله عليه وسلم:
" جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل ولا نهار "
، أشار بالجبل إلى جسد محمد، وبعرش الرحمن إلى قلبه. كما ورد في الحديث:
" قلب المؤمن عرش الله "
وجاء:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي، ويسعني قلب عبدي المؤمن "
وقوله:
" حين لا ليل ولا نهار "
إشارة منه إلى الوحدة، لأن القلب إذا وقع في ظل أرض النفس واحتجب بظلمة صفاتها كان في الليل، وإذا طلع عليه نور شمس الروح واستضاء بضوئه كان في النهار، وإذا وصل إلى الوحدة الحقيقية بالمعرفة والشهود الذاتي واستوى عنده النور والظلمة كان وقته لا ليلا ولا نهارا، ولا يكون عرش الرحمن إلا في هذا الوقت.
فمعنى الآية: إن وجود الكل من أوله إلى آخره { كتاب أنزل إليك } أي: أنزل إليك علمه { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي: ضيق من حمله، فلا يسعه لعظمته فيتلاشى بالفناء في الوحدة والاستغراق في عين الجمع والذهول عن التفصيل، إذ كان عليه السلام في مقام الفناء محجوبا بالحق عن الخلق كلما رد عليه الوجود، وحجب عنه الشهود الذاتي وظهر عليه بالتفصيل، ضاق عنه وعاؤه وارتكب عليه وزر وثقل، ولهذا خوطب بقوله تعالى:
ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك
[الشرح، الآيات:1-2] بالوجود الموهوب الحقاني، والاستقامة في البقاء بعد الفناء بالتمكين ليسع صدرك الجمع والتفصيل والحق والخلق، فلم يبق عليك وزر في عين الجمع ولا حجاب بأحدهما عن الآخر { لتنذر به } وتذكر تذكيرا { للمؤمنين } بالإيمان الغيبي، أي: لا يضق صدرك منه ليمكنك الإنذار والتذكير، إذ لو ضاق لبقي في حال الفناء، لا يرى إلا الحق في الوجود وينظر إلى الحق بنظر العدم المحض فكيف ينذر ويذكر ويأمر وينهى. على تقدير القسم. فمعناه بالكل من أوله إلى آخره، أو باسم الله الأعظم إذ (ص) حامل العرش والعرش يسع الذات والصفات والمجموع هو الاسم الأعظم، لهو كتاب أنزل إليك علمه، أو: لهذا القرآن كتاب أنزل إليك.
[7.8-9]
{ والوزن يومئذ الحق } الوزن هو الاعتبار، أي: اعتبار الأعمال حين قامت القيامة الصغرى. هو الحق، أي: العدل أو الثابت أو الوزن العدل يومئذ. { فمن ثقلت موازينه } أي: رجحت موزوناته بأن كانت باقيات صالحات { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بصفات الفطرة، ونعيم جنة الصفات في مقام القلب { ومن خفت موازينه } موزوناته بأن كانت من المحسوسات الفانية { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } ببيعها باللذات العاجلة السريعة الزوال وإفنائها في دار الفناء مع كونها بضاعة البقاء. واعلم أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس، والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنيات الصادقة، ثقلت أي: كانت ذات قدر ووزن، إذ لا قدر أرجح من البقاء الدائم. ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة والشرور المردية، خفت أي: لا قدر لها ولا اعتداد بها، ولا خفة أخف من الفناء، فخسرانهم هو أنهم أضاعوا استعدادهم الأصلي في طلب الحطام الدنيوي وتحصيل المآرب النفسانية بسبب ظهورهم بصفات أنفسهم وظلمهم بصفات الله تعالى بالتكذيب بها، أي: بإخفائها بصفات أنفسهم.
[7.10-18]
{ خلقتني من نار وخلقته من طين } خلقت القوة الوهمية من ألطف أجزاء الروح الحيوانية التي تحدث في القلب من بخارية الأخلاط ولطافتها وترتقي إلى الدماغ، وتلك الروح هي أحر ما في البدن فلذلك سماها نارا. والحرارة توجب الصعود والترفع، وقد مر أن كل قوة ملكوتية تطلع على خواص ما تحتها دون ما فوقها وعلى الكمالات البدنية وخواصها وكمالات الروح الحيوانية وخواصها، واحتجابها عن الكمالات الإنسانية الروحانية والقلبية هو صورة إنكارها وعلة إبائها واستكبارها، وتعديها عن طورها بالحكم في المعاني المعقولة والمجردات والامتناع عن قبول حكم العقل هو صورة إبائها عن السجود.
{ فما يكون لك أن تتكبر فيها } إذ التكبر، وهو التظاهر بما ليس فيه من الفضيلة من صفات النفس، فلا يليق بالحضرة الروحانية التي تزعم أنك من أهلها بالترفع على العقل، { فأخرج } ، فلست من أهلها الذين هم الأعزة { إنك من الصاغرين } من القوى النفسانية الملازمة للجهة السفلية الدائمة الهوان بملازمة الأبدان { إلى يوم يبعثون } من قبور الأبدان وأجداث صفات النفس بعد الموت الإرادي في القيامة الوسطى بحياة القلب وخلاص الفطرة من حجب النشأة، أو يبعثون بعد الفناء في الوحدة في القيامة الكبرى بالوجود الموهوب الحقاني والحياة الحقيقية، والمبعوث الأول هو المخلص بكسر اللام، والثاني هو المخلص بالفتح ولا سبيل لإبليس إلى إغوائهما { فبما أغويتني } إقسام وإبليس محجوب عن الذات الأحدية دون الصفات والأفعال، فشهوده للأفعال وتعظيمه لها إقسام بها كما أقسم بعزته في قوله:
فبعزتك لأغوينهم أجمعين
[ص، الآية: 82].
{ لأقعدن لهم صراطك } أي: أعترضن لهم في طريق التوحيد الذاتي وأمنعنهم عن سلوكها بأن أشغلهم بما سواك، ولآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الشاهد لأن إتيانه من أسفل، أي: من جهة الأحكام الحسية والتدابير الجزئية من باب المصالح الدنيوية غير موجب للضلالة، بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وبه يستعين العقل فيها كما مر في تأويل قوله:
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة، الآية: 66]. وإتيانه من فوق غير ممكن له إذ الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والإلقاءات الملكية وتفيض المعارف والحقائق الروحية فبقيت الجهات الأربع مواقع وساوسه. أما من بين يديه فبأن يؤمنه من مكر الله ويغره بأن الله غفور رحيم فلا يخاف فيثبطه عن الطاعات. وأما من خلفه فبأن يخوفه من الفقر وضيعة الأولاد من خلفه فيحرضه على الجمع والادخار لهم ولنفسه في المستقبل عند تأميله طول العمر. وأما من جهة اليمين، فبأن يزين عليه فضائله ويعجبه بفضله وعلمه وطاعته ويحجبه عن الله برؤية تفضيله. وأما عن شماله فبأن يحمله على المعاصي والمقابح ويدعوه إلى الشهوات واللذات. { ولا تجد أكثرهم شاكرين } مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله.
{ لمن تبعك منهم لأملأن جهنم } الطبيعة التي هي أسفل مراتب الوجود { منكم أجمعين } محجوبين عن لذة النعيم الأبدي وذوق البقاء السرمدي والكمالات الروحانية والكمالات الحقانية معذبين بنيران الحرمان عن المراد في انقلابات عالم التضاد وتقلبات الكون والفساد.
[7.19-23]
{ ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما } أي: ليظهر عليهما بالميل إلى الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الطبيعية واللذات البدنية والرذائل الخلقية والأفعال الحيوانية والصفات السبعية والبهيمية التي يستحيي الإنسان من إظهارها ويستهجن إفشاءها وتحمله المروءة على إخفائها لكونها عورات عند العقل يأنف منها ويستقبحها { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } أي: أوهمهما أن في الاتصال بالطبيعة الجسمانية والمادة الهيولانية لذات ملكية وإدراكات وأفعالا وخلودا فيها أو ملكا ورياسة على القوى وسائر الحيوانات دائما بغير زوال إن قرئ ملكين بكسر اللام كما قال:
أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى
[طه، الآية: 120]. وزين لها من المصالح الجزئية والزخارف الحسية التي لا تنال إلا بالآلات البدنية في صورة الناصح الأمين.
{ فدلاهما } أي: فنزلهما إلى التعلق بها والسكون إليها بما غرهما من التزيي بزي الناصحين وإفادة توهم دوام اللذات البدنية والرياسة الإنسية وسول لهما من المنافع البدنية والشهوات النفسية { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } أي: يكتمان الغواشي الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العملية ويخفيانها بالحيل العلمية { وناداهما ربهما ألم أنهكما } صورة النهي هو ما ركز في العقول من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات والتجافي عن المواد والمحسوسات وقوله لهما: { إن الشيطان لكما عدو مبين } ما ألهم العقل من منافات أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه ونداؤه إياهما بذلك هو التنبيه على ذلك المعنى على سبيل الخاطر والتذكير له بعد التعلق والانغمار في اللذات الطبيعية عند البلوغ وظهور أنواع العقل والفهم عليهما.
وقولهما: { ربنا ظلمنا أنفسنا } هو لتنبه النفس الناطقة على نقصانها من جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها وحصول الداعي فيها على طلب الكمال بالتجرد { وإن لم تغفر لنا } بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها مشرقة علينا { وترحمنا } بإفاضة المعارف الحقيقية { لنكونن من } الذين أتلفوا الاستعداد الأصلي الذي هو مادة السعادة والبقاء بصرفها في دار الفناء، وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي.
[7.24-28]
{ لباسا يواري سوآتكم } أي: شريعة تستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم { وريشا } أي: جمالا يبعدكم عن شبه الأنعام المهملة ويزينكم بالأخلاق الحسنة والأعمال الجميلة { ولباس التقوى } أي: صفة الورع والحذر من صفة النفس { ذلك خير } من جملة أركان الشرائع لأنه أصل الدين وأساسه كالحمية في العلاج { ذلك من آيات الله } أي: من أنوار صفاته، إذ الاجتناب عن صفات النفس لا يحصل ولا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق. وإلى هذا أشار القوم بقولهم: إن الله لا يتصرف في شيء من العبد إلا ويعوضه أحسن منه من جنسه { لعلكم تذكرون } عند ظهور تجليات لباسكم النوري الأصلي أو جوار الحق الذي كنتم تسكنون فيه بهداية أنوار الصفات { لا يفتنكم الشيطان } عن دخول الجنة وملازمتها بنزع لباس الشريعة والتقوى عنكم { كما أخرج أبويكم } منها بنزع اللباس الفطري النوري.
[7.29-30]
{ قل أمر ربي بالقسط } أي: العدالة والاستقامة { وأقيموا وجوهكم } ذواتكم الموجودة بمنعها عن الميل والزيغ إلى طرفي الإفراط والتفريط في العدالة، وعن التلوينات في الاستقامة { عند كل مسجد } أي: كل مقام سجود أو وقت سجود، والسجود أربعة أقسام: سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه فيه بالإخلاص، والاجتناب عن الرياء والنفاق في العمل لله، والالتفات إلى الغير فيه، ومراعاة موافقة الأمر مع صدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور وهي العدالة وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه فيه بالقيام بحقه بحيث لا يرى هو مؤثرا غير الله ولا يرى مؤثرا من نفسه ولا من غيره، وسجود الفناء في الصفات، وإقامة الوجه عنده بالمحافظة على شرائطه بحيث لا يرى زينة ذاته بها ولا يريد ولا يكره شيئا من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا إلى التفريط بالتسخط على المخالف وسجود الفناء في الذات، وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية، والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الأنية والإثنينية فلا يطغى بحجاب الأنائية ولا يتزندق بالإباحة وترك الطاعة. { وادعوه مخلصين له الدين } في المقام الأول بتخصيص العمل لله به، وفي الثاني والثالث برؤية الدين والطاعة من الله، وفي الرابع برؤيته بالله، فيكون الله هو المتدين بدينه ليس لغيره فيه نصيب { كما بدأكم } بإظهاركم واختفائه { تعودون } بفنائكم فيه واختفائكم ليظهر.
{ فريقا هدى } إليهم بهذا الطريق { وفريقا حق عليهم } كلمة { الضلالة } بسبب اتخاذهم شياطين القوى النفسانية الوهمية والتخيلية { أولياء من دون الله } لمناسبة ذواتهم في الظلمة والكدورة والبعد عن معدن النور إياهم، والجنسية التي بينهم في الركون إلى الجهة السفلية، والميل إلى الزخارف الطبيعية { ويحسبون أنهم مهتدون } لأن سلطان الوهم بالحسبان.
[7.31-34]
{ خذوا زينتكم عند كل مسجد } أي: لازموها وتمسكوا بها، فزينة المقام الأول من السجود هي الإخلاص في العمل لله، وزينة المقام الثاني هي التوكل ومراعاة شرائطه، وزينة المقام الثالث هي القيام بحق الرضا، وزينة المقام الرابع هي التمكين في التحقيق بالحقيقة الحقية ومراعاة حقوق الاستقامة وشرائطها { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } بالمحافظة على قانون العدالة فيها { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } أي: من منعهم من جنس هذه الزينة المذكورة المطلقة وقال إنه لا يمكنهم التزين بها واستحال ذلك منهم تمسكا بأن الله مانعهم. { والطيبات } من رزق علوم الإخلاص وعلوم مقام التوكل والرضا والتمكين { خالصة يوم القيامة } عن شوب التلوينات وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات.
{ قل إنما حرم ربي الفواحش } أي: رذائل القوة البهيمية { والإثم والبغي } أي: رذائل القوة السبعية { وأن تشركوا } إلى آخره، أي: رذائل القوة النطقية الملكية لأنها صفات نفسانية مانعة عن الزينة المذكورة التي هي الكمالات الإنسانية مضادة لها.
[7.35-46]
{ فمن اتقى وأصلح } أي: اتقى البقية في الفناء وأصلح بالاستقامة عند البقاء { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } لكونهم في مقام الولاية.
{ والذين كذبوا بآياتنا } أي: أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم { واستكبروا عنها } بالشيطنة { أولئك أصحاب } نار الحرمان { وبينهما حجاب } أي: بين أصحاب الجنة وبين أصحاب النار حجاب به كل منهم محجوب عن صاحبه. والمراد بأصحاب الجنة ههنا: أهل ثواب الأعمال من الأبرار والزهاد والعباد الذين جنتهم جنة النفوس، وإلا فأهل جنة القلوب والأرواح لا يحجبون عن أصحاب النار { وعلى الأعراف } أي: على أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب الفارق بين الفريقين هؤلاء عن يمينه وهؤلاء عن شماله { رجال } هم العرفاء أهل الله وخاصته { يعرفون كلا } من الفريقين { بسيماهم } يسلمون على أهل الجنة بإمداد أسباب التزكية والتحلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم، لم يدخلوا الجنة لتجردهم عن ملابس صفات النفوس وطيباتها وترقيهم عن طورهم فلا يشغلهم عن الشهود الذاتي ومطالعة التجلي الصفاتي نعيم { وهم } أي: أصحاب الجنة { يطمعون } في دخولهم ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم، ويستأنسوا بحضورهم.
[7.47-53]
{ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } أي: لا ينظرون إليهم طوعا ورأفة ورحمة ورضا، بل كراهة واعتبارا كأن صارفا صرف أبصارهم إليهم { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } أي: لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " أعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اللهم ثبت قلبي على دينك، فقيل له: أما غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: أو ما يؤمنني أن مثل القلب كمثل ريشة في فلاة، تقلبها الرياح كيف شاءت. "
{ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } أي: البدن الإنساني المفصل غلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلى ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله تعالى:
سيجزيهم وصفهم
[الأنعام، الآية: 139]، كما قال تعالى:
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما
[الإسراء: 97].
[7.54-72]
{ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } أي: اختفى في صور سماء الأرواح وأرض الأجساد في ستة آلاف سنة لقوله تعالى :
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج، الآية: 47] أي: من لدن خلق آدم إلى زمان محمد عليهما الصلاة والسلام لأن الخلق هو اختفاء الحق في المظاهر الخلقية وهذه المدة من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله فيه السموات والأرض "
، لأن ابتداء الخفاء بالخلق هو انتهاء الظهور، فإذا انتهى الخفاء إلى الظهور عاد إلى أول الخلق كما مر، ويتم الظهور بخروج المهدي عليه السلام في تتمة سبعة أيام ولهذا قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة. { ثم استوى على العرش } أي: عرش القلب المحمدي بالتجلي التام فيه بجميع صفاته كما ذكر في معنى (ص) { يغشي } ليل البدن وظلمة الطبيعة نهار نور الروح { يطلبه } بتهيئته واستعداده لقبوله باعتدال مزاجه سريعا، وشمس الروح وقمر القلب ونجوم الحواس { مسخرات بأمره } الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى:
كل يوم هو في شأن
[الرحمن، الآية: 29]. { ألا له } الإيجاد بالقدرة والتصريف بالحكمة، أو ألا له التكوين والإبداع. وإن حمل السموات والأرض على الظاهر فالأيام الستة هي الجهات الست، إذ يعبر عن الحوادث بالأيام كقوله تعالى:
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم، الآية: 5] أي: خلق عالم الأجسام في الجهات الست ثم استعلى متمكنا على العرش بالتأثير فيه بإثبات صور الكائنات عليه. وللعرش ظاهر وباطن، فظاهره هو السماء التاسعة التي تنتقش فيها صور الكائنات عليه. وللعرش ظاهر وباطن، فظاهره هو السماء التاسعة التي تنتقش فيها صور الكائنات بأسرها ويتبع وجودها وعدمها المحو والإثبات فيها على ما سيأتي في تأويل قوله تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت
[الرعد، الآية: 39] إن شاء الله. وباطنه هو العقل الأول المرتسم بصور الأشياء على وجه كلي، المعبر عنه ببطنان العرش كما جاء: " نادى منادى من بطنان العرش " ، وهو محل القضاء السابق، فالاستواء عليه قصد الاستعلاء عليه بالتأثير في إيجاد الأشياء بإثبات صورها عليه قصدا مستويا من غير أن يلوي إلى شيء غيره.
[7.73-103]
{ هذه ناقة الله لكم آية } الناقة لصالح عليه السلام كالعصا لموسى عليه السلام والحمار لعيسى والبراق لمحمد عليهما السلام، فإن لكل أحد من الأنبياء وغيرهم مركبا هو نفسه الحيوانية الحاملة لحقيقته التي هي النفس الإنسانية وتنتسب بالصفة الغالبة إلى ما يتصف بتلك الصفة من الحيوانات فيطلق عليه اسمه، فمن كانت نفسه مطواعة منقادة من غاية اللين حمولة قوية متذللة فمركبه ناقة ونسبتها إلى الله لكونها مأمورة بأمره مختصة به في طاعته وقربه. وما قيل: إن الماء قسم بينها وبينهم، لها شرب يوم ولهم شرب يوم، إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة العملية، ومشربها من العاقلة النظرية. وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى ملؤوا أوانيهم، إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علومه الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع والآداب. وخروجها من الجبل: ظهورها من بدن صالح عليه السلام. هذا هو التأويل مع أن الإقرار بظاهرها واجب، فإن ظهور المعجزات وخوارق العادات حق لا ننكر شيئا منها. وما يؤيد التأويل تسوية النبي عليه الصلاة والسلام عاقرها بقاتل علي عليه السلام، حيث قال:
" يا علي، أتدري من أشقى الأولين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: " عاقر ناقة صالح " ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " أتدري من أشقى الآخرين؟ " ، قال: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: " قاتلك " "
وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم:
" من خضب هذا بهذا "
وأشار بيده إلى لحيته ورأسه.
[7.104-141]
{ فألقى عصاه } ظاهره إعجاز موسى كما هو مروي. والتأويل هو: أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي: يعتمد عليها في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمية، ورق الآداب الجميلة والملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر، وكانت نفسه من حسن سياسته إياها ورياضته لها، منقادة لتصرفاته، مطواعة لأوامره، مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا. وإذا أرسلها عند الاحتجاج في مقابلة الخصوم صارت كالثعبان يتلقف ما يأفكون من أكاذيبهم الباطلة ويزورون من حبال شبهاتهم التي بها تحكم دعاويهم، وعصي مغالطاتهم ومزخرفاتهم التي تمسكوا بها عند الخصام في إثبات مقاصدهم فتغلبهم وتقهرهم. { ونزع يده } أي: أظهر قدرته الباهرة التي تبهرهم وتظهر نور حقية دعواه، والظاهر أنه كان الغالب على زمانه هو السحر، فخرج بالسحر الإلهي كما أن الغالب على زمان محمد عليه الصلاة والسلام كان هو الفصاحة، فكانت معجزة القرآن. وعلى زمان عيسى عليه السلام الطب، فجاء بالطب الإلهي - على ما روي - لأن معجزة كل نبي يجب أن تكون من جنس ما غلب على زمانه ليكون أدعى إلى إجابة دعواه.
[7.142-144]
{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } قيل: أمره بصوم ثلاثين فلما أتم أنكر خلوف فمه، فتسوك فعاتبه الله على ذلك وأمره بزيادة عشر، وقيل: أمره بأن يتقرب إليه بما تقرب به في الثلاثين، وأنزل إليه التوراة في العشر الأخير تتمة الأربعين. فالأول: إشارة إلى أنه خلص عن حجاب الأفعال والصفات والذات في الثلاثين لكن بقي منه بقية ما خلص عن وجودها. واستعمال السواك إشارة إلى ظهور تلك البقية عند قوله: { رب أرني أنظر إليك }. والثاني: إشارة إلى أنه بلغ الشهود الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى الله ولم يبق منه بقية، بل فنى بالكلية. وتم في العشر الأخير سلوكه في الله حتى رزق البقاء بالله بعد الفناء بالإفاقة، وعلى هذا ينبغي أن يكون قوله: { رب أرني أنظر إليك } كان قد صدر عنه في الثلاثين، والإفاقة بعدها في تتمة الأربعين. وكلمة ربه، التكليم في مقام تجلي الصفات، وقوله: { رب أرني أنظر إليك } بدر عن إفراط شوق منه إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية. و { لن تراني } إشارة إلى استحالة الإثنينية وبقاء الأنية في مقام المشاهدة كقوله:
إذا تغيبت بدا
وإن بدا غيبني
وقوله: رأيت ربي بعين ربي { ولكن أنظر إلى الجبل } أي: جبل وجودك { فإن استقر مكانه } أمكنت رؤيتك إياي، وذلك من باب التعليق بالمحال { جعله دكا } أي: متلاشيا لا وجود له أصلا { وخر موسى } عن درجة الوجود فانيا { فلما أفاق } بالوجود الموهوب الحقاني عند البقاء بعد الفناء { قال سبحانك } أن تكون مرئيا لغيرك، مدركا لأبصار الحدثان { تبت إليك } عن ذنب البقية { وأنا أول المؤمنين } بحسب الرتبة لا بحسب الزمان، أي: أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة وذلك مقام الاصطفاء المحض. وقوله: { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي } هو أول درجة الاستنباء بعد الولاية { فخذ ما آتيتك } بالتمكين { وكن من الشاكرين } بالاستقامة في القيام بحق العبودية، كما قال النبي عليه السلام:
" أو لا أكون عبدا شكورا ".
[7.145-146]
{ في الألواح } أي: الألواح تفاصيل وجود موسى من روحه وقلبه وعقله وفكره وخياله. وإلقاؤها عند الغضب هو الذهول عنها والتجافي عن حكم ما فيها كما يحكم أحدنا بحسن الحلم والتحمل للأذى، ثم ينسى عند سورة الغضب ولا يتذكر شيئا مما في عقله من علمه عند ظهور نفسه { فخذها بقوة } أي: بعزيمة لتكون من أولي العزم { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } أي: بالعزائم دون الرخص { سأريكم دار الفاسقين } أي: عاقبة الذين لا يأخذون بها.
{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } لأن التكبر من صفات النفس، فهم في مقام النفس محجوبون عن آيات الصفات التي تكون في مقام القلب دون المتكبرين بالحق الذين اتصفوا بصفة الكبرياء في مقام المحو والفناء، فقام كبرياؤه تعالى مقام تكبرهم، كما قال جعفر الصادق عليه السلام في جواب من قال له: فيك كل فضيلة إلا أنك متكبر! فقال: " لست بمتكبر، ولكن كبرياء الله تعالى قام مني مقام التكبر ".
[7.147-158]
{ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } أي: ستروا بصفاتهم صفاتنا وبأفعالهم أفعالنا فوقفوا مع الآثار وعموا عن لقاء الآخرة وجنة النفوس والأفعال { حبطت أعمالهم } ولو كان التكذيب بالصفات مجردا عن التكذيب بلقاء الآخرة لما حبطت أعمالهم، وإن عذبوا حينا بنوع من العذاب { سبعين رجلا } من أشرافهم ونجبائهم أهل الاستعداد وصفاء النفس والإرادة والطلب والسلوك وهم المصعوقون في قوله تعالى:
فأخذتهم الصاعقة
[الذاريات، الآية: 44].
{ فلما أخذتهم الرجفة } أي: رجفة جبل البدن التي هي من مبادئ صعقة الفناء عند طيران بوارق الأنوار وظهور طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وتأثره وارتعاده بها، ولهذا قال موسى عليه السلام عندها: { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } إذ لا قول لموسى عليه السلام عند الصعقة ولا لهم لفنائهم عندها، وقوله عليه السلام: { رب لو شئت } ، كلمة ضجر وفقدان صبر من غلبة الشوق عند ألم الفراق، كما قال محمد صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة:
" ليت أمي لم تلدني، وكذا ليت رب محمد لم يخلق محمدا "
، وهم بإلقاء نفسه عن الجبل. ولو هذه للتمني. { أتهلكنا } بطول الحجاب وعذاب الحرمان وألم الفراق { بما فعل السفهاء منا } من عبادة عجل هوى النفس والاحتجاب بصفاتها أو بما صدر منا حالة السفه قبل التيقظ والاستبصار وإرادة السلوك وظهور نور البصيرة والاعتبار من الوقوف مع النفس وصفاتها { إن هي إلا فتنتك } أي: ما هذا الابتلاء بصفات النفس وعبادة الهوى إلا ابتلاؤك لا مدخل فيها لغيرك { تضل من تشاء } من أهل الحجب والشقاوة والجهل والعمى { وتهدي من تشاء } من أهل السعادة والعناية والعلم والهدى، قالها في مقام تجلي الأفعال. { أنت } متولي أمورنا القائم بها { فاغفر لنا } ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت لنا ذنوب أفعالنا { وارحمنا } بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الأينية بوجودك { وأنت خير الغافرين } بالمغفرة التامة.
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } العدالة والاستقامة بالبقاء بعد الفناء { وفي الآخرة حسنة } المشاهدة والزيادة { إنا هدنا } رجعنا { إليك } عن ذنوب وجودنا { قال عذابي } أي: عذاب الشوق المخصوص بي الحاصل من جهتي، وإن كان أليما لشدة ألم الفراق، لكنه أمر عزيز خطير { أصيب به من أشاء } من أهل العناية من عبادي الخاصة بي { ورحمتي وسعت كل شيء } لا تختص بأحد دون أحد غيره وشيء دون شيء، ففي هذا العذاب رحمة لا يبلغ كنهها ولا يقدر قدرها من رحمة لذة الوصول التي قال فيها:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة، الآية: 17] مع كونه لذيذا لا يقاس بلذته لذة، كما قال أحدهم:
وكل لذيذ قد نلت منه
سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
ولعمري إن هذا العذاب أعز من الكبريت الأحمر.
وأما الرحمة فلا يخلو من حظ منها أحد { فسأكتبها } تامة كاملة رحيمية كتبة خاصة { للذين يتقون } الحجب كلها ويفيضون مما رزقوا من الأموال والأخلاق والعلوم والأحوال على مستحقيها { والذين هم } بجميع صفاتنا يتصفون وهم { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } في آخر الزمان، أي: المحمديون الذين اتبعوا في التقوى وصفه بقوله تعالى له:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال، الآية: 17]، وبقوله تعالى:
وما ينطق عن الهوى
[النجم، الآية: 3]، وقوله تعالى:
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم، الآية: 17]. وفي إيتاء الزكاة قوله تعالى:
وأما السآئل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث
[الضحى، الآيات: 10-11]، وفي الإيمان بالآيات قوله صلى الله عليه وسلم:
" أوتيت جوامع الكلم، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
[7.159-178]
{ ومن قوم موسى أمة } أي: أولئك المتبعون هم المفلحون بالرحمة التامة، وأمة من قوم موسى موحدون { يهدون } الناس { بالحق } لا بأنفسهم { وبه يعدلون } بين الناس في حال الاستقامة والتمكين { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } ما كان إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمواسم والشوارع والمحافل يوم الجمعات دون سائر الأيام، وما ذلك إلا ابتلاء من الله بسبب الفسق.
[7.179-194]
{ أولئك كالأنعام } لفقدان إدراك الحقائق والمعارف التي تقربهم من الله بالقلوب وعدم الاعتبار بالأعين والإذكار بالأسماع { بل هم أضل } لوجود الشيطنة فيهم الموجبة للبعد بفساد العقائد وكثرة المكايد { ولله الأسماء الحسنى } قد مر أن كل اسم هو الذات مع صفة، والله يدبر كل أمر باسم من أسمائه { فادعوه } عند الافتقار إلى ذلك الاسم به إما بلسان الحال كما أن الجاهل إذا طلب العلم يدعوه باسمه العليم، والمريض إذا طلب الشفاء يدعوه باسمه الشافي، والفقير إذا طلب الغنى يدعوه باسمه المغني، كل بتحصيل الاستعداد الذي استلزم قبوله لتأثير ذلك الاسم وأثر تلك الصفة. وأما بلسان القال كما إذا قال الأول: يا رب، يريد به يا عليم، لاختصاص ربوبيته بذلك الاسم. والثاني: يريد بيا رب يا شافي. والثالث: يا مغني. وأما بلسان الفعل كما يدعوه الطالب السالك باتصافه بتلك الصفة فإذا فنى عن علمه بعلمه دعاه باسمه العليم، وإذا وجد شفاء دائه منه وطلب منه أن يشفي غيره باتصافه بصفة الشفاء دعاه باسمه: الشافي، وإذا استغنى عن فقره به دعاه باسمه: الغني. وهذه هي الدعوة المأمور بها الموحدون من المؤمنين فليمتثلوا. { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } يطلبون هذه الصفات من غيره ويضيفونها إليه فيشركون به.
المراد بالساعة: وقت ظهور القيامة الكبرى، أي: الوحدة الذاتية بوجود المهدي ولا يعلم وقتها إلا الله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في وقت خروج المهدي:
" كذب الوقاتون "
، ولعمري ما يعلمها عند وقوعها أيضا إلا الله كما هي قبل وقوعها. { ثقلت في السموات والأرض } إذ لا يسع أهلها علمها.
{ إن الذين تدعون من دون الله } كائنين من كانوا، ناسا كانوا أو غيرهم { عباد أمثالكم } في العجز وعدم التأثير { فادعوهم } إلى أمر لا ييسره الله لكم { فليستجيبوا لكم } إلى تيسيره { إن كنتم صادقين } في نسبة التأثير إلى الغير، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لابن عباس:
" يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " ".
[7.195-200]
{ ألهم أرجل يمشون بها } استفهام على سبيل الإنكار، أي: ألهم أرجل ولكن لا يمشون بها بل بالله، إذ هو الذي يمشيهم بها وكذا سائر الجوارح { قل ادعوا شركاءكم } من الجن والإنس { ثم كيدون } إن استطعتم فإن متولي أمري وحافظي ومدبري هو { الله الذي } يعلمني بتنزيل الكتاب { وهو يتولى } كل صالح، أي: كل من قام به في حال الاستقامة. وكلما ورد الصالح في وصف نبي من الأنبياء أريد به الباقي بالحق بالاستقامة والتمكين بعد الفناء في عين الجمع القائم بإصلاح النوع بإذن الحق { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } أي: إن تدع المطبوع على قلوبهم من المشركين وغيرهم إلى الهدى لا يسمعوا ولا يطيعوا وتراهم مع صحة البصر والنظر لا يبصرون الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في الحقيقة.
{ خذ العفو } أي: السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما لا يتيسر لهم { وأمر بالعرف } أي: بالوجه الجميل { وأعرض عن الجاهلين } بعدم مكافأة جهلهم. وعن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه: " أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها ". قال ذلك لقوة دلالتها على التوحيد، فإن من شاهد مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويذرون به لا بأنفسهم، لا يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتشدد عليهم ويحلم عنهم. { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } أي: نخس وداعية قوية تحملك على مناقشتهم برؤية الفعل منهم ونسبة الذنب إليهم { فاستعذ بالله } بالشهود والحضور لفاعليته { إنه سميع } يسمع أحاديث النفس ووساوس الشيطان في الصدر { عليم } بالنيات والأسرار.
[7.201-206]
{ إن الذين اتقوا } الشرك { إذا مسهم طائف } لمسة { من الشيطان } بنسبة الفعل إلى الغير { تذكروا } مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله { فإذا هم مبصرون } فعالية الله، فلا يبقى شيطان ولا فاعل غير الله في نظرهم. وإخوان الشياطين من المحجوبين { يمدونهم } في نسبة الفعل إلى غيره فلا يقصرون من العناد والمراء والجهل { لولا اجتبيتها } أي: هلا اجتمعتها من تلقاء نفسك { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } أي: لا افتعل بنفسي، بل أبلغ عن الله ولا أقول إلا ما يوحى إلي منه به لأني قائم به لا بنفسي { فاستمعوا له } أي: إلى الله ولا تستمعوا إلا منه { وأنصتوا } عن حديث النفس وغيره، فإن المتكلم به هو الله { لعلكم ترحمون } برحمة تجلي المتكلم في كلامه بصفاته وأفعاله { واذكر ربك } حاضرا { في نفسك } كقوله تعالى:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
[الأحزاب، الآية: 21]. { تضرعا } في مقام التفصيل للجمع { وخيفة } في السر من النفس أو خيفة أن يكون للنفس فيه نصيب { ودون الجهر } أي: دون أن يظهر لك التضرع والذكر منك، بل تكون ذاكرا به له في غدو ظهور نور الروح وإشراقه وغلبته، وآصال غلبات صفات النفس وقواها { ولا تكن } في حال من الأحوال، وخصوصا حال غلبات النفس وصفاتها { من الغافلين } عن شهود الوحدة الذاتية.
{ إن الذين عند ربك } بالتوحيد والفناء فيه باقين به ذوي الاستقامة { ولا يستكبرون عن عبادته } بسبب احتجابهم بالأنائية بل يشاهدون التفصيل في عين الجمع فيذعنون له { ويسبحونه } ينزهونه عن الشرك بنفي الأنائية { وله يسجدون } بالفناء التام، وطمس البقية، وآثار الأينة، والله الباقي بعد فناء الخلق.
[8 - سورة الأنفال]
[8.1-4]
{ يسألونك عن الأنفال } احتجبوا بأفعالهم فاعترضوا على فعل الله ورسوله، أي: فعل الله في مظهر الرسول، فأمروا بتقوى الأفعال، أي: الاجتناب عنها برؤية فعل الله، وإصلاح ذات البين بمحو صفات النفوس التي هي مصادر أفعالهم الموجبة للتنازع والتخالف حتى يرجعوا إلى الإلفة والمحبة القلبية بظهور أنواع الصفات { وأطيعوا الله ورسوله } بفناء صفاتها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية.
{ إن كنتم مؤمنين } الإيمان الحقيقي { إنما المؤمنون } بالإيمان الحقيقي { الذين إذا ذكر الله } ذكر الصفات الذي للقلب لا ذكر الأفعال الذي للنفس { وجلت قلوبهم } تأثرت بتصور العظمة والبهاء والقهر والكبرياء وإشراق أنوار تجليات تلك الصفات عليها { وإذا تليت عليهم آياته } أي: جليت عليهم صفاته في المظاهر الكلامية { زادتهم إيمانا } حقيقيا بالترقي عن مقام العلم إلى العين { وعلى ربهم يتوكلون } أي: يصححون مقام التوكل بفناء الأفعال ويتممونه في مقام فناء الصفات. فإن تصحيح كل مقام إنما يتم بالترقي عنه والنظر إليه من مقام فوقه. { الذين يقيمون } صلاة الحضور القلبي بمشاهدة الصفات والترقي فيها بتجلياتها { ومما رزقناهم } من علوم التوكل في مقام فناء الأفعال أو علوم تجليات الصفات في السير فيها { ينفقون } بالعمل بها والإفاضة على مستحقيها. { أولئك هم المؤمنون حقا } الإيمان الحقيقي { لهم درجات عند ربهم } من مراتب الصفات وروضات جنات القلب { ومغفرة } من ذنوب الأفعال { ورزق كريم } من باب تجليات الصفات وعلومها.
[8.5-6]
{ كما أخرجك } أي: هذه الحال - يعني حالهم في الاعتراض عليك في باب التنقيل - كحالهم في الاعتراض عليك عند إخراج ربك إياك لأنهم لما احتجبوا عن فعل الله بأفعالهم رأوا الفعلين منك فكرهوا خروجك كما كرهوا تنفيلك وما فطنوا لإخراج ربك إياك { من بيتك بالحق } أي: ملتبسا بالحق، خارجا به لا بنفسك، فيكون بالحق حالا من مفعول: أخرجك، أو خروجا ملتبسا بالذي هو الصواب والحكمة { يجادلونك في الحق } لاحتجابهم بأفعالهم وصفاتهم { بعدما تبين } عليك حاله بالتجلي أو تبين عليهم آثاره بالمعجزات من قبل، أو بإعلامك إياهم بأن النصرة لهم.
[8.7-10]
{ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } أي: يثبته بملائكته السماوية التي أمدهم بها.
{ إذ تستغيثون ربكم } بالبراءة عن حولكم وقوتكم إليه والانسلاخ عن حجب أفعالكم بتيقن أن التأثير والقوة منه لا منكم ولا من عدوكم { فاستجاب } دعوتكم عند ذلك التجرد عن ملابس الأفعال وصفات النفس ب { أني ممدكم } من عالم الملكوت لجنسية قلوبكم إياها حينئذ { بألف من الملائكة } بعالم من ملكوت القهر، أي: من القوى السماوية وروحانياتها التي تناسب قلوبكم في تلك الحالة كما مرت الإشارة إليه في (آل عمران) واختلاف العدد في الموضعين إما لأن المراد الكثرة لا العدد المخصوص وإما لأن قوله: { مردفين } هنا يدل على اتباعهم بطائفة أخرى منهم وإمدادهم إما بأن يتجسدوا ويتمثلوا لهم بصورة المقاتلة كما تتمثل الصور في المنام مثلا، فيتهيبوا منهم، وإما بأن يصل أثرهم وقهرهم إليه فيهلكوا وينهزموا.
{ وما } جعل { الله } الإمداد { إلا } بشارة لكم بالنصر وطمأنينة لقلوبكم بالاتصال بها عند التجرد عن ملابس النفس وأحوالها، لا أن النصر منها فإن النصر ليس { إلا من عند الله } لكن حكمته تقتضي تعليق الأشياء بأسبابها { إن الله } قوي على النصر غالب { حكيم } يفعله على مقتضى الحكمة.
[8.11-23]
{ إذ يغشيكم } نعاس هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة أمنا من عند الله وطمأنينة { وينزل عليكم من } سماء الروح { ماء } علم اليقين { ليطهركم به } من خبث أحاديث النفس وهواجس الوهم { ويذهب عنكم رجز } وسوسة { الشيطان } وتخويفه { وليربط على قلوبكم } أي: ليقوي قلوبكم بقوة اليقين ويسكن جأشكم { ويثبت به الأقدام } إذ الشجاعة وثبات القدم في المخاوف والمهالك لا تكون إلا بقوة اليقين.
{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } أي: يمد الملكوت بالجبروت فيعلموا من عالم الجبروت أن الله ناصرهم { فثبتوا الذين آمنوا } بالتأييد الاتصالي { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } لانقطاعهم عن الإمداد السماوي والتأييد الإلهي واستيلاء الشك وقوة الوهم عليهم { فاضربوا فوق الأعناق } أي: ثبتوهم بتلقين هذا المعنى، وشجعوهم بإلقاء هذا القول عليهم أو بإراءتهم هذا الفعل منكم كما هو المروي.
{ فلم تقتلوهم } أدبهم وهداهم إلى فناء الأفعال بسلب الأفعال عنهم وإثباتها لله تعالى. ولما كان النبي عليه الصلاة والسلام في مقام البقاء بالحق نسب الفعل إليه بقوله: { إذ رميت } مع سلبه عنه بما رميت وإثباته لله بقوله: { ولكن الله رمى } ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع، فيكون الرامي محمدا بالله تعالى لا بنفسه، وما نسب إليهم من الفعل شيئا إذ لو فعلوا لفعلوا بأنفسهم { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } أي: عطاء جميلا هو توحيد الأفعال فعل ذلك { إن الله سميع } بأحاديث نفوسكم، أنا قتلناهم { عليم } بأنه هو القاتل وإن أظهر الفعل على مظاهركم { ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون } اي: لا تعرضوا عنه مع السماع لأن أثر السماع الفهم والتصديق، وأثر الفهم الإرادة، وأثر الإرادة الطاعة، فلا يصح دعوى السماع مع الإعراض إذ هما لا يجتمعان، فلازموا الطاعة بالإرادة إن كنتم صادقين في دعوى السماع { ولا تكونوا كالذين } يدعون السماع وليسوا منه في شيء لكونهم محجوبين عن الفهم والقبول كالدواب، بل هم شر الدواب عند الله، لما مر.
{ ولو علم الله فيهم خيرا } وصلاحا، أي: استعدادا لقبول كمال سمعهم حتى فهموا وقبلوا وأطاعوا { ولو أسمعهم } مع عدم الخير فيهم حتى فهموا لما كان لفهمهم أثر من الإرادة والطاعة، بل تولوا سريعا لكون ذلك الفهم فيهم أمرا عارضيا سريع الزوال لا ذاتيا { وهم معرضون } بالذات، فلا يلبث فيهم الفهم والإرادة كما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: " خذ الحكمة ولو من أهل النفاق، فإن الحكمة لتتلجلج في صدر المنافق حتى تسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن " ، أي: لا تثبت في صدره لكونها عارضية هناك لا تناسب ذاته.
[8.24-25]
{ يا أيها الذين آمنوا } بالغيب { استجيبوا } بالتزكية والتصفية { إذا دعاكم لما } يحيي قلوبكم من العلم الحقيقي أو آمنوا الإيمان التحقيقي، استجيبوا بالسلوك إلى الله وفيه إذا دعاكم إليه لإحيائكم به. هذا إذا كانت استجابة الله والرسول استجابة واحدة، أما إذا كانت متغايرة فمعناه: استجيبوا لله بالباطن والأعمال القلبية، وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله بالفناء في الجمع، وللرسول بمراعاة حقوق التفصيل إذا دعاكم إلى الاستقامة لما يحييكم من البقاء بالله فيها، كل ذلك قبل زوال الاستعداد فإن الله يحول بين المرء وقلبه بزوال الاستعداد وحصول الحجاب بارتكاب الرين، فانتهزوا الفرصة ولا تؤخروا الاستجابة { وأنه إليه تحشرون } فيجازيكم من صفاته وذاته على حسب محوكم وفنائكم.
{ واتقوا فتنة } شركا وحجابا { لا تصيبن } تلك الفتنة { الذين ظلموا منكم } بإزالة الاستعداد أو نقصه لاستعماله في غير موضعه وصرفه فيما دون الحق { خاصة } لانفرادهم بالظلم. ومعنى لا تصيبن النهي، أي: إن تصب تصبهم خاصة، كقوله تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام، الآية: 164]، ويجوز أن يكون المعنى: لا تصيبنهم خاصة، بل تشملهم وغيرهم بشؤم صحبتهم وتعدي رذيلتهم إلى من يخالطهم كقوله تعالى:
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس
[الروم، الآية: 41]، { واعلموا أن الله شديد العقاب } بتسليط الهيآت الظلمانية التي اكتسبتها القلوب عليها وحجبها عنه وتعذيبها بها.
[8.26-33]
{ واذكروا إذ أنتم قليل } القدر، لجهلكم وانقطاعكم عن نور العلم { مستضعفون في } أرض النفس { تخافون أن يتخطفكم الناس } أي: ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم { فآواكم } إلى مدينة العلم { وأيدكم بنصره } في مقام توحيد الأفعال { ورزقكم من } طيبات علوم تجليات الصفات { لعلكم تشكرون } نعمة العلوم والتجليات بالسلوك فيه. { لا تخونوا الله } بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق { و } تخونوا { الرسول } بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق { وتخونوا أماناتكم } من المعارف والحقائق التي استودع الله فيكم بحسب الاستعداد الأول في الأزل بإخفائها بصفات النفس { وأنتم تعلمون } أنكم حاملوها، أو تعلمون أن الخيانة من أسوأ الرذائل وأقبحها. { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي: حجاب لكم لاشتغالكم بها عن الله، أو شرك لمحبتكم إياها كحب الله { وأن الله عنده أجر عظيم } فاطلبوه بالتجرد عنها ومراعاة حق الله فيها.
{ إن تتقوا الله } بالاجتناب عن نقض العهد وفسخ العزيمة وإخفاء الأمانة ومحبة الأموال والأولاد حتى تفنوا فيه { يجعل لكم فرقانا } نورا يفرق به بين الحق والباطل من طور العقل الفرقاني { ويكفر عنكم سيئاتكم } أي: سيئات نفوسكم { ويغفر لكم ذنوبكم } أي: ذنوب ذواتكم { والله ذو الفضل العظيم } بإعطاء الوجود الموهوب الحقاني والعقل الفرقاني.
{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } لأن العذاب صورة الغضب وأثره فلا يكون إلا من غضب النبي أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة، والنبي عليه السلام كان صورة الرحمة لقوله تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107] ولهذا إذ كسروا رباعيته قال صلى الله عليه وسلم:
" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون "
، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام، وقال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
[نوح، الآية: 26] فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب، وكذا وجود الاستغفار. فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب، والاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته بل يوجب زواله فلا يتسبب لغضب الله، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون.
[8.34-40]
{ وما لهم ألا يعذبهم الله } أي: ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك بحسب أنفسهم، بل إنهم مستحقون بذواتهم لصدورهم وصدهم المستعدين عن مقام القلب وعدم بقاء الخيرية فيهم ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك فيهم. واعلم أن الوجود الإمكاني يتبع الخير الغالب، لأن الوجود الواجبي هو الخير المحض، فما رجح خيره على شره فهو موجود بوجوده بالمناسبة الخيرية، وإذا غلب الشر لم تبق المناسبة فلزم استئصاله وإعدامه فهم ما داموا على الصورة الاجتماعية كان الخير فيهم غالبا فلم يستحقوا الدمار بالعذاب. وأما إذا تفرقوا ما بقي شرهم إلا خالصا فوجب تدميرهم كما وقع في وقعة بدر. ومن هذا يظهر تحقيق المعنى الثاني في قوله تعالى:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة
[الأنفال، الآية: 25] لغلبة الشر على المجموع حينئذ، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: " كان في الأرض أمانان، فرفع أحدهما وبقي الآخر. فأما الذي رفع فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الذي بقي فالاستغفار " وقرأ هذه الآية.
{ يصدون عن المسجد الحرام } صورة لصدودهم وإعراضهم عن معناه الذي هو القلب بالركون إلى النفس وصفاتها، وصدهم المستعدين عنه بإغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية.
{ وما كانوا أولياءه } لبعدهم عن الصفة وغلبة ظلمة النفس واستيلاء صفاتها عليهم، واحتجابهم عنه بالكفر المستفاد من الدين { إن أولياؤه إلا المتقون } الذين اتقوا صفات النفس وأفعالها { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن البيت صورة القلب الذي هو بيت الله بالحقيقة فلا يستحق ولايته إلا أهل التقوى من الموحدين دون المشركين.
[8.41-42]
{ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } إلى قوله: { والله شديد العقاب } لا يقبل التأويل بحسب ما ورد فيه من (الواقعة) وإن شئت تطبيقه على تفاصيل وجودك أمكن أن نقول: واعلموا أيها القوى الروحانية أنما غنمتم من العلوم النافعة والشائع المبني عليها الإسلام في قوله: بني الإسلام على خمس، فإن لله خمسه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، باعتبار التوحيد الجمعي ولرسول القلب { ولذي القربى } الذي هو السر، ويتامى العاقلة النظرية والعملية، والقوة الكفرية، ومساكين القوى النفسانية { وابن السبيل } الذي هو النفس السالكة الداخلة في الغربة الجائبة منازل السلوك، النابية عن مقرها الأصلي باعتبار التوحيد التفصيلي في العالم النبوي. والأخماس الأربعة الباقية تقسم على الجوارح والأركان والقوى الطبيعية { إن كنتم آمنتم } الإيمان الحقيقي { بالله } جمعا، { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } وقت التفرقة بعد الجمع تفصيلا { يوم التقى الجمعان } من فريقي القوى الروحانية والنفسانية عند الرجوع إلى مشاهدة التفصيل في الجمع.
{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا } من مدينة العلم ومحل العقل الفرقاني { وهم بالعدوة القصوى } أي : الجهة السفلية البعيدة من الحق ومحل العلم وركب القوى الطبيعية الممتازة للقوى النفسانية { أسفل منكم } أي: من الفريقين { ولو تواعدتم } اللقاء للمحاربة من طريق العقل والحكمة دون طريق الرياضة والوحدة { لاختلفتم في الميعاد } لكون ذلك صعبا حينئذ، موجبا للفشل والجبن { ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا } مقدرا، محققا عنده، واجبا وقوعه فعل ذلك { ليهلك من هلك عن بينة } هي كونها ملازمة للبدن الواجب الفناء منطبعة فيه { ويحيا من حي عن بينة } هي كونها مجردة عنه متصلة بعالم القدس الذي هو معدن الحياة الحقيقية الدائم البقاء.
[8.43-49]
{ إذ يريكهم الله } أيها القلب في منام تعطل الحواس الظاهرة وهدوا القوى البدنية قليلي القدر، ضعاف الحال { ولو أراكهم كثيرا } في حال غلبة صفات النفس { لفشلتم ولتنازعتم } في أمر كسرها وقهرها لانجذاب كل منكم إلى جهة { ولكن الله سلم } عن الفشل والتنازع بتأييده وعصمته { ولا تكونوا } ككفرة القوى النفسانية الذين { خرجوا من } ديار مقارهم ومحالهم وحدودهم { بطرا ورئاء الناس } وإظهارا للجلادة على الحواس.
{ وإذ زين لهم } شيطان الوهم { أعمالهم } في التغلب على مملكة القلب وقواه { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } وأوهمهم تحقيق أمنيتهم بأن بصرهم أن لا غالب عليهم من ناس الحواس فكذا سائر القوى. { وإني جار لكم } أمدكم وأقويكم وأمنعكم من ناس القوى الروحانية { فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه } لشعوره بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها بإدراك المعاني. { وقال إني بريء منكم } لأني لست من جنسكم { إني أرى } من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح وملكوت عالم القدس { ما لا ترون إني أخاف الله } لشعوري ببعض أنواره وقهره { والله شديد العقاب } وفيه إشارة إلى قول سيد المرسلين: " لكل أحد شيطان، ولكن شيطاني أسلم على يدي ". وهذا هو الدستور والأنموذج في أمثال ذلك إن أراد مريد تطبيق القصص على أحواله، لكني قلما أعود إلى مثله بعد هذا لقلة الفائدة إلا في تصوير طريق السلوك وتخييل المبتدئ ما هو بصدده لتنشيطه في الترقي والعروج والله الهادي.
[8.50-52]
{ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } مر توفي الملائكة وأنه لا يكون إلا لمن هو في مقام النفس، فإن كان من العصاة ومن غلب عليه صفات النفس من الغضب والحقد والشهوة والحرص وأمثال ذلك من رذائل الأخلاق توفتهم ملائكة القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم { يضربون وجوههم } لاحتجابهم عن عالم الأنوار وإعراضهم عنها، ولهيئات الكبر والعجب والنخوة فيها { وأدبارهم } لميلهم وشدة انجذابهم إلى البدن و عالم الطبيعة ولهيئات الشهوة والحرص والشره { وذوقوا عذاب الحريق } أي: حريق الحرمان واستيلاء نيران التعب والطلب مع الفقدان لاكتسابهم تلك الهيئات الموجبة لذلك وإن كان من أهل الطاعة ومن غلبت عليه أنوار صفات القلب من الرأفة والرحمة والسلامة والقناعة وأمثال ذلك من فضائل القوتين السبعية والبهيمية دون فضيلة القوة النطقية فإنه حينئذ يكون صاحب قلب ليس في مقام النفس توفتهم ملائكة الرحمة
طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون
[النحل، الآية: 32] لمناسبة هيئات نفوسهم تلك الروحانيات من العالم.
[8.53-71]
{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم } إلى آخره، أي: كل ما يصل إلى الإنسان هو الذي يقتضيه استعداده ويسأله بدعاء الحال وسؤال الاستحقاق، فإذا أنعم على أحد النعمة الظاهرة أو الباطنة لسلامة الاستعداد وبقاء الخيرية فيه لم يغيرها حتى أفسد استعداده وغير قبوله للصلاح بالاحتجاب وانقلاب الخير الذي فيه بالقوة إلى الشر لحصول الرين وارتكام الظلمة فيه بحيث لم يبق له مناسبة للخير ولا إمكان لصدوره منه، فيغيرها إلى النقمة عدلا منه وجودا وطلبا من ذلك الاستعداد إياها بجاذبة الجنسية والمناسبة لا ظلما وجورا.
{ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } لاتفاقها في الوجهة وخلاصها عن قيود صفات النفس التي تستلزم التخالف والتعاند لركونها إلى عالم التضاد واختلافها بالطباع، فإن القلب ما دام واقفا مع النفس ومراداتها واستولت عليه بصفاتها جذبته إلى الجهة السفلية وصيرت مطالبه جزئية مما يناسب مصالحها فيطلب ما يمنعه منه الآخر، وتقع العداوة والبغضاء، وتستولي القوة الغضبية الطالبة للجاه والكرامة والقهر والغلبة والرياسة والسلطنة، ويقع الاستكبار والإباء والأنفة والاستنكاف، ويؤدي إلى التقاطع والتهاجر والتحارب والتشاجر. وكلما بعد عن الجهة السفلية بالتوجه إلى الجهة العلوية والتنور بأنوار الوحدة الصفاتية أو الذاتية، ارتفع عن مقام النفس واتصل بالروح وصارت مطالبه كلية لا تتمانع ولا يتنافس فيها لإمكان حصولها لهذا بدون حرمان الآخر منه ومال إلى من يجانسه في الصفاء بالمحبة الذاتية لشدة المناسبة. وكلما كان أقرب إلى الوحدة كانت قوة المحبة فيه أقوى لشدة قربه لمن تدين بدينه كالخطوط الآتية من محيط الدائرة إلى مركزها، فبحسب قوة الإيمان شدة الألفة بينهم.
{ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } لأن ما في الجهة السفلية تزيد في عداوتهم ومناوأتهم لاشتداد حرصهم وتكالبهم به { ولكن الله ألف بينهم } بنور الوحدة التي تورث المحبة الروحانية والألفة القلبية فإن المحبة ظل الوحدة، والألفة ظل المحبة، والعدالة ظل الألفة { إنه عزيز } قوي على دفع الكفرة وقهرهم باجتماع المؤمنين واتفاقهم { حكيم } يفعل ذلك بحكمة لإيقاع الإلفة والمحبة بين هؤلاء والتفرقة واختلاف الكلمة بين أولئك.
[8.72-75]
{ إن الذين آمنوا وهاجروا } إلى آخر الآية، بالفحوى تدل على أن الفقير القائم بالخدمة في الخانقاه والبقعة ليس عليه خدمة المقيم بل المسافر لقوله تعالى:
والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء
[الأنفال، الآية: 72] أي: الذين آمنوا الإيمان العلمي وهاجروا المألوفات من الأهل والولد والأموال والأسباب وأوطان النفس بقوة العزيمة واختاروا السياحة في الغربة، وجاهدوا بقوة اليقين والتوكل بأموالهم بتركها وإنفاقها في مراضي الله وأنفسهم بإتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان وتحمل وعثاء السفر في سبيل الله وبذلها في الدين بنية السلوك في الله. والذين آووهم بالخدمة في المنزل، ونصروهم بتهيئة ما احتاجوا إليه من الأهبة { أولئك بعضهم أولياء بعض } بالألفة والمحبة { والذين آمنوا ولم يهاجروا } عن الأوطان المألوفة ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا.
[9 - سورة التوبة]
[9.1]
{ براءة من الله ورسوله } الآية، لما لم يتمكن الرسول في الاستقامة لمكان تلوينه بظهور صفاته تارة وبوجود البقية تارة أخرى، على ما دل عليه القرآن في مواضع العتاب والتثبيت كقوله:
عبس وتولى
[عبس ، الآية: 1]، وقوله:
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
[الإسراء، الآية: 74]،
عفا الله عنك لم أذنت لهم
[التوبة، الآية: 43]،
ما كان لنبي أن يكون له أسرى
[الأنفال، الآية: 67]، فلم يصل أصحابه من المؤمنين إلى مقام الوحدة الذاتية لاحتجابهم تارة بالأفعال وتارة بالصفات كان بينهم وبين المشركين مناسبة وقرابة جنسية وآل فبتلك الجنسية عاهدوهم لوجود الاتصال بينهم. ثم لما امتثل النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون قوله تعالى:
فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك
[هود، الآية: 112] وبلغ غاية التمكين وارتفعت الحجب الإفعالية والصفاتية و الذاتية عن وجه السالكين من أصحابه حتى بلغوا مقام التوحيد الذاتي. ارتفعت المناسبة بينهم وبين المشركين ولم تبق بينهم جنسية بوجه ما وتحققت الضدية والمخالفة وحقت الفرقة والعداوة فنزلت براءة من الله ورسوله { إلى الذين عاهدتم من المشركين } أي: هذه الحالة حالة الفرقة والمباينة الكلية بيننا والتبري الحقيقي من الله باعتبار الجمع ورسوله باعتبار التفصيل إليهم فتبرأوا منهم ظاهرا كما تبرأوا منهم باطنا، ونبذوا عهدهم في الصورة كما نبذوا عهدهم في الحقيقة.
[9.2-19]
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيها لهم فإنهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله ثم على الجبروت ثم على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار على ما مرت الإشارة إليه في (الأنعام) فيعذبوا بأنواع العذاب. { واعلموا أنكم غير معجزي الله } لوجوب حبسكم في هذه المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك فكيف تفوتونه { وأن الله مخزي الكافرين } المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما يعبدون من دون الله ووقوفه معه على النار.
{ وأذان } أي: إعلام { من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } أي: وقت ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل كما مر { أن الله بريء من المشركين ورسوله } في الحقيقة فيوافق الظاهر الباطن.
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا } أي: هذه براءة إليهم إلا الذين بقيت فيهم مسكة الاستعداد وأثر سلامة الفطرة فلم يقدموا على نقض العهد لبقاء المروءة فيهم الدالة على سلامة الفطرة وبقائهم على عهد الله السابق بوجود الاستعداد وإمكان الرجوع إلى الوحدة. { ولم يظاهروا عليكم أحدا } لبقاء الوصلة الأصلية والمودة الفطرية بينكم وبينهم وعدم ظهور العداوة الكسبية { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } أي: مدة تراكم الرين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا أو يتوبوا { إن الله يحب المتقين } الذين اجتنبوا الرذائل خصوصا نقض العهد الذي هو أم الرذائل ظاهرا وباطنا.
[9.20-33]
{ الذين آمنوا } علما { وهاجروا } الرغائب الحسية والمواطن النفسية بالسلوك في سبيل الله وجاهدوا بأموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم بمحو صفاتهم في صفات الله { وأنفسهم } بإفنائها في ذات الله { أولئك أعظم درجة } في التوحيد { عند الله }.
{ يبشرهم ربهم برحمة } ثواب الأعمال { ورضوان } الصفات { وجنات } من الجنان الثلاثة { لهم فيها نعيم } شهود الذات { مقيم } ثابت أبدا.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم } إلى آخره، أي: لا يترجح فيكم جهة القرابة الصورية والوصلة الطبيعية على جهة القرابة المعنوية والوصلة الحقيقية فيكون بينكم وبين من آثر الاحتجاب على الكشف من أقربائكم ولاية مسببة عن الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة الموجب للقطيعة المعنوية والعداوة الحقيقية، فإن ذلك من ضعف الإيمان ووهن العزيمة، بل قضية الإيمان بخلاف ذلك. قال الله تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة، الآية: 165]. وقال بعض الحكماء: الحق حبيبنا والخلق حبيبنا، فإذا اختلفا فالحق أحب إلينا.
{ قل إن } كانت هذه القرابات الصورية والمألوفات الحسية { أحب إليكم من الله ورسوله } فقد ضعف إيمانكم ولم يظهر أثره في نفوسكم وعلى جوارحكم لتنقاد بحكمه وذلك لوقوفكم مع الآثار الناسوتية الموجب للعذاب والحجاب { فتربصوا حتى يأتي الله } بعذابه. وكيف لا، وأنتم تسلكون طريق الطبيعة وتنقادون بحكمها مكان سلوك طريق الحق والانقياد لأمره؟ وذلك فسق منكم، والفاسق محجوب عن الله لا يهديه إليه لعدم توجهه وإرادته بل لإعراضه وتوليه، فهو يستحق العذاب والخذلان والحجاب والحرمان.
[9.34-60]
{ والذين يكنزون الذهب والفضة } إلى آخره، جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح وحب المال وكل رذيلة يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا. ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال، كان هو الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى به، وإنما خصت هذه الأعضاء لأن الشح مركوز في النفس والنفس تغلب القلب من هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح وممر الحقائق والأنوار ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك، فبقيت سائر الجهات فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب كما تراه يعاب بها في الدنيا ويخزى من هذه الجهات أيضا إما بأن يواجه بها جهرا فيفضح أو يسار بها في جنبه أو يغتاب بها من وراء ظهره.
{ كره الله انبعاثهم فثبطهم } أي: كانوا أشقياء لم يبق في استعدادهم خير فيريده الله منهم فلذلك كره انبعاثهم، أي: كانوا من الفريق الثاني من الأشقياء المردودين الذين مر ذكرهم غير مرة.
[9.61-71]
{ ويقولون هو أذن } كانوا يؤذونه ويغتابونه بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع، فصدقهم في ذلك وسلم وقال: هو كذلك، ولكن بالنسبة إلى الخير فإن النفس الأبية والغليظة الجافية والكرة القاسية التي تتصلب في الأمور ولا تتأثر غير مستعدة للكمال، إذ الكمال الإنساني لا يكون إلا بالقبول والتأثر والانفعال. فكلما كانت النفس ألين عريكة وأسلم قلبا وأسهل قبولا كانت أقبل للكمال وأشد استعدادا له، وليس هذا اللين هو من باب الضعف والبلاهة الذي يقتضي الانفعال من كل ما يسمع حتى المحال والتأثر من كل ما يرد عليه ويراه حتى الكذب والشرور والضلال بل هو من باب اللطافة وسرعة القبول لما يناسبه من الخير والصدق، فلذلك قال: { قل أذن خير } إذ صفاء الاستعداد ولطف النفس يوجب قبول ما يناسبه من باب الخيرات لا ما ينافيه من باب الشرور، فإن الاستعداد الخيري لا يقبل الشر ولا يتأثر به ولا ينطبع فيه لمنافاته إياه وبعده عنه { لكم } أي: يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم دون غيره { يؤمن بالله } هو بيان لينه وقابليته لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب ولطافة النفس ولينها { ويؤمن للمؤمنين } يصدق قولهم في الخيرات ويسمع كلامهم فيها ويقبله { ورحمة للذين آمنوا منكم } يعطف عليهم ويرق لهم فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم بالبر و الصلة وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة، والأمر بالمعروف باتباعهم إياه فيها، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل إلى غير ذلك.
[9.72-99]
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } وهي جنات النفوس { ومساكن طيبة } مقامات أرباب التوكل في جنات الأفعال بدليل قوله تعالى: { ورضوان من الله أكبر } [التوبة، الآية: 72]، فإن الرضوان من جنات الصفات { ذلك } أي الرضوان { هو الفوز العظيم } لكرامة أهله عند الله وشدة قربهم منه.
[9.100-102]
{ والسابقون الأولون } أي: الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصف الأول { من المهاجرين } الذين هاجروا مواطن النفس { والأنصار } الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس { الذين اتبعوهم } في الاتصاف بصفات الحق { بإحسان } أي: بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال { رضي الله عنهم } لاشتراكهم في كشف الصفات والوصول إلى مقام الرضا الذي هو باب الله الأعظم { وأعد لهم جنات } من جنات الأفعال والصفات { تجري تحتها } أنهار علوم التوكل والرضا وما يناسبهما وذلك لا ينافي وجود جنة أخرى للسابقين هي جنة الذات واختصاصهم بها لاشتراك الكل في هذه.
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد ولين الشكيمة وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه لأنه ملك الرجوع والتوبة ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة وانفتاح عين القلب إذ لو ارتكمت الظلمة ورسخت الرذيلة ما استقبحه ولم يره ذنبا بل رآه فعلا حسنا لمناسبته لحاله فإذا عرف أنه ذنب ففيه خير { خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } أي: كانوا في رتبة النفس اللوامة التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة ولم يتذلل بعد في طاعتها للقلب، فتارة يستولي عليها القلب فتتذلل وتنقاد وتتنور بنوره وتعمل أعمالا صالحة، وتارة تظهر بصفاتها الحاجبة لنور القلب عنها وتحتجب بظلمتها فتفعل أفعالا سيئة، فإن ترجحت الأنوار القلبية والأعمال الصالحة وتعاقبت عليها الخواطر الملكية حتى صار اتصالها بالقلب وطاعتها إياه ملكة صلح أمرها ونجت وذلك معنى قوله: { عسى الله أن يتوب عليهم } وإن ارتكمت عليها الهيئات المظلمة المكتسبة من غلباتها وكثرة إقدامها على السيئات كان الأمر بالعكس فزال استعدادها بالكلية وحق عذابها أبدا وترجح أحد الجانبين على الآخر لا يكون إلا بالصحبة ومجالسة أصحاب كل واحد من الصنفين ومخالطة الأخيار والأشرار، فإن أدركه التوفيق ساقه القدر إلى صحبة الصالحين ومتابعة أخلاقهم وأعمالهم فيصير منهم، وإن لحقه الخذلان ساقه إلى صحبة المفسدين واختلاطه بهم فيصير من الخاسرين أعاذنا الله من ذلك.
{ إن الله غفور } يغفر لهم السيئات المظلمة ويسترها عنهم { رحيم } يرحمهم بالتوفيق للصالحات وقبول التوبة.
[9.103-106]
ولما وفقوا للقسم الأول ببركة صحبة الرسول وتزكيته إياهم وتربيته لهم قال: { خذ من أموالهم صدقة } إذ المال هو سبب ظهور النفس وغلبة صفاتها ومدد قواها ومادة هواها كما قال عليه الصلاة والسلام:
" المال مادة الشهوات "
فينبغي أن يكون أول حالهم التجرد عن الأموال لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها، فتتزكى من الهيئات المظلمة التي فيها وتتطهر من خبث الذنوب ورجس دواعي الشيطان وذلك معنى قوله: { تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم } بإمداد الهمة وإفاضة نور الصحبة عليهم { إن صلاتك سكن لهم } أي: إن نورك الذي تفيض عليهم بالتفات خاطرك إليهم وقوة همتك وبركة صحبتك سبب نزول السكينة فيهم تسكن قلوبهم إليه وتطمئن. والسكينة نور مستقر في القلب يثبت معه في التوجه إلى الحق ويتقوى اليقين ويتخلص عن الطيش بلمات الشيطان ووساوسه وأحاديث النفس وهواجسها لعدم قبوله لها حينئذ { والله سميع } يسمع تضرعهم واعترافهم بذنوبهم { عليم } يعلم نياتهم وعزائمهم وما في ضمائرهم من الندم والغم.
[9.107-110]
{ لمسجد أسس على التقوى } لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية صحبته بركة ويمن وجمعية وصفا، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم. ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله بنية صادقة ونفس شريفة صافية عن كمال إخلاص لله تعالى. ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع، والكدورة والتفرقة في بعضها وما هو إلا لذلك، فلهذا قال: { لمسجد أسس على التقوى } ، { من أول يوم أحق أن تقوم فيه } لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام، فإذا كان موضع القيام مبنيا على التقوى وصفاء النفس تأثرت النفس باجتماع الهم وصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان، وإذا كان مبنيا على الرياء والضرار تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } أي: أهل إرادة وسعي في التطهر عن الذنوب نبه على أن صحبة الصالحين من أهل الإرادة لها أثر عظيم يجب أن تختار وتؤثر على غيرها. كما أن المقام له أثر يجب أن يراعى ويتعاهد ولهذا ورد في اصطلاح القوم: يجب مراعاة الزمان والمكان والإخوان في حصول الجمعية وجعلوها شرطا لها وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني وصدق نيته مؤثر في البناء وإن تبرك المكان وكونه مبنيا على الخير يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ممن يناسب حاله حال بانيه، وإن محبة الله واجبة لأهل الإرادة والطهارة لقوله: { والله يحب المتطهرين } كيف ولولا محبة الله إياهم لما أحبوا التطهر.
[9.111]
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } لما هداهم إلى الإيمان العلمي وهم مفتونون بمحبة الأموال والأنفس استنزلهم لفرط عنايته بهم عن مقام محبة الأموال والأنفس بالتجارة المربحة والمعاملة المرغوبة بأن جعل جنة النفس ثمن أموالهم وأنفسهم ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هو مألوفهم لكنه ألذ وأشهى وأرغب وأبقى، فرغبوا فيما عنده وصدقوا لقوة اليقين وعده.
[9.112-114]
ثم لما ذاقوا بالتجرد عنها لذة الترك وحلاوة نور اليقين رجعوا عن مقام لذة النفس وتابوا عن هواها ومشتهياتها فلم يبق عندهم لجنة النفس قدر، فوصفهم بالتائبين بالحقيقة الراجعين عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه، العابدين الذين إذا رجعوا عن محبة النفس والمال وطلب الأجر والثواب، عبدوا الله حق عبادته لا لرغبة ولا لرهبة بل تشبها بملكوته في القيام بحقه تعالى بالخضوع والخشوع والتذلل لعظمته وكبريائه تعظيما وإجلالا ثم حمدوا الله حق حمده بإظهار الكمالات العملية الخلقية والعملية المكنونة في استعداداتهم بالقوة حمدا فعليا حاليا ثم ساحوا إليه بالهجرة عن مقام الفطرة ورؤية الكمالات الثابتة وتآلفهم واعتدادهم وابتهاجهم بها في مفاوز الصفات ومنازل السبحات ثم ركعوا في مقام محو الصفات ثم سجدوا بفناء الذات، ثم قاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على حدود الله في مقام البقاء بعد الفناء { وبشر المؤمنين } بالإيمان الحقيقي المقيمين في مقام الاستقامة.
{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا } إلى آخره، أي: لما اطلعوا على سر القدر ووقفوا على ما قضى الله وقدر، وعلموا بما ينتهي إليه عواقب الأمور، لم يكن لهم أن يطلبوا خلاف ذلك ورضوا بما دبر الله من أمره وإن كان في طبيعتهم ما يقتضي خلافه لأنهم قد انسلخوا عن مقتضيات طباعهم فإن اقتضت القرابة الطبيعية واللحمة الصورية فرط شفقة ورقة على بعض من يناسبهم ويواصلهم فيها وشاهدوا حكم الله عليه بالقهر والتعذيب، حملتهم الحمية الدينية على الصبر إن لم يكن لهم مقام الرضا بل غلبتهم المباعدة الدينية على القرابة الطبيعية فتبرؤوا منه ولم يقترحوا على الله خلاف حكمته وأمره ولهذا قيل: لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره وامتناع وقوع خلاف ما قدر الله في الأزل علم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تؤثر همته ولا غيرها في شيء، فلا يسلط همته على أمر بخلاف المحجوب الذي ينسب التاثير إلى غير الله ولا يعلم سر القدر.
[9.115-118]
{ وما كان الله } ليضلهم عن طريق التسليم والانقياد لأمره والرضا بحكمه { بعد إذ هداهم } إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره { حتى يبين لهم } كل ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم ومرتبة من مراتب وصولهم، فإن أقدموا في بعض مقاماتهم على ما تبين لهم وجوب اتقائه فهو يضلهم لكونهم مقدمين على ما هو ذنب حالهم وهو فسق في دينهم والعياذ بالله من الضلال بعد الهدى. { إن الله بكل شيء عليم } يعلم دقائق ذنوب أحوالهم وإن لم يتفطن لها أحد فيؤاخذ بها أهل الهداية من أوليائه كما ورد في الحديث الرباني:
" وأنذر الصديقين بأني غيور ".
[9.119-127]
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } في جميع الرذائل بالاجتناب عنها خاصة رذيلة الكذب، وذلك معنى قوله: { وكونوا مع الصادقين } فإن الكذب أسوأ الرذائل وأقبحها لكونه ينافي المروءة لقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا مروءة لكذوب "
إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق لم تحصل فائدة النطق وحصل منه اعتقاد غير مطابق وذلك من خواص الشيطنة، فالكاذب شيطان. وكما أن الكذب أقبح الرذائل، فالصدق أحسن الفضائل. وأصل كل حسنة ومادة كل خصلة محمودة وملاك كل خير وسعادة به يحصل كل كمال ويحصل كل حال وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه كما قال تعالى:
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
[الأحزاب، الآية: 23] في عقد العزيمة ووعد الخليقة، كما قال تعالى في إسماعيل عليه السلام:
إنه كان صادق الوعد
[مريم، 54] وإذا روعي في المواطن كلها حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات كأنه أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال.
{ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } أي: يجب على كل مستعد من جماعة سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم، أما ظاهرا فلفوات المصالح، وأما باطنا فلعدم الاستعداد. والتفقه في الدين هو من علوم القلب لا من علوم الكسب إذ ليس كل من يكتسب العلم يتفقه كما قال تعالى:
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه
[الأنعام، الآية: 25] والأكنة: هي الغشاوات الطبيعية والحجب النفسانية فمن أراد التفقه فلينفر في سبيل الله وليسلك طريق التزكية والتصفية حتى يظهر العلم من قلبه على لسانه كما نزل على بعض أنبياء بني إسرائيل: " يا بني إسرائيل، لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين، وتخلقوا بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم ". فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب، ضارب بعروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح بحيث لا يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم وإلا لم يكن عالما. ألا ترى كيف سلب الله الفقه عمن لم تكن رهبة الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله تعالى:
لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون
[الحشر، الآية: 13] لكون رهبة الله لازمة للعلم، كما قال تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر، الآية: 28] وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله تعالى:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
[الزمر، الآية: 9]. وإذا تفقهوا وظهر علمهم على جوارحهم أثر في غيرهم وتأثروا منه لارتوائهم به وترشحهم منه كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلزم الإنذار الذي هو غايته كما قال: { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ومن لازم التفقه الجهاد الأكبر ثم الأصغر فلذلك قال بعده: { قاتلوا الذين يلونكم } من كفار قوى نفوسكم التي هي أعدى عدوكم { وليجدوا فيكم غلظة } أي: قهرا وشدة حتى تبلغوا درجة التقوى فينزل عليكم النصر من عند الله كما قال: { واعلموا أن الله مع المتقين }.
{ أو لا يرون أنهم يفتنون } الآية، البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه. وقد ورد في الحديث:
" البلاء سوط من سياط الله تعالى، يسوق به عباده إليه "
فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد يكسر ثورة نفسه وقواها ويقمع صفاتها وهواها، فيلين القلب ويبرز من حجابها وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها وينقبض منها ويشمئز، فيتوجه إلى الله تعالى. وأقل درجاته أنه إذا اطلع على أن لا مفر منه إلا إليه، ولم يجد مهربا ومحيصا من البلاء سواه، تضرع إليه وتذلل بين يديه، كما قال تعالى:
وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين
[لقمان، الآية: 32]،
وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما
[يونس، الآية: 12]، وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه فليغتنم وقته وليتعوذ وليتخذ ملكة يعود إليها أبدا حتى يستقر التيقظ والتذكر وتتسهل التوبة والحضور فلا يتعود الغفلة عند الخلاص وتتقوى النفس عند الأمان فتغلب وينسبل الحجاب أغلظ مما كان كما قال:
فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون
[العنكبوت، الآية: 65]،
فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه
[يونس، الآية: 12].
[9.128-129]
{ رسول من أنفسكم } ليكون بينكم وبينه جنسية نفسانية بها تقع الألفة بينكم وبينه فتخالطونه بتلك الجنسية وتختلطون به فتتأثر من نورانيتها المستفادة من نور قلبه أنفسكم فتتنور بها وتنسلخ عنها ظلمة الجبلة والعادة { عزيز عليه } شديد شاق عليه، عنتكم مشقتكم ولقاؤكم المكروه لرأفته اللازمة للمحبة الإلهية التي له لعباده ورؤيته إياهم بمثابة أعضائه وجوارحه لكونه ناظرا بنظر الوحدة. فكما يشق على أحدنا تألم بعض أعضائه، يشق عليه تعذيب بعض أمته { حريص عليكم } لشدة اهتمامه بحفظكم كما يشتد اهتمام أحدنا بكل واحد من أجزاء جسده وجوارحه لا يرضى بنقص أقل جزء منه ولا بشقائه فكذلك هو، بل أشد اهتماما لدقة نظره { بالمؤمنين رؤوف } ينجيهم من العقاب بالتحذير عن الذنوب والمعاصي برأفته { رحيم } يفيض عليهم العلوم والمعارف والكمالات المقربة بالتعليم والترغيب عليها برحمته.
{ فإن تولوا } وأعرضوا عن قبول الرأفة والرحمة لعدم الاستعداد أو زواله وتعرضوا للشقاوة الأبدية { فقل حسبي الله } لا حاجة لي بكم ولا باستعانتكم كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المألوم المتعفن الذي يجب قطعه عقلا، أي: الله كافيني ليس في الوجود إلا هو فلا مؤثر غيره ولا ناصر إلا هو { عليه توكلت } لا أرى لأحد فعلا ولا حول ولا قوة إلا به { وهو رب العرش العظيم } المحيط بكل شيء يأتي منه حكمه وأمره إلى الكل.
[10 - سورة يونس]
[10.1-3]
{ الر } إشارة إلى الرحمة التي هي الذات المحمدية لقوله تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء، الآية: 107]، و (ا ل) مر ذكرهما { تلك } أي: ما أشير إليه بهذه الحروف أركان كتاب الكل ذي الحكمة أو المحكم المتقن تفاصيله أو أقسم بالله باعتبار الهوية الأحدية جمعا وباعتبار الصفة الواحدية تفصيلا في باطن الجبروت وظاهر الرحموت على ما ذكر أو على أن تلك الآيات المذكورة في السورة { آيات الكتاب } ذي الحكمة { أكان للناس عجبا } إلى آخره، أنكر عجبهم لكون سنة الله جارية أبدا على هذا الأسلوب في الإيحاء على الرجال وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه { أن لهم قدم صدق عند ربهم } أي: سابقة بحسب العناية الأولى عظيمة أو مقاما من قربه ليس لأحد مثله خصصهم الله به في الأزل بمحض الاجتباء وإلا لما آمنوا به { قال الكافرون } الذين حجبوا عن الله فلم يطلعوا على ظهور صفاته في النفس المحمدية { إن هذا } الذي جاء به { لسحر مبين } أي: شيء خارج عن قدرة البشر ليس إلا من عمل الشياطين. قالوا ذلك لغلبة الشيطنة عليهم واحتجابهم بها عن الله وعبادتهم الشيطان بحيث لم يصلوا إلى طور من الروحانيات وراءه في القدرة، فلذلك نسبوا ما تجاوز عن حد البشرية إليه بالطبع.
{ يدبر } أمر السموات والأرضين على وفق حكمته بيد قدرته { ما من شفيع } يشفع لأحد بإفاضة كمال وإمداد نور يقربه إلى الله وينجيه من ظلمات النفس ويطهره من رجز صفاتها { إلا من بعد } أن يأذن بموهبة الاستعداد ثم بتوفيق الأسباب { ذلكم } الموصوف بهذه الصفات { الله ربكم } الذي يربيكم ويدبر أمركم، فخصصوه بالعبادة واعرفوه بهذه الصفات ولا تعبدوا الشيطان ولا تحتجبوا عنه ببعض صفاته، فتنسبوا قوله وفعله إلى الشيطان { أفلا تذكرون } ما في أنفسكم من آياته فتتفكروا فيها وتنزجروا عن الشرك به.
[10.4]
{ إليه مرجعكم جميعا } بالعود إلى عين الجمع المطلق في القيامة الصغرى كما هو الآن أو إلى عين جمع الذات بالفناء فيه عند القيامة الكبرى.
{ وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق } في النشأة الأولى { ثم يعيده } في النشأة الثانية { ليجزي } المؤمن والكافر على حسب إيمانهم وعملهم الصالح وكفرهم وعملهم الفاسد وهذا على التأويل الأول، وعلى الثاني: يبدأ الخلق باختفائه وإظهارهم ثم يعيدهم بإفنائهم وظهوره ليجزي الذين آمنوا به وعملوا الصالحات ما يصلحهم للقائه من الأعمال الرافعة لحجبهم المقربة إياهم { بالقسط } بحسب ما بلغوا من المقامات بأعمالهم من مواهبه الحالية والذوقية التي يقتضيها مقامهم وشوقهم، أو ليجزي الذين آمنوا الإيمان الحقيقي وعملوا بالله الأعمال التي تصلح العباد، أي جزاء بالتكميل بقسطهم أي بسبب عدلهم في زمان الاستقامة أو جزاء بحسب رتبتهم ومقامهم في الاستقامة { والذين } حجبوا في أي مقام كان { لهم شراب من حميم } لجهلهم بما فوقه وشكهم واضطرابهم إذ لو وصلوا إلى اليقين لذاقوا برده { وعذاب أليم } من الحرمان والهجران وفقدان روح الوجدان بسبب احتجابهم.
[10.5-10]
{ هو الذي جعل } شمس الروح ضياء الوجود وقمر القلب نوره وقدر مسيره في سلوكه { منازل } ومقامات { لتعلموا عدد } سني مراتبكم وأطواركم في السير إلى الله وفي الله وحساب درجاتكم ومواقع أقدامكم في كل مقام ومرتبة.
{ إن في اختلاف } ليل غلبة ظلمة النفس على القلب ونهار إشراق ضوء الروح عليه وما خلق الله في سموات الأرواح وأرض الأجساد { لآيات لقوم يتقون } حجب صفات النفس الأمارة وبلغوا إلى رتبة النفس اللوامة فتعرفوا تلك الآيات.
{ دعواهم فيها } أي: دعاؤهم الاستعدادي في الجنات الثلاث التي يهديهم الله إليها بحسب نور إيمانهم { سبحانك } أي: تنزيهه في الأولى عن الشرك في الأفعال بالبراءة عن حولهم وقوتهم، وفي الثانية: عن الشرك في الصفات بالانسلاخ عن صفاتهم، وفي الثالثة عن الشرك في الوجود بفنائهم { وتحيتهم فيها } أي: تحية بعضهم لبعض في كل مرتبة منها إفاضة أنوار التزكية وإمداد التصفية من بعضهم على بعض، أو تحية الله لهم فيها إشراقات التجليات وإمداد التجريد وإزالة الآفات من الحق تعالى عليهم { وآخر دعواهم } أي: آخر ما يقتضي استعداداتهم وسؤال الله تعالى بالطلب والاستفاضة قيامهم بالله في ظهور كمالاته وصفات جلاله وجماله عليهم الذي هو الحمد الحقيقي منه وله وتخصيص ذلك الحمد به مجملا ثم مفصلا أولا باعتبار هويته المطلقة، ثم باعتبار ربوبيته للعالمين.
[10.11-18]
{ ولو يعجل الله للناس الشر } إلى آخره، لما كانت الاستعدادات مفطورة على الخير الإضافي الصوري أو المعنوي بحسب درجاتها في الأزل كان كل دعاء منها وطلب للخير بتهيئة قابليتها وتصفيتها وشوقها إليه يوجب حصول ذلك له عاجلا وفيضانه عليه من المبدأ الفياض الذي هو منبع الخيرات والبركات كقوله تعالى:
وآتاكم من كل ما سألتموه
[إبراهيم، الآية: 34] وكلما فاض عليه خير باستحقاقه له لوجود تصفية وتزكية زاد استعداده بانضمام هذا الخير إليه، فصار أقوى وأقبل من الأول فيكون المبدأ تعالى أسرع إجابة له وأكثر إفاضة عليه وعلى هذا يزداد الاستعداد فيزداد الفيض حتى يبلغ مداه وهو معنى تضاعف الحسنات. ومعنى قوله:
من جآء بالحسنة فله خير منها
[القصص، الآية: 84]. وأما الشرور فليست إلا حجب الاستعداد وموانع القبول وحواجز الفيض، فلما حصلت ما وقع بسببها إلا عدم القبول للخيرات فمنعت فيضانها وبقي الاستعداد في حجاب ما حصل منها ليس إلا، وإن اقتضى بحسب المناسبة فيضان الشر فليس في فيض المبدأ ما يجانسه فلا يفيض عليه شيء من جنسه، وهذا معنى قوله تعالى:
ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها
[الأنعام، الآية: 160] اللهم إلا إذا أفرط وتجاوز حد الرحمة وأزال الاستعداد بالكلية فناسب الشيطنة واستمد من عالمها، كما قال تعالى:
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم
[الشعراء، الآيات: 221-222]، { لقضي إليهم } لقطع مدى استعدادهم فانقطع مدد الحياة الحقيقية عنهم ومدد الخير عن استعدادهم بالكلية وأزيل إمكان التصفية منه لاقتضائه الشر، فلم يصل إليهم بعد ذلك خير صوري ولا معنوي ولكن يمهلهم ما بقي فيهم أدنى مسكة من استعدادهم وإمكان قبول لأدنى خير.
{ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } من جملتهم، أي: لا يرفعون رأسا من انهماكهم في الشرور ولا يتوقعون نورا من أنوارنا ولا يتنبهون قط من غفلتهم بالرجوع إلينا وطلب رحمتنا { في طغيانهم } وتماديهم في الشرور يتحيرون وينقطع مدد الخيرات الصورية التي يسألها استعدادهم بلسان حاله عنهم حتى يزول بانغماسهم وانهماكهم في الطبيعيات نور استعدادهم بالكلية لحصول الرين ويحق الطمس، فنكسوا على رؤوسهم إلى أسفل سافلين.
[10.19-20]
{ وما كان الناس إلا أمة واحدة } على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، متوجهين إلى الوحدة، متنورين بنور الهداية الأصلية { فاختلفوا } بمقتضيات النشأة واختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات. { ولولا كلمة سبقت من ربك } أي: قضاء سبق في الأزل بتعيين الآجال والأرزاق وتمادي كل واحد من الشقي والسعيد إلى حيث قدر له فيما يزاوله { لقضي بينهم فيما فيه يختلفون } عاجلا ولميز السعيد من الشقي، والحق من الباطل من أديانهم ومللهم ولكن حكمة الله اقتضت أن يبلغ كل منهم وجهته التي ولى وجهه إليها بأعماله التي يزاولها هو وإظهار ما خفي في نفسه.
[10.21-22]
{ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء } قد مر أن أنواع البلاء من الضراء والبأساء وصنوف اللأواء تكسر شرة النفس، وتلطف القلب بكشف حجب صفات النفس وترقيق كثافات الطبع ورفع غشاوات الهوى، فلذا تنزع قلوبهم بالطبع إلى مبدئها في تلك الحالة لرجوعها إلى مقتضى فطرتها حينئذ وعودها إلى نوريتها الأصلية وقوتها الفطرية وميلها إلى العروج الذي هو في سنخها لزوال المانع بل الميل إلى الجهة العلوية والمبادئ النورية مفطور في طباع القوى الملكوتية كلها. حتى النفس الحيوانية لو تزكت عن الهيئات البدنية الظلمانية فإن التسفل من العوارض الجسمانية حتى أن البهائم والوحوش إذا اشتدت الحال عليها في أوقات المحل وأيام الجدب اجتمعت رافعة رؤوسها إلى السماء كأن ملكوتها يشعر بنزول الفيض من الجهة العلوية فتستمد منها فكذا إذا توافرت على الناس النعم الظاهرة وتكاملت عليهم الأمداد الطبيعية والمرادات الجسمانية قويت النفس من مدد الجهة السفلية واستطالت قواها بالترفع على القلب وتكاثف الحجاب وغلظ وتسلط الهوى وغلب، وصارت السلطنة للطبيعة الجسمانية ، وارتكمت الهيئات البدنية الظلمانية فتشكل القلب بهيئة النفس وقسا وغلظ وطغى، وأبطرته النعمة فكفر وعمى ومال إلى الجهة السفلية لبعده عن الهيئة النورية حينئذ. وبقدر استيلاء النفس على القلب يستولي الوهم على العقل، فتستولي الشيطنة لكون القوة العاقلة أسيرة في قيد الوهم مأمورة له يستعملها في مطالبه ويستسعيها في مآربه من تحصيل لذات النفس وإمدادها من عالم الرجس وتقوية صفاتها بأهب عالم الطبع وعدد مواد الحظ بالفكر، فيحتجب القلب بالرين عن قبول صفات الحق بالكلية، وذلك معنى قوله: { إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا } بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري وتعبية عذاب نيران الحرمان وحيات هيئات الرذائل والعقارب السود ولباس القطران في هذه الرحمة الظاهرة.
{ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } قد علمت أن الملكوت السماوية تنتقش بكل حادثة تقع في هذا العالم فكل عمل حسن أو قبيح يصدر عن أحد فقد كتب عليه في تلك الألواح وقد اتصل ملكوت كل بدن بتلك المبادئ الملكوتية فمتى هممنا بحسنة أو سيئة ارتسمت صورته في ملكوت أبداننا على سبيل الخاطر أولا ثم أخذنا في الفكر فيه، فإن استحكم النقش وانبعثت منه العزيمة حتى امتثلنا الخاطر الأول بالإرادة الجازمة انطبع بإقدامنا على الفعل إلا أنه إن كان حسنة انطبع في الحال في جهة القلب التي تلي الروح ولوح الفؤاد المنور بنوره وكتبته القوة العاقلة العملية التي هي صاحب اليمين من الملكين الموكلين المشار إليهما بقوله تعالى:
عن اليمين وعن الشمال قعيد
[ق، الآية: 17] إذ الفؤاد هو الجانب الأقوى منه وإن كان سيئة لا ينطبع في الحال لبعد الهيئة الظلمانية من القلب وعدم مناسبته إياها بالذات، فإن أدركه التوفيق وتلألأ عليه نور من أنوار الهداية الروحانية ندم واستغفر فمحى عنه، وعفى له، وإن لم يتداركه بقي متلجلجا حتى أمدته النفس بظلمة صفاتها فاستقر في لوح الصدر الذي هو وجه القلب الذي يلي النفس المظلم بظلمة النفس الغالبة عليه في صدور هذا الفعل منه وكتبته القوة المتخيلة التي هي صاحب الشمال إذ هذا الجانب هو الأضعف وهذا هو المراد من قولهم: صاحب الشمال لا يكتب السيئة حتى تمضي ست ساعات فإن استغفر فيها صاحبها لم تكتب، وإن أصر كتبته.
ويفهم من هذا التقرير إيتاء الكتاب بيمين المسلم وشمال الكافر، وأما صورة الإيتاء وكيفيته فقد تجيء في موضعها إن شاء الله تعالى.
[10.23-25]
{ إنما بغيكم على أنفسكم } إلى آخره، البغي ضد العدل، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل وهيئة وجدانية لها فائضة من نور الوحدة على النفس فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل بحيث يستلزمها جميعا فصاحبها في غاية البعد عن الحق ونهاية الظلمة كما قال:
" الظلم ظلمات يوم القيامة "
فلهذا قال: { على أنفسكم } ، لا على المظلوم لأن المظلوم سعد به وشقى الظالم غاية الشقاء وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية ولذات حيوانية تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال وقلة البقاء هذا المثل الذي مثل به من تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر ثم فسادها ببعض الآفات سريعا قبل الانتفاع بنباتها ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم. وفي الحديث: أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة، لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى. وقد سمعت بعض المشايخ يقول: قلما يموت الظالم حتف أنفه وقلما يبلغ الفاسق أوان الشيخوخة، وذلك لمبارزتهما لله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله.
{ والله يدعو إلى دار السلام } يدعو الكل إلى دار سلام العالم الروحاني الذي لا آفة فيه ولا نقص ولا فقر ولا فناء بل فيه السلامة عن كل عيب والأمان من كل خوف { ويهدي من يشاء } من جملتهم من أهل الاستعداد { إلى صراط } الوحدة.
[10.26-27]
{ للذين أحسنوا } أي: جاؤوا بما يحسن به حالهم من خير فعلي أو قولي أو علمي مما هو سبب كمالهم المثوبة { الحسنى } من الكمال الذي يفيض عليهم بسبب ذلك الخير { وزيادة } مرتبة مما كان قبله بالترقي أو زيادة في استعداد قبول الخيرات والكمالات بانضمام هذا الكمال والنور الفائض عليهم إلى استعدادهم الأول على ما ذكر { ولا يرهق } وجوه قلوبهم غبار من كدورات صفات النفس وقيام غلباتها { ولا ذلة } من ميل قلوبهم إلى الجهة السفلية.
{ أولئك أصحاب الجنة } التي يقتضيها حالهم وارتقاؤهم من الجنان المذكورة { هم فيها خالدون } { والذين كسبوا } أجناس { السيئات } من أعمال وأقوال وعقائد تحجب استعدادهم عن قبول الكمال { جزاء سيئة بمثلها } من الهيئة التي ارتكبت على قلوبهم من سيئاتهم فمنعتها الصفاء والنور { وترهقهم ذلة } الميل إلى الجهة السفلية { ما لهم من الله من عاصم } يعصمهم من تلك الذلة والخذلان لوجود الحجاب وعدم قبول هذه العصمة لثبوت الكدورة { كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل } لفرط ارتكاب الهيئة المظلمة من الميول الطبيعية والأعمال الردية عليها. { أولئك أصحاب النار } التي يقتضيها حالهم في التسفل من نيران الآثار والأفعال.
[10.28-36]
{ ويوم نحشرهم جميعا } في المجمع الأكبر عين جمع الوجود المطلق { ثم نقول للذين أشركوا } منهم أي: المحجوبين الواقفين مع الغير بالمحبة والطاعة { مكانكم } أي: الزموا مكانكم { أنتم وشركاؤكم } ومعناه: وقفوا مع ما وقفوا معه في الموقف مع قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم وتبرء المعبود من العابد لانقطاع الآلات البدنية والأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوصل وهو معنى قوله: { فزيلنا بينهم } أي: مع كونهم في الموقف معا فرقنا بينهم في الوجهة وذلك عند علو رتبة المعبود ودنو رتبة العابد وتباين حاليهما إذا كان المعبود شريفا كالملائكة والمسيح وعزير وأمثالهم ممن له السابقة عند الله كما قال تعالى:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون
[الأنبياء، الآية: 101]. { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } بل تعبدون الشيطان بطاعتكم إياه وما اخترعتموه في أوهامكم من أباطيل فاسدة وأماني كاذبة.
{ فكفى بالله شهيدا } إلى آخره، أي: الله يعلم أنا ما أمرناكم بذلك وما أردنا عبادتكم إيانا { هنالك } أي: عند ذلك الموقف تختبر وتذوق { كل نفس ما أسلفت } في الدنيا { وردوا إلى الله } في موقف الجزاء بالانقطاع عن الآلهة وانفرادهم عنها { مولاهم الحق } المتولي جزاءهم بالعدل والقسط { وضل عنهم ما كانوا يفترون } من اختراعاتهم وأصول دينهم ومذهبهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة.
[10.37-42]
{ وما كان هذا القرآن } اختلاقا { من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه } من اللوح المحفوظ { وتفصيل الكتاب } الذي هو الأم له كقوله تعالى:
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم
[الزخرف، الآية: 4] أي: كيف يكون مختلقا وقد أثبت قبله في كتابين من علم مفصلا كما هو في اللوح المحفوظ ومجملا في أم الكتاب الذي هذا تفصيله.
{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } أي: لما جهلوا كيفية ثبوته في علم الله ونزوله على سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام وقصر علمهم عن ذلك كذبوا به { ولما يأتهم تأويله } أي: ظهور ما أشار إليه في مواعيده وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه فلا يمكنهم التكذيب لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه، مثل ذلك التكذيب العظيم { كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان } عاقبتهم لما ظلموا بالتكذيب { ومنهم من يؤمن به } أي: سيؤمن به لرقة حجابه { ومنهم من لا يؤمن به } أبدا لغلظ حجابه { ومنهم من يستمعون إليك } ولكن لا يفهمون إما لعدم الاستعداد في الأصل وإما لرسوخ الهيئات المظلمة الحاجبة لنور الاستعداد فيهم وإما لاجتماع الأمرين كالأصم الذي لا عقل له فلا يسمع ولا يتفطن للإشارة، فكيف يمكن إفهامه.
[10.43-46]
{ ومنهم من ينظر إليك } ولكن لا يبصر الحق ولا حقيقتك لأحد الأمرين المذكورين أو كليهما كالأعمى الذي انضم إلى فقدان بصره فقدان البصيرة فلا يبصر ولا يستبصر فكيف تمكن هدايته.
{ إن الله لا يظلم الناس شيئا } لما ذكر الصمم والعمى اللذين يدلان على عدم استعداد الإدراك أشعر الكلام بوقوع الظلم لوجود الاستعداد لبعض وعدمه لبعض فسلب الظلم عن نفسه لأن عدم الاستعداد في الأصل ليس ظلما لعدم إمكان ما هو أجود منه بالنسبة إلى خصوصية ذلك وهويته فكان عينه مقتضيا له في رتبة من مراتب الإمكان كما لا يمكن للحمار مع حماريته استعداد الإدراك الإنساني وكان عينه مستدعيا لما هو عليه من الاستعداد الحماري ولا يطلب منه وراء ما في استعداده فلا ظلم هذا إذا لم يكن في الأصل وأما إذا بطل برسوخ الهيئات المظلمة فلا كلام فيه وكلاهما ظالم لنفسه. أما الأول فلقصوره في درجات الإمكان ونقصانه بالإضافة إلى ما فوقه كقصور الحمار مثلا عن الإنسان ونقصانه بالإضافة إليه لا في نفسه فإنه في حد نفسه ليس بقاصر ولا ناقص. وأما الثاني فظاهر وعلى هذا معنى { أنفسهم يظلمون } ينقصون حظها، أو إن الله لا يظلم الناس شيئا بأن يطلب منهم ما ليس في استعدادهم فيعاقبهم على ذلك ولكن الناس أنفسهم يظلمون فيستعملون استعداداتهم فيما لم تخلق لأجله.
{ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } لعدم إحساسهم بالحركة المستلزم لذهولهم عن الزمان إذ الذاهل عن الحركة ذاهل عن الزمان، فسواء عندهم الساعة الواحدة والدهور المتطاولة { يتعارفون بينهم } بحكم سابقة الصحبة وداعية الهوى اللازمة للجنسية الأصلية بدلا التشاؤم. ثم إن بقيت الجنسية الأصلية والمناسبة الفطرية لاتحادهم في الوجهة واتفاقهم في المقصد بقي التعارف بينهم، وإن لم يبق بسبب اختلاف الأهواء وتباين الآراء وتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة وعوارض المادة انقلب إلى التناكر { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } لوقوعهم في وحشة التناكر حينئذ واحتجابهم بحجب عاداتهم الفاسقة وهيئات اعتقاداتهم الفاسدة { وما كانوا مهتدين } وبطل نور استعدادهم فلا يهتدون إلى الله ولا إلى التعارف فخسئوا مبغوضين مطرودين لا يألفون أنيسا ولا يؤون أليفا.
[10.47-56]
{ ولكل أمة رسول } يجانسهم في الأحوال النفسانية ليمكن بينهم الألفة الموجبة للاستفادة منه ويمكنه النزول إلى مبالغ عقولهم ومراتب فهومهم فيزكيهم بما يصلح أحوالهم ويكشف حجبهم ويعلمهم بما يوجب ترقيهم عن مقاماتهم ويهديهم إلى الله، { فإذا جاء رسولهم قضي بينهم } بهداية من اهتدى منهم وضلالة من ضل وسعادة من سعد وشقاوة من شقي لظهور ذلك بوجوده وطاعة بعضهم إياه لقربه منه وإنكار بعضهم له لبعده عنه { بالقسط } أي: بالعدل الذي هو الغالب على حال النبي لكونه ظاهر توحيده وسيرته وطريقته { وهم لا يظلمون } بنسبة خلاف ما هو حالهم إليهم ومجازاتهم به أو قضى بينهم بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من ضل وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده.
{ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } إنكار لاحتجابهم عن القيامة وعدم وقوفهم على معناها إذ لو علموا كيفيته بارتفاع حجبهم بالتجرد عن ملابس النفس صدقوهم في ذلك وما أنكروا. { قل لا أملك لنفسي } إلى آخره، درجهم إلى شهود الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه ووجوب وقوع ذلك عنه بمشيئة الله ليعرفوا آثار القيامة، ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله: { لكل أمة أجل } إلى آخره.
[10.57-64]
{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة } أي: تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد والإنذار والبشارة والزجر عن الذنوب المورطة في العقاب والتحريض على الأعمال الموجبة للثواب لتعملوا على الخوف والرجاء { وشفاء لما في الصدور } أي: القلوب من أمراضها كالشك والنفاق والغل والغش وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم الموجبة لليقين وتصفيتها لقبول المعارف والتنور بنور التوحيد، والتهيئ لتجليات الصفات { وهدى } لأرواحكم إلى الشهود الذاتي { ورحمة } بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاث بعد حصول الاستعداد في مقام النفس بالموعظة ومقام القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية { للمؤمنين } بالتصديق أولا ثم باليقين ثانيا ثم بالعيان ثالثا.
{ قل بفضل الله } أي: بتوفيقه للقبول في المقامات الثلاثة { وبرحمته } بالمواهب الخلقية والعلمية والكشفية في المراتب الثلاث فليعتنوا وإن كانوا يفرحون { فبذلك فليفرحوا } لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع { هو خير مما يجمعون } من الخسائس الفاسدة والمحقرات الزائلة من جملة الحطام إن كانوا أصحاب دراية وفطنة وأرباب قدر وهمة.
{ قل أرأيتم ما أنزل الله } إلى آخره، أي: أخبروني ما أنزل الله من رزق معنوي كالحقائق والمعارف والأحوال والمواهب وكالآداب والشرائع والمواعظ والنصائح { فجعلتم } بعضه { حراما } كالقسم الأول { و } بعضه { حلالا } كالقسم الثاني { قل الله أذن لكم } في الحكم بالتحريم والتحليل { أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } الوسطى بتجرد القلب عن ملابس النفس وحصول اليقين أو يوم القيامة الكبرى بالتوحيد الذاتي وظهور العيان، أي: لا يبقى ظنهم وليس شيئا حينئذ أو يوم القيامة الصغرى بالموت وحصول الحرمان أي: يكون ظنهم وبالا وعذابا حينئذ { إن الله لذو فضل على الناس } بصنفي العلمين وإفاضتهما وتوفيق القبول لهما وتهيئة الاستعداد لقبولهما { ولكن أكثرهم لا يشكرون } نعمته فيستعملون ما وهب لهم من الاستعداد والعلوم في تحصيل المنافع الجزئية والمطالب الحسية ويكفرون نعمته فيمنعون عن الزيادة.
{ ألا إن أولياء الله } المستغرقين في عين الهوية الأحدية بفناء الأنية { لا خوف عليهم } إذ لم يبق منهم بقية خافوا بسببها من حرمان ولا غاية وراء ما بلغوا فيخافوا من حجبه { ولا هم يحزنون } لامتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم، فيحزنوا عليه. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من هم؟ فقال:
" هم الذين يذكروا الله برؤيتهم "
وهذا رمز لطيف منه عليه السلام. وعن عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله " ، قالوا: يا رسول الله، أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم. قال: " هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس "
ثم قرأ الآية. قوله: وإنهم لعلى منابر من نور، يريد به اتصالهم بالمبادئ العالية الروحانية كالعقل الأول وما يليه.
{ الذين آمنوا وكانوا يتقون } إن جعل صفة لأولياء الله فمعناه الذين آمنوا بالإيمان الحقي وكانوا يتقون بقاياهم وظهور تلويناتهم.
{ لهم البشرى في الحياة الدنيا } بوجود الاستقامة في الأعمال والأخلاق المبشرة بجنة النفوس { وفي الآخرة } بظهور أنوار الصفات والحقائق الروحانية والمعارف الحقانية عليهم المبشرة بجنة القلوب وحصول الذوق بهما واللذة { لا تبديل لكلمات الله } لحقائقه الواردة عليهم وأسمائه المنكشفة لهم وأحكام تجلياته النازلة بهم، وإن جعل كلاما برأسه مبتدأ فمعناه الذين آمنوا الإيمان اليقيني وكانوا يتقون حجب صفات النفس وموانع الكشف من التشكيكات الوهمية والوساوس الشيطانية { لهم البشرى في الحياة الدنيا } بوجدان لذة برد اليقين في النفس واطمئنانها بنزول السكينة وفي الآخرة بوجدان ذوق تجليات الصفات وأثر أنوار المكاشفات لا تبديل لكلمات الله من علومهم اللدنية وحكمهم اليقينية أو فطرتهم التي فطرهم الله عليها فإن كل نفس كلمة.
[10.65-109]
{ ولا يحزنك قولهم } أي: لا تتأثر به فإنه مراء وشاهد عزة الله وقهره لتنظر إليهم بنظر الفناء وترى أعمالهم وأقوالهم وما يهددونك به كالهباء فمن شاهد قوة الله وعزته يرى كل القوة والعزة لا قوة لأحد ولا حول. { هو السميع } لأقوالهم فيك فيجازيهم { العليم } لما ينبغي أن يفعل بهم ثم بين ضعفهم وعجزهم وامتناع غلبتهم عليه بقوله: { ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض } كلهم تحت ملكته وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء بغير إذنه ومشيئته وإقداره إياهم { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، أي: إذا كان الكل تحت قهره وملكته فما يتبعون من دون الله ليس بشيء ولا تأثير له ولا قوة { إن يتبعون إلا } ما يتوهمونه في ظنهم ويتخيلونه في خيالهم وما هم إلا يقدرون وجود شيء لا وجود له في الحقيقة.
{ هو الذي جعل لكم } ليل الجسم { لتسكنوا فيه } ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به إليه { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } كلام الله به، فيفهمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه فيشاهدونه موصوفا ومتسما بها.
{ قالوا اتخذ الله ولدا } أي: معلولا يجانسه { سبحانه } أنزهه عن مجانسة شيء { هو الغني } الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء، فكيف يماثله شيء، ومن له الوجود كله فكيف يجانسه شيء.
{ واتل عليهم نبأ نوح } في صحة توكله على الله ونظره إلى قومه وإلى شركائهم بعين الفناء وعدم مبالاته بهم وبمكايدهم ليعتبروا به حالك، فإن الأنبياء كلهم في ملة التوحيد والقيام بالله وعدم الالتفات إلى الخلق سواء.
{ وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم } أي: إيمانا يقينيا { فعليه توكلوا } جعل التوكل من لوازم الإسلام وهو إسلام الوجه لله تعالى، ولم يجعل الإسلام من لوازم الإيمان أي: إن كمل إيمانكم ويقينكم بحيث أثر في نفوسكم وجعلها خالصة لله فانية فيه لزم التوكل عليه فإن أول مرتبة الفناء هو فناء الأفعال ثم الصفات ثم الوجود فإن تم الفناء لزم التوكل الذي هو فناء الأفعال وإن أريد الإسلام بمعنى الانقياد كان شرطا في التوكل لا ملزوما له وحينئذ يكون معناه: إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة وتأثيرا بل تكونوا منقادين كالميت فإن شرط صحة التوكل فناء بقايا الأفعال والقوى كما تقول: إن كرهت هذا الشجر فاقلعه إن قدرت، والباقي إلى آخر السورة بعضه لا يقبل التأويل وبعضه معلوم مما مر.
[11 - سورة هود]
[11.1-6]
{ الر كتاب } مر ذكره { أحكمت آياته } أي: أعيانه وحقائقه في العالم الكلي بأن أثبتت دائمة على حالها لا تتبدل ولا تتغير ولا تفسد محفوظة عن كل نقص وآفة { ثم فصلت } في العالم الجزئي وجعلت مبينة في الظاهر معينة بقدر معلوم { من لدن حكيم } أي: أحكامها وتفصيلها من لدن حكيم بناها على علم وحكمة لا يمكن أحسن منها وأشد أحكاما { خبير } بتفاصيلها على ما ينبغي في النظام الحكمي في تقديرها وتوقيتها وترتيبها.
{ ألا تعبدوا إلا الله } أي: ينطق عليكم بلسان الحال والدلالة أن لا تشركوا بالله في عبادته وخصوصه بالعبادة { إنني لكم منه نذير وبشير } كلام على لسان الرسول، أي: إنني أنذركم من الحكيم الخبير عقاب الشرك وتبعته وأبشركم منه بثواب التوحيد وفائدته.
{ وأن استغفروا ربكم } أي: وحدوه واطلبوا منه أن يغفر هيئات النظر إلى الغير والاحتجاب بالكثرة والتقيد بالأشياء والوقوف معها حتى أفعالكم وصفاتكم { ثم توبوا إليه } ارجعوا إليه بالفناء فيه ذاتا { يمتعكم } في الدنيا تمتيعا { حسنا } على وفق الشريعة والعدالة حالة البقاء بعد الفناء إلى وقت وفاتكم { ويؤت كل ذي فضل } في الأخلاق والعلوم والكمالات { فضله } في الثواب والدرجات أو يمتعكم بلذات تجليات الأفعال والصفات عند تجردكم إلى وقت فنائكم أو { ويؤت كل ذي فضل } في الاستعداد فضله في الكمال والمرتبة عند الترقي والتدلي { وإن تولوا } أي: تعرضوا عن التوحيد والتجريد { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } شاق عليكم وهو يوم الرجوع إلى الله القادر على كل شيء أي: يوم ظهور عجزكم وعجز ما تعبدون بظهوره تعالى في صفة قادريته فيقهركم بالعذاب.
[11.7-8]
{ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } أي: خلق العالم الجسماني في ست جهات { وكان عرشه على الماء } أي: عرشه الذي هو العقل الأول مبتنيا على العلم الأول مستندا إليه مقدما بالوجود على عالم الأجسام، وإن أولنا الأيام الستة بمدة الخفاء كما مر وخلق السموات والأرض باختفائه تعالى بتفاصيل الموجودات فمعنى كون عرشه على الماء كونه قبل بداية الاختفاء ظاهرا معلوما للناس كقولك: فعلته على علم، أي: في حال كونه معلوما لي، أو كوني عالما به، أي: على المعلومية كما قال حارثة حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال صلى الله عليه وسلم: " لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " قال: رأيت أهل الجنة يتزاورون ورأيت أهل النار يتعاوون ورأيت عرش ربي بارزا. قال صلى الله عليه وسلم: " أصبت، فالزم "
وقد عبر في الشرع عن المادة الهيولانية بالماء في مواضع كثيرة منها ما ورد في الحديث: إن الله خلق أول ما خلق جوهرة، فنظر إليها بعين الجلال فذابت حياء نفسها ماء ونصفها نار. فإن أولناه بها فمعناه: وكان عرشه قبل السموات والأرض بالذات لا بالزمان مستعليا على المادة فوقها بالرتبة، وإن شئت التطبيق على تفاصيل وجودك فمعناه خلق سموات القوى الروحانية وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليا عليه متعلقا به تعلق التصوير والتدبير { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } جعل غاية خلق الأشياء ظهور أعمال الناس أي: خلقناهم لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء أيكم أحسن عملا فإن علم الله قسمان: قسم يتقدم وجود الشيء في اللوح، وقسم يتأخر وجوده في مظاهر الخلق والبلاء الذي هو الاختبار هو هذا القسم.
[11.9-10]
{ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } إلى آخره، ينبغي للإنسان أن يكون في الفقر والغنى والشدة والرخاء والمرض والصحة واثقا بالله متوكلا عليه لا يحتجب عنه بوجود نعمة ولا بسعيه وتصرفه في الكسب ولا بقوته وقدرته في الطلب ولا بسائر الأسباب والوسائط لئلا يحصل اليأس عند فقدان تلك الأسباب والكفران والبطر والأشر عند وجودها فيبعد بها عن الله تعالى وينساه فينساه الله بل يرى الإعطاء والمنع منه دون غيره، فإن أتاه رحمة من صحة أو نعمة شكره أولا برؤية ذلك منه وشهود المنعم في صورة النعمة، وذلك بالقلب ثم بالجوارح باستعمالها في مراضيه وطاعته والقيام بحقوقه تعالى فيها ثم باللسان بالحمد والثناء متيقنا بأنه القادر على سلبها، محافظا عليها بشكرها مستزيدا إياها اعتمادا على قوله تعالى:
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم، الآية: 7].
قال أمير المؤمنين عليه السلام: " إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر " ، ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتأسف عليها عالما بأنه هو الذي نزع دون غيره لمصلحة تعود إليه. فإن الرب تعالى كالوالد المشفق في تربيته إياه، بل أرأف وأرحم، فإن الوالد محجوب عما يعلمه تعالى إذ لا يرى إلا عاجل مصالحه وظاهرها وهو العالم بالغيب والشهادة فيعلم ما فيه صلاحه عاجلا وآجلا راضيا بفعله راجيا إعادة أحسن ما نزع منها إليه إذ القانط من رحمته بعيد منه لا يستوسع رحمته لضيق وعائه محجوب عن ربوبيته لا يرى عموم فيض رحمته ودوامه ثم إذا أعادها لم يفرح بوجودها كما لم يحزن بفقدانها ولا يفخر بها على الناس، فإن ذلك من الجهل وظهور النفس وإلا لعلم أن ذلك ليس منه وله فبأي سبب يسوغ له فخر بما ليس له ومنه بل لله ومن الله.
[11.11-15]
{ إلا الذين صبروا } استثناء من الإنسان أي هذا النوع يؤوس كفور فرح فخور في الحالين إلا الذين صبروا مع الله واقفين معه في حالة الضراء والنعماء والشدة والرخاء كما قال عمر رضي الله عنه: الفقر والغنى مطيتان لا أبالي أيهما أمتطي، { وعملوا } في الحالين ما فيه صلاحهم مما ذكر { أولئك لهم مغفرة } من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر في الحالين { وأجر كبير } من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانها { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } لما لم يقبلوا كلامه صلى الله عليه وسلم بالإرادة وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة وقابلوه بالعناد والاستهزاء ضاق صدره ولم ينبسط للكلام إذ الإرادة تجذب الكلام وقبول المستمع يزيد نشاط المتكلم ويوجب بسطه فيه، وإذا لم يجد المتكلم محلا قابلا لم يتسهل له وبقي كربا عنده فشجعه الله تعالى بذلك، وهيج قوته ونشاطه بقوله: { إنما أنت نذير } فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين إما رفع الحجاب بأن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك { والله على كل شيء وكيل } فكل الهداية إليه.
{ من كان يريد الحياة الدنيا } أي: كل من يعمل عملا وإن كان من أعمال الآخرة في الظاهر بنية الدنيا لا يريد به إلا حظا من حظوظها يوفيه الله تعالى أجره فيها ولا يصل إليه من ثواب الآخرة شيء، فإن لكل أحد نصيبا من الدنيا بمقتضى نشأته التي هو عليها ونصيبا من الآخرة بمقتضى فطرته التي فطر عليها، فإذا لم يرد بعمله إلا الدنيا فقد أقبل بوجهه إليها وأعرض عن الآخرة وجعل النصيب الدنيوي بانجذابه وتوجهه إلى الجهة السفلية حجاب النصيب الأخروي حتى انتكست فطرته وتبعت النشأة واستخدمت نفسه القلب في طلب حظوظها فصار نصيبه من الآخرة منضما إلى النصيب الدنيوي { وهم فيها } لا ينقصون أي: لا ينقص من ثواب أعمالهم في الدنيا شيء لأنه لما تشكل القلب بهيئة النفس تمثل حظه بصورة حظ النفس.
[11.16-22]
{ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية وحرمانها عن مقتضى استعدادها وتألمها بما لا يلائمها من مكسوباتها { وحبط ما صنعوا } من أعمال البر في الآخرة لكونها بنية الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم:
" الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى "
إلى آخر الحديث.
{ أفمن كان على بينة من ربه } أي: أمن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على بينة من ربه يعني بعد ما بينهما في المرتبة بعدا عظيما من كان على بينة أي: يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي ويتبع ذلك اليقين { شاهد } من ربه أي: القرآن المصدق للبرهان العقلي في التوحيد وصحة النبوة وأصول الدين، ومن قبل هذا القرآن { كتاب موسى } أي: يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى في حال كونه { إماما } يؤتم به وقدوة يتمسك بها في تحقيق المطالب ورحمة رحيمية تهدي الناس وتزكيهم وتعلمهم الحكم والشرائع { أولئك يؤمنون به } بالحقيقة دون الطالبين لحظوظ الدنيا.
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } بإثبات وجود غيره وإسناد صفته من الكلام ونحوه إلى الغير { أولئك يعرضون على ربهم } بالوقف في الموقف الأول محجوبين مخذولين { ويقول الأشهاد } الموحدون { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } بالشرك ثم طردوا ولعنوا بسبب شركهم الذي هو أعظم الظلم { الذين يصدون } الناس عن سبيل التوحيد ويصفونها بالاعوجاج مع استقامتها وهم مع احتجابهم عن الحق محجوبون عن الآخرة دون غيرهم من أهل الأديان.
[11.23-28]
{ إن الذين آمنوا } الإيمان اليقيني الغيبي { وعملوا } الأعمال التي تصلحهم للقاء الله وتقربهم إليه من التوبة والزهد الحقيقي والإنابة والعبادة والصبر والشكر وما يناسبها من أعمال أهل السلوك ومقاماتهم { وأخبتوا إلى ربهم } وتذللوا واطمأنوا إليه بالشوق وانقطعوا إليه متفانين فيه { أولئك أصحاب } جنة القلوب { هم فيها خالدون }.
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه } أي: الإشراق المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق. { ما نراك إلا بشرا مثلنا } لكونهم ظاهريين واقفين على حد العقل المشوب بالوهم المتحير بالهوى الذي هو عقل المعاش لا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه من العقل غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات طورا بعد طور ورتبة فوق رتبة إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } فقراؤنا الأدنون منا، إذ المرتبة والرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا كما قال تعالى:
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
[الروم، الآية: 7].
{ بادي الرأي } أي: بديهة الرأي وأوله لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية لقصر تصرفه على كسب المعاش والوقوف على حدة. وأما أتباع نوح عليه السلام فإنهم أصحاب همم بعيدة وعقول حائمة حول القدس غير متصرفة في المعاش ولا ملتفتة إلى وجوه كسبه وتحصيله، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها { وما نرى لكم علينا فضل } وتقدم فيما نحن بصدده لكون الفضل عندهم محصورا في التقدم بالغنى والمال والجاه { بل نظنكم كاذبين } لعدم إدراك ما تثبتون وفهم ما تقولون مع وفور كياستنا { أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } يجب عليكم من طريق العقل الإذعان له { وآتاني رحمة } أي: هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان { من عنده } أي: فوق طور العقل من العلوم اللدنية ومقام النبوة { فعميت عليكم } لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة ولا يمكن تلقيها إلا بالإرادة لأهل الاستعداد فكيف نلزمكموها ونجبركم عليها { وأنتم لها كارهون } أي: إن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم وصفوا استعدادكم إن وهب لكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوها إن شاء الله.
[11.29-37]
{ لا أسألكم عليه مالا } أي: الغرض عندكم من كل أمر محصور في حصول المعاش وأنا لا أطلب ذلك منكم فتنبهوا لغرضي وأنتم عقلاء بزعمكم { وما أنا بطارد الذين آمنوا } لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله فإن طردتهم كنت عدو الله مناويا لأوليائه لست بنبي حينئذ { ولكني أراكم قوما تجهلون } ما يصلح به المرء للقاء الله ولا تعرفون الله ولا لقاءه لذهاب عقولكم في الدنيا أو تسفهون تؤذون المؤمنين بسفهكم.
{ ويا قوم من ينصرني من الله } الذي هو القاهر فوق عباده { إن طردتهم } واستوجبت قهره بطردهم { أفلا تذكرون } مقتضيات الفطرة الإنسانية فتنزجرون عما تقولون { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } أي: أنا أدعي الفضل بالنبوة لا بالغنى وكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك { ولا أقول } للفقراء المؤمنين الذين تستحقرونهم وتنظرون إليهم بعين الحقارة { لن يؤتيهم الله خيرا } كما تقولون، إذ الخير عندي ما عند الله لا المال { الله أعلم بما في أنفسهم } من الخير مني ومنكم وهو أعرف بقدرهم وخطرهم وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه { إني إذا } أي: إذ نفيت الخير عنهم أو طردتهم { لمن الظالمين }.
[11.38-40]
{ ويصنع الفلك } إلى آخره، تفسيره على ما دل عليه الظاهر حق يجب الإيمان به وصدق لا بد من تصديقه كما جاء في التواريخ من بيان قصة الطوفان وزمانه وكيفيته وكميته. وأما التأويل فمحتمل بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه من قومه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
" مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق "
والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في كلام إدريس النبي عليه السلام ومخاطباته لنفسه ما معناه: إن هذه الدنيا بحر مملوء ماء فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت، فعلى هذا يكون معنى ويصنع الفلك يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم التي تنظم بها الأعمال وتحكم.
{ وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } كما ترى من عادة الشطار وذوي الخلاعة المشتهرين بالإباحة يستهزئون بالمتشرعين والمتقيدين بقيودها { قال إن تسخروا منا } بجهلكم { فإنا نسخر منكم } عند ظهور وخامة عاقبة كفركم واحتجابكم { كما تسخرون فسوف تعلمون } عند ذلك { من يأتيه عذاب يخزيه } في الدنيا من هلاك وموت أو مرض وضر أو شدة وفقر، كيف يضطرب ويتحسر على مايفوت منه { ويحل عليه عذاب مقيم } دائم في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وهيئات الرذائل المظلمة والخسران.
{ حتى إذا جاء أمرنا } بإهلاك أمتك { وفار } تنور البدن باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية أو أمرنا بإهلاككم المعنوي وفار التنور باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } أي: من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص. ومعنى حملهما فيها: علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية، فإن علمه جزء من سفينته الحاوية للكل لتركبها من العلم والعمل، فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها { وأهلك } ومن يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك { إلا من سبق عليه القول } أي: الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره { ومن آمن } بالله من أمتك.
[11.41-44]
{ وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها } أي: باسم الله الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إنفاذها وإجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإقامتها وأحكامها وإثباتها كما ترى من إجراء كل شريعة وإنفاذ أمرها وتثبيتها وأحكامها بوجود نبي أو إمام من أئمتها أو حبر من أحبارها { إن ربي لغفور } يغفر هيئات نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم، المغرقة في بحرها بمتابعة الشريعة { رحيم } يرحم بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيئات النورانية التي ينجيكم بها لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل إخوانكم.
{ وهي تجري بهم في موج } من فتن بحر الطبيعة الجسمانية واستيلاء دواعيها على الناس وغلبة أهوائها باتفاقهم على مقتضياتها كالجبال الحاجبة للنظر، المانعة للسير أو موج من انحرافات المزاج وغلبات الأخلاط المردية { ونادى نوح ابنه } المحجوب بعقله المغلوب بالوهم الذي هو عقل المعاش عن دين أبيه وتوحيده { وكان في معزل } عن دينه وشريعته { يا بني اركب معنا } أي: أدخل في ديننا { ولا تكن مع الكافرين } المحجوبين عن الحق، الهالكين بموج هوى النفس، المغرقين في بحر الطبع { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } يعني به الدماغ الذي هو محل العقل، أي: سأستعصم بالعقل والمعقول ليعصمني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه { قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا } الذي { رحم } بدين التوحيد والشرع { وحال بينهما } موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة، أي: حجبه عن أبيه ودينه وتوحيده { فكان من المغرقين } في بحر الهيولى الجسمانية.
{ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } أي: نودي من جهة الحق على لسان الشرع أرض الطبيعة الجسمانية أي: يا أرض انقصي بأمر الشريعة وامتثال أحكامها من غلبة هواك واستيلائه بفوران موادك على القلب، وقفي على حد الاعتدال الذي به قوامه، ويا سماء العقل المحجوبة بالعادة والحس، المشوبة بالوهم، المغيمة بغيم الهوى التي تمد النفس والطبيعة بتهيئة موادها وأسبابها بالفكر { أقلعي } عن مددها { وغيض } ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق، المانعة للحياة الحقيقية { وقضى } أمر الله بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك { واستوت } أي: استقامت شريعته { على } جودي وجود نوح واستقرت { وقيل بعدا } أي: هلاكا { للقوم الظالمين } الذين كذبوا بآيات الله وعبدوا الهوى مكان الحق ووضعوا طريق الطبيعة مكان الشريعة.
[11.45-49]
{ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي } حمله شفقة الأبوة وتعطف الرحم والقرابة على طلب نجاته لشدة تعلقه به واهتمامه بأمره، وراعى مع ذلك أدب الحضرة وحسن السؤال فقال: { وإن وعدك الحق } ولم يقل لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي، وإنما قال ذلك لوجود تلوين وظهور بقية منه إذ فهم من الأهل ذوي القرابة الصورية والرحم الطبيعية وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله:
إلا من سبق عليه القول
[هود، الآية: 40] ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول ولا استعطف ربه بالاسترحام وعرض بقوله: { وأنت أحكم الحاكمين } إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده.
{ قال يا نوح إنه ليس من أهلك } أي: إن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية واللحمة المعنوية والاتصال الحقيقي لا الصوري كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته " ، { إنه عمل غير صالح } بين انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح تنبيها على أن أهله هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته وأنه لتماديه في الفساد والغي كأن نفسه عمل غير صالح. وأن سبب النجاة ليس إلا الصلاة لا قرابته منك بحسب السورة، فمن لا صلاح له لا نجاة له. ولوح إلى أنه صورة من صور الخطايا صدرت منك كما قيل: إنه سر من أسرار أبيه على ما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
" الولد سر أبيه "
وذلك أنه لما بالغ في الدعوة وبلغ الجهد في المدة المتطاولة وما أجابه قومه غضب ودعا عليهم بقوله:
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا
[نوح، الآيات: 26-27]، فذهل عن شهود قدرة الله وحكمته وأنه:
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي
[يونس، الآية: 31] فكانت دعوته تلك ذنب حاله في خطيئه مقامه ، فابتلاه الله بالفاجر الكفار الذي زعم حال غضبه أنهم لا يلدون إلا مثله وحكم على الله بظنه فزكاه عن خطيئته بتلك العقوبة. وفي الحديث:
" خلق الكافر من ذنب المؤمن "
{ فلا تسألني ما ليس لك به علم } من إنجاء من ليس بصالح ولا من أهلك، واعلم أن الصلاح هو سبب النجاة دون غيره، وأن أهلك هو ذو القرابة المعنوية لا الصورية.
{ إني أعظك أن تكون من الجاهلين } الواقفين مع ظواهر الأمور، المحجوبين عن حقائقها، فتنبه عليه السلام عند ذلك التأديب الإلهي والعتاب الرباني وتعوذ بقوله: { رب إني أعوذ بك أن أسالك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي } تلويناتي وظهور بقاياي { وترحمني } بالاستقامة والتمكين { أكن من الخاسرين } الذين خسروا أنفسهم بالاحتجاب عن علمك وحكمتك { قيل يا نوح اهبط } أي: اهبط من محل الجمع وذروة مقام الولاية والاستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة لا مغضبا بالاحتجاب بهم عن الحق ولا راضيا بكفرهم بالاحتجاب بالحق عنهم { بسلام } أي: سلامة عن الاحتجاب بالكثرة وظهور النفس بالغضب ووجود التلوين وحصول التعلق بعد التجرد والضلال بعد الهدى { منا } أي صادر منا وبنا { وبركات } بتقنين قوانين الشرع وتأسيس قواعد العدل الذي ينمو به كل شيء ويزيد { عليك وعلى أمم } ناشئة { ممن معك } وعلى دينك وطريقتك إلى آخر الزمان.
{ وأمم } أي: وينشأ ممن معك أمم { سنمتعهم } في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها ووقوفهم { ثم يمسهم منا عذاب أليم } بإهلاكهم بكفرهم وإحراقهم بنار الآثار، وتعذيبهم بالهيئات، وإن شئت التطبيق أولت نوحا بروحك والفلك بكمالك العلمي والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولى حتى إذا فار تنور البدن باستيلاء الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة وأذن بالخراب، ركب هو فيها وحمل معه من كل صنفين من وحوش القوى الحيوانية والطبيعية وطيور القوى الروحانية اثنين، أي: أصليهما وبنيه الثلاثة حام القلب، وسام العقل النظري، ويافث العقل العملي، وزوجه النفس المطمئنة وأجراها باسم الله الأعظم فنجا بالبقاء السرمدي من الهلاك الأبدي بالطوفان وغرقت زوجه الأخرى التي هي الطبيعة الجسمانية وابنه منها الذي هو الوهم { لآوي إلى جبل } الدماغ، وأولت استواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
[11.50-68]
{ ويا قوم استغفروا ربكم } من ذنوب حجب صفات النفس والوقوف مع الهوى بالشرك { ثم توبوا إليه } بالتوجه إلى التوحيد والسلوك في طريقه بالتجرد والتنور. يرسل سماء الروح { عليكم مدرارا } بماء العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية { ويزدكم } قوة الكمال { إلى } قوة الاستعداد ولا تعرضوا عنه { مجرمين } بظهور صفات نفوسكم وتوجهكم إلى الجهة السفلية بمحبة الدنيا ومتابعة الطبيعة.
{ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة } لقصور فهمهم وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان لمكان الغشاوات الطبيعية وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة { إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } بين وجوب التوكل على الله وكونه حصنا حصينا أولا بأن ربوبيته شاملة لكل أحد، ومن يرب يدبر أمر المربوب ويحفظه فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه. ثم بان كل ذي نفس تحت قهره وسلطانه أسير في يد تصرفه ومملكته وقدرته عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره لا حراك به بنفسه كالميت فلا حاجة إلى الاحتراز منه والتحفظ ثم بأنه { على صراط مستقيم } أي: على طريق العدل في عالم الكثرة الذي هو ظل وحدته فلا يسلط أحدا على أحد إلا عن استحقاق له لذلك بسبب ذنب وجرم ولا يعاقب أحدا من غير زلة ولو صغيرة وقد يكون لتزكية ورفع درجة كالشهادة وفي ضمن ذلك كله نفي القدرة على النفع والضر عنهم وعن آلهتهم.
{ ويا قوم هذه ناقة الله } قد مر تأويل الناقة، وأما إنجاء صالح ومن معه على التأويل المذكور فكإنجاء عيسى عليه السلام من الصلب كما جاء في قوله تعالى:
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
[النساء: 157]، وفي قوله:
وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه
[النساء، الآيات: 157-158]. وكإنجاء مؤمن آل فرعون على ما أشار إليه بقوله تعالى:
فوقاه الله سيئات ما مكروا
[غافر، الآية: 45].
[11.69-83]
{ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } إلى آخره، إن للنفوس الشريفة الإنسانية اتصالات بالمبادئ المجردة العالية والأرواح المقدسة الفلكية من الأنوار القاهرة العقلية والنفوس المدبرة السماوية واختلاطات بالملأ الأعلى من أهل الجبروت وانخراطات في سلك الملكوت. ولكل نفس بحسب فطرتها مبدأ يناسبها من عالم الجبروت ومدبر يربها من عالم الملكوت تستمد من الأول فيض العلم والنور، ومن الثاني مدد القوة والعمل كما أشار إليه قوله:
وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق، الآية: 21] ومقر أصلي تأوي إليه من جناب اللاهوت إن تجردت، كما قال عليه الصلاة والسلام:
" أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل من نور معلقة تحت العرش "
، وكلما انجذبت إلى الجهة السفلية بالميل إلى اللذات الطبيعية احتجبت بغشاوتها عن ذلك الجناب وانقطع مددها من تلك الجهة من الأنوار الجبروتية والقوى الملكوتية، فضعفت في الإدراكات لاحتجابها عن قبول تلك الإشراقات. وفي المنة والقوة لانقطاع مددها من تلك القوة. وكلما توجهت إلى الجهة العلوية بالتنزه عن الهيئات البدنية، والتجرد عن الملابس المادية، والتقرب إلى الله تعالى، مبدأ المبادئ، ونور الأنوار بالزهد والعبادة.
والتشبث في المبادئ بالنظافة والنزاهة مقرونا عمله بالصدق في النية وإخلاص الطوية أمده الله تعالى لمناسبته سكان حضرته من عالمهم إمداد النور والقوة، فتعلم ما لا يعلمه غيرها من أبناء جنسها وتقدر على ما لا يقدر عليه مثلها من بني نوعها، ويكون لها أوقات تنخرط فيها في سلكها بالانخلاع عن بدنها وأوقات تبعد فيها عنها بما هي ممنوة به من تدبير جسدها. ففي أوقات اتصالها بها وانخراطها في سلكها قد تتلقى الغيب منها، إما كما هو على سبيل الوحي والإلهام والإلقاء في الروع والإعلام بمطالعة صورة الغيب المنتقشة هي بها منها، وإما على طريق الهتاف والإنهاء، وإما على صورة كتابة في صحيفة تطالعه منها وذلك بحسب جهة قبول لوح حسها المشترك واختصاصه بنوع بعض المحسوسات دون بعض للأحوال السابقة والاتفاقات العارضة. وقد يتراءى لها صور منها تناسبها في الحسن واللطافة فيتجسد لها إما بقوة تخيلها وظهورها في حسها المشترك لاستحكام الاتصال واستقراره ريثما تحاكيها المتخيلة، وإما بتمثيلها في متخيلة الكل التي هي السماء الدنيا وانطباعها في متخيلتها بالانعكاس كما فيما بين المرايا المتقابلة فتخاطبها بصورة الغيب شفاها على ما يرى في المنامات الصادقة من غير فرق، فإن الرؤيا الصادقة والوحي كلاهما من واد واحد لا تباين بينهما إلا بالنوم واليقظة، فإن صاحب الوحي يقدر على الغيبة من الحواس وإدراكاتها وعزلها عن أفعالها وتعطيلها في استعمالها فيتصل بالمجردات العلوية لقوة نفسه وحصول ملكة الاتصال لها، وصاحب الرؤيا الصادقة يقع له ذلك بحكم الطبع وتلك الرؤيا هي التي لا تحتاج إلى تعبير كما أشار إليه من رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن بقوله:
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون
[الفتح، الآية: 27] ولهذا جعل الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة، وكانت مقدمة وحيه المنامات الصادقة ستة أشهر ثم استحكمت وصارت إلى اليقظة. وقد تنتقل المتخيلة في الحالتين، أي: النوم واليقظة، إلى اللوازم ، فيقع الاحتياج إلى التعبير والتأويل وقد يظهر على تلك النفس المتدربة بملكة الاتصال المتمرنة فيها من خوارق العادات وأنواع الكرامات والمعجزات لوصول المدد من عالم القدرة ما ينكره من لا يعلمه من المحجوبين بالعادة وأصحاب قسوة القلوب والجفوة والمحجوبين بالعقول الناقصة المشوبة بالوهم القاصرة عن بلوغ الحد وإدراك الحق، ويقبله من تنور قلبه بنور الهداية وعصم عن الضلالة والغواية استبصارا وإيقانا أو سلمت فطرته عن الحجب المظلمة والغباوة وخلصت عن الجهالة والغشاوة تقليدا وإيمانا للين قلبه بالإرادة وقوة قبوله للصقالة، وذلك إما بتأييد نفسه من عالم الملكوت وتقويها بمبدأ الأيد والقوة كما قال علي عليه السلام عند قلعه باب خيبر: " والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، ولكن قلعته بقوة ملكوتية ونفس بنور ربها مضية ". وإما بصدور ذلك عن تلك النفوس الملكوتية والمبادئ الجبروتية التي اتصل هو بها لإجابة دعوته بإطاعة الملكوت له بإذن الله تعالى وأمره وتقديره وحكمه وتسخيره. وقد دلت الآية على تمثل الملائكة لخليل الله عليه الصلاة والسلام وتجسدها على الحالات الثلاث: مخاطبتها إياه بالغيب الذي هو البشرى بوجود الولد، وإهلاك قوم لوط وإنجائه وتأييده بهم في خرق العادة من ولادة العجوز العقيم من الشيخ الفاني وتأثيرهم في إهلاك قوم لوط وتدميرهم بدعائه والله أعلم بحقائق الأمور.
[11.84-95]
{ إني أراكم بخير } لما رأى شعيب عليه السلام ضلالتهم بالشرك واحتجابهم عن الحق بالجبت، وتهالكهم على كسب الحطام بأنواع الرذائل وتماديهم في الحرص على جمع المال بأسوأ الخصال منعهم عن ذلك وقال: إني أراكم بخير في استعدادكم من إمكان حصول كمال وقبول هداية فإني أخاف عليكم إحاطة خطيئاتكم بكم لاحتجابكم عن الحق ووقوفكم مع الغير وصرف أفكاركم بالكلية إلى طلب المعاش وإعراضكم عن المعاد، وقصور هممكم على إحراز الفاسدات الفانيات عن تحصيل الباقيات الصالحات، وانجذابكم إلى الجهة السفلية عن الجهة العلوية، واشتغالكم بالخواص البهيمية عن الكمالات الأنسية، فلازموا التوحيد والعدالة واعتزلوا عن الشرك والظلم الذي هو جماع الرذائل وأم الغوائل { ولا تعثوا } في إفسادكم أي: ولا تبالغوا ولا تمادوا في غاية الإفساد فإن الظلم هو الغاية في ذلك كما أن العدل هو الغاية في الصلاح وجماع الفضائل.
{ بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } أي: إن كنتم مصدقين ببقاء شيء فما يبقى لكم عند الله من الكمالات والسعادات الأخروية والمقتنيات العقلية والمكاسب العلمية والعملية خير لكم من تلك المكاسب الفانية التي تشقون بها وتشقون على أنفسكم في كسبها وتحصيلها ثم تتركونها بالموت ولا يبقى منها معكم شيء إلا وبال التبعات والعذاب اللازم لما في نفوسكم من رواسخ الهيئات. ولما شاهد إنكارهم وعتوهم في العصيان، واستهزاءهم بطاعته، وزهده وتوحيده وتنزهه بقولهم: { أصلاتك } إلى آخره.
{ قال يا قوم أرأيتم } أي: أخبروني { إن كنت على } برهان يقيني على التوحيد { من ربي ورزقني منه رزقا حسنا } من الحكمة العلمية والعملية والكمال والتكميل بالاستقامة في التوحيد، هل يصح لي أن أترك النهي عن الشرك والظلم والإصلاح بالتزكية والتحلية؟. وحذف جواب: أرأيتم، لما دل عليه في مثله كما مر في قصة نوح وصالح عليهما السلام وعلى خصوصيته ههنا من قوله: { وما أريد أن أخالفكم } إلى آخره، أي: أن أقصد إلى أجر المنافع الدنيوية الفانية بارتكاب الظلم الذي أنهاكم عنه { إن أريد إلا } إصلاح نفسي ونفوسكم بالتزكية والتهيئة لقبول الحكمة ما دمت مستطيعا وما كوني موفقا للإصلاح { إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب }.
{ قالوا يا شعيب ما نفقه } إنما لم يفقهوا لوجود الرين على قلوبهم بما كسبوا من الآثام وإنما منعهم خوف رهطه من رجمه دون خوف الله تعالى لاحتجابهم بالخلق عن الحق المسبب عن عدم الفقه كقوله تعالى:
لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون
[الحشر، الآية: 13].
[11.96-111]
{ فمنهم شقي وسعيد } لما أطلق الشقي والسعيد منكرين للتعظيم دل على الشقي والسعيد الأزليين الأبديين، ولما وصفهم في التقسيم التفصيلي استثنى عن خلود الشقي في النار وخلود السعيد في الجنة بقوله: { إلا ما شاء ربك } لأن المراد بالنار والجنة عذاب النفس بنار الحرمان عن المراد وآلام الهيئات والآثار وثواب النفس بجنة حصول المرادات واللذات وبالاستثناء عن الخلود فيهما خروج الشقي منها إلى ما هو أشد منه من نيران القلب في حجب الصفات والأفعال بالسخط والطرد والإذلال والإهانة، ونيران الروح بالحجب واللعن والقهر وخروج السعيد منها إلى ما هو ألذ وأطيب من جنان القلب في مقام تجليات الصفات بالرضوان واللطف والإكرام والإعزاز وجنان الروح في مقام الشهود باللقاء وظهور سبحات الجلال، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكون الشقي في مقابلة السعيد وخروج السعيد من الجنة إلى النار محال، وقد دل عليه بقوله: { عطاء غير مجذوذ } أي: غير مقطوع، فكذا ما يقابله على أن قوله تعالى: { فعال لما يريد } يشعر بذلك لكونه وعيدا شديدا. هذا لسان الأدب ومراعاة الظواهر في تحقيق البواطن، وأما الحقيقة فتحكم بأن الشقي لما كان في المراتب المذكورة في النار لم يخرج منها بل انتقل من طبقة منها إلى طبقة أخرى ومن دركة إلى دركة فكان في حكم الخلود فالمراد بالاستثناء غيره وهو أنه من حيث الأحدية مع ربه والرب آخذ بناصيته على صراط مستقيم يقوده ريح الدبور - التي هي هوى نفسه - يسوقه إلى جهنم، فهو هنالك في عين القرب مع هوى نفسه فيتلذذ بما يوافقه فتصير عين النعيم، فزال مسمى النار في حقه وصار جنة لتلذذه به وإن كان بعيدا عن نعيم السعيد كما جاء في الحديث:
" سينبت في قعر جهنم الجرجير "
وفيه:
" يأتي على جهنم زمان يصفق أبوابها ليس فيها أحد "
وكذا السعيد، فإن انتقاله في الجنان ودرجاتها والخروج بحكم الاستثناء غير ذلك فهو بفنائه في أحدية الذات واحتراقه بلوعة العشق في سبحات الجمال حيث كان الحق شاهدا ومشهودا لا في مقام المشاهدة بوجود الروح بل بالشهود الذاتي الأحدي الذي لم يبق فيه لغيره عين ولا أثر ولا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وإن جعل التنكير في قوله: { شقي وسعيد } للنوعية لا للتعظيم، جاز تأويل خروج الشقي من الناء بالترقي إلى الجنة من مقامه بزكاء نفسه عن الهيئات المظلمة وتبعات المعاصي وحينئذ لا يكون شقي الأبد.
[11.112-113]
{ فاستقم كما أمرت } في القيام بحقوق الله بالله، فإنه عليه الصلاة والسلام مأمور بمحافظة حقوق الله والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه بضبط أحكام التجليات الصفاتية بعد الرجوع إلى الخلق مع شهود الوحدة الذاتية بحيث لا يتحرك ولا يسكن ولا ينطق ولا يتفكر إلا به من غير ظهور تلوين من بقايا صفاته أو ذاته ولا يخطر له خاطر بغيره من غير إخلال بشرط ما من شرائط التعظيم كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أفلا أكون عبدا شكورا؟ "
حين تورمت قدماه من قيام الليل وقيل له: أما بشرك الله بقوله:
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح، الآية: 2]؟، ولا بدقيقة من باب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف والإنذار والدعوة وذلك في غاية الصعوبة. ولهذا قال:
" " شيبتني سورة هود ". قيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض العرفاء في المنام، فسأله عن ذلك وقال: لماذا يا رسول الله؟ ألقصص الأنبياء وما نزل بأممهم المكذبين من العذاب وما كانوا يقاسون من أممهم؟، قال: لا، بل لقوله تعالى: { فاستقم كما أمرت }. "
{ ومن تاب } عن أنيته وذنب وجوده { معك } من الموحدين الواصلين إلى شهود الكثرة في عين الوحدة ومقام البقاء بعد الفناء { ولا تطغوا } بالاحتجاب بحجاب الأنائية ونسبة الكمالات الإلهية المطلقة إلى أنائيتكم المشخصة المقيدة برؤيتها لكم، الموجبة للاحتجاب بالتقيد عن الإطلاق، فإن الهوية الإلهية لا تتقيد بإشارة الهذية والأنائية { إنه بما تعملون بصير } أتعملونه بي أم بأنفسكم؟.
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } أي: أشركوا بهوى كامن، ناشئ عن وجود بقية خفية أو التفات خفي إلى إثبات غيره، فإنه هو الزيغ المقارن للطغيان في قوله:
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم، الآية: 17]، { فتمسكم } نار السخط والحرمان بالاحتجاب والتعذيب بالفراق من نيران غيرة المحبوب، كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
" بشر المذنبين بأني غفور، وأنذر الصديقين بأني غيور "
ولهذا المعنى قال:
" والمخلصون على خطر عظيم "
فإن دقائق ذنوب أحوالهم أدق من أن تدرك بالعقل وأشد عقابا من أن تتوهم بالوهم { وما لكم } حينئذ { من دون الله من أولياء يتولونكم من عقابه ويدبرون أموركم ويربونكم { ثم لا تنصرون } من بأسه، وهذا تهديد لأوليائه فكيف بأعدائه.
[11.114-117]
{ وأقم الصلاة طرفي النهار } لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب بما يرد عليه من الهيئات الجسمانية، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية، وتحجبه عن النور، والحضور بالإعراض عن جناب القدس والتوجه إلى معدن الرجس، وتبدله الوحشة بالأنس، والكدورة بالصفاء، فرضت خمس صلوات يتفرغ فيها العبد للحضور ويسد أبواب الحواس لئلا يرد على القلب شاغل يشغله ويفتح باب القلب إلى الله تعالى بالتوجه والنية لوصول مدد النور ويجمع همه عن التفرق ويستأنس بربه عن التوحش مع اتحاد الوجهة، وحصول الجمعية، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب مفتوحة للقلب على جناب الرب يدخل بها عليه النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى جناب الغرور ودار اللعين الغرور التي تدخل بها الظلمة ليذهب النور الوارد آثار ظلماتها ويكسح غبار كدوراتها، وهذا معنى قوله: { إن الحسنات يذهبن السيئات } وقد ورد في الحديث:
" إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر "
وأمر بإقامتها في طرفي النهار لينسحب حكمها ببقاء الجمعية واستيلاء الهيئة النورية في أوله إلى سائر الأوقات، فعسى أن يكون من:
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج، الآية: 23] لدوام ذلك الحضور، وبقاء ذلك النور يكسح ويزيل في آخره ما حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة. ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر الغذاء سلطانها في الليل وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني وتحجزها عن شأنها الخاص بها الذي هو مطالعة الغيب ومشاهدة عالم القدس يشغلها باستعمال آلات الغذاء لعمارة الجسد، فتسلبها اللطافة والطراوة وتكدرها بالغشاوة. واحتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة وتنويرها وتطريتها بالصلاة فقال: { وزلفا من الليل } ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المذكورة وإذهاب السيئات بالحسنات تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله في الصفاء والجمعية والأنس والذوق { واصبر } بالله في الاستقامة ومع الله في الحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } الذين يشاهدونه في حال القيام بحقوق الاستقامة ومراعاة العدالة والقيام بشرائط التعظيم في العبادة.
[11.118-119]
{ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد ومقتضى الفطرة { ولا يزالون مختلفين } في الوجهة والاستعداد { إلا من رحم ربك } بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال، فإنهم متفقون في المذهب والمقصد وموافقون في السيرة والطريقة، قبلتهم الحق، ودينهم التوحيد والمحبة { ولذلك } الاختلاف { خلقهم } ليستعد كل منهم لشأن وعمل، ويختار بطبعه أمرا وصنعة، ويستتب بهم نظام العالم، ويستقيم أمر المعاش، فهم محامل لأمر الله حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره. { وتمت كلمة ربك } أي: أحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها.
[11.120-123]
{ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } أي: لما أطلعناك على مقاساتهم الشدائد من أمتهم مع ثباتهم في مقام الاستقامة وعدم مزلتهم عنه وعلى معاتباتهم عند تلويناتهم وظهور شيء من بقياتهم كما في قصة نوح عليه السلام من سؤال إنجاء الولد، وعلى قوة ثباتهم وشجاعتهم في يقينهم وتوكلهم كما في قصة هود عليه السلام من قوله:
إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون
[هود، الآية: 54] إلى قوله:
على صراط مستقيم
[هود، الآية: 56]، وعلى كمال كرمهم وفضيلتهم في العتو كما في قصة لوط عليه السلام من تفدية البنات لحفظ الأضياف من السوء، ثبت قلبك في ذلك كله واستحكمت استقامتك وقوي تمكينك بذهاب آثار التلوين عنك وقوي توكلك ورضاك ويقينك وشجاعتك، وكمل خلقك وكرمك { وجاءك في هذه } السورة { الحق } أي: ما يتحقق به اعتقاد المؤمنين { وموعظة } لهم يحترزون بها عما أهلك به الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به ويجعلوه طريقهم وسيرتهم والله أعلم.
[12 - سورة يوسف]
[12.1-3]
{ الر تلك آيات الكتاب المبين } مر ذكره { أحسن القصص } لكون لفظه وتركيبه إعجازا، وظاهر معناه مطابقا للواقع وباطنه دالا على صورة السلوك وبيان حال السالك كالقصص الموضوعة لذلك وأشد طباقا، وأحسن وفاقا منها.
[12.4-6]
{ يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا } إلى آخره، هذه من المنامات التي ذكرنا في سورة (هود) أنها تحتاج إلى تعبير لانتقال المتخيلة من النفوس الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له إلى الكواكب والشمس والقمر وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } هذا من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية على الوجه الكلي العالي عن الزمان في الروح ويصل أثره إلى القلب ولا يتشخص في النفس مفصلا حتى يقع العلم به كما هو فيقع في النفس منه خوف واحتراز، إن كان مكروها، وفرح وسرور إن كان مرغوبا. ويسمى هذا النوع من الإلهام: إنذارات وبشارات، فخاف عليه السلام من وقوع ما وقع قبل وقوعه، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازا. ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته وزيادة قدره على إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك.
{ وكذلك يجتبيك ربك } أي: مثل ذلك الاصطفاء بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن، يصطفيك للنبوة إذ الرؤيا الصادقة، خصوصا مثل هذه من مقدمات النبوة، فعلم من رؤياه أنه من المحبوبين الذين يسبق كشوفهم سلوكهم { ويتم نعمته عليك } بالنبوة والملك.
[12.7-18]
{ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين } أي: آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها تدلهم أولا على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى لا يتعلق بسعي ساع ولا إرادة مريد، فيعلمون مراتب الاستعدادات في الأزل. وثانيا: على أن من أراد الله به خيرا لم يكن لأحد دفعه ومن عصمه الله لم يكن لأحد رميه بسوء ولا قصده بشر، فيقوى يقينهم وتوكلهم ويشهدون تجليات أفعاله وصفاته. وثالثا: على أن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد حتى الأنبياء، فيكونون منه على حذر، وأقوى من ذلك كله أنها تطلعهم من طريق الفهم الذي هو الانتقال الذهني على أحوالهم في البداية والنهاية وما بينهما وكيفية سلوكهم إلى الله فتثير شوقهم وإرادتهم وتشحذ بصيرتهم وتقوي عزيمتهم وذلك أن مثل يوسف مثل القلب المستعد الذي هو في غاية الحسن، المحبوب، المرموق إلى أبيه يعقوب العقل، المحسود من إخوته من العلات، أي: الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والغضب والشهوة بنى النفس إلا الذاكرة، فإنها لا تحسده ولا تقصده بسوء، فبقيت إحدى عشرة على عددهم. وأما حسدهم عليه وقصدهم بالسوء فهو أنها تنجذب بطبائعها إلى لذاتها ومشتهياتها وتمنع استعمال العقل القوة الفكرية في تحصيل كمالات القلب من العلوم والأخلاق وتكره ذلك ولا تريد إلا استعماله إياها في تحصيل اللذات البدنية ومشتهيات تلك القوى الحيوانية. ولا شك أن الفكر نظره إلى القلب أكثر، وميله إلى تحصيل السعادات القلبية من العلوم والفضائل أشد وأوفر، وذلك معنى قولهم: { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } وأخوه هو: القوة العاقلة العملية من أم يوسف القلب التي هي راحيل النفس اللوامة التي تزوجها يعقوب القلب بعد وفاة ليا النفس الأمارة، وإنما قالوا { ليوسف وأخوه } لأن العقل كما يقتضي تكميل القلب بالعلوم والمعارف يقتضي تكميل هذه القوة باستنباط أنواع الفضائل من الأخلاق الجميلة والأعمال الشريفة ونسبتهم إياه إلى الضلال الذي هو البعد عن الصواب بقولهم: { إن أبانا لفي ضلال مبين } قصورها عن النظر العقلي وبعد طريقه عن طريقتها في تحصيل الملاذ البدنية وإلقاؤهم إياه في غيابة الجب استيلاؤها على القلب وجذبها إياه إلى الجهة السفلية بحدوث محبة البدن وموافقاته له حتى ألقي في قعر جب الطبيعة البدنية، إلا أنه ألبس قميصا من الجنة أتى به جبريل إبراهيم عليهما السلام يوم جرد وألقي في النار، فألبسه إياه وورثه إسحاق وورثه منه يعقوب فعلقه في تميمة على عنقه، فأتاه جبريل عليه السلام في البئر فأخرجه وألبسه إياه، وإلا لغمره الماء وظهرت عورته، كما قيل. وهو إشارة إلى صفة الاستعداد الأصلي والنور الفطري وذلك هو الذي منع إبراهيم عن النار وحماه بإذن الله حتى صارت عليه بردا وسلاما.
واستنزالها العقل إلى الفكر في باب المعاش وتحصيل أسبابه والتوجه نحوه هو معنى قولهم:
{ يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين } أي: في ترتيب المعاش وتهيئة أسبابه على حسب المراد. ومراودتها للعقل عن القلب بالتسويلات الشيطانية والتعزيرات النفسانية مع كراهية العقل لذلك هو معنى قولهم عند مراودة يعقوب عنه: { أرسله معنا غدا يرتع ويلعب } وافتراؤهم على الذئب هو أن القوة الغضبية إذا ظهرت واستشاطت حجبت القلب بالكلية عن أفعاله الخاصة به. والظاهر من حالها أنها أقوى إضرارا به وإبطالا لفعله وحجبا له الذي هو معنى الأكل مع أن القوة الشهوانية والحواس وسائر القوى أشد نكاية في القلب وأضر به في نفس الأمر وأجذب له إلى الجهة السفلية وأشد إباء وامتناعا من قبول السياسات العقلية وطاعة الأوامر والنواهي الشرعية وإذعان القلب بالموافقة في طلب الكمالات الروحية منها، وظهور ذلك الأثر من القوة الغضبية مع كونه بخلاف ذلك في الحقيقة هو الدم الكاذب على قميصه وابيضاض عين يعقوب في فراقه عبارة عن كلال البصيرة وفقدان نور العقل عند كون يوسف القلب في غيابة جب الطبيعة، وبعض السيارة الذي أخرجه من البئر هو القوة الفكرية وشراؤه من عزيز مصر.
{ بثمن بخس دراهم معدودة } تسليمهم له إلى عزيز الروح الذي هو من مصر مدينة القدس بما يحصل للقوة الفكرية من المعاني والمعارف الفائضة عليها من الروح عند استنارتها بنوره وقربها منه، فإن القوة الفكرية لما كانت قوة جسمانية، والقلب ليس بجسماني، لم تصل إلى مقامه إلا عند كونه مغشى بغشاوات النفس في مقام الصدر أي: الوجه الذي يلي النفس منه. وأما إذا تجرد في مقام الفؤاد أو وصل إلى مقام الروح الذي سموه السر فتتركه عند عزيز الروح وتسلمه إليه وتفارقه على الدريهمات التي تحصل لها بقربه من المعاني المذكورة.
[12.19-21]
وامرأة العزيز المسماة زليخاء التي أوصى إليها به بقوله: { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } هي النفس اللوامة التي استنارت بنور الروح ووصل أثره إليها ولم تتمكن في ذلك ولم تبلغ إلى درجة النفس المطمئنة وتمكين الله إياه في الأرض إقداره بعد التزكية والتنور بنور الروح على مقاومة النفس والقوى وتسليطه على أرض البدن باستعمال آلاته في تحصيل الكمالات وسياستها بالرياضات حتى يخرج ما في استعداده من الكمال إلى الفعل كما قال: { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } أي: ولنعلمه فعلنا ما فعلنا به من الإنجاء والتمكين { والله غالب على أمره } بالتأييد والتوفيق والنصر حتى يبلغ غاية كمال أشده من مقامه الذي يقتضيه استعداده فيؤتيه العلم والحكمة كما قال: { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما } والأشد هو نهاية الوصول إلى الفطرة الأولى بالتجرد عن غواشي الخلقة الذي نسميه مقام الفتوة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن الأمر بيد الله في ذلك، فيضيفون إلى السعي والاجتهاد والتربية، ولا يعلمون أن السعي والاجتهاد والتربية والرياضة أيضا من عند الله جعلها الله أسبابا ووسايط لما قدره ولذلك لم يعزلها.
[12.22-29]
وقال بعد قوله: { آتيناه حكما وعلما }. { وكذلك نجزي المحسنين } في الطلب والإرادة والاجتهاد والرياضة، ومراودة زليخاء إياه عن نفسه وتغليقها الأبواب عليه إشارة إلى ظهور النفس اللوامة بصفتها. فإن التلوين في مقام القلب يكون بظهور النفس كما أن التلوين في مقام الروح يكون بوجود القلب وجذبها للقلب إلى نفسها بالتسويل والاستيلاء عليه وتزيين صفاتها ولذاتها، وسدها طرق مخرجه إلى الروح بحجبها مسالك الفكر ومنافذ النور بصفاتها الحاجبة وهمه بها ميل القلب إليها لعدم التمكين والاستقامة ورؤيته لبرهان ربه إدراك ذلك التلوين بنور البصيرة ونظر العقل كما قيل في القصة: تراءى له أبوه، فمنعه أو صوت به، وقيل: ضرب بكفه في نحره فخرجت شهوته من أنامله وذهبت، كل ذلك إشارة إلى منع العقل إياه عن مخالطة النفس بالبرهان ونور البصيرة والهداية وتأثيره فيه بالقدرة والأيد النوري الموجب لذهاب شهوتها وظلمتها النافذ فيها إلى أطرافها المزيل عنها بالهيئة النورية الهيئة الظلمانية، وقد قميصه من دبر إشارة إلى خرقها لباس الصفة النورية التي له من قبل الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة بتأثيرها في القلب بصفتها، فإنها صفة يكسبها القلب بالجهة التي تلي النفس المسماة بالصدر وهو الدبر لا محالة.
وقوله: { ألفيا سيدها لدى الباب } إشارة إلى ظهور نور الروح عند إقبال القلب إليه بواسطة تذكر البرهان العقلي وورود الوارد القدسي عليه، واستتباعه للنفس وهي تنازعه بالجذب إلى جهتها واستيلائه على القلب ثم على النفس بواسطته. وقولها: { ما جزاء من أراد بأهلك سوء } تلويح إلى أن النفس تسول أغراضها في صور المصالح العقلية وتزينها بحيث تشتبه مفاسدها بالمصالح العقلية التي يجب على العقل مراعاتها والقيام بها وموافقتها فيها ومخالفته إياها فيها إرادة السوء بها ومقابحها بالمحاسن التي تتعلق بالمعاش كمماكرة النساء بالرجال وميل القلب إلى الجهة العلوية يكذب قولها ودعواها، والشاهد الذي شهد من أهلها قيل كان ابن عم لها، أي: الفكر الذي يعلم أن الفساد الواقع من جهة الأخلاق والأعمال لا يكون غلا من قبل النفس واستيلائها، إذ لو كان من جهة القلب وميله إلى النفس لوقع في الاعتقاد والعزيمة لا في مجرد العمل. وقيل كان ابن خالتها، أي: الطبيعة الجسمانية التي تدل على الميل السفلي في النفس الجاذب للقلب من جهة الصدر المباشر للعمليات إلى أرض البدن وموافقاته واطلاع الروح بنور الهداية، على أن الخلل وقع في العمل لا في العقد والعزيمة وذلك لا يكون إلا من قبل الداعية النفسانية، وهو معنى قوله:
{ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم }.
وقوله: { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك } إشارة إلى إشراق نور الروح على القلب وانجذابه إلى جانبه للنازل النوري والخاطر الروحي الذي يصرفه عن جهة النفس ويأمره بالإعراض عن عملها ويذكره لئلا يحدث الميل مرة أخرى. وتأثير ذلك الوارد والخاطر في النفس بالتنوير والتصفية فإن تنورها بنور الروح المنعكس إليها من القلب استغفارها عن الهيئة المظلمة التي غلبت بها على القلب.
[12.30-33]
ولما بلغ القلب هذا المنزل من الاتصال بالروح والاستشراق من نوره وتنورت النفس بشعاع نور القلب وتصفت عن كدوراتها عشقته للاستنارة بنوره، والتشكل بهيئته، والتقرب إليه، وإرادة الوصول إلى مقامه لا لجذبه إلى نفسه وقضاء وطرها منه باستخدامها إياه في تحصيل اللذات الطبيعية واستنزالها إياه عن مقامه ومرتبته إلى مرتبتها ليتشكل بهيئتها ويشاركها في أفعالها ولذاتها، كما كانت عند كونها أمارة فتتأثر قواها حينئذ حتى القوى الطبيعية بتأثرها، وذلك معنى قول نسوة المدينة:
{ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا } وكلما استولى القلب عليها بهيئته النورية وحسنه الذاتي الفطري والصفاتي الكسبي من الترقي إلى مجاورة الروح إياه، فشغلت عن أفعالها وتحيرت ووقفت عن تصرفاتها في الغذاء وذهلت عن سكاكين آلاتها التي كانت تدبر بها أمر التلذذ والتغذي والتفكه، وجرحت قدرتها التي تستعمل بها الآلات في تصرفاتها وبقيت مبهوتة في متكآتها التي هي محالها في أعضاء البدن التي هيأتها لها النفس في قراها وهو معنى قوله: { فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } وقولها: { أخرج عليهن } استجلاؤها لنوره بالإرادة واقتضاؤها طلوعه عليها بحصول استعداد التنور لها. ولما انخرطت النفس في سلك إرادة القلب، وقلت منازعتها إياه في عزيمة السلوك، وتمرنت لمطاوعته حان وقت الرياضة بالدخول في الخلوة لتجرد القلب حينئذ عن علائقه وموانعه وتجريده عزمه بانتفاء التردد إذ بتردد العزم بانجذابه إلى جهة النفس تارة وإلى جهة الروح أخرى لا تمكن الرياضة ولا السلوك ولا تصح الخلوة لفقدان الجمعية التي هي من شرطها وهذه الرياضة ليست رياضة النفس بالتطويع فإنها لا تحتاج إلى الخلوة بل إلى ترك ارتكاب المخالفات والإقدام على كسرها وقهرها بالمقاومات من أنواع الزهد والعبادة إنما هي رياضة القلب بالتنزه عن صفاته وعلومه وكمالاته وكشوفه في سلوك طريق الفناء وطلب الشهود واللقاء وذلك بعد العصمة من استيلاء النفس عليه كما قالت: { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } طلب العصمة من نفسه واستزادها { ولئن لم يفعل ما آمره } من إيفاء حظي ليمنعن من اللذات البدنية وروح الهوى والمدركات الحسية بالخلوة والانقطاع عنها { وليكونا من الصاغرين } لفقدان كرامته وعزته عندنا واختذالنا عنه واعتزاله عن رياسة الأعوان والخدم في البدن. ولما حببت إليه الخلوة كما حببت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند التحنث في حراء.
{ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } وإنما قال: { مما يدعونني إليه } ، ودعا ربه أن يصرف عنه كيدهن بقوله: { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } لأن في طباعها الميل إلى الجهة السفلية وجذب القلب إليها وداعية استنزاله إليها بحيث لا يزول أبدا، وتنورها بنوره وطاعتها له أمر عارضي لا يدوم والقلب يمدها في أعمالها دائما فإنه ذو طبيعتين وذو وجهين ينزع بإحداهما إلى الروح وبالأخرى إلى النفس، ويقبل بوجه إلى هذه وبوجه إلى هذه، فلا شيء أقرب إليه من الصبوة إليها بجهالته لو لم يعصمه الله بتغليب الجهة العليا وإمداده بأنوار الملأ الأعلى كما قال النبي عليه السلام:
" " اللهم ثبت قلبي على دينك " ، قيل له: أو تقول ذلك وأنت نبي يوحى إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: " وما يؤمنني إن مثل القلب كمثل ريشة في فلاة تقلبها الرياح كيف شاءت " "
وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أبدا.
[12.34-36]
{ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } أي: أيده بالتأييد القدسي وقواه بالإلقاء السبوحي فصرف وجهه عن جناب الرجس إلى جناب القدس، ودفع عنه بذلك كيدهن { إنه هو السميع } لمناجاة القلب في مقام السر { العليم } بما ينبغي أن يفعل به عند افتقاره إليه.
{ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه } أي: ظهر لعزيز الروح ونسوة النفس والقوى وأعوان الروح من العقل والفكر وغيرهما رأي متفق عليه من جميعها وهو ليسجننه، أي: ليتركنه في الخلوة التي هي أحب إليه. أما الروح فلقهره إياه بنور الشهود ومنعه عن تصرفاته وصفاته، وأما النفس وسائر القوى فلامتناعها عن استجذابه إليها من بعدما رأوا آيات العصمة وصدق العزيمة وعدم الميل إليها وبهره عليها بنوره وإخلاصه في الافتقار إلى الله وإلا لما خلته وشأنه في الخلوة، وأما الوهم فلانهزامه عن نوره وفراره من ظله عند التصلب في الدين والتعود بالحق. وأما العقل فلتنوره بنور الهداية، وأما الفكر فلحصول سلطانه في الخلوة، والفتيان اللذان دخلا معه السجن أحدهما قوة المحبة الروحية اللازمة له وهو شرابي الملك الذي يسقيه خمر العشق كما قيل في القصة: إنه كان شرابيه، والثاني: هوى النفس التي لا تفارقه أيضا بحال، فإن الهوى حياة النفس الفائضة إليها منه لاستبقائها وهو خباز الملك الذي يدبر الأقوات في المدينة كما قيل وهما يلازمانه في الخلوة دون غيرهما. ومنام الشرابي في قوله: { إني أراني أعصر خمرا } اهتداء قوة المحبة إلى عصر خمر العشق من كرم معرفة القلب في نوم الغفلة عن الشهود الحقيقي ومنام الخباز في قوله: { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } توجه الهوى بكليته إلى تحصيل لذات طير القوى النفسانية وحظوظها وشهواتها، وشبهت بالطير في جذب ما تجذبه من الحظوظ لسرعة حركتها نحوه.
[12.37-40]
وقوله: { لا يأتيكما طعام ترزقانه } الخ، إشارة إلى منعه إياهما عن حظوظهما إلا بعد تبيينه لهما ما يؤول إليه أمرهما من شأنهما الذي يجب لهما القيام به بالسياسة والتسديد والتقويم والإصلاح وإظهار التوحيد لهما بقوله: { إني تركت } إلى آخره، بعثه إياهما على القيام بالأمر الإلهي الضروري وترك الفضول والامتناع عن تفرق الوجهة وتشتت الهم، فإن خاصية الهوى التفرقة والتوزع وتعبد الشهوات المختلفة للقوى المتنازعة، وخاصية المحبة في البداية وقبل الوصول إلى النهاية التعلق بحسن الصفات والتعبد لها دون جمال الذات، فدعاهما إلى التوحيد بقوله: { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } أي: المشركين، العابدين لأوثان صفات النفس بل لوجود القلب وصفاته { وهم بالآخرة } أي: وهم عن البقاء في العالم الروحاني محجوبون، وبقوله: { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }.
وبقوله: { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } أي: إذا كان لكل منكما أرباب كثيرة كما قال تعالى:
فيه شركآء متشاكسون
[الزمر، الآية: 29] يأمره هذا بأمر وهذا بأمر متمانعون في ذلك، عاجزون إما للمحبة فكالصفات والأسماء، وإما للهوى فكالقوى النفسانية كان خيرا له أم رب واحد لا يأمره إلا بأمر واحد، كما قال:
ومآ أمرنآ إلا واحدة
[القمر، الآية: 50]، قهار، قوي، يقهر كل أحد، لا يمانعه في أمره شيء، ولا يمتنع عليه. وأجبرهما بالسياسة على اتحاد الوجهة، فإن القلب إذا غلبت عليه الوحدة امتنعت محبته عن حب الصفات وانصرفت إلى الذات، وإذا تمرن في التوحيد انقمع هواه عن تعبد الحظوظ والشهوات والتفرق في تحصيل اللذات واقتصر على الحقوق والضرورات بأمر الحق لا بطاعة الشيطان.
[12.41-42]
وقوله: { أما أحدكما فيسقي ربه خمرا } تعيين لشأن الأول بعد السياسة بالمنع عن الشرك وهو تسليط حب اللذات على الروح { وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه } بيان لما يؤول إليه أمر الثاني. وصلبه: منعه عن أفعاله بنفسه وقمعه عن مقتضاه وتثبيته وتقريره على جذع القوة الطبيعية النباتية بحيث لا تصرف للمتخيلة فيه ولا له فيها ولا في سائر القوى الحيوانية وذلك هو إماتة الهوى، فتأكل بعد الإماتة والصلب طير قوى النفس من رأسه بأمر الحق وهو الوقوف مع الحقوق { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } أي: ثبت واستقر أمركما على هذا وذلك وقت وصوله وتقربه من الله وأوان ظهور مقام الولاية بالفناء في الله. وإذا تمكنت القوتان فيما عينه لهما من الأمر ثم تم أمره بالوصول إلى مقام الشهود الذاتي وانقضت خلوته، فإن طول مدة السجن هو امتداد سلوكه في الله، فإذا تم له الفناء استوى أمر القوتين لكونهما بالله حينئذ لا بنفسهما وانتهى زمان الخلوة بابتداء زمان البقاء بالوجود الحقاني، ولكن لم يتم بعد لوجود البقية المشار إليها بقوله:
{ اذكرني عند ربك } أي: اطلب الوجود في مقام الروح بالمحبة والاستقرار فيه، فإن المحبة إذا أسكرت الروح بخمر العشق ارتقى الروح إلى مقام الوحدة والقلب إلى مقام الروح، ويسمى الروح في ذلك المقام خفيا والقلب سرا، وهو ليس بالفناء لكونهما موجودين حينئذ مغمورين بنور الحق. ومن الوقوف في هذا المقام ينشأ الطغيان والأنائية فلهذا قال: { فأنساه الشيطان ذكر ربه } أي: أنسى شيطان الوهم يوسف القلب ذكر الله تعالى بالفناء فيه لوجود البقية وطلبه مقام الروح وإلا ذهل عن ذكر نفسه ووجوده وللاحتجاب بهذا المقام وهذه البقية لبث { في السجن بضع سنين } وإليه اشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اذكرني عند ربك لما بقي في السجن بضع سنين "
، أو أنسى شيطان الوهم المقهور الممنوع المحجوب عن جناب الحق رسول المحبة المقرب عند ارتفاع درجته واستيلائه واستعلاء سلطانه، والتحير في الجمال الإلهي، والسكر الغالب ذكر يوسف القلب في حضرة الشهود لأن المحب المشاهد للجمال حيران ذاهل عن الخلق كله وتفاصيل وجوده بل نفسه مستغرق في عين الجمع حتى يتم فناؤه وينقضي سكره ثم يرجع إلى الصحو فيذكر التفصيل ثم لما انتهى فناؤه بالانغماس في بحر الهوية والانطماس في الذات الأحدية وانقضى زمان السجن أحياه الله تعالى بحياته ووهب له وجودا من ذاته وصفاته فأراه صورة التبديل في صفات النفس مدة اعتزاله عنها بالخلوة والسلوك في الله بصورة أكل البقرات العجاف السمان، وفي صفات الطبيعة البدنية بصورة استيلاء السنبلات اليابسة على الخضر.
[12.43-48]
والملك الذي قال، { إني أرى } قيل: هو ريان بن الوليد الذي ملك قطفير على مصر وولاه عليها لا العزيز المسمى قطفير، وإن كان العزيز بلسان العرب هو الملك فعلى هذا يكون الملك إشارة إلى العقل الفعال ملك ملوك الأرواح المسمى روح القدس، فإن الله تعالى لا يحيي أهل الولاية عند الفناء التام الذي هو بداية النبوة إلا بواسطة نفخه ووحيه وبالاتصال به تظهر التفاصيل في عين الجمع ولهذا قالوا لما دخل عليه كلمه بالعبرانية فأجابه بها وكان عارفا بسبعين لسانا فكلمه بها، فتكلم معه بكلها والملأ الذين قالوا: { أضغاث أحلام } هي القوى الشريفة من العقل والفكر المحجوب بالوهم والوهم نفسه المحجوبة عن سر الرياضة والتبديل، كما ترى المحجوبين بها الواقفين معها يعدون أحوال أهل الرياضات من الخرافات ورسول المحبة الذي ادكر بعد أمة إنما يذكر بواسطة ظهور ملك روح القدس وإيحائه وإراءته تفاصيل وجوده بالرجوع إلى الكثرة بعد الوحدة وإلا لكان فيه حالة الفناء ذاهبا في عين الجمع لا يرى فيها وجود القلب ولا غيره، فكيف يذكره إنما يدكره بظهوره بنور الحق بعد عدمه.
[12.49-57]
والعام الذي { فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } هو وقت تمتيعه للنفس عند الاطمئنان التام والأمن الكلي. وقول نسوة القوى { حاش لله ما علمنا عليه من سوء }.
وقول امرأة العزيز: { الآن حصحص الحق } إشارة إلى تنور النفس والقوى بنور الحق واتصافها بصفة الإنصاف والصدق وحصول ملكة العدالة بنور الوحدة وظهور المحبة حال الفرق بعد الجمع وكمال طمأنينة النفس لإقرارها بفضيلة القلب وصدقه وذنبها وبراءته فإن من كمال اطمئنان النفس اعترافها بالذنب واستغفارها عما فرط منها حالة كونها أمارة وتمسكها بالرحمة الإلهية والعصمة الربانية واستخلاص الملك إياه لنفسه استخلافه للقلب على الملك بعد الكمال التام، كما جاء في القصة: أجلسه على سريره وتوجه بتاجه وختمه بخاتمه وقلده بسيفه وعزل قطفير ثم توفى قطفير وزوجه الملك امرأته زليخا واعتزل عن الملك وجعله في يده و تخلى بعبادة ربه. كل ذلك إشارة إلى مقام خلافة الحق كما قال لداود:
إنا جعلناك خليفة في الأرض
[ص، الآية: 26]. وتوفي العزيز إشارة إلى وصول القلب إلى مقامه وذهاب الروح في شهوده للوحدة. وتزوجه بامرأة العزيز إشارة إلى تمتيع القلب النفس بعد الاطمئنان بالحظوظ فإن النفس الشريفة المتنورة تقوى بالحظوظ على محافظة شرائط الاستقامة وتقنين قوانين العدالة واستنباط أصول العلم والعمل وهما الولدان اللذان جاءا في القصة أنها ولدتهما منه افراثيم وميشا. وروي أنه لما دخل عليها قال لها: أليس هذا خيرا مما طلبت؟ فوجدها عذراء وهو إشارة إلى حسن حالها في الاطمئنان مع التمتيع ومراعاة العدالة، وكونها عذراء إشارة إلى أن الروح لا يخالط النفس لتقدسه دائما وامتناع مباشرته إياها، فإن مطالبه كلية لا تدرك جزئياتها بخلاف القلب وإنما كانت امرأته لتسلطه عليها ووصول أثر أمره وسلطانه إليها بواسطة القلب ومحكوميتها له في الحقيقة وسؤال التولية على خزائن الأرض ووصف نفسه بالحفظ والعلم هو أن القلب يدرك الجزئيات المادية ويحفظها دون الروح فيقتضي باستعداده قبول ذلك المعنى من الواهب الذي هو ملك روح القدس وتمكينه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء استخلافه بالبقاء بعد الفناء عند الوصول إلى مقام التمكين وهو أجر المحسن أي العابد لربه في مقام الشهود لرجوعه إلى التفصيل من عين الجمع { ولأجر الآخرة } أي: الحظ المعنوي بلذة شهود الجمال ومطالعة أنوار سبحات الوجه الباقي { خير للذين آمنوا } الإيمان العيني { وكانوا يتقون } بقية الأنائية.
[12.58-66]
ولما رجع إلى مقام التفصيل وجلس على سرير الملك للخلافة. جاءه إخوته القوى الحيوانية بعد طول مفارقته إياهم في سجن الرياضة والخلوة بمصر الحضرة القدسية والاستغراق في عين الجمع { فدخلوا عليه } متقربين إليه بوسيلة التأدب بآداب الروحانيين لاطمئنان النفس وتنورها وتنور تلك القوى بها وتدربها بهيئات الفضائل والأخلاق ممتارين لأقوات العلوم النافعة من الأخلاق والشرائع { فعرفهم } مع حسن حالهم وصلاحهم بالذكاء والصفاء وفقرهم واحتياجهم إلى ما يطلبون منه من المعاني { وهم له منكرون } لارتقائه عن رتبتهم بالتجرد واتصافه بما لا يمكنهم إدراكه من الأوصاف ولهذا استحضر القوة العاقلة العملية بقوله: { ائتوني بأخ لكم من أبيكم } إذ المعاني الكلية المتعلقة بالأعمال لا يدركها إلا تلك القوة. واعلم أن المحبوبين يسبق كشوفهم اجتهادهم فيعلمون قواهم الشرائع والأحكام ويسوسونها بعد الوصول وإن اطمأنت نفوسهم قبله.
وأما جهازهم الذي جهزهم به فهو الكيل اليسير من الجزئيات التي يمكنهم إدراكها والعمل بها، وقال: { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم } من المعاني الكلية الحاصلة { عندي ولا تقربون } لبعد رتبتكم عن رتبتي إلا بواسطته. ولما كانت العاقلة العملية إذا لم تفارق مقام العقل المحض إلى مقام الصدر لم يمكنها مرافقة القوى الحسية وإلقاؤها المعاني الجزئية الباعثة إياها على العمل وتحريك القوة النزوعية الشوقية نحو المصالح العقلية { قالوا سنراود عنه أباه } أي: بتصفية الاستعداد لقبول فيضه وقوله { لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } إشارة إلى أمر القلب فتيانه القوى النباتية عند تمتيع النفس حالة الاطمئنان بإيراد مواد قواهم التي يتقوون بها ويقتدرون على كسب كمالاتهم إذ هي بضاعتهم التي يمكنهم بها الامتياز، ورحالهم آلات إدراكاتهم ومكاسبهم { لعلهم } يعرفون قواهم وقدرهم على الاكتساب { إذا انقلبوا إلى أهلهم } من سائر القوى الحيوانية كالغضبية والشهوانية وأمثالهما { لعلهم يرجعون } إلى مقام الاسترباح والامتياز من قوت المعاني والعلوم النافعة بتلك البضاعة { فلما رجعوا إلى أبيهم } بتصفية الاستعداد والتمرن بهيئات الفضائل اقتضوه إرسال القوة العاقلة العملية معهم لإمدادهم في فضائل الأخلاق بالمعاني دائما، أي: استمدوا من فيضه { نكتل } أي: نستفد منه وإنا لا نستنزله إلى تحصيل مطالبنا فنهلكه كما فعلنا حالة الجاهلية بأخيه بل نحفظه بالتعهد له ومراعاته في طريق الكمال. وأخذ العهد منهم في إرساله معهم واستيثاقه عبارة عن تقديم الاعتقاد الصحيح الإيماني على العمل وإلزامهم ذلك العقد أولا وإلا لم يستقم حالهم في العمل ولم ينجح.
[12.67]
{ لا تدخلوا من باب واحد } أي: لا تسلكوا طريق فضيلة واحدة كالسخاوة مثلا دون الشجاعة أو لا تسيروا على وصف واحد من أوصاف الله تعالى فإن حضرة الوحدة هي منشأ جميع الفضائل والذات الأحدية مبدأ جميع الصفات، فاسلكوا طرق جميع الفضائل المتفرقة حتى تتصفوا بالعدالة فتتطرقوا إلى الحضرة الواحدية، وسيروا على جميع الصفات حتى يكشف لكم عن الذات. وقد ورد في الحديث: إن الله تعالى يتجلى على أهل المذاهب يوم القيامة في صورة معتقدهم فيعرفونه ثم يتحول إلى صورة أخرى فينكرونه { وما أغني عنكم من الله من شيء } أي: لا أدفع عنكم شيئا إن منعكم توفيقه وحجبكم ببعض الحجب عن كمالاتكم فإن العقل ليس إليه إلا إفاضة العلم لا إجادة الاستعداد ورفع الحجاب.
[12.68-76]
{ ولما دخلوا } أي: امتثلوا أمر العقل بسلوك طرق جميع الفضائل لم يغن عنهم من جهة الله { من شيء } أي: لم يدفع عنهم الاحتجاب بحجاب الجلال والحرمان عن لذة الوصال لأن العقل لا يهتدي إلا إلى الفطرة ولا يهدي إلا إلى المعرفة. وأما التنور بنور الجمال، والتلذذ بلذة الشوق بطلب الوصال، وذوق العشق بكمال الجلال والجمال، بل جلال الجمال وجمال الجلال فأمر لا يتيسر إلا بنور الهداية الحقانية { إلا حاجة في نفس يعقوب } هي تكميلهم بالفضيلة { وإنه لذو علم } لتعليم الله إياه لا ذو عيان وشهود { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك فيحسبون الكمال ما عند العقل من العلم أو ناس الحواس لا يعلمون علم العقل الكلي { آوى إليه أخاه } للتناسب بينهما في التجرد { جعل السقاية في رحل أخيه } مشربته التي يكيل بها على الناس، أي: قوة إدراكه للعلوم ليستفيد بها علوم الشرائع ويستنبط قوانين العدالة، فإن العاقلة العملية تقوى على إدراك المعقولات عند التجرد عن ملابس الوهم والخيال كما تقوى النظرية وهي القوة المدبرة لأمر المعاش المشوبة بالوهم في أول الحال.
ونسبته إلى السرقة لتعوده بإدراك الجزئيات في محل الوهم من المعاني المتعلقة بالمواد وبعده عن إدراك الكليات، فلما تقوى عليها بالآوي إلى أخيه واستفادته منه تلك القوة بالتجرد فكأنه قد سرق ولم يسرق. والمؤذن الذي نسبهم إلى السرقة هو الوهم لوجدان الموهم تغير حال الجميع عما كانت عليه، وعدم مطاوعتها له وتوهمه لذلك نقصا فيهم.
والحمل الموعود لمن يجيء بالصواع، هو التكليف الشرعي الذي يحصل بواسطة العقل العملي عند استفادته علم ذلك من القلب، والصواع هو القوة الاستعدادية التي يحصل بها علمه. والفاقد لها المفتش لمتاعهم، المستخرج إياها من رحل أخيه هو الفكر الذي بعثه القلب لهذا الشأن. ولما كان دين روح القدس تحقق المعارف والحقائق النظرية مما لا يتعلق بالعمل { ما كان ليأخذ أخاه } بالبعث على العمليات والاستعمال على الفضائل { في دين الملك } لأن دينه العلم وعلمه التعقل { إلا أن يشاء الله } أي: وقت تنور النفس بنور القلب المستفاد منه وتفسح الصدر القابل للعمليات وذلك هو رفع الدرجات، لأن النفس حينئذ ترتفع إلى درجة القلب والقلب إلى درجة الروح في مقام الشهود { وفوق كل ذي علم } كالقوى { عليم } كالعقل العملي وفوقه القلب وفوقه العقل النظري وفوقه الروح وفوقه روح القدس والله تعالى فوق الكل، علام الغيوب كلها.
[12.77-83]
ومعنى: { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } أن القلب استعد لهذا المعنى من قبل دون القوى، فبقوا منكرين لهما، متهمين إياهما عند أبيهما لتحصيل مطالبهما وطلب لذة وراء ما يطلبونها . وقيل: كان لإبراهيم صلوات الله عليه وسلامه منطقة يتوارثها أكابر أولاده، فورثها من إسحق عمة يوسف لكونها كبرى من أولاده، وقد حضنته بعد وفاة أمه راحيل، فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها، فلم تصبر عنه، فحزمت المنطقة تحت ثيابه عليه السلام ثم قالت: إني فقدت المنطقة، فلما وجدت عليه سلم لها وتركه يعقوب عندها حتى ماتت. وهي إشارة إلى مقام الفتوة التي ورثها من إبراهيم الروح قبل مقام الولاية وقت شبابه. وقد حزمتها عليه النفس المطمئنة التي حضنتها وقت وفاة راحيل اللوامة. وإرادة انتزاع يعقوب إياه منها إشارة إلى أن العقل يريد الترقي إلى كسب المعارف والحقائق، وإذا وجده موصوفا بالفضائل في مقام الفتوة رضي به، وتركه عند النفس المطمئنة سالكا في طريق الفضائل حتى توفيت بالفناء في الله في مقام الولاية والله أعلم.
وإسرار يوسف في نفسه كلمته علمه بقصورهم عن إدراك مقامه ونقصانهم عن كماله، وهي قوله: { أنتم شر مكانا } والذي اقترح أن يأخذه يوسف القلب مكان أخيه العقل العملي هو الوهم لمداخلته في المعقولات، وشوقه إلى الترقي إلى أفق العقل، وحكمه فيها لا على ما ينبغي وميلهم إلى سياسته إياهم دون العقل العملي للتناسب الذي بينهم في التعلق بالمادة ونزوعه إلى تحصيل مآربهم من اللذات البدنية. ولما وجد القلب متاعه من إدراك المعاني المعقولة عند العقل العملي دون الوهم { قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا } إن أخذنا الوهم مكانه وآويناه إلينا وألقينا إليه ما ألقينا إلى أخينا كنا مرتكبين الظلم العظيم لوضعنا الشيء في غير محله. ويأسهم منه شعورهم بعدم تكفيل الوهم إياهم وتمتيعهم بدواعيه وحكمه - وكبيرهم الذي ذكرهم موثق أبيهم الذي هو الاعتقاد الإيماني، وتفريطهم في يوسف عند حكومة الوهم هو الفكر، ولهذا قال المفسرون: هو الذي كان أحسنهم رأيا في يوسف ومنعهم عن قتله.
وقوله: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } أي: لا أتحرك إلا بحكم العقل دون الوهم إلى أن أموت، وأمرهم بالرجوع إلى أبيهم سياسته إياهم بامتثال الأوامر العقلية { وما شهدنا إلا بما علمنا } أي: إنا لا نعلم كون ذلك المتاع عند العاقلة العملية إلا نقصا وسرقة لعدم شعورنا به وبكونه كمالا { وما كنا } حافظين للمعنى العقلي العيني لأنا لا ندرك إلا ما في عالم الشهادة، وكذا أهل قريتنا التي هي مدينة البدن من القوى النباتية { والعير التي أقبلنا فيها } من القوى الحيوانية، فاسألهم ليخبروك بسرقة ابنك.
{ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا } أي: زينت طبائعكم الجسمانية لكم أمر التلذذ باللذات البدنية والشهوات الحسية فحسبتموها كمالا، وتتبع المعقولات والتزام الشرائع والتآمر بالفضائل نقصا { فصبر جميل } أي: فأمركم صبر جميل في العمل بالشرائع والفضائل دائما والوقوف مع حكم الشرع والعقل، أو صبر جميل على الاستمتاع على وجه الشرع أجمل بكم من الإباحة والاسترسال بحكم الطبيعة، أو فأمري صبر جميل في بقاء يوسف القلب وإخوته على استشراق الأنوار القدسية واستنزال الأحكام الشرعية واستخراج قواعدها التي لا مدخل لي فيها، فلا بد لي من فراقهم إلى أوان فراغهم إلى رعاية مصالح الجانبين والوفاء بكلا الأمرين، أي: المعاش والمعاد، فإن العقل كما يقتضي طلب الكمال وإصلاح المعاد، يقتضي صلاح البدن وترتيب المعاش وتعديل المزاج بالغذاء وتربية القوى باللذات، أو فأمري صبر جميل على ذلك { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } من جهة الأفق الأعلى والترقي عن طوري إلى ما يقتضيه نظري ورأيي من مراعاة الطرفين ومقامي ومرتبتي من اختيار التوسط بين المنزلتين { إنه هو العليم } بالحقائق { الحكيم } بتدبير العوالم، فلا يتركهم مراعين للجهة العلوية، ذاهلين عن الجهة السفلية، فيخرب مدينة البدن ويهلك أهلها، وذلك قبل التمتيع التام الذي أشرنا إليه إذ هو مقام الاجتهاد بعد الكشف والسلوك في طريق الاستقامة بعد التوحيد.
[12.84-92]
{ وتولى عنهم } أي: أعرض عن جانبهم وذهل عن حالهم، لحنينه إلى يوسف القلب وانجذابه إلى جهته.
{ وابيضت عيناه من الحزن } أولا بوقوعه في غياهب الجب وكلال قوة بصيرته لفرط التأسف على فراقه ثم بترقيه عن طوره وفنائه في التوحيد وتخلفه عنه وعدم إدراكه لمقامه وكماله، فبقي بصره حسيرا غير بصير بحال يوسف { وهو كظيم } مملوء من فراقه. وقولهم: { تفتؤ تذكر يوسف } إشارة إلى شدة حنينه ونزوعه وانجذابه إلى جهة القلب في تلك الحالة دونهم لشدة المناسبة بينهما في التجرد والميل إلى العالم العلوي. وقوله: { وأعلم من الله ما لا تعلمون } إشارة إلى علم العقل برجوع القلب إلى عالم الخلق ووقوفه مع العادة بعد الذهاب إلى الجهة الحقانية وانخلاعه عن حكم العادة عن قريب، كما سئل أحدهم: ما النهاية؟ قال: الرجوع إلى البداية. ولهذا العلم قال: { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } وذلك عند فراغه عن السلوك بالكلية ووصول أثر ذلك الفراغ إلى العقل بقربه إلى رتبته في التنزل والتدلي فيأمر القوى باستنزاله إلى مقامهم بطلب الحظوظ في صورة الجمعية البدنية وتدبير معاشهم ومصالحهم الجزئية، وذلك هو الروح الذي نهاهم عن اليأس منه، إذ المؤمن يجد هذا الروح والرضوان في الحياة الثانية التي هي بالله فيحيا به ويتمتع بحضوره بجميع أنواع النعيم ولذات جنات الأفعال والصفات والذات بالنفس والقلب والروح دون الكافر كما قال: { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }. وقولهم: { مسنا وأهلنا الضر } إشارة إلى عسرهم وسوء حالهم، وضيقهم في الوقوف مع الحقوق { وجئنا ببضاعة مزجاة } إلى ضعفهم لقلة مواد قواهم وقصور غذائهم عن بلوغ مرادهم.
وقولهم: { فأوف لنا الكيل } استعطافهم إياه بطلب الحظوظ. وقوله: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } إشارة إلى تنزل القلب إلى مقامهم في محل الصدر ليعرفوه فيتذكروا حالهم في البداية وما فعلوا به في زمان الجهل والغواية. وقولهم: { أئنك لأنت يوسف } تعجب منهم عن حاله بتلك الهيئة النورانية والأبهة السلطانية وبعدها عن حال بدايته. وقوله: { قد من الله علينا } إلى آخره، إشارة إلى علة ذلك وسبب كماله. وقولهم: { تالله لقد آثرك الله علينا } إشارة تهدي القوي عند الاستقامة إلى كماله ونقصها. وقوله: { لا تثريب عليكم اليوم } لكونها مجبولة على أفعالها الطبيعية. وقوله: { يغفر الله لكم } إشارة إلى براءتها من الذنب عند التنور بنور الفضيلة والتأمر بأمره عند الكمال.
[12.93-98]
والقميص هو الهيئة النورانية التي اتصف بها القلب عند الوصول إلى الوحدة في عين الجمع والاتصاف بصفات الله تعالى. وقيل: هو القميص الإرثي الذي كان في تعويذه حين ألقي في البئر، وهو إشارة إلى نور الفطرة الأصلية. كما أن الأول إشارة إلى نور الكمال الحاصل له بعد الوصول، والأول أولى بتبصير عين العقل فإن العقل لما لم تكتحل بصيرته بنور الهداية الحقانية عمي عن إدراك الصفات الإلهية. { وائتوني بأهلكم أجمعين } أي: ارجعوا إلي عن آخركم في مقام الاعتدال ومراعاة التوسط في الأفعال، فإن القلب متوسط بين جهتي العلو والسفالة، وانضموا إلي، وائتمروا بأمري، واقربوا مني ولا تبعدوا عن مقامي في طلب اللذت البدنية بمقتضى طباعكم. وريحه الذي وجده من بعيد هو وصول أثر رجوع القلب إلى عالم العقل والمعقول، وإقباله إليه من محض التوحيد بتجهيز القوى الحيوانية بجهاز الحظوظ على حكم العدالة وقانون الشرع والعقل، فقد قيل: إنه جهز العير بأجمل ما يكون، ووجهها إلى كنعان. وضلاله القديم هو: تعشقه بالقلب أزلا وذهوله عن جهتهم.
وقوله: { ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } إشارة إلى سابق علمه برجوع القلب إلى مقام العقل. واستغفاره لهم: تقريره إياهم على حكم الفضائل العقلية بالاستقامة بعد صفائهم وذكائهم وقبولهم للهيئات النورانية بعد خلع الظلمانية.
[12.99-105]
ودخولهم على يوسف هو وصولهم إلى مقام الصدر حال الاستقامة. ودخولهم مصر كون الكل في حضرة الجمعية الإلهية الواحدية مع تفاضل مراتبهم في عين جمع الوحدة. ورفع أبويه على العرش عبارة عن ارتفاع مرتبتي العقل والنفس عن مراتب سائر القوى وزيادة قربهما إليه وقوة سلطنتهما عليها. وخرورهم له سجدا عبارة عن انقياد الكل وطاعتهم له بالأمر الوحداني بلا فعل حركة بأنفسهم بحيث لا يتحرك منها شعر ولا ينبض لها عرق إلا بالله. وتأويل رؤياه صورة ما تقرر في استعداده الأول من قبول هذا الكمال.
{ قد جعلها ربي حقا } أخرجها من القوة إلى الفعل { وقد أحسن بي } بالبقاء بعد الفناء { إذ أخرجني من } سجن الخلوة التي كنت فيها محجوبا عن شهود الكثرة في عين الوحدة ومطالعة الجمال في صفات الجلال { وجاء بكم من } بدو خارج مصر الحضرة الإلهية { من بعد أن نزغ } شيطان الوهم { بيني وبين إخوتي } بتحريضه إياهم على إلقائي في قعر بئر الطبيعة، بانهماكهم وتهالكهم على اللذات البدنية { إن ربي لطيف } يلطف بأحبابه بتوفيقهم للكمال وتدبير أمورهم بحسب مشيئته الأزلية وعنايته القديمة { إنه هو العليم } بما في الاستعدادات { الحكيم } بترتيب أسباب الكمال وتوفيق المستعد للوصول إليه.
{ رب قد آتيتني من الملك } أي: من توحيد الملك الذي هو توحيد الأفعال { وعلمتني من تأويل الأحاديث } أي: معاني المغيبات وما يرجع إليه صورة الغيب، وهو من باب توحيد الصفات. { فاطر } سماوات الصفات في مقام القلب وأرض توحيد الأفعال في مقام النفس { أنت وليي } بتوحيد الذات في دنيا الملك وآخرة الملكوت { توفني مسلما } أفنني عني في حالة كوني منقادا لأمرك لا طاغيا ببقاء الأنية { وألحقني بالصالحين } الثابتين في مقام الاستقامة بعد الفناء في التوحيد.
[12.106-108]
{ وما يؤمن أكثرهم بالله } الإيمان العلمي { إلا وهم مشركون } بإثبات موجود غيره أو الإيمان العيني إلا وهم مشركون باحتجابهم بأنائيتهم { غاشية من عذاب الله } حجاب يحجب استعدادهم عن قبول الكمال من هيئة راسخة ظلمانية { أو تأتيهم } القيامة الصغرى { بغتة وهم لا يشعرون } بنور الكشف والتوحيد، فلا يرتفع حجابهم فيبقون في الاحتجاب أبدا.
{ قل هذه } السبيل التي أسلكها، وهي سبيل توحيد الذات { سبيلي } المخصوص بي، ليس عليه إلا أنا وحدي { أدعو إلى } الذات الأحدية الموصوفة بكل الصفات في عين الجمع { أنا ومن اتبعني } في هذه السبيل وكل من يدعو إلى هذه السبيل فهو من أتباعي، إذ الأنبياء قبلي كلهم كانوا داعين إلى المبدأ والمعاد وإلى الذات الواحدية الموصوفة ببعض الصفات إلا إبراهيم عليه السلام فإنه قطب التوحيد، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم من أتباعه باعتبار الجمع دون التفصيل، إذ لا متمم لتفاصيل الصفات إلا هو عليه الصلاة والسلام وإلا لكان غيره خاتما السبيل الحق كما ختم لأن كل أحد لا يمكنه الدعوة إلا إلى المقام الذي بلغ إليه من الكمال { وسبحان الله } أنزهه من أن يكون غيره على سبيله، بل هو السالك سبيله والداعي إلى ذاته { وما أنا من المشركين } المثبتين للغير في مقام التوحيد الذاتي، المحتجبين عنه بالأنائية، بل أنا به، فإن عنى فهو الداعي إلى سبيله.
[12.109-111]
{ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } أي: من كان فيه بقية من الرجولية من أهل قرى الصفات والمقامات لا من مصر الذات، فإن البقاء الحاصل لأهل التمكين لا يكون إلا بقدر الفناء. والرجوع إلى الخلق لا يكون إلا على حسب العروج. فالفناء التام والعروج الكامل لا يكون إلا للقطب الذي هو صاحب الاستعداد الكامل الذي لا رتبة إلا قد يبلغها ويلزم أن يكون الرجوع التام الشامل لجميع تفاصيل الصفات عند البقاء له وهو الخاتم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" كان بنيان النبوة تم ورصف وبقي منه موضع لبنة واحدة، فكنت أنا تلك اللبنة "
وإلى هذا المعنى أشار بقوله صلى الله عليه وسلم:
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
{ أفلم يسيروا في الأرض } أرض استعدادهم { فينظروا كيف كان } نهاية أمر { الذين من قبلهم } وغاية كمالهم، فيبلغوا منتهى إقدامهم ويحصلوا كمالاتهم بحسب استعداداتهم، فإن لكل أحد خاصية واستعداده الخاص يقتضي سعادة خاصة هي عاقبته، ومن الاطلاع على خواص النفوس وغايات إقدامهم في السير يحصل للنفس هيئة اجتماعية من تلك الكمالات هي كمال الأمة المحمدية على حسب اختلاف استعداداتهم وهي الدار الآخرة التي هي خير للذين اتقوا صفات نفوسهم التي هي حجب الاستعدادات { أفلا تعقلون } أن هذا المقام خير مما أنتم عليه من الدار الفانية وتمتعاتها، فإنها
لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت، الآية: 64].
{ حتى إذا استيأس الرسل } أي: ساروا واتقوا وتراخى فتحهم ونصرهم في الكشوف على كفرة قوى النفس حتى إذا استيأس الرسل الذين هم أشراف القوم من بلوغ الكمال { وظنوا أنهم قد } كذبتهم ظنونهم في استعدادهم للكمال أو رجائهم { جاءهم نصرنا } بالتأييد والتوفيق من إمداد أنوار الملكوت والجبروت { فنجي من نشاء } من أهل العناية من الرسل وأتباعهم { ولا يرد } قهرنا بالحجب والتعذيب { عن القوم المجرمين } بإظهار صفات نفوسهم على قلوبهم فيكسبونها الهيئات الغاسقة الحاجبة المؤذية.
{ لقد كان في قصصهم عبرة } أي: ما يعبر بها عن ظاهرها إلى باطنها، كما عبرنا في قصة يوسف عليه السلام لأولي العقول المجردة عن قشور الوهميات الخالصة عن غشاوات الحسيات { ما كان } هذا القرآن { حديثا يفترى } من عند النفس { ولكن تصديق الذي } كان ثابتا قبله في اللوح { وتفصيل كل شيء } أجمل في عالم القضاء وهداية إلى التوحيد { ورحمة } بالتجليات الصفاتية من وراء أستار آياته { لقوم يؤمنون } بالغيب لصفاء الاستعداد.
[13 - سورة الرعد]
[13.1-2]
{ المر } أي: الذات الأحدية، واسمه العليم، واسمه الأعظم، ومظهره الذي هو الرحمة التامة على ما أشير إليه { تلك } معظمات علامات كتاب الكل الذي هو الوجود المطلق وآياته الكبرى { و } المعنى { الذي أنزل إليك من ربك } من العقل الفرقاني، وهذا الذي ذكر من درج المعاني في الحروف هو الحق { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }.
{ الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها } أي: بعمد غير مرئية هي ملكوتها التي تقومها وتحركها من النفوس السماوية أو سموات الأرواح بلا مادة تعمدها فتقوم هي بها، بل مجردة قائمة بأنفسها { ثم استوى } مستعليا { على العرش } بالتأثير والتقويم أو على عرش القلب بالتجلي { وسخر } شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراق الأنوار العالية وقمر القلب بإدراك ما في العالمين جميعا، والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات بالكشف. { كل يجري لأجل مسمى } أي: غاية معينة هي كماله بحسب الفطرة الأولى { يدبر الأمر } في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب المبادئ { يفصل الآيات } في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات المترتبة في السلوك على حسب تجليات الأفعال والصفات { لعلكم بلقاء ربكم } عند مشاهدات آيات التجليات { توقنون } عين اليقين.
[13.3-4]
{ وهو الذي مد } أرض الجسد { وجعل فيها رواسي } العظام وأنهار العروق { ومن كل } ثمرات الأخلاق والمدركات { جعل فيها زوجين اثنين } أي: صنفين متقابلين كالجود والبخل، والحياء والقحة، والفجور والعفة، والجبن والشجاعة، والظلم والعدالة وأمثالها. وكالسواد والبياض، والحلو والحامض، والطيب والنتن، والحرارة والبرودة، والملاسة والخشونة وأمثالها. { يغشى } ليل ظلمة الجسمانيات على نهار الروحانيات كتغشية القوى الروحانية بآلاتها والروح بالجسد { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } في صنع الله وتطابق عالميه الأصغر والأكبر.
{ وفي } أرض الجسد { قطع متجاورات } من العظم واللحم والشحم والعصب، { وجنات } من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهواتية التي يعصر منها خمر هوى النفس، والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة، يعصر العشق وزرع القوى النباتية { ونخيل } سائر الحواس الظاهرة والباطنة { صنوان } كالعينين والأذنين والمنخرين { وغير صنوان } كاللسان وآلة الفكر والوهم والذكر { تسقى بماء واحد } هو: ماء الحياة { ونفضل بعضها على بعض في } أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وأمثالها { لقوم يعقلون } عجائب صنعه.
[13.5-7]
{ وإن تعجب } عن قولهم فهو مكان التعجب لأن الإنسان في كل ساعة خلق آخر جديد، بل العالم لحظة فلحظة خلق جديد بتبدل الهيئات والأحوال والأوضاع والصور، فكيف ينكر الخلق الجديد من نظر في عالم الكون والفساد بعين الاعتبار؟ { أولئك الذين } حجبوا عن شهود أفعال الربوبية وتجلياتها، فكيف عن تجليات الصفات الإلهية؟ { وأولئك الأغلال في أعناقهم } فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنتكسة إلى الأرض القاصر نظرها إلى ما يدانيها من الحس فيروا ملكوت الأرواح ويشاهدوا عالم القدرة وما يبعد عن منازل الحس من المعقولات { وأولئك أصحاب } نيران جهنم الأفعال في قعر هاوية الطبيعة { هم فيها خالدون }.
{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } بمناسبة استعدادهم للشر لاستيلاء الهيئات المظلمة والرذائل عليها فينزعون إلى الشر لغلبة الشر عليهم. { وقد خلت من قبلهم } عقوبات أمثالهم { وإن ربك لذو مغفرة للناس } مع ظلمهم على أنفسهم باكتساب تلك الهيئات الغاسقة الحاجبة عن النور لمن لم ترسخ فيه ولم تبطل استعداده فيزيلها بنور رحمته { وإن ربك لشديد العقاب } لمن ترسخت فيه وصارت رينا وأبطلت الاستعداد.
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } حجبوا، فلم يروا الآيات الشاهدة على النبوة من اتصافه بصفات الله لعدم إدراكهم وعمى بصائرهم، فلذلك لم يعدوها آيات واقترحوها على حسب هواهم ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم، إذ الهداية إلى الله { ولكل قوم هاد } يناسبهم بحسب الجنسية الفطرية فيألفونه عند كماله وتلقيه النور الإلهي، ويقبلون الهداية منه فيهديهم الله على مظهره، فمن ناسبك بتلك الجنسية الأصلية قبل الهداية منك ومن لا فلا.
[13.8-11]
تلك أسرار خفية لا يعلمها إلا { الله } الذي { يعلم ما تحمل كل أنثى } فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال، أي ما في قوة كل استعداد وما تزيد أرحام الاستعداد بالتزكية والتصفية وبركة الصحبة من الكمالات وما تنقص منها بالانهماك في الشهوات { وكل شيء } من الكمالات { عنده بمقدار } معين على حسب القابلية أو كل شيء من قوة قبول في استعداد مقدر عنده بمقدار في الأزل من فيضه الأقدس لا يزيد ولا ينقص، أو لكل قوم هاد هو الله تعالى كما قال:
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء
[القصص، الآية: 56] لعلمه بما في الاستعدادات من قوة القبول وزيادتها ونقصانها فيقدر بحسبها كمالاتهم.
{ عالم } غيب ما في الاستعدادات من قوة القبول وشهادة الكمالات الحاضرة الخارجة إلى الفعل { الكبير } الشأن الذي يجل عن إعطاء ما يقتضيه بعض الاستعدادات بل يسع كلها فيعطيها مقتضياتها { المتعال } عن أن ينقطع فيضه فيتأخر عن حصول الاستعداد وينقص مما يقتضيه.
{ سواء منكم من أسر القول } في مكمن استعداده { ومن جهر به } بإبراز العلم من القوة إلى الفعل { ومن هو مستخف } بليل ظلمة نفسه { و } من هو { سارب } بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح.
{ له معقبات } أمداد متعاقبة من الملكوت واصلة إليه من أمر الله { يحفظونه من } خطفات جن القوى الخيالية والوهمية وغلبات البهيمية والسبعية وإهلاكها إياه { إن الله لا يغير ما بقوم } من نعمة وكمال ظاهر أو باطن { حتى يغيروا ما بأنفسهم } من الاستعداد وقوة القبول، فإن الفيض الإلهي عام متصل كالماء الجاري، ألم تر إلى قوله تعالى:
يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل
[الرعد، الآية: 4] فيتلون بلون الاستعداد، فمن تكدر استعداده تكدر فيضه فزاد في شره، ومن تصفىاستعداده تصفى فيضه فزاد في خيره، وكذا النعم الظاهرة لا بد في تغيرها إلى النقم من استحقاق جلي أو خفي، ولهذا قال المحققون: إن الدعاء الذي لا يتخلف عنه الاستجابة المشار إليه بقوله تعالى:
ادعوني أستجب لكم
[غافر، الآية: 60] هو الذي يكون بلسان الاستعداد. وعن بعض السلف: أن الفأرة مزقت خفي، وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا ما سلطها الله علي. وتمثل بقول الشاعر:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
[13.12-14]
{ هو الذي يريكم } برق لوامع الأنوار القدسية والخطفة الإلهية { خوفا } أي: خائفين من سرعة انقضائه وبطء رجوعه { وطمعا } أي: طامعين في ثباته وسرعة رجوعه { وينشئ } سحاب السكينة { الثقال } بماء العلم اليقيني والمعرفة الحقة.
{ ويسبح } رعد سطوة التجليات الجلالية أي يسبح الله ويمجده عما يتصور في العقل ممن ترد عليه تلك التجليات لوجدانه ما لا يدركه العقل ويحمده حق حمده بالكمال المستفاد من ذلك التجلي حمدا فعليا فيكون التسبيح للرعد الموجب لذلك أو السطوة تسبح بنفس التجلي المنزه عن أن يدرك بالإدراك العقلي { والملائكة } أي: ملكوت القوى الروحانية من هيبته وجلاله { ويرسل } صواعق السبحات الإلهية بتجلي القهر الحقيقي المتضمن للطف الكلي فيسلب الوجود عن المتجلى عليه ويفنيه عن بقية نفسه، كما ورد في الحديث:
" إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "
{ فيصيب بها من يشاء } من عباده المحبوبين والمحبين العشاق المشتاقين { وهم يجادلون في الله } بالتفكر في صفاته والنظر العقلي في إثباته وما يجب له ويمتنع عليه من الصفات { وهو شديد المحال } القوي في رفع الحيل العقلية في الإدراك وطمس نور بصيرته بالتجلي وإحراقه بنور العشق.
{ له دعوة الحق } أي: الدعوة الحقية التي ليست بالباطل له لا لغيره يدعو نفسه فيستجيب كما قال تعالى:
ألا لله الدين الخالص
[الزمر، الآية: 3] أي: الدين الخالص ليس إلا دينه ومعناه: أن الدعوة الحقة الحقيقية بالإجابة هي دعوة الموحد الفاني عن نفسه، الباقي بربه، وكذا الدين الخالص دينه. والدعاة القائمون بأنفسهم لا يدعون إلا من تصوروه ونحتوه في خيالهم فلا يستجاب لهم إلا كاستجابة الجماد الذي يطلب منه الشيء، ولعمري إنه لا يدعو الله إلا الموحد وغيره يدعو الغير الموهوم الذي لا قدرة له ولا وجود فلا استجابة، وهو الذي حجب استعداده بصفات نفسه فلا يعلم ما استحقه فضاع دعاؤه ولا يكون مثل هذا الدعاء إلا في ضياع أو دعوة الحق جل وعلا، لا تكون إلا له، أو دعوة المدعو الذي هو الحق هي الدعوة المختصة بذاته لا يدعى بها غيره من أسمائه وصفاته والواصفيون الذين يدعون أسماءه وصفاته من دون ذاته لا يستجيبهم المدعو إلا استجابة كاستجابة داعي الماء بالإشارة لكونهم محجوبين { وما دعاء } المحجوبين { إلا في } ضياع.
[13.15-17]
{ ولله } ينقاد { من في السموات والأرض } من الحقائق الروحانيات كأعيان الجواهر وملكوت الأشياء { وظلالهم } أي: هياكلهم وأجسادهم التي هي أصنام تلك الروحانيات وظلالها، ولهذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السجدة:
" سجد لك وجهي، وسوادي، وخيالي "
أي: حقيقة ذاتي وسواد شخصي وخيال نفسي، أي: وجودي وعيني وشخصي { طوعا وكرها } أي: شاؤوا أو أبوا، والمعنى يلزمهم ذلك اضطرارا، لأن بعضهم طائع وبعضهم كاره { بالغدو والآصال } أي: دائما { قل أفاتخذتم من دونه } أي: من كل ما عداه كائنا من كان { أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا } إذ القادر المالك هو الله لا غير.
{ أنزل } من سماء روح القدس ماء العلم { فسالت أودية } القلوب بقدر استعداداتها { فاحتمل } سيل العلم { زبدا } من خبث صفات أرض النفس ورذائلها ودناياها { ومما يوقدون عليه } في نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق { ابتغاء } زينة النفس وبهجتها بها لكونها كمالات لها { أو متاع } من الفضائل الخلقية التي يحصل بسببها، فإنها مما يتمتع به النفس { زبد مثله } خبث كالنظر إليها ورؤيتها وتصور النفس كونها كاملة أو فاضلة متزينة بزينة تلك الأوصاف وإعجابها واحتجابها وسائر ما يعد من آفات النفس وذنوب الأحوال { فأما الزبد فيذهب جفاء } مرميا به منفيا بالعلم كما قال تعالى:
ليطهركم به
[الأنفال ، الآية: 11]، { وأما ما ينفع الناس } من المعاني الحقية والفضائل الخالصة { فيمكث } في أرض النفس.
[13.18-22]
{ للذين استجابوا لربهم } بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس { الحسنى } أي: المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء المعبر عنه بقوله تعالى:
نور على نور
[النور، الآية: 35]، { والذين لم يستجيبوا } لم يتزكوا عن الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية لا يمكنهم الافتداء بكل ما في الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا نفوسهم، لأن تلك سبب زيادة البعد والهلاك، فكيف تكون سببا لخلاصهم عن تلك الظلمات وتبرئهم عنها؟، لا ينفعهم عند رسوخ هيئات التعلق بها في أنفسهم { أولئك لهم سوء الحساب } لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس الذي هو مقام العدل الإلهي، فلا بد لهم من المناقشة في الحساب { ومأواهم جهنم } صفات النفس ونيران الحرمان وهيئات السوء { ويخشون ربهم } عند تجلي الصفات في مقام القلب، فيشاهدون جلال صفة العظمة ويلزمهم الهيبة والخشية { ويخافون سوء الحساب } عند تجلي الأفعال في مقام النفس فينظرون إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف.
{ والذين صبروا } في سلوك سبيله عن المألوفات طلبا لرضاه واشتغلوا بالتزكية بالعبادات المالية والبدنية ويدفعون بالفضيلة رذيلة النفس { أولئك لهم عقبى الدار } بالرجوع إلى الفطرة أو صبروا عن صفات نفوسهم { ابتغاء وجه ربهم } ، أي: لمحبة الذات لا لمحبة الصفات، وأقاموا صلاة المشاهدة { وأنفقوا مما رزقناهم } من المقامات والأحوال والكشوف والأعمال { سرا } بالتجريد عن هيئاتها وهيئات الركون إليها والمحبة إياها، { وعلانية } بتركها وعدم الالتفات إليها، { ويدرؤون بالحسنة } الحاصلة من تجلي الصفة الإلهية { السيئة } التي هي صفة النفس { أولئك لهم عقبى الدار } أي: البقاء بعد الفناء.
[13.23-32]
{ جنات عدن } أي: ثلاثتها، يدخلون جنة الذات مع من صلح من آباء الأرواح، وجنة الصفات بالقلوب، وجنة الأفعال بمن صلح من أزواج النفوس وذريات القوى { والملائكة } من أهل الجبروت والملكوت { يدخلون عليهم من كل باب } من أبواب الصفات مسلمين محيين إياهم بتحايا الإشراقات النورية والإمدادات القدسية كل ذلك بسبب صبرهم على اللذات الحسية { قل إن الله يضل من يشاء } أي: ليس الهداية والضلال بالآيات فإن في كل شيء آية، وكفى بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هما بالمشيئة الإلهية، { يضل من يشاء } لعدم الاستعداد أو لحجبهم بالغواشي الظلمانية { ويهدي إليه من أناب } بتصفية الاستعداد من المحبين. وكما أن أهل الضلال فريقان: عديم الاستعداد وحاجبه بظلمة البشرية، فكذلك أهل الهداية قسمان: محبوبون يهتدون بغير الإنابة لقوة الاستعداد ومحبون يهديهم الله بعد الإنابة، كما قال تعالى:
يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب
[الشورى، الآية: 13].
{ الذين آمنوا } أي: المنيبون الذين آمنوا الإيمان العلمي بالغيب { وتطمئن قلوبهم بذكر الله } ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم، أو ذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال والجلال، فإن للذكر مراتب ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم، وذكر القلب بمطالعة الصفات، وذكر السر بالمناجاة، وذكر الروح بالمشاهدة، وذكر الخفاء بالمناغاة في المعاشقة، وذكر الله بالفناء فيه. والنفس تضطرب بظهور صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب بسببها ويتغير بأحاديثها، فإذا ذكر الله استقرت النفس وانتفت الوساوس كما قال عليه الصلاة والسلام:
" إن الشيطان يضع خرطومه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس فاطمأن القلب "
وكذا ذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجبروت، وأما سائر الآذكار فلا تكون إلا بعد الاطمئنان. والعمل الصالح ههنا: التزكية والتحلية و { طوبى لهم } بالوصول إلى الفطرة وكمال الصفات { وحسن مآب } بالدخول في جنة القلب، جنة الصفات.
[13.33-40]
{ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } أي: يقوم عليها بإيجاد كل ما ينسب إليها من مكاسبها، قيوم لها وبمكسوباتها، وإنما سمي مكسوبها وإن كان بخلق الله تعالى لأنه إنما أظهره عليها لاستعداد فيها يناسبه به قبلته من الله تعالى، فمن جهة قبول المحل وصلاحيته لمظهريته ومحليته ينسب إلى كسبها مع قيام الحق تعالى: بإيجاده لأنها اقتضته، أو قائم عليها بحسب كسبها وبمقتضاه أي كما يقتضي مكسوباتها من الصفات والأحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء الذي هو الهيئات الكمالية النورانية المثيبة إياها، أو الهيئات الكدرة الظلمانية المعذبة إياها.
{ لكل أجل كتاب } لكل وقت أمر مكتوب مقدر أو مفروض في ذلك الوقت على الخلق، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات في كل وقت يأتي بما هو صلاح ذلك الوقت رسول من عنده وكذا جميع الحوادث من الآيات وغيرها. { وما كان لرسول أن يأتي } بشيء منها إلا بإذنه في وقته لأنها معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها من غير تغير وتبدل وتقدم وتأخر { يمحو الله ما يشاء } عن الألواح الجزئية التي هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفنى { ويثبت } ما يشاء فيها فيوجد. { وعنده أم الكتاب } أي: لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل المنتقش بكل ما كان ويكون أزلا وأبدا على الوجه الكلي المنزه عن المحو والإثبات، فإن الألواح أربعة: لوح القضاء السابق العالي عن المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول. ولوح القدر أي: لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول ويتعلق بأسبابها وهو المسمى ب: اللوح المحفوظ. ولوح النفوس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيأته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه. ثم لوح الهيولى القابل للصور في عالم الشهادة والله أعلم.
[13.41-43]
{ أو لم يروا أنا نأتي الأرض } نقصد أرض الجسد وقت الشيخوخة { ننقصها من أطرافها } بتواكل الأعضاء وتخاذل القوى وكلالة الحواس شيئا فشيئا حتى يموت { والله يحكم } على هذا الوجه { لا معقب لحكمه } لا راد ولا مبدل لحكمه، أو نأتي أرض النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بإفناء أفعالها بأفعالنا أولا كما قال تعالى:
" بي يسمع وبي يبصر "
، ثم بإفناء صفاتها بصفاتنا ثانيا، كما قال تعالى:
" كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر "
ثم بإفناء ذاتها بذاتنا كما قال تعالى:
لمن الملك اليوم
[غافر، الآية: 16] وأجاب نفسه بقوله تعالى:
لله الواحد القهار
[غافر، الآية: 16] لفناء الخلق كله، وحينئذ لا حكم إلا لله، يحكم كما يشاء لا معقب لحكمه لعدم غيره.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1-3]
{ الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس } من ظلمات الكثرة إلى نور الوحدة، أو من ظلمات صفات النشأة إلى نور الفطرة، أو من ظلمات حجب الأفعال والصفات إلى نور الذات { بإذن ربهم } بتيسيره بإبداع ذلك النور فيهم بهيئة الاستعداد من الفيض الأقدس من عالم الألوهية وتوفيقه بتهيئة أسباب خروجه إلى الفعل من حضرة الربوبية، إذ الإذن منه هبة الاستعداد وتهيئة الأسباب وإلا لم يكن لأحد إخراجهم { إلى صراط العزيز } القوي الذي يقهر ظلمات الكثرة بنور وحدته { الحميد } بكمال ذاته. وعلى المعنى الثاني: { صراط العزيز } الذي يقهر صفات النفس بنور القلب { الحميد } الذي يهب نعم الفضائل والعلوم عند صفاء الفطرة. وعلى الثالث: { العزيز } الذي يقهر بسبحات ذاته أنوار صفاته ويفنى بحقيقة هويته جميع مخلوقاته الحميد الذي يهب الوجود الباقي الكامل بعد فناء الرذائل الناقص بوجود ذاته وجمال وجهه. { وويل للكافرين } المحجوبين عن الوحدة أو الفطرة أو تجلي الذات وكشفه. ويترتب على الوجوه الثلاثة مراتب العذاب، فهو إما عذاب محبة الأنداد في جحيم التضاد وإما عذاب هيئات الرذائل ونيران صفات النفس ومقتضيات الطبائع أو عذاب حجب الأفعال والصفات والحرمان عن نور الذات.
{ الذين } يؤثرون { الحياة الدنيا } الحسية على العقلية والصورية على المعنوية لوصفه الضلال بالبعد وكون عالم الحس في أبعد المراتب عن الله تعالى.
[14.4-9]
{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } أي: بكلام يناسب ما عليه حالهم بحسب استعدادهم وعلى قدر عقولهم وإلا لم يفهموا لبعد ذلك المعنى عن أفهامهم وعدم مناسبته لمقامهم، فلم يمكنه أن يبين لهم ما في استعدادهم الأول بالقوة من الكمال اللائق به وما تقتضيه هوياتهم بحسب الفطرة { فيضل الله من يشاء } لزوال استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها { ويهدي من يشاء } ممن بقي على استعداده أو لم يترسخ فيه حواجب هيئاته وصور اعتقاداته { وهو العزيز } القوي الذي لا يغلب على مشيئته فيهدي من يشاء هدايته ويضل من يشاء ضلالته { الحكيم } الذي يدبر أمر هداية المهتدي بأنواع اللطف وأمر ضلال الضال بأصناف الخذلان على مقتضى الحكمة البالغة.
{ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } أي: لكل مؤمن بالإيمان الغيبي إذ الصبر والشكر مقامان للسالك قبل الوصول حال العقد الإيماني والسير في الأفعال لتحصيل رتبة التوكل، وحينئذ آياته التي يعتبر بها ويستمدها يتمسك بها ويعتمدها في سلوكه هي الأفعال، فكلما رأى نعمة أو سمع بها أو وصلت إليه من هداية وغيرها شكره باللسان وبالقلب بتصوره من عند الله، وبالجوارح بحسن التلقي والقبول والطاعة والعمل بمقتضاها على ما ينبغي، وكلما رأى أو سمع بلاء أو نزل به صبر بحفظ اللسان عن الجزع. وقول:
إنا لله وإنآ إليه راجعون
[البقرة، الآية: 156] وربط القلب وتصور أن له فيه خير أو مصلحة وإلا لما ابتلاه الله به ومنع الجوارح عن الاضطراب.
[14.10-23]
{ أفي الله شك } مع وضوحه، أي: كيف تشكون فميا ندعوكم إليه وهو الذي لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره وإنما يوضح ما يوضح به. { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم } ليستر بنوره ظلمات حجب صفاتكم فلا تشكون فيه عند جلية اليقين { ويؤخركم إلى } غاية يقتضيها استعدادكم من السعادة إذ كل شخص عين له بحسب استعداده الأول كمال هو أجله المعنوي كما أن لكل أحد بحسب مزاجه الأول غاية من العمر هي أجله الطبيعي، وكما أن الآجال الاخترامية تقطع العمر دون الوصول إلى الغاية المسماة بسبب من الأسباب فكذلك الآفات والموانع التي هي حجب الاستعداد تحول دون الوصول إلى الكمال المعين. { وبرزوا لله جميعا } للخلائق ثلاث برزات، برزة عند القيامة الصغرى بموت الجسد وبروز كل أحد من حجاب جسده إلى عرصة الحساب والجزاء، وبرزة عند القيامة الوسطى بالموت الإرادي عن حجاب صفات النفس والبروز إلى عرصة القلب بالرجوع إلى الفطرة، وبرز عند القيامة الكبرى بالفناء المحض عن حجاب الأنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية وهذا هو البروز المشار إليه بقوله تعالى:
وبرزوا لله الواحد القهار
[إبراهيم، الآية: 48]، ومن كان من أهل هذه القيامة يراهم بارزين لا يخفى على الله منهم شيء. وأما ظهور هذه القيامة للكل وبروز الجميع لله، وحدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين، فهو بوجود المهدي القائم بالحق، الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء.
{ وقال الشيطان } ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنور بنوره، فأسلم وأطاع وصار محقا عالما بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق لا له، ودعوته إلى الباطل بتسويل الحطام وتزيين الحياة الدنيا عليهم واهية فارغة عن الحجة، وأقر بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث حق قد وفى به. ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته، فاستحقاق اللوم ليس إلا لمن قبل الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم }.
[14.24-27]
{ كلمة طيبة } أي: نفسا طيبة، كما مر في تسمية عيسى عليه السلام (كلمة). { كشجرة طيبة } كما شبهها بالزيتونة في القرآن وبالنخلة في الحديث { أصلها ثابت } بالاطمئنان وثبات الاعتقاد بالبرهان { وفرعها في } سماء الروح { تؤتي أكلها } من ثمرات المعارف والحكم والحقائق { كل } وقت { بإذن ربها } بتسهيله وتيسيره بتوفيق الأسباب وتهيئتها { ومثل } نفس { خبيثة كشجرة خبيثة } مثل الحنظلة أو الشرجط { اجتثت من فوق الأرض } استؤصلت للطيش الذي فيها وتشوش الاعتقاد وعدم القرار على شيء. { يثبت الله الذين آمنوا } الإيمان اليقيني بالبرهان الحقيقي { في الحياة } الحسية لاستقامتهم في الشريعة وسلوكهم في تحصيل المعاش طريق الفضيلة والعدالة { وفي الآخرة } أي: الحياة الروحانية لاهتدائهم بنور الحق في الطريقة وكونهم في تحصيل المعارف على بصيرة من الله وبينة من ربهم { ويضل الله الظالمين } في الحياتين لنقص استعداداتهم بحظوظ صفات النفس وبقائهم في الحيرة للاحتجاب عن نور الحق.
[14.28-31]
{ بدلوا نعمة الله } التي أنعم بها عليهم في الأزل من الهداية الأصلية والنور الاستعدادي الذي هو بضاعة النجاة { كفرا } أي: احتجابا وضلالة، كما قال تعالى:
اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
[البقرة، الآية: 16] أضاعوا النور الباقي واستبدلوا به اللذة الحسية الفانية، فبقوا في الظلمة الدائمة { وأحلوا قومهم } من في قوى نفوسهم أو من اقتدى بطريقتهم وتأسى بهم وتابعهم في ذلك { دار البوار }.
{ وجعلوا لله أندادا } من متاع الدنيا وطيباتها ومشتهياتها يحبونها كحب الله، إذ كل ما غلب حبه فهو معبود. قال الله تعالى:
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين
[آل عمران، الآية: 14] الخ، { ليضلوا عن سبيله } كل من نظر إليهم من الأحداث المستعدين ومن دان بدينهم. { قل تمتعوا } أي: اذهبوا فيه بأمر الوهم فإن تمتعكم قليل سريع الزوال، وشيك الفناء، وعاقبته وخيمة بالمصير إلى النار.
[14.32-34]
{ الله الذي خلق } سموات الأرواح وأرض الجسد { وأنزل من } سماء عالم القدس ماء العلم { فأخرج به } من أرض النفس ثمرات الحكم والفضائل { رزقا لكم } وتقوى القلب بها { وسخر لكم } أنهار العلم بالاستنتاج والاستنباط والتفريع والتفصيل { وسخر لكم } شمس الروح وقمر القلب { دائبين } في السير بالمكاشفة والمشاهدة { وسخر لكم } ليل ظلمة صفات النفس ونهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة { وآتاكم من كل ما سألتموه } بألسنة استعداداتكم، فإن كل شيء يسأله بلسان استعداده كمالا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ كما قال تعالى:
يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن
[الرحمن، الآية: 29].
{ وإن تعدوا نعمة الله } من الأمور السابقة على وجودكم الفائضة من الحضرة الإلهية ومن اللاحقة بكم من امداد التربية الواصلة عن الحضرة الربوبية { لا تحصوها } لعدم تناهيها كما تقرر في الحكمة { إن الإنسان لظلوم } بوضع نور الاستعداد ومادة البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها، أو بنقص حق الله أو حق نفسه بإبطال الاستعداد { كفار } بتلك النعم التي لا تحصى باستعمالها في غير ما ينبغي أن تستعمل وغفلته عن المنعم عليه بها واحتجابه بها عنه.
[14.35-38]
{ وإذ قال إبراهيم } الروح بلسان الحال عند التوجه إلى الله في طلب الشهود { رب اجعل هذا البلد } أي: بلد البدن { آمنا } من غلبات صفات النفس وتنازع القوى وتجاذب الأهواء { واجنبني وبني } القوى العاقلة النظرية والعملية والفكر والحدس والذكر وغيرها. { أن نعبد } أصنام الكثرة عن المشتهيات الحسية والمرغوبات البدنية والمألوفات الطبيعية بالمحبة.
{ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } بالتعلق بها، والانجذاب إليها، والاحتجاب بها عن الوحدة { فمن تبعني } في سلوك طريق التوحيد { فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور } تستر عنه تلك الهيئة المظلمة بنورك { رحيم } ترحمه بإفاضة الكمال عليه بعد المغفرة.
{ ربنا إني أسكنت من } ذرية قواي { بواد غير ذي زرع } أي: وادي الطبيعة الجسمانية الخالية عن زرع الإدراك والعلم والمعرفة والفضيلة { عند بيتك المحرم } الذي هو القلب { ربنا ليقيموا } صلاة المناجاة والمكاشفة { فاجعل أفئدة } من ناس الحواس { تهوي إليهم } فتميزهم بأنواع الإحساسات وتمدهم بإدراك الجزئيات وتميل إليهم بالمشايعة وترك المخالفة بالميل إلى الجهة السفلية واللذة البدنية { وارزقهم } من ثمرات المعارف والحقائق من الكليات { لعلهم يشكرون } نعمتك فيستعملون تلك المدركات في طلب الكمال. { ربنا إنك تعلم ما نخفي } مما فينا بالقوة { وما نعلن } مما أخرجناه إلى الفعل من الكمالات { وما يخفى على الله من شيء في } أرض الاستعداد { ولا } في سماء الروح.
[14.39-47]
{ الحمد لله الذي وهب لي على } كبر الكمال { إسماعيل } العاقلة النظرية { وإسحاق } العلمية { إن ربي لسميع الدعاء } أي: لسميع لدعاء الاستعداد، كما قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
{ رب اجعلني مقيم } صلاة الشهود { ومن ذريتي } كلا منهم مقيم صلاة تخصه { ربنا وتقبل دعاء } أي: طلبي للفناء التام فيك { ربنا اغفر لي } بنور ذاتك ذنب وجودي فلا أحتجب بالطغيان { ولوالدي } ولما يتسبب لوجودي من القوابل والفواعل فلا أرى غيرك ولا ألتفت إلى سواك فأبتلى بزيغ البصر، ولمؤمني القوى الروحانية { يوم يقوم } حساب الهيئات الروحانية النورانية والنفسانية الظلمانية أيها أرجح.
[14.48-52]
{ يوم تبدل الأرض غير الأرض } تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب وسماء القلب بسماء السر وكذا تبدل أرض النفس بأرض القلب وسماء السر بسماء الروح، وكذا كل مقام يعبره السالك يبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات، ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات ثم يطوى الكل { وبرزوا لله الواحد } الذي لا موجود غيره { القهار } الذي يفنى كل ما عداه بتجليه { وترى المجرمين } المحتجبين بصفات النفوس وهيئات الرذائل { مقرنين } في أماكنهم من سجين الطبيعة وهاوية هوى النفس بقيود علائق الطبيعيات وأرسان محبات السفليات { سرابيلهم من قطران } لاستيلاء سواد الهيئات المظلمة من تعلقات الجواهر الغاسقة عليها { وتغشى وجوههم } نار القهر والإذلال والاحتجاب عن لذة الكمال، وفيه سر آخر لا ينكشف إلا لأهل القيامة ممن شاهد البعث والنشور، والله أعلم.
[15 - سورة الحجر]
[15.1-25]
{ وقرآن مبين } أي: جامع لكل شيء، مظهر له { ولقد جعلنا } في سماء العقل { بروجا } مقامات ومراتب من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد { وزيناها } بالعلوم والمعارف { للناظرين } المتفكرين فيه { وحفظناها من كل شيطان رجيم } من الأوهام الباطلة { إلا من استرق السمع } فاختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل { فأتبعه شهاب مبين } أي: برهان واضح فنطرده ونبطل حكمه. وأرض النفس { مددناها } بسطناها بالنور القلبي { وألقينا فيها رواسي } الفضائل { وأنبتنا فيها من كل شيء } من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكات الفاضلة والمدركات الحسية { موزون } معين مقدر بقدر عقلي عدلي غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط لكل قوة بحسبها { وجعلنا لكم فيها معايش } بالتدابير الجزئية والأعمال البدنية { ومن لستم له برازقين } ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم، أو جعلنا في سماء القلب بروجا مقامات كالصبر والشكر والتوكل والرضا والمعرفة والمحبة، وزيناها بالمعارف والحكم والحقائق { وحفظناها من كل شيطان رجيم } من الأوهام والتخيلات
إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين
[الحجر، الآية: 18] أي: إشراق نوري من طوالع أنوار الهداية.
{ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } أي: ما من شيء في الوجود إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء أولا بارتسام صورته في أم الكتاب الذي هو العقل الكلي على الوجه الكلي، ثم خزانة أخرى في عالم النفس الكلية وهو اللوح المحفوظ بارتسام صورته فيه متعلقا بأسبابه، ثم خزانة أخرى بل خزائن في النفوس الجزئية السماوية المعبر عنها بسماء الدنيا ولوح القدر بارتسام صورته فيها جزئية مقدرة بمقدارها وشكلها ووضعها { وما ننزله } في عالم الشهادة { إلا بقدر معلوم } من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل معينة واستعداد مختص به في ذلك الوقت.
{ وأرسلنا } رياح النفحات الإلهية { لواقح } بالحكم والمعارف، مصفية للقلوب، معدة للاستعدادات لقبول التجليات { فأنزلنا } من سماء الروح ماء من العلوم الحقيقية { فأسقيناكموه } وأحييناكم به { وما أنتم } لذلك العلم { بخازنين } لخلوكم عنها. { وإنا لنحن نحيي } بالحياة الحقيقية بماء الحياة العلمية والقيام في مقام الفطرة { ونميت } بالإفناء في الوحدة { ونحن الوارثون } للوجود، الباقون بعد فنائكم. { ولقد علمنا المستقدمين منكم } أي: المستبصرين، المشتاقين من المحبين الطالبين للتقدم { ولقد علمنا المستأخرين } المنجذبين إلى عالم الحس ومعدن الرجس باستيلاء صفات النفس ومحبة البدن ولذاته، الطالبين للتأخر عن عالم القدس { وإن ربك هو يحشرهم } مع من يتولونه ويجمعهم إلى من يحبونه وينزعون إليه { إنه حكيم } يدبر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة بحسب المناسبة { عليم } بكل ما فيهم من خفايا الميل والانجذاب والمحبة وما تقتضيه هيئاتهم وصفاتهم فسيجزيهم وصفهم.
[15.26-44]
{ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون } أي: من العناصر الأربعة الممتزجة إذ الحمأ هو الطين المتغير والمسنون ما صب عليه الماء حتى خلص عن الأجزاء الصلبة الخشنة الغير المعتدلة المنافية لقبول الصورة التي يراد تصويرها منه. والصلصال ما تخلخل منه بالهواء وتجفف بالحرارة { والجان } أي: أصل الجن وهو جوهر الروح الحيواني الذي تولد منه قوى الوهم والتخيل وغيرهما { خلقناه من قبل من نار السموم } أي: من الحرارة الغريزية ومن بخارية الأخلاط ولطافتها المستحيلة بها، وإنما قال من قبل لتقدم تأثير الحرارة في التركيب بالتمزيج والتعديل وإثارة ذلك البخار على صور الأعضاء بل القوى الفعالة المؤثرة متقدمة على التركيب في الأصل وقد مر معنى انقياد الملائكة له وعدم انقياد إبليس.
{ فاخرج } من جنة عالم القدس التي ترتقي إلى أفقه { فإنك } مرجوم، مطرود منها لكونك غير مجرد عن المادة { وإن عليك } لعنة البعد في الرتبة { إلى يوم } القيامة الصغرى وتجرد النفس عن البدن بقطع علاقتها أو الكبرى بالفناء في التوحيد { لأزينن لهم } الشهوات واللذات في الجهة السفلية { ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك } أي: المخصوصين بك، الذين أخلصتهم من شوائب صفات النفس وطهرتهم من دنس تعلق الطبيعة، وجردتهم بالتوجه إليك من بقايا صفاتهم وذواتهم، أو الذين أخلصوا أعمالهم لك من غير حظ لغيرك فيها { هذا صراط علي } حق نهجه ومراعاته { مستقيم } لا اعوجاج فيه، وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين إلا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي فيتبعونك. { لها سبعة أبواب } هي الحواس الخمس والشهوة والغضب { لكل باب منهم جزء مقسوم } عضو خاص به، أو بعض من الخلق يختصون بالدخول منه لغلبة قوة ذلك الباب عليهم.
[15.45-86]
{ إن المتقين } الذين تزكوا عن الغواشي الطبيعية وتجردوا عن الصفات البشرية { في جنات } من روضات عالم القدس { وعيون } من ماء حياة العلم مقولا لهم { ادخلوها } بسلامة من الهيئات الجسدانية وأمراض القلوب المانعة عن الوصول إلى ذلك المقام { آمنين } من آفات عالم التضاد وعوارض الكون و الفساد، وتغيرات أحوال الأزمنة والمواد. { ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي: حقد راسخ وكل هيئة متصاعدة من النفس إلى وجه القلب الذي يليها بفيض النور واستيلاء قوة الروح وتأييد القدس، وهم الذين غلبت أنوارهم على ظلماتهم من أهل العلم واليقين فاضمحلت وزالت عنهم الهيئات النفسانية الغاسقة وآثار العداوة اللازمة لهبوط النفس والميل إلى عالم التضاد، وأشرقت فيهم قوة المحبة الفطرية بتعاكس أشعة القدس وأنوار التوحيد واليقين من بعضهم إلى بعض، فصاروا إخوانا بحكم العقد الإيماني والتناسب الروحاني. { على سرر } مراتب عالية { متقابلين } لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم وكونهم غير محتجبين.
{ لا يمسهم فيها نصب } لامتناع أسباب المنافاة والتضاد هناك { وما هم منها بمخرجين } لسرمدية مقامهم وتنزهه عن الزمان وتغيراته. وأما كيفية نزول الملائكة على النبيين وتجسد الأرواح العالية للمتجردين المنسلخين عن الهيئات البدنية المتقدسين، فقد مرت الإشارة إليها في سورة (هود).
[15.87-99]
{ ولقد آتيناك سبعا } أي: الصفات السبع التي ثبتت لله تعالى وهي: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والتكلم { من المثاني } التي كرر وثنى ثبوتها لك أولا في مقام وجود القلب عند تخلقك بأخلاقه، واتصافك بأوصافه، فكانت لك. وثانيا: في مقام البقاء بالوجود الحقاني بعد الفناء في التوحيد { والقرآن العظيم } أي: الذات الجامعة لجميع الصفات وإنما كانت لمحمد عليه الصلاة و السلام سبعا، ولموسى تسعا لأنه ما أوتي القرآن العظيم بل كان مقامه التكليم، أي: مقام كشف الصفات دون كشف الذات، فله هذه السبع مع القلب والروح.
{ فسبح } بالتجريد عن عوارض الصفات المتعلقة بالمادة لتكون منزها لله تعالى بلسان الحال، حامدا لربك بالاتصاف بالصفات الكمالية لتكون حامدا لنعم تجليات صفاته بأوصافك { وكن من الساجدين } بسجود الفناء في ذاته { واعبد ربك } بالتسبيح والتحميد والسجود المذكورة { حتى يأتيك } حق { اليقين } فتنتهي عبادتك بانقضاء وجودك، فيكون هو العابد والمعبود جميعا لا غيره.
[16 - سورة النحل]
[16.1-2]
{ أتى أمر الله } لما كان صلى الله عليه وسلم من أهل القيامة الكبرى يشاهدها ويشاهد أحوالها في عين الجمع، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت أنا والساعة كهاتين "
أخبر عن شهوده بقوله تعالى: { أتى أمر الله } ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر لكل أحد لا يكون إلا بوجود المهدي عليه السلام قال: { فلا تستعجلوه } لأن هذا ليس وقت ظهوره، ثم أكد شهوده لوجه الله وفناء الخلق في القيامة بقوله: { سبحانه وتعالى عما يشركون } من إثبات وجود الغير. ثم فصل ما شهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع يشاهد كثرة الصفات في عين أحدية الذات بحيث لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس، كما ذكر في قوله تعالى:
شهد الله
[آل عمران، الآية: 18] الآية، فقال: { ينزل الملائكة بالروح } أي: العلم الذي يحيي به القلوب، يعني: القرآن { من } عالم { أمره } الذي انتقش فيه { على من يشاء من عباده } المخصوصين بمزيد عنايته، إن أخبروهم بالتوحيد والتقوى، فبين بعد بيان أحدية الذات عالم الصفات الحقيقية بتنزيل الروح الذي هو العلم، وإثبات المشيئة التي هي الإرادة، وعالم الأسماء بإثبات الملائكة، وعالم الأفعال بالإنذار.
[16.3-29]
ثم عد الصفات الإضافية كالخلق والرزق، وفصل النعم المتعددة كالنعم وغيرها. ولما ظهر الحق والخلق ظهر طريق الحق والباطل، فقال: { وعلى الله قصد السبيل } أي: عليه لزوم السبيل المستقيم والهداية إليها لأهله، كما قال:
إن ربي على صراط مستقيم
[هود، الآية: 56] أي: كل من كان على هذا الصراط الذي هو طريق التوحيد لا بد وأن يكون من أهله تعالى لأنه طريقه الذي يلزمه. ومن السبيل { جائر } يعني بعض السبل، وهي السبل المتفرقة مما عدا سبيل التوحيد جائر عادل عن الحق، موصل إلى الباطل لا محالة، فهي سبيل الضلالة كيفما كانت. ولم يشأ هداية الجميع إلى السبيل المستقيم لكونها تنافي الحكمة. { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } قد مر أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله تعالى بذاته، وأما الأبرار والسعداء فقسمان: فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد ووصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم ملك الموت، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد والمتشرعين الذين لم يتجردوا عن علائق البدن بالتزكية والتحلية تتوفاهم ملائكة الرحمة بالبشرى بالجنة، أي: جنة النفس التي هي جنة الأفعال والآثار. وأما الأشرار الأشقياء فكيفما كانوا تتوفاهم ملائكة العذاب، إذ القوى الملكوتية المتصلة بالنفوس تتشكل بهيئات تلك النفوس، فإذا كانت محجوبة ظالمة كانت هيئاتهم غاسقة ظلمانية هائلة، فتتشكل القوى الملكوتية القابضة لنفوسهم بتلك الهيئات لمناسبتها، ولهذا قيل: إنما يظهر ملك الموت على صورة أخلاق المحتضر، فإذا كانت رديئة، ظلمانية، كانت صورته هائلة، موحشة، غلب على من يحضره الخوف والذعر، وتذلل وتمسكن، ونزل عن استكباره، وأظهر العجز والمسكنة، وهذا معنى قوله: { فألقوا السلم } أي: سالموا، وهانوا، ولانوا، وتركوا العناد والتمرد وقالوا: { ما كنا نعمل من سوء } فأجيبوا بقولهم: { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم } الأفعال.
[16.30-47]
وأما المتقون عن المعاصي والمناهي، الواقفون مع أحكام الشريعة، المعترفون بالتوحيد والنبوة على التقليد لا التحقيق، وإلا لتجردوا بعلم اليقين عن صفات النفس إلى مقام القلب، فتتوفاهم الملائكة طيبين على صورة أخلاقهم وأعمالهم الطيبة الجميلة، فرحين مستبشرين { يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة } أي: الجنة المعهودة عندهم، وهي جنة النفوس من جنات الأفعال { بما كنتم تعملون }.
{ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } إنما قالوا ذلك عنادا وتعنتا عن فرط الجهل، وإلزاما للموحدين بناء على مذهبهم، إذ لو قالوا ذلك عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير، لأن من علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله، علم أنه لو شاء كل من في العالم شيئا لم يشأ الله ذلك لم يمكن وقوعه، فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله تعالى فلم يبق مشركا، قال الله تعالى:
ولو شآء الله مآ أشركوا
[الأنعام، الآية: 107]. { كذلك فعل الذين من قبلهم } في تكذيب الرسل بالعناد.
{ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } الفرق بين إرادة الله تعالى وعلمه وقدرته لا يكون إلا بالاعتبار، فإن الله تعالى يعلم كل شيء ويعلم وقوعه في وقت معين بسبب معين على وجه معين، فإذا اعتبرنا علمه بذلك قلنا بعالميته، وإذا اعتبرنا تخصيصه بالوقت المعين والوجه المعين قلنا بإرادته، وإذا اعتبرنا وجوب وجوده بوجود ما يتوقف عليه وجوده في ذلك الوقت على ذلك الوجه المعلوم قلنا بقدرته، فمرجع الثلاثة إلى العلم. ولو اقتضى علمنا وجود شيء ولم يتغير ولم يحتج إلى ترو وعزيمة غير كونه معلوما وتحريك الآلات لكان فينا أيضا كذلك.
[16.48-55]
{ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء } أي: ذات وحقيقة مخلوقة، أية ذات كانت من المخلوقات { يتفيأ ظلاله } أي: يتجسد ويتمثل هياكله وصوره، فإن لكل شيء حقيقة هي ملكوت ذلك الشيء وأصله الذي هو به، هو كما قال تعالى:
بيده ملكوت كل شيء
[يس، الآية: 83]. وظلاله هو: صفته ومظهره، أي: جسده الذي به يظهر ذلك الشيء. { عن اليمين و } عن { الشمائل } أي: عن جهة الخير والشر { سجدا لله } منقادة بأمره، مطواعة لا تمتنع عما يريد فيها، أي: يتحرك هياكله إلى جهات الأفعال الخيرية والشرية بأمره { وهم داخرون } صاغرون، متذللون لأمره، مقهورون. { ولله يسجد } ينقاد { ما في السموات } في عالم الأرواح من أهل الجبروت والملكوت والأرواح المجردة المقدسة { وما في الأرض } في عالم الأجساد من الدواب والأناسي والأشجار وجميع النفوس والقوى الأرضية والسماوية { وهم لا يستكبرون } لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره { يخافون ربهم } أي: ينكسرون ويتأثرون وينفعلون منه انفعال الخائف { من فوقهم } من قهره وتأثيره وعلوه عليهم { ويفعلون ما يؤمرون } طوعا وانقيادا بحيث لا يسعهم فعل غيره.
{ إذا فريق منكم بربهم يشركون } بنسبة النعمة إلى غيره ورؤيته منه، وكذا بنسبة الضر إلى الغير وإحالة الذنب في ذلك عليه، والاستعانة في رفعه به. قال الله تعالى:
" أنا والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري "
، وذلك هو كفران النعمة والغفلة عن المنعم المشار إليهما بقوله: { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } وبال ذلك الاعتقاد عليهم، أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغير الله في شيء.
[16.56-74]
{ ويجعلون لما لا يعلمون } وجوده مما سواه { نصيبا مما رزقناهم } فيقولون: هو أعطاني كذا، ولو لم يعطني لكان كذا، وفلان رزقني وأعانني، فيجعلون لغيره تأثيرا في وصول ذلك إليه، وإن لم يثبتوا له تأثيرا في وجوده فقد جعلوا له نصيبا مما رزقهم الله.
[16.75-76]
{ ضرب الله مثلا } للمجرد والمقيد والمشرك والموحد { عبدا مملوكا } محبا لغير الله، مؤثرا له بهواه، فإن المقيد بالشيء يدين بدينه ويصدر عن حكمه، ويتصرف بأمره، فهو عبده إذ كل من أحب شيئا أطاعه، وإذا أطاعه فقد عبده. فمنهم من يعبد الشيطان ومنهم من يعبد الشهوة ومنهم من يعبد الدنيا أو الدينار أو اللباس، كما قال عليه الصلاة والسلام:
" تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، وتعس عبد الخميصة "
، وقال الله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية، الآية: 23] وإذا عبده كان مملوكه ورقيقه. { لا يقدر على شيء } لأن المحب والعابد لا يرتقي همته وتأثيره وقوة نفسه من محبوبه ومعبوده وإلا لما كان مقهورا له، أسيرا في وثاقه، بل ينقض منه ومعبوده عاجز لا تأثير له، بل لا وجود سواء كان جمادا أو حيوانا أو إنسانا أو ما شئت، فهو أعجز منه وأذل، ولهذا قيل: إن الدنيا كالظل، إذا تبعته فاتك وإن تركته تبعك، فإن تابع الدنيا أحقر قدرا من الدنيا وأقل خطرا، ولا تأثير للدنيا فكيف به حتى يحصل له وبسببه شيء؟ وإن الدنيا ظل زائل، فهو ظل الظل ولا ظل لظل الظل، بل الظل للذات ولا ذات له فلا ملك له ولا قدرة.
{ ومن رزقناه منا رزقا حسنا } ومن أحبنا وأقبل بقلبه علينا، وتجرد عما سوانا، وانقطع إلينا، أعطيناه الأيد والقوة، ورزقناه الملك والحكمة، وأسبغنا عليه النعمة الظاهرة والباطنة لأنه متوجه إلى مالك الملك، منعم الكل، منيع القوى والقدر، فأكسب نفسه القوة و التأثير والقدرة منه، وتأثر منه الأكوان والأجرام وأطاعه الملك والملكوت كما أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: " يا دنيا اخدمي من خدمني، واتعبي من خدمك ". ثم إذا ربت همته الشريفة عن الأكوان ولم تقف بمحبته مع غير الله ولم يلتفت إلى ما سواه زدنا في رزقه فآتيناه صفاتنا ومحونا عنه صفاته، فعلمناه من لدنا علما وأقدرناه بقدرتنا، كما قال تعالى:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به "
، الحديث. { فهو ينفق منه سرا وجهرا } ينفق من النعم الباطنة كالعلم والحكمة سرا، ومن الظاهرة جهرا، أو ينفق من كلتيهما سرا كالذي يصل إلى الناس من غير تسببه لوصوله ظاهرا وهو في الحقيقة منه وصل لأنه حينئذ واسطة الوجود الإلهي ووكيل حضرته وجهرا كالذي يتسبب هو بنفسه ظاهرا لوصوله { هل يستوون } استفهام بطريق الإنكار وكذا المشرك كالأبكم الذي لم يكن له استعداد النطق في الخلقة لأنه ما استعد للإدراك والعقل الذي هو خاصية الإنسان، فيدرك وجوب وجود الحق تعالى وكماله وإمكان الغير ونقصانه فيتبرأ عن غيره ويلوذ به عن حول نفسه وغيره وقوتهما.
{ لا يقدر على شيء } لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده { وهو كل على مولاه } لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجته، فهو عبد بالطبع محتاج، متذلل للغير، ناقص عن رتبة كل شيء لكونه أقل من لا شيء، فإن الممكن الذي يعبده ليس بشيء سواء كان ملكا أو ملكا أو فلكا أو كوكبا أو عقلا أو غيرها { أينما يوجهه لا يأت بخير } لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم فكيف يأتي بالخير { هل يستوي هو } والموحد القائم بالله، الفاني عن غيره حتى نفسه يقوم بالحق، ويعامل الخلق بالعدل، ويأمر بالعدل، لأن العدل ظل الوحدة في عالم الكثرة فحيث قام بوحدة الذات وقع ظله على الكل، فلم يكن إلا آمرا بالعدل { وهو على صراط مستقيم } أي: صراط الله الذي عليه خاصته من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع.
[16.77-83]
{ ولله غيب السموات والأرض } أي: ولله علم الذي خفي في السموات والأرض من أمر القيامة الكبرى، أو علم مراتب الغيوب السبعة التي أشرنا إليه من غيب الجن والنفس والقلب والسر والروح والخفي وغيب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أي: ملكوت عالم الأرواح وعالم الأجساد { وما أمر } القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية { إلا } كأقرب زمان يعبر عنه مثل لمح البصر { أو هو أقرب } وهو بناء على التمثيل وإلا فأمر الساعة ليس بزماني وما ليس بزماني يدركه من يدركه لا في الزمان { إن الله على كل شيء قدير } يقدر على الإماتة والإحياء والحساب لا في زمان كما يشاهد أهله وخاصته.
{ ألم يروا إلى الطير } القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي، بل الوهم والتخيل { مسخرات في جو السماء } أي: فضاء عالم الأرواح { ما يمسكهن } من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل { إلا الله }.
{ يعرفون نعمة الله } أي: هداية النبي أو وجوده لما ذكرنا أن كل نبي يبعث على كمال يناسب استعدادات أمته ويجانسهم بفطرته، فيعرفونه بقوة فطرتهم { ثم ينكرونها } لعنادهم وتعنتهم بسبب غلبة صفات نفوسهم من الكبر والأنفة وحب الرياسة أو لكفرهم واحتجابهم عن نور الفطرة بالهيئات الغاسقة الظلمانية وتغير الاستعداد الأول { وأكثرهم الكافرون } في إنكاره لشهادة فطرهم بحقيته.
[16.84-90]
{ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا } أي: نبعث نبيهم على غاية الكمال الذي يمكن لأمته الوصول إليه أو التقرب منه والتوجه إليه لإمكان معرفتهم إياه فيعرفونه، ولهذا يكون لكل أمة شهيد غير شهيد الأمة الأخرى، ويعرف كل من قصر وخالف نبيه بالإعراض عن الكمال الذي هو يدعو إليه، والوقوف في حضيض النقصان قصوره واحتجابه فلا حجة له ولا نطق، فيبقى متحيرا متحسرا، وهو معنى قوله: { ثم لا يؤذن للذين كفروا } ولا سبيل له إلى إدراك ما فاته من كماله لعدم آلته، ولا يمكن أن يرضى بحاله لقوة استعداده الفطري الذي جبل عليه، وشوقه الأصلي الغريزي إليه، فهو مكظوم لا يستعتب ولا يسترضي.
{ وألقوا إلى الله يومئذ السلم } أي: الاستسلام والانقياد. وقد جاء إنكارهم كقوله تعالى:
يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم
[المجادلة، الآية: 18] وذلك بحسب المواقف، فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة، وغاية البعد عن النور الإلهي للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه ونهاية تكدر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه. والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة حين زالت الهيئات، ورقت وضعفت شراشر النفس في رذائلها، وقرب من عالم النور لرقة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى، فيعترف وينقاد، هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها. وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم، ولم تغلظ حجبهم، ولم ينطفئ نور استعدادهم. والإنكار لمن ترسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة، واستقرت وكثف الحجاب، وبطل الاستعداد والله أعلم.
{ وجئنا بك شهيدا على هؤلاء } قد مر في سورة (النساء)، { ونزلنا عليك الكتاب } أي: العقل الفرقاني بعد الوجود الحقاني { تبيانا لكل شيء } تبيينا وتحقيقا لحقية كل شيء، وهداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله { ورحمة } له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد وبشارة له ببقائه على ذلك الكمال أبدا سرمدا في الجنان الثلاث.
[16.91-98]
{ وأوفوا بعهد الله } الذي هو تذكر العهد السابق وتجديده بالعقد اللاحق بالبقاء على حكمه في الإعراض عن الغير والتجرد عن العوائق والعلائق في التوجه إليه { إذا عاهدتم } أي: تذكرتموه بإشراق نور النبي عليكم وتذكيره إياكم. { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى } أي: عملا يوصله إلى كماله الذي يقتضيه استعداده، إذ الصلاح في الشخص توجهه إلى كماله أو كونه على ذلك الكمال، والفساد بالضد وفي العمل كونه وصلة وسيلة إليه من صاحب قلب بالغ إلى كمال الرجولية أو صاحب نفس قابلة لتأثير القلب مستفيضة منه { وهو مؤمن } أي: معتقد للحق اعتقادا جازما، إذ صلاح العمل مشروط بصحة الاعتقاد وإلا لم يتصور كماله على ما هو عليه ولم يعتقده على الوجه الذي ينبغي فلم يمكنه عمل يوصله إليه فلا يكون ما يعمله صالحا حينئذ في الحقيقة. وإن كان في صورة الصلاح { فلنحيينه حياة طيبة } أي: حياة حقيقية لا موت بعدها بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط في سلك الأنوار السرمدية، والتلذذ بكمالات الصفات في مشاهدات التجليات الأفعالية والصفاتية { ولنجزينهم أجرهم } من جنان الأفعال والصفات { بأحسن ما كانوا يعملون } إذ عملهم يناسب صفاتهم التي هي مبادئ أفعالهم وأجرهم يناسب صفاتنا التي هي مصادر أفعالنا، فانظر كم بينهما من التفاوت في الحسن. { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } فادرج عن مقام النفس بالعروج إلى جناب القدس، فإن النفس مأوى كل كدورة ومنبع كل رجس تناسب وساوس الشيطان، وتجردها بأحاديثها، فإن ارتقيت من مقرها لم يكن للشيطان عليك سلطان لأنه لا يطيق نور حضور الحق وحضرة القلب مهبط أنواره وجناب صفاته المقدسة ومحل تجلياته النورية، فعذ إليها وعذ بنور الله فيها تستحكم بنيان إيمانك باليقين.
[16.99-105]
فإن الإيمان الذي لا يبقى معه سلطان الشيطان كما قال تعالى: { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا } أقل درجاته اليقين العلمي الذي محله القلب الصافي ولا يكفي هذا اليقين في نفي سلطانه إلا إذا كان مقرونا بشهود الأفعال الذي هو مقام التوكل كما قال تعالى: { وعلى ربهم يتوكلون } والفناء في الأفعال لا يمكن مع بقاء صفات النفس، إذ بقاء صفاتها يستدعي أفعالها، ولهذا قيل: لا يمكن إيفاء حق مقام وتصحيحه وإحكامه إلا بعد الترقي إلى ما فوقه، فبالترقي إلى مقام الصفات يتم فناء الأفعال فيصح التوكل. { إنما سلطانه على الذين يتولونه } في مقام النفس بالمناسبة التي بينهما في الظلمة والكدورة، إذ التولي مرتب على الجنسية { والذين هم به مشركون } بنسبة القوة والتأثير إليه، بل بطاعته وانقياد أوامره للتولي المذكور.
[16.106-111]
{ من كفر بالله من بعد إيمانه } لكون الظلمة له ذاتية بحسب استعداده الأول والنور عارضيا، فهو في حجاب خلقي عن نور الإيمان إن اعتراه شعاع قدسي من نفس الرسول أو من فيض القدس أو أثر فيه وعدا ووعيدا، أو كلمة حق في دعوته إلى الحق في حال إقبال من قلبه ودعاه داعية نفسانية من حصول نفع ودفع ضر ماليين أو جاه وعزة بسبب الإسلام، آمن ظاهرا، ومقامه ومقره الكفر، فقد استحق غضب الله لأنه محجوب بحسب الاستعداد عن أول مراتب الإيمان الذي هو شهود الأفعال بالاستدلال من الصنع على الصانع فعقابه من باب الأفعال والصفات لا الذي { أكره } على الكفر بالإنذار والتخويف { وقلبه مطمئن } ثابت متمكن مملوء { بالإيمان } لنورية فطرته في الأصل وكون النور ذاتيا له بحسب الفطرة، والكفر والاحتجاب إنما عرض بمقتضى النشأة. وقد زال الحجاب العارضي. { ولكن من شرح بالكفر صدرا } أي: طاب به نفسا ورضي واطمأن لكونه مستقره ومأواه الأصلي { فعليهم غضب } عظيم، أي: غضب { من الله ولهم عذاب عظيم } لاحتجابهم عن جميع مراتب الأنوار من الأفعال والصفات والذات، فما أغلظ حجابهم وما أعظم عذابهم.
{ ذلك } أي: انشراح الصدر بالكفر والرضا به { ب } سبب { أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } لكونها مبلغ علمهم ونهايته، وما بلغ علمهم إلى الآخرة لانسداد بصائر قلوبهم ومناسبة استعدادهم للأمور الغاسقة السفلية من المواد الجسمية، فأحبوا ما شعروا به ولاءم حالهم. وحب الدنيا رأس كل خطيئة لاستلزامه الحجاب الأغلظ الذي لا خطيئة إلا تحته وفي طيه { وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } أي: المحجوبين بأغلظ الحجب لامتناع قبولهم للهداية.
{ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } بقساوتها وكدورتها في الأصل فلم ينفتح لهم طريق الإلهام والفهم والكشف { وسمعهم وأبصارهم } بسد طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب، فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض الروح وإلقاء الملك وإشراق النور ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع { وأولئك هم الغافلون } بالحقيقة لعدم انتباههم بوجه من الوجوه وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم، وأتلفوا في طلبها أعمارهم، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في عذاب هيئات التعلقات ووبال التحسرات.
{ ثم إن ربك للذين هاجروا } أي: تباعد بين هؤلاء المحجوبين الذين: إن ربك عليهم بالغضب والقهر، وبين الذين: إن ربك لهم بالرضا والرحمة وهم الذين هاجروا عن مواطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات { من بعد ما فتنوا } وابتلوا بحكم النشأة البشرية { ثم جاهدوا } في الله بالرياضات وسلوك طريقه بالترقي في المقامات والتجريد عن الهيئات والتعلقات { وصبروا } على ما تحب النفس وتكرهه بالثبات في السير { إن ربك من } بعد هذه الأحوال { لغفور } لهم بستر غواشي الصفات النفسانية { رحيم } بإفاضة الكمالات وإبدال صفاتهم بالصفات الإلهية.
[16.112-119]
{ وضرب الله مثلا } للنفس المستعدة، القابلة الصافية عن الكدورات، المستفيدة من فيض القلب، الثابتة في طريق اكتساب الفضائل، الآمنة من خوف فواتها وفنائها، المطمئنة باعتقادها { يأتيها رزقها رغدا } من العلوم النافعة والفضائل الحميدة والأنوار الشريفة { من كل مكان } أي: من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس الممتارة إياها قوت العلوم الجزئية، والجوارح، والآلات التي تطاوعها في الأعمال الجميلة، وتمرين الفضيلة إذا كانت منقادة للقلب مطواعة له، قابلة لفيضه، باقية على معتقدها من الحق تقليدا. ومن جهة القلب كإمداد الأنوار، وهيئات الفضائل، فظهرت بصفاتها بطرا وإعجابا بزينتها وكمالها. ونظرا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السفلية من زخارف الدنيا واللذات الحسية وانقطع إمداد القلب عنها، وانقلبت المعاني الواردة إليها من طرق الحس هيئات غاسقة من صور المحسوسات التي انجذبت إليها { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات الحسية والمشتهيات { بما كانوا يصنعون } من كفران نعم الله باستعمالها في طلب اللذات الحسية والزخارف الدنيوية ولظهورها بصفاتها وإعجابها بكمالاتها وركونها إلى الدنيا ولذاتها واستيلائها على القلب بهيئاتها وأفعالها وحجب صاحبها عن نوره ومدده بطلب شهواتها، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى " بقرية صفتها ما ذكر.
{ ولقد جاءهم رسول منهم } أي: من جنسهم وهي القوة الفكرية التي هي من جملة قوى النفس بالمعاني المعقولة والآراء الصادقة { فكذبوه } بعدم التأثر بها والانقياد لأوامرها ونواهيها العقلية والشرعية وترك العمل بمقتضاها وقلة المبالاة بها، ولم يرفعوا بها رأسا عن الانهماك فيما هم عليه { فأخذهم } عذاب الاحتجاب والحرمان عن لذة الكمال في حالة ظلمهم وزيغهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم.
[16.120-123]
{ إن إبراهيم كان أمة } قد مر أن كل نبي يبعث في قوم يكون كماله شاملا لجميع كمالات أمته وغاية لا يمكن لأمته الوصول إلى رتبة إلا وهى دونه، فهو مجموع كمالات قومه ولا يصل إليهم الكمال في صفة من صفات الخير والسعادة إلا بواسطته بل وجوداتهم فائضة من وجوده فهو وحده أمة لاجتماعهم بالحقيقة في ذاته، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" لو وزنت بأمتي لرجحت بهم "
{ قانتا } لله مطيعا له، منقادا بحيث لا يتحرك منه شعرة إلا بأمره لاستيلاء سلطان التوحيد عليه ومحو صفاته بصفاته، واتحاده بذاته، ولهذا سمي خليل الله لمخالة الحق إياه في شهوده. فخلته عبارة عن مزج بقية من ذاته تؤذن بالإثنينية أما ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يبق منه شيء من بقيته سمي حبيب الله فمحو صفاته في صفات الحق بالكلية وبقاء أثر من ذاته دون العين قنوته لله وإلا كان قانتا بالله لا لله، كما قال لمحمد عليه الصلاة والسلام:
وما صبرك إلا بالله
[النحل، الآية: 127] { حنيفا } مائلا عن كل باطل حتى عن وجوده ووجود كل ما سواه تعالى معرضا عن إثباته. وما كان { من المشركين } بنسبة الوجود والتأثير إلى الغير. { شاكرا لأنعمه } أي: مستعملا لها على الوجه الذي ينبغي لكونه متصرفا فيها بصفات الله فتكون أفعاله إلهية مقصودة لذاتها لا لغرض فلا يمكنه ولا يسعه إلا توجيه كل نعمة إلى ما هو كمالها على مقتضى الحكمة الإلهية والعناية السرمدية { اجتباه } اختاره في العناية الأولى بلا توسط عمل منه وكذا لكونه من المحبوبين الذين سبقت لهم منه الحسنى، فتتقدم كشوفهم على سلوكهم { وهداه إلى صراط مستقيم } أي: بعد الكشف والتوحيد والوصول إلى عين الجمع هداه إلى سلوك صراطه ليقتدي به، ورده من الوحدة إلى الكثرة وإلى الفرق بعد الجمع لإعطاء كل ذي حق حقه من مراتب التفاصيل، وتبيين أحكام التجليات في مقام التمكين والاستقامة وإلا لم يصلح للنبوة.
{ وآتيناه في الدنيا حسنة } من تمتيعه بالحظوظ لتتقوى نفسه على تقنين القوانين الشرعية والقيام بحقوق العبودية في مقام الاستقامة والإطاقة بحمل أعباء الرسالة { وآتيناه } الملك العظيم مع النبوة، كما قال:
وآتيناهم ملكا عظيما
[النساء، الآية: 54] ليتمكن من تقرير الشريعة ويضطلع بأحكام الدعوة والذكر الجميل كما قال:
وجعلنا لهم لسان صدق عليا
[مريم، الآية: 50] والصلاة والسلام عليه كما قال:
وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم
[الصافات، الآيات: 108-109] { وإنه في الآخرة } أي: في عالم الأرواح { لمن الصالحين } المتمكنين في مقام الاستقامة بإيفاء كل ذي حق حقه، وتبليغه إلى كماله وحفظه عليه ما أمكن.
{ ثم أوحينا إليك } أي: بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين شرفناه وكرمناه بأمرنا باتباعك إياه { أن اتبع ملة إبراهيم } في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها، لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق.
[16.124-126]
{ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } أي: ما فرض عليك إنما فرض عليهم فلا يلزمك اتباع موسى في ذلك بل اتباع إبراهيم. { ادع إلى سبيل ربك } الخ، أي: لتكن دعوتك منحصرة في هذه الوجوه الثلاثة لأن المدعو إما أن يكون خاليا عن الإنكار أو لا، فإن كان خاليا لكونه في مقام الجهل البسيط غير معتقد لشيء، فإما أن يكون مستعدا غير قاصر عن درك البرهان بل يكون برهاني الطباع أو لا. فإن كان الأول فادعه بالحكمة وكلمه بالبرهان والحجة واهده إلى صراط التوحيد بالمعرفة، وإن كان قاصر الاستعداد فادعه بالموعظة الحسنة والنصيحة البالغة من الإنذار والبشارة والوعد والوعيد والزجر والترهيب واللطف والترغيب، وإن كان منكرا ذا جهل مركب واعتقاد باطل فجادله بالطريقة التي هي أحسن من إبطال معتقده بما يلزم من مذهبه بالرفق والمداراة على وجه يلوح له أنك تثبت الحق وتبطل الباطل لا غرض لك سواه. { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } في الأزل لشقاوته الأصلية فلا ينجع فيه أحد هذه الطرق الثلاثة { وهو أعلم بالمهتدين } المستعدين، القابلين للهداية لصفاء الفطرة.
{ وإن عاقبتم } الخ، أي: الزموا سيرة العدالة والفضيلة لا تجاوزوها فإنها أقل درجات كمالكم، فإن كان لكم قدم في الفتوة وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم وعارضوه بالعفو مع القدرة واصبروا على الجناية فإنه { لهو خير للصابرين } ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال: لهو خير لكم، بل قال:
لهو خير للصابرين
[النحل، الآية: 126] للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر، فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب فلم يتكدر بظهور صفة النفس وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه، فكثيرا ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس، وتنكسر سورة غضبه فيصلح، وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف فلا تعاقبوا المسيء لسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني.
[16.127-128]
{ واصبر وما صبرك إلا بالله } اعلم أن الصبر أقسام: صبر لله، وصبر في الله، وصبر مع الله، وصبر عن الله، وصبر بالله. فالصبر لله هو من لوازم الإيمان وأول درجات أهل الإسلام. قال النبي عليه الصلاة والسلام:
" الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر "
، وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه، وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله لأهل دينه وطاعته المقتضى للثواب الجزيل. والصبر في الله هو الثبات في سلوك طريق الحق، وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار، وترك المألوفات واللذات، وتحمل البليات، وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات، وهو من مقامات السالكين، يهبه الله لمن يشاء من فضله من أهل الطريقة. والصبر مع الله هو لأهل الحضور، والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات، والتعرض لتجليات الجمال والجلال، وتوارد واردات الأنس والهيبة، فهو بحضور القلب لمن كان له قلب، والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس وهو أشق على النفس من الضرب على الهام، وإن كان لذيذا جدا. والصبر عن الله هو لأهل الجفاء والحجاب، نورانيا كان أو ظلمانيا، وهو مذموم جدا، وصاحبه ملوم حقا وكلما كان أصبر كان أسوأ حالا وأبعد، وكلما كان في ذلك أقوى كان ألوم وأجفى أو لأهل العيان والمشاهدة من العشاق والمشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار. والمنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا، وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجوههم تشويقا وتعظيما ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم وهو من أحوال المحبين ولا شيء أشق من هذا الصبر وأشد تحملا واقتل، فإن أطاقه المحب كان خافيا وإن لم يطق كان فانيا فيه هالكا، وفي هذا المقام قال الشبلي:
صابر الصبر فاستغاث به الصب
ر فصاح المحب بالصبر صبرا
أي: صابر الحبيب الصبر، فاستغاث به الصبر عند إشرافه على النفاد فصاح المحب بالصبر صبرا على النفاد والهلاك، فإن فيه النجاح والفلاح. والصبر بالله هو لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم الله بالكلية وما ترك عليهم شيئا من بقية الأنية والإثنينية ثم وهب لهم وجودا من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من أخلاق الله تعالى ليس لأحد فيه نصيب ولهذا أمره به. ثم بين أن ذلك الصبر الذي أمرت به ليس من سائر أقسام الصبر حتى يكون بنفسك أو بقلبك بل هو صبري لا تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوتي، ولعدم وفاء قوته بهذا الصبر قال:
" شيبتني سورة هود ".
{ ولا تحزن عليهم } بالتلوين بظهور القلب بصفته لأن صاحب هذا الصبر يرى الأشياء بعين الحق فكل ما يصدر عنهم يراه فعل الله وكل صفة تظهر عليهم يراه تجليا من تجلياته وينكر المنكر بحكمه لأن الله بصره بأنوع التجليات القهرية واللطفية والغضبية والرضوية وعرفه أحكامه وأمره بإنفاذ الأحكام في مواقعها. { ولا تك في ضيق هما يمكرون } لانشراح صدرك بي، فكن معهم كما تراني معهم سائرا بسيري قائما بي وبأمري.
{ إن الله مع الذين اتقوا } بقاياهم وأنياتهم بالاستهلاك في الوحدة والاستغراق في عين الجمع { واللذين هم محسنون } بشهود الوحدة في عين الكثرة،والطاعة في عين المعصية، والقيام بالأمر والنهي في مقام الاستقامة، وإبقاء حقوق التفاصيل في عين الجمع، فلا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق، ويسعهم مراعاة الحق والخلق للرجوع إلى الكثرة بوجود القلب الحقاني.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1]
{ سبحان الذي أسرى } أي: أنزهه عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية بلسان حال التجرد والكمال في مقام العبودية الذي لا تصرف فيه أصلا { ليلا } أي: في ظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية لأن العروج والترقي لا يكون إلا بواسطة البدن { من المسجد الحرام } أي: من مقام القلب المحرم عن أن يطوف به مشرك القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها ويحجه غوى القوى الحيوانية من البهيمية والسبعية المنكشفة سوأتا إفراطها وتفريطها لعروها عن لباس الفضيلة { إلى المسجد الأقصى } الذي هو مقام الروح الأبعد من العالم الجسماني بشهود تجليات الذات وسبحات الوجه، وتذكر ما ذكرنا أن تصحيح كل مقام لا يكون إلا بعد الترقي إلى ما فوقه لتفهم من قوله.
{ لنريه من آياتنا } مشاهدة الصفات، فإن مطالعة تجليات الصفات وإن كانت في مقام القلب لكن الذات الموصوفة بتلك الصفات لا تشاهد على الكمال بصفة الجلال والجمال إلا عند الترقي إلى مقام الروح، أي: لنريه آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا ونحن المشاهدون بها، البارزون بصورها { إنه هو السميع } لمناجاته في مقام السر لطلب الفناء { البصير } بقوة استعداده وتوجهه إلى محل الشهود وانجذابه إليه بقوة المحبة وكمال الشوق.
[17.2-5]
{ وآتينا موسى } القلب كتاب العلم { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } أي: القوى التي هي أسباط إسرائيل الروح { ألا تتخذوا من دوني وكيلا } لا تستبدوا بأفعالكم ولا تستقلوا بطلب كمالاتكم وحظوظكم ولا تكتسبوا بمقتضى دواعيكم ولا تكلوا أمركم إلى شيطان الوهم فيسول لكم اللذات البدنية ولا إلى عقل المعاش فيستعملكم في ترتيبه وإصلاحه، بل كلوا أمركم إلي لأدبركم بأرزاق العلوم والمعارف وهيئات الأخلاق والفضائل، وأكملكم بإمداد الأنوار من عالم القلب والروح بتأييد القدس وأنزل عليكم من عوالم الملكوت والجبروت ما يغنيكم عن مكاسب الناسوت أعني { ذرية من حملنا مع نوح } العقل في فلك الشريعة والحكمة العملية { إنه كان عبدا شكورا } لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي.
{ وقضينا إلى بني إسرائيل } القوى في كتاب اللوح المحفوظ أي: حكمنا فيه { لتفسدن في الأرض مرتين } مرة في مقام النفس حالة كونها أمارة لتفسدن في طلب شهواتكم ولذاتكم { ولتعلن علوا كبيرا } باستيلائكم على القلب وغلبتكم واستعلائكم عليه ومنعكم إياه عن كماله واستخدام قوته المفكرة في تحصيل مطالبكم ومآربكم، ومرة في مقام القلب عند تزينكم بالفضائل وتنوركم بنور القلب وظهوركم ببهجة كمالاتكم لتفسدن بالظهور بكمالاتكم واحتجاب القلب بفضائلكم عن شهود تجلي التوحيد والحجب النورية أقوى من الحجب الظلمانية لرقتها ولطافتها وتصورها كمالات يجب الوقوف معها، ولتعلن في مقام الفطرة بالسلطنة بالهيئات العقلية والكمالات الأنسية.
{ فإذا جاء وعد أولاهما } أي: وعد وبال أولاهما { بعثنا عليكم عبادا لنا } من الصفات القلبية والأنوار الملكوتية والآراء العقلية { أولي بأس شديد } ذوي سلطنة وقهر { فجاسوا خلال } ديار أماكنكم ومحالكم وقتلوا بعضكم بالقمع والقهر وسبوا ذراري الهيئات البدنية والرذائل النفسانية ونهبوا أموال المدركات الحسية واللذات البهيمية والسبعية { وكان وعدا } على الله { مفعولا } لإيداعه قوة الكمال وطلبه في استعدادكم وتركيزه أدلة العقل في فطرتكم.
[17.6-8]
{ ثم رددنا لكم } الدولة بتنوركم بنور القلب وإقبالكم على الصدر وانصرافكم إلى مقتضى نظر العقل ورأيه { وأمددناكم بأموال } العلوم النافعة والحكم العقلية والشرعية والمعارف القلبية { وبنين } من الفضائل الخلقية والهيئات النورانية { وجعلناكم أكثر نفيرا } بكثرة الفضائل والملكات الفاضلة والأخلاق الحسنة.
{ إن أحسنتم } بتحصيل الكمالات الخلقية والآراء العقلية { أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم } باكتساب الرذائل والهيئات البدنية { فلها فإذا جاء وعد } المرة { الآخرة } بالفناء في التوحيد بعثنا عليكم عبادا من الأنوار القدسية والتجليات الجلالية والسبحات القهرية من الصفات الإلهية وجنود سلطان العظمة والكبرياء { ليسوؤوا وجوهكم } أي: وجوداتكم بالفناء في التوحيد، فيغلب عليكم كآبة فقدان الكمالات بقهرها وسلبها { وليدخلوا } مسجد القلب { كما دخلوه أول مرة } ووصل أثرها عليكم من العلوم والفضائل { وليتبروا ما علوا } بالظهور بكماله وفضيلته والإعجاب برؤية زينته وبهجته { تتبيرا } بالإفناء بصفات الله. { عسى ربكم أن يرحمكم } بعد القهر بالفناء والمحو بتجليات الصفات بالإحياء ويبعثكم بالبقاء بعد الفناء، ويثيبكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. { وإن عدتم } بالتلوين في مقام الفناء بالظهور بأنائيتكم { عدنا } بالقهر والإفناء كما قال تعالى:
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا
[الإسراء، الآيات: 74-75] { وجعلنا جهنم } الطبيعة { للكافرين } المحجوبين عن الأنوار، الذين بقوا على فساد المرة الأولى { حصيرا } محبسا وسجنا يحصرهم في عذاب الاحتجاب والحرمان عن الثواب.
[17.9-12]
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } أي: يبين أحوال الفرق الثلاث من السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال يهدي إلى طريقة التوحيد التي هي أقوم الطرق للسابقين { ويبشر المؤمنين } من أصحاب اليمين الذين آمنوا تقليدا جازما أو تحقيقا علميا وداوموا على أعمال التزكية والتحلية الصالحة لأن يتوصل بها إلى الكمال { أن لهم أجرا كبيرا } من نعيم جنات الأفعال والصفات في عوالم الملك والملكوت والجبروت. { وأن الذين لا يؤمنون } من أصحاب الشمال { بالآخرة } لكونهم بدنيين محجوبين عن عالم النور، محبوسين في ظلمات الطبيعة { أعتدنا لهم عذابا أليما } في قعر سجين الطبيعة، مقيدين بسلاسل محبة السفليات وأغلال التعلقات ونيران الحرمان عن اللذات والشهوات، والتعذب بالعقارب والحيات من غواسق الهيئات.
{ وجعلنا } ليل الكون وظلمة البدن ونهار الإبداع ونور الروح يتوصل بهما وبمعرفتهما إلى معرفة الذات والصفات { فمحونا آية الليل } بالفساد والفناء { وجعلنا آية النهار } بينة باقية أبدا، منيرة بكمالها، تبصر بنورها الحقائق { لتبتغوا فضلا من ربكم } أي: كمالكم الذي تستعدونه { ولتعلموا عدد } المراتب والمقامات أي: لتحصوها من أول حال بدايتكم إلى كبر نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم، فلا تجدوا شيئا من سيئات أعمالكم إلا وتكفرونه بحسنة مما يقابله من جنسه ولا رذيلة من أخلاقكم إلا وتكفرونها بضدها من الفضيلة، ولا ذنبا من ذنوب أحوالكم إلا وتكفرونه بالإنابة إلى جناب الحق { وكل شيء } من العلوم والحكم { فصلناه } بنور عقولكم عند الكمال ونزول العقل الفرقاني { تفصيلا } أي: علما تفصيليا مستحضرا لا إجماليا مغفولا عنه كما في العقل القرآني عند البداية.
[17.13-17]
{ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } أي: جعلنا سعادته وشقاوته وسبب خيره وشره لازما لذاته لزوم الطوق في العنق، كما قال: " السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه ". { ونخرج له يوم القيامة } الصغرى عند الخروج من قبر جسده { كتابا } هيكلا مصورا بصور أعماله مقلدا في عنقه { يلقاه } للزومه إياه { منشورا } لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة لا مطويا كما كان عند كونها فيه بالقوة، يقال له: { اقرأ كتابك } أي: اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمر مطاع يأمره بالقراءة، أو تأمره القوى الملكوتية سواء كان قارئا أو غير قارئ، لأن الأعمال هناك ممثلة بهيئاتها وصورها يعرفها كل أحد لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأمي { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها نصب عينها مفصلا لا يمكنها الإنكار، فبين لها غيرها { ولا تزر وازرة وزر أخرى } لرسوخ هيئة ما فعلته فيها وصيرورتها ملكة لازمة دون الذي فعل غيرها، ولم يعرض لها منه شيء، وإنما يتعذب من يتعذب بالهيئات التي فيه لا من خارج.
{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } رسول العقل بإلزام الحجة وتمييز الحق والباطل. ألا ترى أن الصبي والسفيه غير مكلفين؟، أو رسول الشرع لظهور ما في الاستعداد من الخير والشر والسعادة والشقاوة بسببه ومقابلته بالإقرار والإنكار، فإن المستعد للكمال يتحرك ما فيه بالقوة عند سماع الدعوة فيشتاق ويطلب متلقيا لها بالإقرار والقبول لما يدعوه إليه لمناسبته إياه وقربه وغير المستعد ينكر ويعاند لمنافاته لما يدعوه إليه ويعده.
{ وإذا أردنا أن نهلك قرية } الخ، إن لكل شيء من الدنيا زوالا وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال وحصول انحراف يبعده عن ظل الوحدة التي هي سبب بقاء كل شيء وثباته فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها عن الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام، فإذا جاء وقت إهلاك قرية فلا بد من استحقاقها للإهلاك، وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله فلما تعلقت إرادته بإهلاكها تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والنعم بطرا وأشرا بنعمة الله واستعمالا لها فيما لا ينبغي وذلك بأمر من الله وقدر منه لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم وحينئذ وجب إهلاكهم.
[17.18-21]
{ من كان يريد العاجلة } لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } أي: لا نزيده بإرادته زيادة على ماقدرنا له من النصيب في اللوح ولذلك قيده بالمشيئة ثم بقوله { لمن نريد } يعني: لو لم نقدر له شيئا مما أراده لم نعجل له تخليصه، إنا لا نعطي إلا ما أردنا { من أردنا ثم جعلنا له جهنم } أي: قعر بئر الطبيعة الظلمانية لانجذابه بإرادته إلى الجهة السفلية وميله إليها { يصلاها } بنيران الحرمان { مذموما } عند أهل الدنيا والآخرة { مدحورا } من جناب الرحمة والرضوان في سخط الله وقهره. { ومن أراد الآخرة } لصفاء استعداده وسلامة فطرته وقام بشرائط إرادته من الإيمان والعمل الصالح شكر سعيه بحصول مراده كما قيل: من طلب وجد وجد، لأن الطلب الحقيقي والإرادة الصادقة لا يكونان إلا عند حصول استعداد المطلوب، وإذا قارن الاستعداد الدال على أن المطلوب حاصل له بالقوة، مقدر له في اللوح أسباب خروج المطلوب إلى الفعل وبروزه من الغيب إلى الشهادة وهو السعي الذي ينبغي له ومن حقه أن يسعى له على هذا الوجه المعني بقوله: { وسعى لها سعيها } أي: السعي الذي يحق لها بشرط الإيمان الغيبي اليقيني وجب حصوله له { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء } أي: كلهم من طالبي الدنيا وطالبي الآخرة نمد من عطائنا ليس بمجرد إرادتهم وسعيهم شيء وإنما إرادتهم وسعيهم معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء { وما كان عطاء ربك } ممنوعا من أحد، لا من أهل الطاعة ولا من أهل المعصية. { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } في الدنيا بمقتضى مشيئتنا وحكمتنا { وللآخرة أكبر درجات } إذ بقدر رجحان الروح على البدن يكون رجحان درجات الآخرة على الدنيا وبقدر تفاضلهما يكون تفاضل درجاتهما.
[17.22-44]
{ لا تجعل مع الله إلها آخر } بتوقع العطاء منه وجعله سببا لوصول شيء لم يقدر الله لك إليك، فتصير { مذموما } برذيلة الشرك والشك عند الله وعند أهله { مخذولا } من الله يكلك إليه ولا ينصرك
وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده
[آل عمران، الآية: 160]. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا ما كتب الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا ما كتب الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ".
قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة لأنه من مقتضى التوحيد لكونهما مناسبين للحضرة الإلهية في سببيتهما لوجودك وللحضرة الربوبية لتربيتهما إياك، عاجزا، صغيرا، ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك، وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية والرحمة والرأفة بالنسبة إليك ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما والله غني عن ذلك، فأهم الواجبات بعد التوحيد إذن إحسانهما والقيام بحقوقهما ما أمكن.
{ تسبح له السماوات السبع } إلى آخره، إن لكل شيء خاصية ليست لغيره، وكمالا يخصه دون ما عداه، يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلا له ويحفظه ويحبه إذا حصل فهو بإظهار خاصيته ينزه الله عن الشريك وإلا لم يكن متوحدا فيها، فكأنه يقول بلسان الحال: أوحده على ما وحدني، ويطلب كماله ينزهه عن صفات النقص كأنه يقول: يا كامل كملني، وبإظهار كماله يقول: كملني الكامل المكمل. وعلى هذا القياس، حتى أن اللبوة مثلا بإشفاقها على ولدها تقول: أرأفني الرؤوف وأرحمني الرحيم. وبطلب الرزق: يا رزاق، فالسماوات السبع تسبحه بالديمومة والكمال والعلو والتأثير والإيجاد والربوبية، وبأنه كل يوم هو في شأن، والأرض بالدوام والثبات والخلاقية والرزاقية والتربية والإشفاق والرحمة وقبول الطاعة والشكر عليها بالثواب، وأمثال ذلك. والملائكة بالعلم والقدرة والذوات المجردة منهم بالتجرد عن المادة والوجوب أيضا مع ذلك كله فهم مع كونهم مسبحين إياه، مقدسون له { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } لقلة النظر والفكر في ملكوت الأشياء وعدم الإصغاء إليهم وإنما يفقه
كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق، الآية: 37]. { إنه كان حليما } لا يعاجلكم بترك التسبيح في طلب كمالاتكم وإظهار خواصكم، فإن من خواصكم تفقه تسبيحهم وتوحيده كما وحدوه { غفورا } يغفر لكم غفلاتكم وإهمالاتكم.
[17.45-69]
{ جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة } لقصور نظرهم عن إدراك الروحانيات وقصر هممهم على الجسمانيات { حجابا مستورا } من الجهل وعمى القلب فلا يرون حقيقة القارئ ولا آمنوا وإنما لا يبصرونك لأنهم لا يحسبونك إلا هذه الصورة البشرية لكونهم بدنيين منغمسين في بحر الهيولى محجوبين بالغواشي الطبيعية وملابس الصفات النفسانية عن الحق وصفاته وأفعاله إذ لو عرفوا الحق لعرفوك ولو عرفوا صفاته لعرفوا كلامه، ولم يكن على قلوبهم أكنة من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية { أن يفقهوه } ولو عرفوا أفعاله لعلموا القراءة ولم يكن { في آذانهم } وقر لرسوخ أوساخ التعلقات { ولوا على أدبارهم نفورا } لتشتت أهوائهم وتفرق هممهم في عبادة متعبداتهم من أصنام الجسمانيات والشهوات، فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة لتألفها بالكثرة واحتجابها بها.
{ يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } أي: تتعلق إرادته ببعثكم فتنبعثون في أقرب من طرفة عين حامدين له بحياتكم وعلمكم وقدرتكم وإرادتكم حمدا واصفين له بالكمال بإظهار هذه الكمالات { وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } أي: في القبور والمضاجع لذهولكم عن ذلك الزمان كما يجيء في قصة أصحاب (الكهف) أو في الحياة الأولى لاستقصاركم إياها بالنسبة إلى الحياة الآخرة فيتناول اللفظ القيامات الثلاث، إلا أن الآية السابقة ترجح الصغرى.
{ واستفزز } إلى آخره، تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام، لأن الاستعدادات متفاوتة فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه أي استخفه بصوته يكفيه وسوسة وهمس بل هاجسة ولمة، ومن كان قوي الاستعداد فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية فليس له إلى إغوائه سبيل كما قال: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية غارزا رأسه في الأمور الدنيوية شاركه في أمواله وأولاده بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة بحبهم كحب الله ويسول له التمتع بهم والتكاثر والتفاخر بوجودهم ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة وإن لم ينغمس فإن كان عالما بصيرا بتسويلاته أجلب عليه بخيله ورجله، أي: مكر به بأنواع الحيل وكاده بصنوف الفتن وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش وغره بالعلم وحمله على الإعجاب، وأمثال ذلك، حتى يصير ممن أضله الله على علم وإن لم يكن عالما بل عابدا متنسكا أغواه بالوعد والتمنية وغره بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون { وكفى بربك وكيلا } أي: عبادي الخاصة لا يكلون أمرهم إلا إلى الله وحده لا إلى الشيطان ولا إلى غيره، وهو كافيهم بتدبير الأمور ولا يتوكلون إلا عليه بشهود أفعاله وصفاته.
[17.70-74]
{ ولقد كرمنا بني آدم } بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة { وحملناهم في البر والبحر } أي: يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها { ورزقناهم من الطيبات } أي: المركبات التي لم ترزق غيرهم من المخلوقات { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا } أي: ما عدا الذوات المقدسة من الملأ الأعلى، وأما أفضلية بعض الناس كالأنبياء على الملائكة المقربين فليست من جهة كونهم بني آدم فإنهم من تلك الحيثية لا يتجاوزون مقام العقل بل من جهة السر المودع فيهم المشار إليه بقوله:
إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة، الآية: 30] وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة بواسطة الجمعية التي فيه، أي: مقام الوحدة، وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة
فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
بل هو عين المكرم المعروف كما قيل:
رأيت ربي بعين ربي
فقال من أنت قلت أنت
وقد فني ابن آدم في هذا المقام وما بقي منه شيء وإلا فما للتراب ورب الأرباب، أو { ولقد كرمنا بني آدم } بالتقريب ومعرفة التوحيد وحملناهم في بر عالم الأجساد وبحر عالم الأرواح بتسييره فيهما لتركيبه منهما وإرقائه عنهما في طلب الكمال ورزقناهم من طيبات العلوم والمعارف، { وفضلناهم } على الجم الغفير { ممن خلقنا } ، أي: جميع المخلوقات، على أن تكون من للبيان والمبالغة في تعظيمه بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف أي كثير، وأي كثير وهو جميع مخلوقاتنا لدلالة من على العموم { تفضيلا } تاما بينا.
{ يوم ندعو } إلى آخره، أي: نحضر { كل } طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه من الكمال ويعرفونه سواء كان في صورة نبي آمنوا به كما ذكر في تفسير قوله:
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد
[النساء، الآية: 41] أو إمام اقتدوا به أو دين أو كتاب أو ما شئت على أن تكون الباء بمعنى مع أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم { فمن أوتي كتابه بيمينه } أي: من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه وبعث في صورة السعداء { فأولئك يقرؤون كتابهم } دون غيرهم لاستعدادهم للقراءة والفهم لأن الذي أوتي كتابه بشماله، أي: من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه لا يقدر على قراءة كتابه وإن كان مقروؤا لذهاب عقله وفرط حيرته { ولا يظلمون } أي: لا ينقصون من صور أعمالهم وكمالاتهم وأخلاقهم شيئا قليلا.
{ ومن كان في هذه أعمى } عن الاهتداء إلى الحق { فهو في الآخرة } كذلك { وأضل سبيلا } مما هنا لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الاهتداء بها وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد إن كان ولم يبق هناك شيء من ذلك.
{ وإن كادوا ليفتنونك } الخ، هو من باب التلوينات التي تحدث لأرباب القلوب بظهور النفس ولأرباب الشهود والفناء بوجود القلب، فإنه عليه السلام لفرط شغفه وحرصه على إيمانهم بوجود القلب كاد يميل إليهم في بعض مقترحاتهم ويرضى ببعض ما هو خلاف شريعته، ويضيف إلى الله ما ليس منه طلبا للمناسبة التي كان يتوقع أن تحدث بينه وبينهم بذلك فيحبوه كما قال: { وإذا لاتخذوك خليلا } عسى أن يقبلوا قوله ويهتدوا به. واستمالة وتطييبا لقلوبهم عسى أن يلينوا وينزلوا عن شدة إنكارهم فيرق حجابهم وتتنور قلوبهم، فشدد وأقيم من عند الله، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: " كان خلقه القرآن " تعني أنه عليه الصلاة والسلام كلما ظهرت نفسه وهمت بما ليس بفضيلة نبه من عند الله وثبت بتنزيل آية تقومه وترده إلى الاستقامة حتى بلغ مقام التمكين، وهذا وأمثاله من قوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى
[الأنفال، الآية: 67]، وقوله:
عفا الله عنك لم أذنت لهم
[التوبة، الآية: 43]، وقوله:
وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه
[الأحزاب، الآية: 37]، وقوله:
عبس وتولى
[عبس، الآية: 1] يدل على أنه كان أكثر سلوكه في الله بعد الوصول في زمان النبوة وزمان الوحي.
[17.75-78]
{ إذا لأذقناك } أي: لو قاربت فتنتهم وكدت توافقهم لأذقناك عذابا مضاعفا في الحياة وعذابا مضاعفا في الممات، فإن شدة العذاب بحسب علو المرتبة وقوة الاستعداد إذ النقصان الموجب للعذاب يقابل الكمال الموجب للذة. فكلما كان الاستعداد أتم والإدراك أقوى، كانت المرتبة في الكمال والسعادة واللذة أقوى فكذا ما يقابله من النقص والشقاوة أبعد وأسفل والألم أشد.
{ أقم الصلاة لدلوك الشمس } اعلم أن الصلاة على خمسة أقسام: صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفاء، وصلاة الشهود في مقام الروح، وصلاة المناجاة في مقام السر، وصلاة الحضور في مقام القلب، وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس. فدلوك الشمس هو علامة زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض، فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ الصلاة عمل يستدعي وجودا، وفي هذه الحالة لا وجود للعبد حتى يصلي كما ذكر في تأويل قوله تعالى:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر، الآية: 99]. ألا ترى الشارع عليه السلام كيف نهى عن الصلاة وقت الاستواء، فأما عند الزوال، إذا حدث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء حالة الفرق بعد الجمع، فالصلاة واجبة { إلى غسق } ليل النفس { وقرآن } فجر القلب، فأول الصلوات وألطفها صلاة المواصلة والمناغاة وأفضلها وأشرفها صلاة الشهود للروح المشار إليها بصلاة العصر كما فسرت الصلاة الوسطى، أي: الفضلى في قوله تعالى:
حافظوا على الصلوات
[البقرة، الآية: 238] والصلاة الوسطى بها، وأوحاها وأخفها صلاة السر بالمناجاة أول وقت الاحتجاب بظهور القلب لسرعة انقضاء وقتها ولهذا استحب التخفف في صلاة المغرب في القراءة وغيرها لكونها علامة لها، وأزجر الصلاة للشيطان، وأوفرها تنويرا لباطن الإنسان صلاة الحضور للقلب المومئ إليها بقرآن الفجر، فإنها في وقت تجليات أنوار الصفات ونزول المكاشفات ولهذا استحب التكثر في جماعة صلاة الصبح وأكد استحباب الجماعة فيها خاصة، وتطويل القراءة، وقال تعالى: { إن قرآن الفجر كان مشهودا } أي: محضورا بحضور ملائكة الليل والنهار إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها، وأشدها تثبيتا للنفس وتطويعا لها صلاة النفس للطمأنينة والثبات، ولهذا سن فيما جعل آية لها من صلاة العشاء السكوت بعدها حتى النوم إلا بذكر الله، وحيث أمكن للشيطان سبيل إلى الوسوسة استحب، فيما جعل علامة لها الجهر كصلاة النفس والقلب والسر للزجر ولا مدخل له في مقام الروح والخفاء فأمر بالإخفات.
[17.79-81]
{ ومن الليل فتهجد به } أي: خصص بعض الليل بالتهجد { نافلة لك } زيادة على ما فرض خاصة بك، لكونه علامة مقام النفس، فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات فيقتدي بك السالكون من أمتك في تطويع نفوسهم ويقوى تمكنك في مقام الاستقامة، كما قال: " أفلا أكون عبدا شكورا ". { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } أي: في مقام يجب على الكل حمده وهو مقام ختم الولاية بظهور المهدي، فإن خاتم النبوة في مقام محمود من وجه هو جهة كونه خاتم النبوة غير محمود من وجه هو جهة ختم الولاية، فهو من هذا الوجه في مقام الحامدية فإذا تم ختم الولاية يكون في مقام محمود من كل وجه.
{ وقل رب أدخلني } حضرة الوحدة في عين الجمع { مدخل صدق } مدخلا حسنا مرضيا به بلا آفة زيغ البصر بالالتفات إلى الغير ولا الطغيان بظهور الأنائية ولا شوب الاثنينية { وأخرجني } إلى الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني { مخرج صدق } مخرجا حسنا مرضيا به من غير آفة التلوين بالميل إلى النفس وصفاته ولا الضلال بعد الهدى بالانحراف عن جادة الاستقامة والزيغ عن سنن العدالة إلى الجور كالفتنة الداودية { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين بأن أكون بك في الأشياء في حال البقاء بعد الفناء لا بنفسي كما قال عليه الصلاة والسلام:
" لا تكلني إلى نفسي طرفة عين "
، أو عزا وقوة قهرية بك، أقوي بها دينك وأظهره على الأديان كلها.
{ وقل جاء الحق } أي: الوجود الثابت الواجب الحقاني الذي لا يتغير ولا يتبدل { وزهق الباطل } أي: الوجود البشري الإمكاني القابل للفناء والتغير والزوال { إن الباطل } أي: الوجود الممكن { كان } فانيا في الأصل لا شيئا ثابتا طرأ عليه الفناء ففني، بل الفاني فان في الأزل والباقي باق لم يزل، وإنما احتجبنا بتوهم فاسد باطل فكشف.
[17.82-84]
{ وننزل من } العقل القرآني الجامع بالتدريج نجوم تفاصيل العقل الفرقاني نجما فنجما على الوجود الحقاني على حسب ظهور الصفات أي: نفصل ما في ذاتك مجملا مكنونا تفصيلا بارزا ظاهرا عليك ليكون شفاء لأمراض قلوب المستعدين المؤمنين بالغيب من أمتك كالجهل والشك والنفاق وعمى القلب والغل والحقد والحسد وأمثالها فنزكيهم ورحمة تفيدهم الكمالات والفضائل وتحليهم بالحكم والمعارف { ولا يزيد الظالمين } الناقصين استعدادهم بالرذائل والحجب الظلمانية الباخسين حظوظهم من الكمال بالهيئات البدنية والصفات النفسانية { إلا خسارا } بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتها كالإنكار والعناد والمكابرة واللجاج والرياء والنفاق منضمة إلى ما لهم من الشك والجهل والعمى والعمه.
{ وإذا أنعمنا على الإنسان } بنعمة ظاهرة { أعرض } لوقوفه مع النفس والبدن وكون القوى البدنية متناهية لا تتدبر الأمور الغير المتناهية الممكنة الوقوع من سبب النعمة وردها عند عدمها وسائر الغير ولا يرى إلا العاجل، وتكبر لاستعلاء نفسه على القلب وظهوره بأنائيته وتفرعنه فنأى، أي: بعد عن الحق في جانب النفس وطوى جنبه معرضا وكذا في جانب الشر إذا مسه يئس لاحتجابه عن القادر وقدرته ولو نظر بعين البصيرة شاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين وتيقن في الحالة الأولى أن الشكر رباط النعم، وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم، فشكر وصبر وعلم أن المنعم قدر فلم يعرض عند النعمة بطرا وأشرا خائفا زوالها، غير غافل عن المنعم، ولم ييأس عند النقمة جزعا وضجرا راجيا كشفها، مراعيا لجانب المبلي.
{ قل كل يعمل على شاكلته } أي: خليقته وملكته الغالبة عليه من مقامه فمن كان مقامه النفس وشاكلته مقتضى طباعها عمل ما ذكرنا من الإعراض واليأس ومن كان مقامه القلب وشاكلته السجية الفاضلة عمل بمقتضاها الشكر والصبر { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } من العاملين عامل الخير بمقتضى سجية القلب وعامل الشر بمقتضى طبيعة النفس فيجازيهما بحسب أعمالهما.
[17.85-87]
{ ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } أي: ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهرين البدنيين الذين لا يتجاوز إدراكهم عن الحس والمحسوس بالتشبيه ببعض ما شعروا به من التوصيف بل من عالم الأمر، أي: الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولى والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون لقصور إدراككم وعلمكم عنه { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } هو علم المحسوسات وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله تعالى والراسخين في العلم.
{ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } بالطمس في محل الفناء أو الحجب بعد الكشف بالتلوين { ثم لا تجد لك به علينا وكيلا } يتوكل علينا برده { إلا } مجرد رحمة عظيمة خاصة بك من فرط عنايتنا وهي أعلى مراتب الرحمة الرحيمية المتكفلة من عند الله تعالى بإفاضة الكمال التام عليه، أي: لو تجلينا بذاتنا لما وجدت الوحي ولا ذاتك إلا إذا تجلينا بصفة الرحمة واسمنا الرحيم فتوجد وتجد الوحي، وكذا لو تجلينا بصفة الجلال لاحتجبت عن الوحي والمعرفة { إن فضله } بالإيحاء والتعليم الرباني بعد موهبة الوجود الحقاني { كان عليك كبيرا } في الأزل.
[17.88-99]
{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } لكون الاستعداد الكامل الحامل له مخصوصا بك وأنت قطب العالم يرشح إليهم ما يطفح منك فلا يمكنهم الإتيان بمثله ولا يطيقون حمله، ولهذا المعنى أبى أكثرهم { إلا كفورا } واقترحوا الآيات الجسمانية المناسبة لاستعدادهم وإدراكهم كتفجير العيون من الأرض وجنة النخيل والأعناب وإسقاط السماء عليهم كسفا والرقي فيها والإتيان بالملائكة وسائر الممتنعات المتخيلة وأجيبوا بقوله:
{ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين } أي: ما أمكن نزول الملائكة مع كونهم نفوسا مجردة على الهيئة الملكية في الأرض، بل لو نزلت لم ينزلوا إلا متجسدين، كما قال:
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون
[الأنعام، الآية: 9] وإلا لم يمكنكم إدراكهم فبقيتم على إنكاركم، وإذا كانوا مجسدين ما صدقتم كونهم ملائكة فشأنكم الإنكار على الحالين بل على أي حال كان كإنكار الخفاش ضوء الشمس.
{ ومن يهد الله } بمقتضى العناية الأزلية في الفطرة الأولى بنوره { فهو المهتد } خاصة دون غيره { ومن يضلل } بمنع ذلك النور عنه { فلن تجد لهم } أنصارا يهدونه { من دونه } أو يحفظونه من قهره { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } أي: ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية أو على وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا كقوله: " كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تبعثون " إذ الوجه يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها أي على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان { عميا } عن الهدى، كما كانوا في الحياة الأولى { وبكما } عن قول الحق، لعدم إدراكهم المعنى المراد بالنطق إذ ليسوا ذوي قلوب يفهم بها ويفقه، فكيف التعبير عما لم يفهم { وصما } عن سماع المعقول، لعدم الفهم أيضا، فلا يؤثر فيهم موجب الهداية لا من جهة الفهم من الله تعالى بالإلهام ولا من طريق السمع من كلام الناس ولا من طريق البصر بالاعتبار { كلما خبت زدناهم سعيرا } كقوله:
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها
[النساء، الآية: 56] بل أبلغ منه ذلك بسبب احتجابهم عن صفاتنا خصوصا قدرتنا على البعث وإنكارهم له. أنكروا ما استدلوا بخلق السموات والأرض على القدرة.
[17.100-106]
{ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم } لوقوفكم مع صفات نفوسكم التي من لوازمها الشح الجبلي لكون إدراكها مقصورا على ما يدرك بالحس من الأمور المادية المحصورة واحتجابها عن البركات الغير المتناهية والرحمة الواسعة الغير المنقطعة التي لا تدرك إلا عند اكتحال البصيرة بنور الهداية فتخشى نفادها وانقطاعها { تسع آيات بينات } مرت الإشارة إليها في سورة (الحجر).
{ وبالحق أنزلناه } أي: ما أنزلنا القرآن إلا بعد زوال بشرية النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية في مقام الفناء وانتفاء الحدثان عن وجه القدم وانقشاع ظلمة الإمكان عن سبحات الوجه الواجب الباقي بالفرق الثاني ليكون له محل وجودي فما كان إنزاله إلا ظهور أحكام التفاصيل من عين الجمع على المظهر التفصيلي فكان إنزاله بالحق من الحق على الحق ونزوله بالحق على هذا التأويل هو كما يقال: نزل بكذا إذا حل به، على أن تكون الباء الثانية للظرفية كقولك: نزلت ببغداد والولى للحال أي: ملتبسا بالحق على معنيين إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أي: بالحقيقة والحكمة، وإما بالحق الذي هو الله تعالى أي: أنزل على صفته وهو الحق { وقرآنا فرقناه } على حسب ظهور استعدادات المظاهر المقتضية لقبوله بحسب الأحوال والمصالح والصفات كما أشرنا إليه في قوله:
ولولا أن ثبتناك
[الإسراء، الآية: 74].
[17.107-110]
{ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي: أن وجوداتكم كالعدم عندنا. ليس المراد منه هدايتكم لكونكم مطبوعا على قلوبكم لا محل لكم عند الله ولا في الوجود لكونكم أحلاس بقعة الإمكان معدومي الأعيان بالذات إنما الاعتبار بالعلماء الذين لهم وجود عند الله في عالم البقاء المعتد بهم في الأنباء، فانظر كيف تراهم عند تلاوته عليهم وسماعهم إياه { يخرون } أي: ينقادون له ويعترفون به ويعرفون حقيقته لعلمهم به ومعرفتهم إياه بنورية الاستعداد ومناسبته له، وبنور كمالهم لتجردهم وعلمهم بأنه كان كتابا من عند الله موعودا ليس هو إلا إياه لما وجدوه مطابقا لما اعتقدوه يقينا فإن الاعتقاد الحق لا يكون إلا واحدا { ويزيدهم خشوعا } باللين والانقياد لحكمه لتأثرهم به وحسن تلقيهم لقبوله. { قل ادعوا الله } بالفناء في الذات الجامعة لجميع الصفات { أو ادعوا الرحمن } بالفناء في الصفة التي هي أم الصفات { أيا ما } طلبت من هذين المقامين لست هناك بموجود ولا لك بقية ولا اسم ولا عين ولا أثر إذ الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة أي: الرحمة الرحمانية لغيرها فلا يلزم وجود البقية بخلاف سائر الأسماء والصفات { فله الأسماء الحسنى } كلها في هذين المقامين لا لك { ولا تجهر } في صلاة الشهود بإظهار صفة الصلاة عن نفسك فيؤذن بالطغيان وظهو رالأنائية { ولا تخافت } غاية الإخفات فيؤذن بالانطماس في محل الفناء دون الرجوع إلى مقام البقاء، فلا يمكن أحدا الاقتداء بك، { وابتغ بين ذلك سبيلا } يدل على الاستقامة ولزوم سيرة العدالة في عالم الكثرة وملازمة الصراط المستقيم بالحق.
[17.111]
{ وقل الحمد لله } أي: أظهر الكمالات الإلهية والصفات الرحمانية التي لا تكون إلا للذات الأحدية { الذي لم يتخذ ولدا } أي: لم يكن علة لموجود من جنسه لضرورة كون المعلول محتاجا إليه ممكنا بالذات معدوما بالحقيقة فكيف يكون من جنس الموجود حقا الواجب بذاته من جميع الوجوه { ولم يكن له } من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك وإلا لكانا مشتركين في وجوب الوجود والحقيقة. فامتياز كل واحد منهما عن الاخر لا بد وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبية فلزم تركبهما فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين وأيضا فإن لم يستقلا بالتأثير لم يكن أحدهما إلها، وإن استقل أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه فلا شريك له وإن استقلا جميعا لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد إن فعلا معا وإلا لزم إلهية أحدهما دون الآخر رضي بفعله أو لم يرض { ولم يكن له ولي من الذل } أي: لم يكن له ناصر علة كان أو جزء علة تقويه وتنصره من ذلة الانفال والعدم وإلا لم يكن إلها واجبا بل ممكنا لتكون حبيبا قائما به لا بنفسك { وكبره } من أن يتقيد بصفة دون أخرى أو صورة غير أخرى أو يلحقه شيء من هذه النقائص فينحصر في وجود خاص تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا { تكبيرا } لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه لامتناع وجود شيء غيره يفضل عليه وينسب إليه بل كل ما يتصور ويعقل ولا يكبر غيره بهذا التكبير والله الحق الموفق.
[18 - سورة الكهف]
[18.1-3]
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } أثنى الله تعالى بلسان التفصيل على نفسه باعتبار الجمع من حيث كونه منعوتا بإنزال الكتاب وهو إدراج معنى الجمع في صورة التفصيل فهو الحامد والمحمود تفصيلا وجمعا، فالحمد إظهار الكمالات الإلهية والصفات الجمالية والجلالية على الذات المحمدية باعتبار العروج بعد تخصيصه إياه بنفسه في العناية الأزلية المشار إليه بالإضافة في قوله: عبده، وذلك جعل عينه في الأزل قابلة للكمال المطلق من فيضه وإيداع كتاب الجمع فيه بالقوة التي هي الاستعداد الكامل وإنزال الكتاب عليه إبراز تلك الحقائق عن ممكن الجمع الوحداني على ذلك المظهر الإنساني فهما متعاكسان باعتبار النزول والعروج والإنزال في الحقيقة حمد الله تعالى لنبيه إذ المعاني الكامنة في أغيب الغيب ما لم ينزل على قلبه فلم يمكنه حمد الله حق حمده فما لم يحمده الله لم يحمد الله بل حمده حمده كما قال: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، حمد أولا في عين الجمع نفسه باعتبار التفصيل ثم عكس فقال: الحمد لله.
{ ولم يجعل له } أي: لعبده { عوجا } أي: زيغا وميلا إلى الغير كما قال:
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم، الآية: 17] أي: لم ير الغير في شهوده.
{ قيما } أي: جعله قيما، يعني: مستقيما كما أمر بقوله:
فاستقم كمآ أمرت
[هود، الآية: 112]، والمعنى: جعله موحدا فانيا فيه غير محتجب في شهوده بالغير ولا بنفسه لكونها غير أيضا ممكنا مستقيما حال البقاء، كما قال:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
[فصلت، الآية: 30]، أو جعله قيما بأمر العباد وهدايتهم إذ التكميل يترتب على الكمال لأنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها أقيمت نفوس أمته مقام نفسه فأمر بتقويمها وتزكيتها ولهذا المعنى سمى إبراهيم صلوات الله عليه أمة، وهذه القيمية أي القيام بهداية الناس داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة { لينذر } متعلق بعامل قيما أي: جعله قيما بأمر العباد { لينذر بأسا شديدا } وحذف المفعول الأول للتعميم لأن أحدا لا يخلو من بأس مؤمنا كان أو كافرا، كما قال تعالى:
" أنذر الصديقين بأني غيور، وبشر المذنبين بأني غفور "
إذ البأس عبارة عن قهره ولذلك عظمه بالتنكير، أي: بأسا يليق بعظمته وعزته ووصفه بالشدة وخصصه بقوله: { من لدنه } والقهر قسمان: قهر محض ظاهره وباطنه قهر كالمختص بالمحجوبين بالشرك، وقسم ظاهره قهر وباطنه لطف، وكذا اللطف كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: سبحان من اشتدت نقمته على أعدائه في سعة نعمته، واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته. ومن القسم الثاني القهر المخصوص بالموحدين من أهل الفناء أطلق الإنذار للكل تنبيها ثم فصل اللطف والقهر مقيدين بحسب الصفات والاستحقاقات فقال: { ويبشر المؤمنين } أي: الموحدين لكونهم في مقابلة المشركين الذين قلوا: اتخذ الله ولدا.
{ الذين يعملون الصالحات } أي: الباقيات من الخيرات والفضائل لأن الأجر الحسن هو من جنة الآثار والأفعال التي تستحق بالأعمال.
[18.4-6]
واعلم أن الإنذار والتبشير اللذين هما من باب التكميل اللازم لكونه قيما عليهم كلاهما أثر ونتيجة عن صفتي القهر واللطف الإلهيين اللذين محل استعداد قبولهما من نفس العبد الغضب والشهوة، فإن العبد ما استعد لقبولهما إلا بصفتي الغضب والشهوة وفنائهما كما لم يستعد فلضيلتي الشجاعة والعفة إلا بوجودهما، فلما انتفتا قامتا مقامهما لأن كلا منهما ظل لواحدة من تينك يزول بحصولها فعند ارتواء القلب منهما وكمال التخلق بهما حدث عن القهر الإنذار عند استحقاقية المحل بالكفر والشرك وعن اللطف التبشير باستحقاقية الإيمان والعمل الصالح، إذ الإفاضة لا تكون إلا عند استحقاق المحل.
{ ما لهم به من علم ولا لآبائهم } أي: ما لهم بهذا القول من علم بل إنما يصدر عن جهل مفرط وتقليد للآباء لا عن علم ويقين ويؤيده قوله: { كبرت كلمة } أي: ما أكبرها كلمة { تخرج من أفواههم } ليس في قلوبهم من معناه شيء لأنه مستحيل لا معنى له إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي العلي أحدي الذات لا يماثله الوجود الممكن المعلول. والولد هو المماثل لوالده في النوع المكافئ له في القوة والشهود الذاتي يحكم بفناء الخلق في الحق والمعلول في المشهود، فلم يكن ثم سواه شيء غيره فضلا عن الشبيه والولد كما قال أحدهم:
هذا الوجود وإن تكثر ظاهرا وحياتكم ما فيه إلا أنتم
{ إن يقولون إلا كذبا } لتطابق الدليل العقلي والوجدان الذوقي الشهودي على إحالته. { فلعلك باخع } أي: مهلك { نفسك } من شدة الوجد والأسف على توليهم وإعراضهم، وذلك لأن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة، الآية: 54] وكلما كانت محبته للحق أقوى كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله اشتد تعطفه عليهم، فإنهم كأولاده وأقاربه بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي، فلذلك بالغ في التأسف عليهم حتى كاد يهلك نفسه. وأيضا علم أن المحب إذا تقوى بالمحبوب في استمرار الوصل ظهر قبوله في القلوب لمحبة الله إياه.
[18.7-9]
فلما لم يؤمنوا بالقرآن استشعر ببقية من نفسه وتوجس بنقصان حاله فعلاه الوجد وعزم على قهر النفس بالكلية طلبا للغاية وكان ذلك من فرط شفقته عليهم وكمال أدبه مع الله حيث أحال عدم إيمانهم على ضعف حاله لا على عدم استعدادهم ولذلك سلاه بقوله: { إنا جعلنا } أي: لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا، إنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء ثم نفنيها ولا حيف ولا نقص، أو إنا جعلنا ما على أرض البدن من النفس ولذاتها وشهواتها وقوى صفاتها وإدراكاتها ودواعيها { زينة } لها ليظهر أيهم أقهر لها وأعصى لهواها في رضاي وأقدر على مخالفتها لموافقتي.
{ وإنا لجاعلون } بتجلينا وتجلي صفاتنا { ما عليها } من صفاتها هامدة كأرض ملساء لا نبات فيها أي: نفنيها وصفاتها بالموت الحقيقي أو بالموت الطبيعي ولا نبالي، بل { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا } أي: إذا شاهدت هذا الإنشاء والإفناء فليس حال أصحاب الكهف آية عجيبة من آياتنا بل هذه أعجب. واعلم أن أصحاب الكهف هم السبعة الكمل القائمون بأمر الحق دائما الذين يقوم بهم العالم ولا يخلو عنهم الزمان على عدد الكواكب السبعة السيارة وطبقها فكما سخرها الله تعالى في تدبير نظام عالم الصورة كما أشار إليه بقوله:
فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا
[النازعات، الآيات: 4-5] على بعض التفاسير وكل نظام عالم المعنى وتكميل نظام الصورة إلى سبعة أنفس من السابقين كل ينتسب بحسب الوجود الصوري إلى واحد منهم، والقطب هو المنتسب إلى الشمس والكهف هو باطن البدن والرقيم ظاهره الذي انتقش بصور الحواس والأعضاء إن فسر باللوح الذي رقمت فيه أسماؤهم والعالم الجسماني إن جعل اسم الوادي الذي فيه الجبل والكهف والنفس الحيوانية إن جعل اسم الكلب والعالم العلوي إن جعل اسم قريتهم على اختلاف الأقوال في التفاسير ومنهم الأنبياء السبعة المشهورون المبعوثون بحسب القرون والأدوار، وإن كان كل نبي منهم على ذكر وهم: آدم وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لأنه السابع المخصوص بمعجزة انشقاق القمر، أي: انفلاقه عنه لظهوره في دورة ختم النبوة وكمل به الدين الإلهي كما أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض "
إذ المتأخر بالزمان والظهور أي: الوجود الحسي هو الحائز لصفات الكل وكمالاتهم كالإنسان بالنسبة إلى سائر الحيوانات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" كأن بنيان النبوة قد تم وبقي منه موضع لبنة واحدة، فكنت أنا تلك اللبنة "
وقد اتفق الحكماء المتألهة من قدماء الفرس أن مراتب العقول والأرواح على مذهبهم في التنازل تتضاعف إشراقاتها، فكل من تأخر في الرتبة كان حظه من إشراقات الحق وأنواره وسبحات أشعة وجهه وإشراقات أنوار الوسائط أوفر وأزيد فكذا في الزمان فهو الجامع الحاصر لصفات الكل وكمالاتهم الحاوي لخواصهم ومعانيهم مع كماله الخاص به اللازم للهيئة الاجتماعية، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
ومن هذا ظهر تقدمه عليهم بالشرف والفضيلة ومن جهة أن إبراهيم عليه السلام كان مظهر التوحيد الأعظمي الذاتي، وكان هو الوسط في الترتيب الزماني بمنزلة الشمس في الرتبة كان قطب النبوة، ولزمهم كلهم اتباعه وإن لم يظهر في المتقدمين عليه بالزمان كارتباط الكواكب الستة في سيرها بها، ولكن كالقمر، فمتبعه بالحقيقة محمد صلى الله عليه وسلم. واعلم أن الأرواح في عالمها مراتب متعينة، وصفوف مترتبة واستعدادات متفاوتة متهيئة في الأزل بمحض العناية الأولى والفيض الأقدس فأهل الصف الأول هم السابقون المفردون المقربون المحبوبون المخصوصون بفضل عنايته وسابقة كرامته المتعارفون بنوره المتحابون فيه، والباقون يتباينون في الدرجات وبحسب تقاربها وتباعدها، يتعارفون ويتناكرون، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف إلى آخر الصفوف، فلها مراكز ثابتة، وأصول راسخة في العالم العلوي وعند التعلق بالأبدان يتفاوت درجات كمالاتها وغاية سعاداتها بحسب ما لها من الاستعداد الأول المخصوص بكل منها من مباديها في الأزل كما قال عليه الصلاة والسلام:
" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة "
، حتى انتهت الدرجات في العلو إلى الفناء في التوحيد الذاتي، فبهذا الاعتبار يكون محمد عليه السلام عين آدم بل عين السبعة وكذا باعتبار كونه جامعا لصفاتهم كما قيل إنه سأله أبو يزيد رحمة الله عليه: أنت من السبعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
" أنا السبعة "
وباعتبار علو مرتبته ومكانته، وسبقه في القدم وارتفاع درجة كماله وفضيلته، كان أقدمهم وأولهم وأفضلهم كما قال:
" أول ما خلق الله نوري وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين "
فهو متقدم عليهم بالرتبة والعلية والشرف والفضيلة، متأخر عنهم بالزمان وهو عينهم باعتبار السر والوحدة الذاتية، فالحاصل أن اختلافهم وتباينهم روحا وقلبا ونفسا لا ينافي اتحادهم في الحقيقة وكذا افتراقهم بالأزمنة لا ينافي معيتهم في الأزل والأبد وعين الجمع كما قال:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
[البقرة: 253] مع قوله:
لا نفرق بين أحد منهم
[البقرة، الآية: 136]. ويجوز أن يكون المراد بأصحاب الكهف روحانيات الإنسان التي تبقى بعد خراب البدن. وقول من قال: ثلاثة، إشارة إلى الروح والعقل والقلب. والكلب هي النفس الملازمة لباب الكهف. ومن قال: خمسة إشارة إلى الروح والقلب والعقل النظري والعقل العملي والقوة القدسية للأنبياء التي هي الفكر لغيرهم. ومن قال: سبعة فتلك الخمسة مع السر والخفاء والله أعلم.
[18.10-12]
{ إذ أوى الفتية إلى الكهف } أي: كهف البدن بالتعلق به { فقالوا } بلسان الحال { ربنا آتنا من لدنك } أي: من خزائن رحمتك التي هي أسماؤك الحسنى { رحمة } كما لا يناسب استعدادنا ويقتضيه { وهيئ لنا من أمرنا } الذي نحن فيه من مفارقة العالم العلوي والهبوط إلى العالم السفلي للاستكمال { رشدا } استقامة إليك في سلوك طريقك والتوجه إلى جنابك، أي: طلبوا بالاتصاف البدني والتعلق بآلات الكمال وأسبابه الكمال العلمي والعملي.
{ فضربنا على آذانهم } أي: أنمناهم نومة الغفلة عن عالمهم وكمالهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخفير ولا دعوة الداعي الخبير. في كهف البدن { سنين } ذوات عدد، أي: كثيرة أو معدودة أي: قليلة هي مدة انغماسهم في تدبير البدن وانغمارهم في بحر الطبيعة مشتغلين بها، غافلين عما وراءها من عالمهم إلى أوان بلوغ الأشد الحقيقي، والموت الإرادي أوالطبيعي، كما قال: " الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا ".
{ ثم بعثناهم } أي: نبهناهم عن نوم الغفلة بقيامهم عن مرقد البدن ومعرفتهم بالله وبنفوسهم المجردة { لنعلم } أي: ليظهر علمنا في مظاهرهم أو مظاهر غيرهم من سائر الناس { أي الحزبين } المختلفين في مدة لبثهم وضبط غايته الذين يعينون المدة أم يكلون علمه إلى الله، فإن الناس مختلفون في زمان الغيبة. يقول بعضهم: يخرج أحدهم على رأس كل ألف سنة وهو يوم عند الله، لقوله:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج، الآية: 47]. ويقول بعضهم: على رأس كل سبعمائة عام أو على رأس كل مائة، وهو بعض يوم، كما قالوا:
لبثنا يوما أو بعض يوم
[الكهف، الآية: 19]. والمحققون المصيبون هم الذين يكلون علمه إلى الله كالذين قالوا:
ربكم أعلم بما لبثتم
[الكهف، الآية: 19] ولهذا لم يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت ظهور المهدي عليه السلام، وقال:
" كذب الوقاتون ".
[18.13-15]
{ إنهم فتية آمنوا بربهم } إيمانا يقينا علميا على طريق الاستدلال أو المكاشفة { وزدناهم هدى } أي: هداية موصلة إلى عين اليقين ومقام المشاهدة بالتوفيق. { وربطنا على قلوبهم } قويناها بالصبر على المجاهدة، وشجعناهم على محاربة الشيطان ومخالفة النفس، وهجر المألوفات الجسمانية، واللذات الحسية، والقيام بكلمة التوحيد، ونفي إلهية الهوى، وترك عبادة صنم الجسم بين يدي جبار النفس الأمارة من غير مبالاة بها حين عاتبتهم على ترك عبادة إله الهوى وصنم البدن، وأوعدتهم بالفقر والهلاك، إذ النفس داعية إلى عبادته وموافقته، وتهيئة أسباب حظوظه مخيفة للقلب من الخوف والموت، أو جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم والدعوة إلى الحق عند كل جبار هو دقيانوس وقته كنمروذ وفرعون وأبي جهل وأضرابهم ممن دان بدينهم واستولى عليه النفس الأمارة فعبد الهوى، أو ادعى لطغيانه، وتمرد أنائيته وعدوانه الربوبية من غير مبالاة عند معاتبته إياهم على ترك عبادة الصنم المجعول كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه، كما قال فرعون اللعين:
ما علمت لكم من إله غيري
[القصص، الآية: 38] و
أنا ربكم الأعلى
[النازعات، الآية: 24]. { هؤلاء قومنا } إشارة إلى النفس الأمارة وقواها، لأن لكل قوم إلها تعبده وهو مطلوبها ومرادها، والنفس تعبد الهوى كقوله:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية، الآية: 23]، أو إلى أهل زمان كل من خرج منهم داعيا إلى الله، إذ كل من عكف على شيء يهواه فقد عبده. { لولا يأتون عليهم } أي: على عبادتهم وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم { بسلطان بين } أي: حجة بينة دليل على فساد التقليد وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله وتأثيره ووجوده محال، كما قال:
إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان
[النجم، الآية: 23] أي: اسماء بلا مسميات لكونها ليست بشيء.
[18.16]
{ وإذ اعتزلتموهم } أي: فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرد { وما يعبدون إلا الله } من مراداتها وأهوائها { فأووا إلى الكهف } إلى البدن لاستعمال الآلات البدنية في الاستكمال بالعلوم والأعمال، وانخزلوا فيه منكسرين، مرتاضين، كأنهم ميتون بترك الحركات النفسانية والنزوات البهيمية والسطوات السبعية، أي: موتوا إراديا { ينشر لكم ربكم من رحمته } حياة حقيقية بالعلم والمعرفة { ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } كما لا ينتفع به بظهور الفضائل وطلوع أنوار التجليات، فتلتذون بالمشاهدات وتتمتعون بالكمالات كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام، الآية: 122]، وقال عليه السلام في أبي بكر رضي الله عنه:
" من أراد أن ينظر ميتا يمشي على وجه الأرض فلينظر أبا بكر "
، أي: ميتا عن نفسه يمشي بالله. أو وإذ اعتزلتم قومكم ومعبوداتهم غير الله من مطالبهم المختلفة، ومقاصدهم المتشتتة، وأهوائهم المتفننة، وأصنامهم المتخذة، فأووا إلى كهوف أبدانكم وامتنعوا عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات، واعكفوا على الرياضات،
ينشر لكم ربكم من رحمته
[الكهف، الآية: 16] زيادة كمال وتقوية ونصرة بالأمداد الملكوتية، والتأييدات القدسية، فيغلبكم عليهم ويهيئ لكم دينا وطريقا ينتفع به، وقبولا يهتدي بكم الخلائق ناجين. وفي المأوى إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يفهم من دخول المهدي في الغار إذ أخرج ونزل عيسى والله أعلم. وفي نشر الرحمة وتهيئة المرفق من أمرهم عند الأوي إلى الكهف إشارة إلى أن الرحمة الكامنة في استعدادهم إنما تنتشر بالتعلق البدني والكمال بتهيئاته.
[18.17]
{ وترى الشمس } أي: شمس الروح { إذا طلعت } أي: ترقت بالتجرد عن غواشي الجسم وظهرت من أفقه تميل بهم من جهة البدن وميله ومحبته إلى جهة اليمين أي: جانب عالم القدس وطريق أعمال البر من الخيرات والفضائل والحسنات والطاعات. وسيرة الأبرار، فإن الأبرار هم أصحاب اليمين. { وإذا غربت } أي: هوت في الجسم واحتجبت به، واختفت في ظلماته وغواشيه، وخمد نورها، تقطعهم وتفارقهم كائنين في جهة الشمال، أي: جانب النفس وطريق أعمال السوء فينهمكون في المعاصي والسيئات والشرور والرذائل. وسيرة الفجار الذين هم أصحاب الشمال { وهم في فجوة منه } أي: في مجال متسع من بدنهم هو مقام النفس والطبيعة، فإن فيه متفسحا لا يصيبهم فيه نور الروح. واعلم أن الوجه الذي يلي الروح من القلب موضع منور بنور الروح يسمى العقل وهو الباعث على الخير والمطرق لإلهام الملك والوجه الذي يلي النفس منه مظلم بظلمة صفاتها يسمى الصدر وهو محل وسوسة الشيطان كما قال:
الذى يوسوس في صدور الناس
[الناس، الآية: 5]، فإذا تحرك الروح وأقبل القلب بوجهه إليه تنور وتقوى بالقوة العقلية الباعثة المشوقة إلى الكمال ومال إلى الخير والطاعة، وإذا تحركت النفس وأقبل القلب بوجهه إليها تكدر واحتجب عن نور الروح وأظلم العقل ومال إلى الشر والمعصية. وفي هاتين الحالتين تطرق الملك للإلهام والشيطان للوسواس وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وفي الآية لطيفة هي: أنه استعمل في الميل إلى الخير الازورار عن الكهف، وفي الميل إلى الشر قرضهم اي: قطعهم، وذلك أن الروح يوافق القلب في طريق الخبر ويأمره به ويوافقه معرضا عن جانب البدن وموافقاته ولا يوافقه في طريق الشر بل يقطعه ويفارقه وهو منغمس في ظلمات النفس وصفاتها الحاجبة إياه عن النور وهو إشارة إلى تلوينهم في السلوك، فإن السالك ما لم يصل إلى مقام التمكين وبقي في التلوين قد تظهر عليه النفس وصفاته فيحتجب عن نور الروح ثم يرجع ذلك أي: طلوع نور الروح واختفاؤه من آيات الله التي يستدل بها ويتوصل منها إليه وإلى هدايته. { من يهد الله } بإيصاله إلى مقام المشاهدة والتمكين فيها { فهو المهتد } بالحقيقة لا غير { ومن يضلل } بحجبه عن نور وجهه فلا هادي له ولا مرشد, أو من يهد الله إليهم وإلى حالهم بالحقيقة ومن يضلله يحجبه عن حالهم.
[18.18-20]
{ وتحسبهم أيقاظا } يا مخاطب لانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية { وهم رقود } بالحقيقة في سنة الغفلة تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } أي: نصرفهم إلى جهة الخير وطلب الفضيلة تارة، وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى { وكلبهم } أي: نفسهم { باسط ذراعيه } أي: ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية { بالوصيد } أي: بفناء البدن، ولم يقل: وكلبهم هاجع لأنها لم ترقد بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه، والذراع الأيمن هو الغضب لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها { لو اطلعت عليهم } أي: على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية وما أودع الله فيهم من النورية والسنا، وما ألبسهم من العز و البهاء { لوليت منهم } فارا لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم، أو لوليت منهم للفرار عنهم وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسية والأور الطبيعية { ولملئت منهم رعبا } من أحوالهم ورياضاتهم، أو لو اطلعت عليهم بعد الوصول إلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعبا لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه. وأين الحدث من القدم، وأنى يسع الوجود العدم.
{ وكذلك بعثناهم } أي: مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي بعثناهم { ليتساءلوا بينهم } أي: ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم فيكملوا بإبرازها وإخراجها إلى الفعل، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة { قال قائل منهم كم لبثتم } مر تأويله، والمحققون منهم هم الذين { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } هذا هو زمان استبصارهم واستفادتهم واستكمالهم. والورق هو ما معهم من العلوم الأولية التي لا تحتاج إلى كسب، إذ بها تستفاد الحقائق الذهنية من العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية. والمدينة محل الاجتماع، إذ لا بد من الصحبة والتربية أو مدينة العلم من قوله عليه السلام:
" أنا مدينة العلم وعلي بابها "
وإنما بعثوا أحدهم لأن كمال الكل غير موقوف على التعليم والتعلم بل الكمال الأشرف هو العلمي فيكفي تعلم البعض عن كل فرقة وتنبيه الباقين كما قال تعالى:
فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
[التوبة، الآية: 122].
{ فلينظر أيها أزكى طعاما } أي: أهلها أطيب وأفضل علما وأنقى من الفضول واللغو والظواهر كعلم الخلاف والجدل والنحو وأمثالها التي لا تتقوى ولا تكمل بها النفس كقوله:
لا يسمن ولا يغني من جوع
[الغاشية، الآية: 7]، إذ العلم غذاء القلب كالطعام للبدن وهو الرزق الحقيقي الإلهي { وليتلطف } في اختيار الطعام ومن يشتري منه أي: ليختر المحقق الزكي النفس، الرشيد السمت، الفاضل السيرة، النقي السريرة، الكامل المكمل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس، المتعالم، المتصدر، لإفادة ما ليس عنده ليستفيد بصحبته ويظهر كماله بمجالسته ويستبصر بعلمه فيفيدنا أو ليتلطف في أمره حتى لا يشعر بحالكم ودينكم، جاهل من غير قصد له { ولا يشعرن بكم أحدا } من أهل الظاهر المحجوبين وسكان عالم الطبيعة المنكرين، وإن أولنا أصحاب الكهف بالقوى الروحانية فالمبعوث هو الفكر، والمدينة محل اجتماع القوى الروحانية والنفسانية والطبيعية والذي هو أزكى طعاما العقل دون الوهم والخيال والحواس، لأن كل مدرك له طعام والرزق هو العلم النظري على كلا التقديرين، ولا يشعرن بكم أحدا من القوى النفسانية.
{ إنهم إن يظهروا } أي: يغلبوا { عليكم يرجموكم } بحجارة الأهواء والدواعي من الغضب والشهوة وطلب اللذة فيقتلوكم بمنعكم عن كمالكم { أو يعيدوكم في ملتهم } باستيلاء الوهم وغلبة الشيطان والإمالة إلى الهوى وعبادة الأوثان وعلى التأويل الأول ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم ظاهر كما كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[18.21-22]
{ وكذلك أعثرنا عليهم } أي: مثل ذلك البعث والإنامة أطلعنا على حالهم المستعدين القابلين لهديهم ومعرفة حقائقهم { ليعلموا } بصحبتهم وهدايتهم { أن وعد الله } بالبعث والجزاء { حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم } أي: حين يتنازع المستعدون الطالبون بينهم أمرهم في المعاد، فمنهم من يقول: إن البعث مخصوص بالأرواح المجردة دون الأجساد، ومنهم من يقول: إنه بالأرواح والأجساد معا، فعلموا بالاطلاع عليهم ومعرفتهم أنه بالأرواح والأجساد وأن المعاد الجسماني حق، { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا } أي: فلما توفوا قالوا ذلك كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الكمل، المقربين من الأنبياء والأولياء كإبراهيم ومحمد وعلى سائر الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام. { ربهم أعلم بهم } من كلام أتباعهم من أممهم والمقتدين بهم، أي: هم أجل وأعظم شأنا من أن يعرفهم غيرهم، الموحدون الهالكون في الله، المتحققون به، فهو أعلم بهم كما قال تعالى:
" أوليائي تحت قبائي، لا يعرفهم غيري "
{ قال الذين غلبوا على أمرهم } من أصحابهم والذين يلون أمرهم تبركا بهم وبمكانهم { لنتخذن عليهم مسجدا } يصلى فيه. { سيقولون } أي: الظاهريون من أهل الكتاب والمسلمين الذين لا علم لهم بالحقائق. وقوله: { رجما بالغيب } أي: رميا بالذي غاب عنهم، يعني: ظنا خاليا عن اليقين بعد قولهم: { ثلاثة رابعهم كلبهم } و { خمسة سادسهم كلبهم } وتوسيط الواو الدالة على أن الصفة مجامعة للموصوف ولا تفارقه، وأنه لا عدد وراءه بين قوله: { ويقولون سبعة } وبين { وثامنهم كلبهم }. وقوله: { ما يعلمهم إلا قليل } بعده، يدل على أن العدد هو سبعة لا غير، فالقليل هم المحققون القائلون به وإن أولناهم بالقوى الروحانية فهم العاقلتان: النظرية والعملية، والفكر والوهم، والتخيل والذكر، والحس المشترك المسمى بنطاسيا، والكلب النفس والشمس والروح على كلا التأويلين. ولهذا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " إنهم كانوا سبعة، ثلاثة عن يمين الملك وثلاثة عن يساره، والسابع هو الراعي صاحب الكلب " ، فإن صحت الرواية فالملك هو دقيانوس النفس الأمارة، والثلاثة الذين كانوا عن يمينه يستشيرهم هم العاقلتان والفكر، والثلاثة الذين كانوا عن يساره يستوزرهم هم التخيل والوهم والذكر، والراعي هو بنطاسيا صاحب أغنام الحواس، والذين قالوا هم ثلاثة ارادوا القلب والعاقلتين، والذين قالوا خمسة زادوا عليهم الفكر والوهم وتركوا المدرك للصور والذكر لعدم تصرفهما وكون كل منهما كالخزانة. وعلى هذا التأويل فالاطلاع للفئة المحققين من الحضرة الإلهية على بقاء النفس بعد خراب البدن ، والتنازع، هو التجاذب والتغالب الواقع بين القوى في الاستيلاء على البدن الذي يبعثون فيه وهو البنيان المأمور ببنائه والآمرون هم الغالبون الذين قالوا: { لنتخذن عليهم مسجدا } [الكهف، الآية: 21] يسجد، أي: ينقاد فيه جميع القوى الحيوانية و الطبيعية والنفسانية والمأمورون هم المغلوبون الفاعلون في البدن المبعوث فيه والله أعلم.
[18.23-24]
{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك } أدبه بالتأديب الإلهي بعدما نهاه عن المماراة والسؤال، فقال: " لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله " بأن يأذن لك في القول فتكون قائلا به وبمشيئته أو إلا بمشيئته على أنه حال، أي: ملتبسا بمشيئته، يعني: لا تقولن لما عزمت عليه من فعل إني فاعل ذلك في الزمان المستقبل إلا ملتبسا بمشيئة الله، قائلا: إن شاء الله، أي: لا تسند الفعل إلى إرادتك بل إلى إرادة الله، فتكون فاعلا به وبمشيئته { واذكر ربك } بالرجوع إليه والحضور { إذا نسيت } بالغفلة عند ظهور النفس والتلوين بظهور صفاتها { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا } أي: من الذكر عند التلوين وإسناد الفعل إلى صفاته بالتمكين والشهود الذاتي المخلص عن حجب الصفات { رشدا } استقامة، وهو التمكين في الشهود الذاتي.
[18.25-29]
{ ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين } من التي تبتنى على دور القمر فتكون كل سنة شهرا ومجموعها خمسة وعشرون سنة، وذلك وقت انتباههم وتيقظهم { وازدادوا تسعا } هي مدة الحمل. وروعيت في الآية نكتة، هي أنه: لم يقل ثلثمائة سنة وتسعا، أو ثلثمائة وتسع سنين، لاستعمال السنة في العرف وقت نزول الوحي في دورة شمسية لا قمرية، فأجمل العدد ثم بينه بقوله: سنين، فاحتمل أن يكون المميز غيرها كالشهر مثلا، ثم بين أن المدة سنين مبهمة غير معينة، إذ لو قيل: ثلثمائة شهر سنين، فأبدل سنين من مجموع العدد، كانت العبارة صحيحة والمراد سنين كذا عددا، أي: خمسة وعشرين. ويؤيده قوله بعده: { قل الله أعلم بما لبثوا } وقال قتادة: هو حكاية كلام أهل الكتاب من تتمة سيقولون: وقوله: { قل الله أعلم } رد عليهم. وفي مصحف عبد الله: وقالوا: { لبثوا } ، وذلك أن اليقين غير محقق ولا مطرد.
{ واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك } يجوز أن تكون من لابتداء الغاية، والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحى إلى من أوحى إليه، وأن تكون بيانا لما أوحى. والكتاب هو العقل الفرقاني وعلى التقديرين { لا مبدل لكلماته } التي هي أصول الدين من التوحيد والعدل وأنواعهما { ولن تجد من دونه ملتحدا } تميل إليه لامتناع وجود ذلك.
{ واصبر نفسك } أمر بالصبر مع الله وأهله وعدم الالتفات إلى غيره وهذا الصبر هو من باب الاستقامة والتمكين لا يكون إلا بالله { مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } أي: دائما هم الموحدون من الفقراء المجردين الذين لا يطلبون غير الله ولا حاجة لهم في الدنيا والآخرة، ولا وقوف مع الأفعال والصفات { يريدون وجهه } أي: ذاته فحسب، يدعونه ولا يحتجبون عنه بغيره وقت ظهورها غداة الفناء ووقت احتجابها بهم عند البقاء، فالصبر معهم هو الصبر مع الله، ومجاوزة العين عنهم المنهي عنها هو الالتفات إلى الغير. { إنا أعتدنا للظالمين } أي: المشركين المحجوبين عن الحق لقوله:
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان، الآية: 13] { نارا } عظيمة { أحاط بهم سرادقها } من مراتب الأكوان كالطباع العنصرية والصور النوعية المادية المحيطة بالأشخاص الهيولانية { بماء كالمهل } من جنس الغساق والغسلين، أي: المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار مسودة فيها دسومات يغاثون بها أو غسالاتهم القذرة أو من جنس الغصص والهموم المحرقة.
[18.30-46]
{ إن الذين آمنوا } بالتوحيد الذاتي لكونهم في مقابلة المشركين { وعملوا الصالحات } من الأعمال المقصودة لذاتها في مقام الاستقامة { إنا لا نضيع } أجرهم، وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن الأجر إنما يستحق بالعمل دون العلم، إذ به يستحق ارتفاع الدرجة والرتبة { جنات عدن } من الجنان الثلاث { يحلون فيها من أساور من ذهب } أي: يزينون فيها بأنواع الحلي هي من حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية، إذ الذهبيات من الحلي هي العينيات والفضيات هي الصفاتيات النورانيات كقوله:
وحلوا أساور من فضة
[الإنسان، الآية: 21]. { ويلبسون ثيابا خضرا } يتصفون بصفات بهيجة، حسنة، نضرة، موجبة للسرور { من سندس } الأحوال والمواهب لكونها ألطف { وإستبرق } الأخلاق والمكاسب لكونها أكثف { متكئين فيها على } أرائك الأسماء الإلهية التي هي مبادئ أفعاله لاتصافهم بأوصافه وكون الصفة مع الذات هي الاسم المستند هو عليه في جنة الصفات والأفعال { نعم الثواب وحسنت مرتفقا } في مقابلة:
بئس الشراب وسآءت مرتفقا
[18.47-59]
{ ويوم نسير الجبال } أي: نذهب جبال الأعضاء بالتفتيت فنجعلها هباء منثورا { وترى } أرض البدن { بارزة } ظاهرة مستوية، مسطحة بسيطة، كما كانت، لا صورة عليها ولا تركيب، فيها ترابا خالصا { وحشرناهم } الضمير إما للقوى المذكورة وإما لأفراد الناس { فلم نغادر منهم أحدا } غير محشور. { وعرضوا على ربك } عند البعث { صفا } أي: مصطفين مترتبين في المواقف لا يحجب بعضهم بعضا، كل في رتبته { لقد جئتمونا } أي: قلنا لهم ذلك اليوم: لقد جئتمونا حفاة عراة، غرلا فرادى، أي: { كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم } بإنكاركم البعث { ألن نجعل لكم موعدا } وقتا لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور. { ووضع الكتاب } أي: كتاب القالب المطابق لما في نفوسهم من هيئات الأعمال الراسخة فيهم { فترى المجرمين مشفقين مما فيه } لعثورهم به على ما نسوا { ويقولون يا ويلتنا } يدعون الهلكة التي هلكوا بها من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } لكون آثار حركاتهم وأعمالهم كلها باقية في نفوسهم صغيرة كانت أو كبيرة، ثابتة في ألواح النفوس الفلكية أيضا، مضبوطة فيها، تظهر عليهم على التفصيل في نشأتهم الثانية لا محيص لهم عنها، وهذا معنى قوله: { ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحد } مر معنى سجود الملائكة وإباء إبليس. وقوله: { وكان من الجن } كلام مستأنف، كأن قائلا قال: ما بال إبليس لم يسجد؟ قال: كان من الجن، أي: من القوى البدنية المختفية بالمواد، فلذلك { فسق عن أمر ربه } أي: لاحتجابه بالمادة ولواحقها.
[18.60-63]
{ وإذ قال موسى لفتاه } ظاهره على ما ذكر في القصص ولا سبيل إلى إنكار المعجزات. وأما باطنه فأن يقال: وإذ قال موسى القلب لفتى النفس وقت التعلق بالبدن: { لا أبرح } أي: لا أنفك عن السير والمسافرة، أو لا أزال أسير { حتى أبلغ مجمع البحرين } أي: ملتقى العالمين: عالم الروح وعالم الجسم، وهما العذب والأجاج في صورة الإنسانية ومقام القلب { أو أمضي حقبا } أي: أسير مدة طويلة.
{ فلما بلغا مجمع بينهما } في الصورة الحاضرة الجامعة { نسيا حوتهما } وهو الحوت الذي ابتلع ذا النون عليه السلام بالنوع لا بالشخص، لأن غداءهما كان قبل الوصول إلى هذه الصورة في الخارج من ذلك الحوت الذي أمر بتزوده في السفر وقت العزيمة { فاتخذ سبيله } في بحر الجسد حيا كما كان أولا { سربا } نقبا واسعا كما قيل: بقي طريقه في البحر منفرجا، لم ينضم عليه البحر.
{ فلما جاوزا } مكان مفارقة الحوت وألقي على موسى النصب والجوع، ولم ينصب في السفر ولا جاع قبل ذلك على ما حكي، تذكر الحوت والاغتذاء منه وطلب الغداء من فتاه وإنما قال: { آتنا غداءنا } لأن حاله ذلك نهارا بالنسبة إلى ما قبله في الرحم { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } هو نصب الولادة ومشقتها.
{ قال أرأيت } ما عراني { إذ أوينا إلى الصخرة } أي: النحر للارتضاع { فإني نسيت الحوت } لاستغنائنا عنه { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } أي: وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان على إبدال أن أذكره من الضمير، وذلك لأن موسى كان راقدا حين اتخذ الحوت سبيله في البحر على ما قيل. وفتى النفس يقظان، فأنسى شيطان الوهم الذي زين الشجرة لآدم ذكر النفس الحوت لموسى لكون الحال حال ذهول والسبيل المتعجب منه هو السرب المذكور.
[18.64-73]
{ قال ذلك } أي: تملص الحوت واتخاذه سبيله الذي كان عليه في جبلته { ما كنا } نطلبه، لأن هناك مجمع البحرين الذي وعد موسى عنده بوجود من هو أعلم منه، إذ الترقي إلى الكمال بمتابعة العقل القدسي لا يكون إلا في هذا المقام { فارتدا على آثارهما } في الترقي إلى مقام الفطرة الأولى كما كانا أولا يقصان { قصصا } أي: يتبعان آثارهما عند الهبوط في الترقي إلى الكمال حتى وجد العقل القدسي، وهو عبد من عباد الله مخصوص بمزية عناية ورحمة { آتيناه رحمة من عندنا } أي: كمالا معنويا بالتجرد عن المواد والتقدس عن الجهات. والنورية المحضة التي هي آثار القرب والعندية { وعلمناه من لدنا علما } من المعارف القدسية والحقائق الكلية اللدنية بلا واسطة تعليم بشري. وقوله: { هل أتبعك } هو ظهور إرادة السلوك والترقي إلى الكمال { إنك لن تستطيع معي صبرا } لكونك غير مطلع على الأمور الغيبية والحقائق المعنوية لعدم تجردك واحتجابك بالبدن وغواشيه، فلا تطيق مرافقتي، وهذا معنى قوله: { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا } لقوة استعدادي وثباتي على الطلب { ولا أعصي لك أمرا } لتوجهي نحوك وقبولي أمرك، لصفائي وصدق إرادتي. والمقاولات كلها بلسان الحال.
{ فإن اتبعتني } في سلوك طريق الكمال { فلا تسألني عن شيء } أي: عليك بالاقتداء والمتابعة في السير بالأعمال والرياضات والأخلاق والمجاهدات، ولا تطلب الحقائق والمعاني { حتى } يأتي وقته، ف { أحدث لك منه } أي: من ذلك العلم { ذكرا } وأخبرك بالحقائق الغيبية عند تجردك بالمعاملات القالبية والقلبية { فانطلقا حتى إذا ركبا } في سفينة البدن البالغ إلى حد الرياضة الصالح للعبودية إلى العالم القدسي في بحر الهيولى للسير إلى الله { خرقها } أي: نقصها بالرياضة وتقليل الطعام وأضعف احكامها وأوقع الخلل في نظامها وأوهنها { قال أخرقتها لتغرق أهلها } أي: أكسرتها لتغرق القوى الحيوانية والنباتية التي فيها في بحر الهيولى فتهلك { لقد جئت شيئا إمرا } وهذا الإنكار عبارة عن ظهور النفس بصفاتها وميل القلب إليها، والتضجر عن حرمان الحظوظ في الرياضة، وعدم القناعة بالحقوق. { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا } تنبيه روحي وتحريض قدسي على أن العزيمة في السلوك يجب أن تكون أقوى من ذلك { قال لا تؤاخذني بما نسيت } إلى آخره، اعتذاره في مقام النفس اللوامة.
[18.74-78]
{ فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما } هو النفس التي تظهر بصفاتها فتحجب القلب فتكون أمارة بالسوء. وقتله بإماتة الغضب والشهوة وسائر الصفات { أقتلت نفسا زكية } اعتراض لتحنن القلب على النفس و { ألم أقل لك } تذكير وتعبير روحي و { إن سألتك عن شيء } إلى آخره، اعتذار وإقرار بالذنب واعتراف، وكلها من التلوينات عند كون النفس لوامة.
{ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } هم القوى البدنية، واستطعامهما منهم هو طلب الغذاء الروحاني منهم، أي: بواسطتهم كانتزاع المعاني الكلية من مدركاتها الجزئية وإنما أبوا أن يضيفوهما وإن أطعموهما قبل ذلك لأن غذاءهما حينئذ كان من فوقهم من الأنوار القدسية والتجليات الجمالية والجلالية والمعارف الإلهية والمعاني الغيبية لا من تحت أرجلهم كما كان قبل خرق السفينة، وقتل الغلام بالرياضة والقوى والحواس مانعة من ذلك لا ممدة، بل لا تتهيأ إلا بعد نعاسهم وهدوهم كما قال موسى لأهله: امكثوا. والجدار الذي { يريد أن ينقض } هو النفس المطمئنة وإنما عبر عنها بالجدار لأنها حدثت بعد قتل النفس الأمارة وموتها بالرياضة، فصارت كالجماد غير متحركة بنفسها وإرادتها، ولشدة ضعفها كادت تهلك، فعبر عن حالها بإرادة الانقضاض. وإقامته إياها تعديلها بالكمالات الخلقية و الفضائل الجميلة بنور القوة النطقية حتى قامت الفضائل مقام صفاتها من الرذائل. وقول موسى عليه السلام: { لو شئت لتخذت عليه أجرا } تلوين قلبي لا نفسي، وهو طلب الأجر والثواب باكتساب الفضائل واستعمال الرياضة، ولهذا أجابه بقوله:
{ هذا فراق بيني وبينك } أي: هذا هو مفارقة مقامي ومقامك ومباينتهما والفرق بين حالي وحالك، فإن عمارة النفس بالرياضة والتخلق بالأخلاق الحميدة ليست لتوقع الثواب والأجر وإلا فليست فضائل ولا كمالات لأن الفضيلة هي التخلق بالأخلاق الإلهية بحيث تصدر عن صاحبها الأفعال المقصودة لذاتها لا لغرض. وما كان لغرض فهو حجاب ورذيلة لا فضيلة والمقصود هو طرح الحجاب وانكشاف غطاء صفات النفس، والبروز إلى عالم النور لتلقي المعاني الغيبية بل الاتصاف بالصفات الإلهية بل التحقق بالله بعد الفناء فيه لا الثواب كما زعمت { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي: لما اطمأنت النفس واستقرت القوى أمكنك قبول المعاني وتلقي الغيب الذي نهيتك عن السؤال عنه حتى أحدث لك منه ذكرا فسأذكر لك وأنبئك بتأويل هذه الأمور إذا استعددت لقبول المعاني والمعارف.
[18.79-81]
{ أما السفينة فكانت لمساكين } في بحر الهيولى ، أي: القوى البدنية من الحواس الظاهرة والقوى الطبيعية النباتية، وإنما سماها مساكين لدوام سكونها وملازمتها لتراب البدن وضعفها عن ممانعة القلب في السلوك والاستيلاء عليه كسائر القوى الحيوانية. وحكي أنهم كانوا عشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يعملون في البحر، وذلك إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة { فأردت أن أعيبها } بالرياضة لئلا يأخذها ملك النفس الأمارة غصبا وهو الملك الذي كان وراءهم أي: قدامهم { يأخذ كل سفينة غصبا } بالاستيلاء عليها واستعمالها في أهوائه ومطالبه { وأما الغلام فكان أبواه } اللذان هما الروح والطبيعة الجسمانية { مؤمنين } مقرين بالتوحيد لانقيادهما في سلك طاعة الله وامتثالهما لأمر الله وإذعانهما لما أراد الله منهما { فخشينا أن يرهقهما } أي: يغشيهما { طغيانا } عليهما بظهوره بالأنائية عند شهود الروح { وكفرا } لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه أو كفرا بالحجاب فيفسد عليهما أمرهما ودينهما ويبطل عبوديتهما لله { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة } كما بدلهما بالنفس المطمئنة التي هي خير منه زكاة، أي: طهارة ونقاء { وأقرب رحما } تعطفا ورحمة لكونها أعطف على الروح والبدن وأنفع لهما، وأكثر شفقة. ويجوز أن يكون المراد بالأبوين الجد والأب، فكان كناية عن الروح والقلب. وكونه أقرب رحما أنسب لهما وأشد تعطفا.
[18.82-87]
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } أي: العاقلتين النظرية والعملية المنقطعتين عن أبيهما الذي هو روح القدس لاحتجابهما عنه بالغواشي البدنية أو القلب الذي مات أو قتل قبل الكمال باستيلاء النفس في مدينة البدن { وكان تحته كنز لهما } أي: كنز المعرفة التي لا تحصل إلا بهما في مقام القلب لإمكان اجتماع جميع الكليات والجزئيات فيه بالفعل وقت الكمال وهو حال بلوغ الأشد واستخراج ذلك الكنز. وقال بعض أهل الظاهر من المفسرين: كان الكنز صحفا فيها علم { وكان أبوهما } على كلا التأويلين { صالحا } وقيل: كان أبا أعلى لهما حفظهما الله له، فعلى هذا لا يكون إلا روح القدس.
قصة ذي القرنين مشهورة وكان روميا قريب العهد والتطبيق، إن ذا القرنين في هذا الوجود هو القلب الذي ملك قرنيه، أي: خافقيه شرقها وغربها { إنا مكنا له } في أرض البدن بالإقدار والتمكين على جمع الأموال من المعاني الكلية والجزئية والسير إلى أي قطر شاء من المشرق والمغرب. { وآتيناه من كل شيء } أراده من الكمالات { سببا } أي: طريقا يتوصل به إليه { فأتبع } طريقا بالتعلق البدني والتوجه إلى العالم السفلي. { حتى إذا بلغ مغرب الشمس } أي: مكان غروب شمس الروح { وجدها تغرب في عين حمئة } أي: مختلطة بالحمأة، وهي المادة البدنية الممتزجة من الأجسام الغاسقة كقوله:
من نطفة أمشاج
[الإنسان، الآية: 2]. { ووجد عندها قوما } هم القوى النفسانية البدنية والروحانية { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب } بالرياضة والقهر والإماتة { وإما أن تتخذ فيهم حسنا } بالتعديل وإيفاء الحظ.
{ قال أما من ظلم } بالإفراط وعدم الاستسلام والانقياد كالشهوة والغضب والوهم والتخيل { فسوف نعذبه } بالرياضة { ثم يرد إلى ربه } في القيامة الصغرى { فيعذبه } بالإلقاء في نار الطبيعة { عذابا نكرا } أي: منكرا أشد من عذابي، أو في القيامة الكبرى فيعذبه عذاب القهر والإفناء.
[18.88-94]
{ وأما من آمن } بالعلم والمعرفة كالعاقلتين و الفكر والحواس الظاهرة { وعمل صالحا } بالسعي في اكتساب الفضائل والانقياد والطاعة { فله جزاء } المثوبة { الحسنى } من جنة الصفات وتجليات أنوارها وأنهار علومها { وسنقول له من أمرنا يسرا } أي: قولا ذا يسر بحصول الملكات الفاضلة.
{ ثم أتبع } طريقا هي طريق الترقي والسلوك إلى الله بالتجرد والتزكي { حتى إذا بلغ مطلع الشمس } أي: مطلع شمس الروح { وجدها تطلع على قوم } هم العاقلتان والفكر والحدس و القوة القدسية { لم نجعل لهم من دونها سترا } أي: حجابا لتنورهم بنورها وإدراكهم المعاني الكلية { كذلك } أي: أمره كما وصفنا { وقد أحطنا بما لديه } من العلوم والمعارف والكمالات والفضائل { خبرا } أي: علما، ومعناه: لم يحط به غيرنا لكونه الحضرة الجامعة للعالمين فليس في الوجود من يقف على معلوماته إلا الله ولأمر ما سمي عرش الله.
{ ثم أتبع } طريقا بالسير في الله { حتى إذا بلغ بين السدين } أي: الكونين، وذلك مرتبته ومقامه الأصلي بين صدفي جبلي الإله والسير في المشرق والمغرب سفرة تنزلا وترقيا { وجد من دونهما قوما } هم القوى الطبيعية البدنية والحواس الظاهرة { لا يكادون يفقهوه قولا } لكونها غير مدركة للمعاني ولا ناطقة بها.
{ قالوا } بلسان الحال { إن يأجوج } الدواعي والهواجس الوهمية { ومأجوج } الوساوس والنوازع الخيالية { مفسدون } في أرض البدن بالتحريض على الرذائل والشهوات المنافية للنظام والحث على الأعمال الموجبة للخلل فيه وخراب القوانين الخيرية والقواعد الحكمية وإحداث النوائب والفتن والأهواء والبدع المنافية للعدالة المقتضية لفساد الزرع والنسل { فهل نجعل لك خرجا } بإمدادك بكمالاتنا وصور مدركاتنا { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } لا يتجاوزونه وحاجزا لا يعلونه، وذلك هو الحد الشرعي والحجاب القلبي من الحكمة العملية.
[18.95-99]
{ قال ما مكني فيه ربي } من المعاني الكلية والجزئية الحاصلة بالتجربة والسير في المشرق والمغرب { خير فأعينوني بقوة } أي: عمل وطاعة { أجعل بينكم وبينهم ردما } هو الحكمة العملية والقانون الشرعي. { آتوني زبر الحديد } من الصور العملية وأوضاع الأعمال { حتى إذا ساوى بين الصدفين } بالتعديل والتقدير { قال } للقوى الحيوانية { انفخوا } في هذه الصور نفخ المعاني الجزئية والهيئات النفسانية من فضائل الأخلاق { حتى إذا جعله نارا } أي: علما برأسه من جملة العلوم يحتوي على بيان كيفية الأعمال { قال آتوني أفرغ عليه قطرا } النية والقصد الذي يتوسط بين العلم والعمل، فيتحد به روح العلم وجسد العمل كالروح الحيواني المتوسط بين الروح الإنساني والبدن، فحصل سد، أي: قاعدة وبنيان من زبر الأعمال ونفخ العلوم والأخلاق وقطر العزائم والنيات، واطمأنت به النفس وتدبرت فآمنت. { فما اسطاعوا أن يظهروه } ويعلوه لارتفاع شأنه وكونه مشتملا على علوم وحجج لم يمكنهم دفعها والاستيلاء عليها { وما استطاعوا له نقبا } لاستحكامه بالملكات والأعمال والأذكار.
{ قال هذا } السد، أي: القانون { رحمة من ربي } على عباده، يوجب أمنهم وبقاءهم { فإذا جاء وعد ربي } بالقيامة الصغرى { جعله دكا } باطلا، منهدما، لامتناع العمل به عند الموت وخراب الآلات البدنية.
{ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } بالاضطراب والاختلاط، أي: تركناهم يختلطون لاجتماعهم في الروح مع عدم الحيلولة { ونفخ في الصور } للبعث في النشأة الثانية { فجمعناهم جمعا } أو بالقيامة الكبرى حال الفناء وظهور الحق. جعله دكا لارتفاع العلم والحكمة هناك، وظهور معنى الحل والإباحة بتجلي الأفعال الإلهية وانتفاء الغير وفعله، { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } ، حيارى، مختلطين شيئا واحدا لا حراك بهم. { ونفخ في الصور } بالإيجاد بالوجود الحقاني حال البقاء { فجمعناهم جمعا } في التوحيد والاستقامة والتمكين وكونهم بالله لا بأنفسهم.
[18.100-110]
{ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين } أي: يوم القيامة الصغرى يتعذب المحجوبون عن الحق بأنواع العذاب والنيران كما ذكر في سورة (الأنعام) أو في ذلك الشهود، أي: ظهر لصاحب القيامة الكبرى تعذبهم في نار جهنم { كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } أي: محجوبة عن آياتي وتجليات صفاتي الموجبة لذكري { لا يبغون عنها حولا } أي: تحولا لبلوغهم الكمال الذي يقتضيه استعدادهم، فلا شوق لهم إلى ما وراءه وإن وجد كمال وراء ذلك لعدم إدراكهم له فلا ذوق ولا شوق، وكونهم في مقابلة المشركين المحجوبين عن الحق بالغير. وكون جناتهم جنات الفردوس يدلان على أن المراد بهم هم الموحدون الكاملون الاستعداد الذين لا كمال فوق كمالهم، فلا يبقى شيء وراء مرتبتهم، يريدون التحول إليه.
{ قل لو كان البحر } أي: بحر الهيولى القابلة للصور الممدة لها في الظهور { مدادا لكلمات ربي } من المعاني والحقائق والأعيان والأرواح { لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } لكونها غير متناهية وامتناع وفاء المتناهي بغير المتناهي، والله أعلم.
[19 - سورة مريم]
[19.1-3]
{ كهيعص } قد تقدم فيما سلف أن كل طالب ينادي ربه ويدعوه إنما يستحق الإجابة إذا دعاه بلسان الحال وناداه باسمه الذي هو مصدر مطلوبه بحسب اقتضاء استعداده في ذلك الحال، علم أو لم يعلم، إذ العطاء والفيض لا يكون إلا بحسب الاستعداد، والاستعداد لا يطلب إلا مقتضى ذلك الاسم فيجيبه بتجلي ذلك الاسم الذي يجبر نقصه ويقضي حاجته بإفادة مطلوبه كما أن المريض إذا قال: يا رب، فمراده: يا شافي، إذ الحق يبريه بذلك الاسم عند إجابته. وكذا الفقير إذا ناداه أجابه باسمه المغني إذ هو ربه.
[19.4-15]
فنادى زكريا عليه السلام ربه ليهب له وليا يقوم مقامه في أمر الدين، وتوسل إليه بأمرين، واعتذر إليه معتلا بأمرين، توسل بالضعف والشيخوخة والوهن والعجز عن القيام بأمر الدين في قوله: { وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا } فأجابه باسمه الكافي فكفاه ضعفه وأعطاه القوة وأيده بالولد ثم بعنايته به قديما بقوله: { ولم أكن بدعائك رب شقيا } فأجابه باسمه الهادي وهداه إلى مطلوبه بالبشارة والوعد، لأن العناية المقتضية للسعادة المستلزمة لسلب الشقاوة، كما أشار إليها، يلازمها عبارة عن علمه تعالى في الأزل بعين في العدم وتقتضي باستعدادها سعادة تناسبها وهو عين إرادته تعالى ذلك الكمال لها عند وجودها فلا بد من هداية لها إليه، والهداية إنما تتم بالتوفيق، وهو ترتيب الأسباب الموافقة لذلك المطلوب المؤدية إليه، ولم يجدها موافقة ووجد خلافها فخاف واعتذر إليه بالخوف من الموالي لعدم صلاحيتهم لذلك، فأجابه باسمه الواقي، فوقاه شرهم، وبامتناع وجود الولي من نسله لعدم الأسباب بقوله: { وكانت امرأتي عاقرا } فأجابه باسمه العليم لأنه علم عدم الأسباب الذي تعلل به محتجا بها عن المسبب وعلم وجوده مع عدمها وما علمه لا بد من كونه، كما قالت الملائكة لامرأة إبراهيم عليه السلام:
كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم
ولما بشره بالولد، وهداه إلى مقتضى العلم، تعجب منه لضراوته في عالم الأسباب بالحكمة وكرر التعلل بعدم الأسباب بقوله: { أنى يكون لي غلام } الخ، لأنه كان يطلب ولدا حقيقيا يلي أمره ويحذو حذوه ويسلك طريقه في القيام بأمر الدين وإن لم يكن من نسله لعدم أهلية مواليه لذلك، فكرر البشارة وهداه إلى سهولة ذلك في قدرته، فالتمس علامة تدل عليه، فهداه إليها وأنجز وعده باسمه الصادق فرحمه بهبة يحيى له. فاقتضت الأحوال الأربعة مع حال الوعد والبشارة إجابته بالرحمة عليه بالأسماء الخمسة. فعلى هذا يكون (ك) إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعفه وشيخوخته وعجزه و (ه) إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته به وإرادة مطلوبه له و (ي) إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي و (ع) إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب و (ص) إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد. ومجموع الأسماء الخمسة هو: الرحيم بهبة الولد، وإفاضة مطلوبه في هذه الأحوال. فذكر هذه الحروف وتعدادها إشارة إلى أن ظهور هذه الصفات التي حصل بها هذه الأسماء هو ظهور رحمة عبده زكريا وقت ندائه وذكرها ذكر تلك الرحمة التي هي وجود يحيى عليه السلام. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ك) عبارة عن الكافي و (ه) عن الهادي و (ي) عن الواقي و (ع) عن العالم و (ص) عن الصادق والله أعلم.
والتطبيق أن يقال: نادى زكريا الروح في مقام استعداد العقل الهيولاني نداء خفيا، واشتكى ضعفه، وتوسل بعنايته، واشتكى خوف موالي القوى النفسانية وعقر امرأة النفس بولد القلب { فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب } العقل الفعال { واجعله رب رضيا } موصوفا بالكمالات المرضية { نبشرك بغلام } القلب { اسمه يحيى } لحياته أبدا { رب اجعل لي آية } أتوصل بها إليه { آيتك ألا تكلم } ناس الحواس بالشواغل الحسية والمخالطة بالأمور الطبيعية { فأوحى إليهم أن سبحوا } أي كونوا على عبادتكم المخصوصة بكل واحد منكم بالرياضة وترك الفضول دائما.
{ يا يحيى } القلب { خذ } كتاب العلم، المسمى بالعقل الفرقاني { وآتيناه الحكم } أي: الحكمة { صبيا } قريب العهد بالولادة المعنوية { وحنانا من لدنا } أي: رحمة بكمال تجليات الصفات { وزكاة } أي: تقدسا وطهارة بالتجرد { وكان تقيا } مجتنبا صفات النفس { وبرا بوالديه } الروح والنفس { وسلام عليه } أي: تنزه وتقدس عن ملابسة المواد { يوم ولد ويوم يموت } بالفناء في الوحدة { ويوم يبعث } بالبقاء بعد الفناء { حيا } بالله.
[19.16-21]
{ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا } المكان الشرقي هو مكان العالم القدسي لاتصالها بروح القدس عند تجردها وانتباذها عن ممكن الطبيعة ومقر النفس وأهلها القوى النفسانية والطبيعية. والحجاب الذي اتخذته من دونهم هو حظيرة القدس الممنوع من أهل عالم النفس بحجاب الصدر الذي هو غاية مبلغ علم القوى المادية ومدى سيرها، وما لم تترق إلى العالم القدسي بالتجرد لم يمكن إرسال روح القدس إليها، كما أخبر عنه تعالى في قوله: { فأرسلنا إليها روحنا } وإنما تمثل لها بشرا سوي الخلق، حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس فتتحرك على مقتضى الجبلة ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها، فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مر أن الوحي قريب من المنامات الصادقة لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم، فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا: قلبا، والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن مني الذكر في تكون الولد بمنزلة الأنفحة في الجبن، ومني الأنثى بمنزلة اللبن أي: العقد من مني الذكر، والانعقاد من مني الأنثى لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومني الأنثى بالقوة المنعقدة. بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى والمنعقدة في مني الأنثى أقوى وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد مني الذكر حتى يصير جزء من الولد، فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس، القوية القوى، وكان مزاج كبدها حارا كان المني المنفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيرا من الذي ينفصل عن كليتها اليسرى، فإذا اجتمعا في الرحم وكان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب. قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام الذكر في شدة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد فيتخلق الولد، هذا وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس والله أعلم.
{ ولنجعله آية للناس } دالة على البعث والنشور { ورحمة منا } عليهم بتكميلهم به بالشرائع والحكم والمعارف وهدايتهم بسبب فعلنا ذلك فهو صورة الرحمة الإلهية المعنوية { وكان أمرا مقضيا } في اللوح، مقدرا في الأزل. وعن ابن عباس: فاطمأنت إليه بقوله: { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } فدنا منها، فنفخ في جيب الدرع، أي: البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصاله بها وتعلقه بنطفتها، والحق إنه روح القدس لأنه كان السبب الفاعلي لوجوده، كما قال: { لأهب لك غلاما زكيا }.
[19.22-26]
واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم واستقرارها فيه ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح { فانتبذت به } أي: معه { مكانا قصيا } أي: بعيدا من المكان الأول الشرقي لأنها وقعت به في المكان الغربي الذي هو عالم الطبيعة والأفق الجسماني، ولهذا قال: { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } نخلة النفس { فنادها من تحتها } أي: ناداها جبريل من الجهة السفلية بالنسبة إلى مقامها من القلب، أي: من عالم الطبيعة الذي كان حزنها من جهته وهو الحمل الذي هو سبب تشورها وافتضاحها { ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا } أي: جدولا من غرائب العلم الطبيعي وعلم توحيد الأفعال الذي خصك الله بها واصطفاك كما رأيت من تولد الجنين من نطفتك وحدها.
{ وهزي إليك بجذع } نخلة نفسك التي بسقت في سماء الروح باتصالك بروح القدس، واخضرت بالحياة الحقيقية بعد يبسها بالرياضة وجفافها بالحرمان عن ماء الهوى وحياته، وأثمرت المعارف والمعاني، أي: حركيها بالفكر { تساقط عليك } من ثمرات المعارف والحقائق { رطبا جنيا فكلي } أي: من فوقك رطب الحقائق والمعارف الإلهية وعلم تجليات الصفات والمواهب والأحوال { واشربي } من تحتك ماء العلم الطبيعي وبدائع الصنع وغرائب الأفعال الإلهية وعلم التوكل وتجليات الأفعال والأخلاق والمكاسب، كما قال تعالى:
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة، الآية: 66] { وقري عينا } بالكمال والولد المبارك الموجود بالقدرة، الموهوب بالعناية { فإما ترين من البشر أحدا } أي: من أهل الظاهر المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب وبالصنع والحكمة عن الإبداع والقدرة التي لا يفهمون قولك ولا يصدقون بك وبحالك لوقوفهم مع العادة، واحتجابهم بالعقول المشوبة بالوهم المحجوبة عن نور الحق { فقولي إني نذرت للرحمن صوما } أي: لا تكلميهم في أمرك شيئا ولا تماديهم فيما لا يمكنهم قبوله حتى ينطق هو بحاله.
[19.27-40]
{ والسلام علي } في المواطن الثلاثة كما على يحيى لكون ذاتي مجردة مقدسة لا تحتجب بالمواد حتى في الطفولة، إذ معنى السلام: التنزه عن العيوب اللاحقة بواسطة تعلق المادة { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق } أي: كلمته التي هي عبارة عن ذات مجردة أزلية، كما مر غير مرة.
{ ما كان لله أن يتخذ من ولد } لامتناع وجود شيء آخر معه { سبحانه } عن أن يوجد معه شيء { فإنما يقول له كن فيكون } أي: يبدعه بمجرد تعلق إرادته به من غير زمان. { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } في القيامة الكبرى بالفناء المطلق والشهود الذاتي. الصدق أصل كل فضيلة، وملاك كل كمال، وخميرة كل مقام، واستعداد كل موهبة.
[19.41-55]
{ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } مما سوى الله من الأكوان التي تطلبها وتنسب التأثير إليها { ولا يغني عنك شيئا } في الحقيقة لعدم تأثيره. { قد جاءني من العلم } أي: التوحيد الذاتي { سلام عليك } أي: جرد الله ذاتك عن المواد التي احتجبت بها { سأستغفر لك ربي } سأطلب منه ستر ذاتك بنوره ومحو غشاوات صفاتك بصفاته، ودناءة هيئات نفسك بأفعاله إن أمكن { إنه كان مخلصا } بالكسر، أي مجردا ذاته وعلمه في السلوك لوجه الله لم يلتفت إلى ما سواه من وجهة حتى صفاته تعالى، بل نفاها عن ذاته، وهو { ما زاغ البصر وما طغى } بقوله:
أرني أنظر إليك
[الأعراف، الآية:143]. ومخلصا بالفتح، أي: أخلصه الله عن أنانيته وأفنى البقية منه فخلص من الطغيان المذكور بالتجلي الذاتي التام، واستقام بتمكين الله إياه كما قال:
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك
[الأعراف، الآية:143] من ذنب ظهور الأنانية { وكان رسولا نبيا } مقام الرسالة دون مقام النبوة لكونها مبينة للأحكام كالحلال والحرام، منبه على الأوضاع كالصلاة والصيام فهي متعلقة ببيان أحكام المكلفين. وأما النبوة فهي عبارة عن الإنباء عن المعاني الغيبية كأحوال المعاد والبعث والنشور والمعارف الإلهية كتعريف الصفات والأسماء وما يليق بالله من التحميدات والتمجيدات والولاية فوقهما جميعا لكونها عبارة عن الفناء في ذات الله من غير اعتبار الخلق فهي أشرف المقامات لكونها تتقدم عليهما لأنها ما لم تحصل أولا لم تمكن النبوة ولا الرسالة لكونها مقومة إياهما ولهذا قدم كونه مخلصا في القرآن بالفتح، وأخرت النبوة عن الرسالة لكونها أشرف وأدل على المدح والتعظيم منها ولم يؤخر الولاية عنهام باعتبار الشرف لأنها وإن كانت أشرف لكنها باطنة لا يعرف شرفها وفضلها إلا الأفراد من العرفاء المحققين المخصوصين بدقة النظر دون غيرهم فلا يفيد المدح والتعظيم ولا الاقتصار عليها بقوله مخلصا وإن كانت أشرف لأنها قد توجد بدونهما بخلاف العكس، فلا يحسن وصفه إلا على هذا الترتيب.
وناديناه من جانب الطور الأيمن } أي: طور وجوده الذي هو نهاية طور القلب في مقام السر الذي هو محل المناجاة، ولذا قال: { وقربناه نجيا } وسمي كليم الله. وإنما وصفه بالأيمن الذي هو الأشرف والأقوى والأكثر بركة احترازا عن جانبه الأيسر الذي هو الصدر، لأن الوحي إنما يأتي من عالم الروح الذي هو الوادي المقدس.
[19.56-60]
{ ورفعناه مكانا عليا } إن كان بمعنى المكانة فهو قربه من الله ورتبته في مقام الولاية من عين الجمع، وإن كان بمعنى المكان فهو الفلك الرابع الذي هو مقر عيسى عليه السلام لما ذكر من كونه مركز روحه في الأصل والمبدأ الأول لفيضانه إذا فاض عن محرك فلك الشمس ومعشوقه { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن } سمعوا بالنفس من كل آية ظاهرها، وبالقلب باطنها، وفهموا بالسر حدها، وصعدوا بالروح مطلعها، فشاهدوا المتكلم موصوفا بالصفة التي تجلى بها في الآية ف { خروا سجدا } فنوا في ذلك الاسم الذي تجلى به عند ظهوره بتلك الصفة الكاشفة عنها تلك الآية، وبكوا اشتياقا إلى مشاهدته بسائر الصفات المشتمل عليه الرحمن أو الله وهو بكاء القلب إن لم يكن مستلزما لبقاء النفس من خوف البعد، كما قال الشاعر:
ويبكي إن نأوا شوقا إليهم
ويبكي إن دنوا خوف الفراق
أضاعوا صلاة الحضور لكونهم في مقام النفس، والحضور إنما يكون بالقلب، ولا صلاة إلا به. ولذلك الاحتجاب بصفات النفس عن مقام القلب لزم اتباع الشهوات { فسوف يلقون غيا } شرا وضلالا إذ كلما أمعنوا في اتباعها ازداد حجابهم فازداد ضلالهم وارتكبت الذنوب على الذنوب، فازداد تورطهم فيها، كما قال عليه الصلاة والسلام:
" الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول ".
{ إلا من تاب } عن الذنب الأول فرجع إلى مقام القلب { وآمن } باليقين { وعمل صالحا } باكتساب الفضيلة { فأولئك يدخلون الجنة } المطلقة بحسب استحقاقهم ودرجتهم في الإيمان والعمل { ولا يظلمون } أي: لا ينقصون مما اقتضاه حالهم ومقامهم { شيئا }.
[19.61-65]
{ جنات عدن } مرتبة بحسب درجاتهم في مقام النفس والقلب والروح { التي وعد الرحمن } المفيض بجلائل النعم وأصولها وعمومها { عباده بالغيب } في حالة كونهم غائبين عنها { إلا سلاما } أي: ما يسلمهم من النقائص ويجردهم عن المواد من المعارف والحكم { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } أي: دائما أو بكرة في جنة القلب وقت ظهور نور شمس الروح، وعشيا في جنة النفس وقت غروبه.
{ تلك الجنة } المطلقة التي تقع على واحدة منها { التي نورث من عبادنا من كان تقيا } مطلقا بحسب تقواه، فإن اتقى الرذائل والمعاصي نورثه جنة النفس أي جنة الآثار، وإن اتقى أفعاله بالتوكل فله جنة القلب وحضور تجليات الأفعال، وإن اتقى صفاته في مقام القلب فله جنة الصفات، وإن اتقى ذاته ووجوده بالفناء في الله فله جنة الذات.
{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } تنزل الملائكة واتصال النفس بالملأ الأعلى إنما يكون بأمرين: استعداد أصلي وصفاء فطري يناسب به جوهر الروح العالم الأعلى، واستعداد حالي بالتصفية والتزكية ولا يكفي مجرد حصولها فيه، بل المعتبر هو الملائكة: ألا ترى إلى قوله
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة
[فصلت، الآية:30] كيف رتب التنزل على الاستقامة التي هي التمكين الدال على الملكة. وإلى قوله في تنزل الشياطين:
تنزل على كل أفاك أثيم
[الشعراء، الآية: 222] كيف أورد في حصول استعداد تنزلهم بناء المبالغة الدال على الملكة والدوام فكذا لا تتنزل الملائكة إلا على الصديق الخير. وهذا الاستعداد الثاني إذا اجتمع مع الأول كان علامة إذن الحق وأمره، إذ الفيض عام، تام، غير منقطع، فحيث تأخر إنما تأخر لعدم الاستعداد، فلذا لما استبطأ الوحي وقل صبره نزلت، أي: وما نتنزل باختيارنا بل باختياره وأمره ليس إلا.
{ له ما بين أيدينا } من أطوار الجبروت التي فوقنا وتتقدم أطوارنا التي وجوهنا إليها ولا يحيط علمنا بها { وما خلفنا } من أطوار الملكوت الأرضية التي دون أطوارنا { وما بين ذلك } من الأطوار الملكوتية التي نحن فيها، كلهم في ملكة قهره وتحت سلطنة أمره وإحاطة علمه { وما كان ربك نسيا } ينسى شيئا يستعد لكمال فلا يفيض عليه أو تاركا لمستحق بدون حقه بل يحيط بكل الاستعدادات علما ويفيض الكمال عليها وينزل مقتضاها مع الحصول دفعة فإن تأخر الوحي فإنما كان من جهتك لا من جهته هو { رب السموات والأرض وما بينهما } يرب كلا منهما باسم يخصه ويدبره ويفيض ما يقتضيه حاله عليه فيرب الكل بجميع أسمائه { فاعبده } بعبادتك التي يقتضيها حالك حتى تستعد لقبول الفيض ونزول الوحي ولا يكفي وجود العبادة بتهيئة الاستعداد بالتصفية مرة أو مرتين بل الدوام على ذلك معتبر، فدم على ذلك الصفاء الموجب للقبول { واصطبر } لعبادته بالتوجه إليه على الدوام { هل تعلم له سميا } مثلا، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه فيفيض عليك مطلوبك.
[19.66-75]
{ ولم يك شيئا } في عالم الشهادة محسوسا أو شيئا يعتد به، كما قال:
لم يكن شيئا مذكورا
[الإنسان، الآية: 1] لأن الوجود العيني في الأزل قبل الخلق كلا وجود لانطماسه في عين الجمع { لنحشرنهم والشياطين } أي: لنحشرن المحجوبين المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق لأن نفوس المحجوبين تناسب في الكدورة والبعد عن النور نفوس الشياطين، فبالضرورة يحشرون معهم خصوصا إذا اتبعوهم في الاعتقاد { ثم لنحضرنهم حول جهنم } الطبيعة في العالم السفلي لاحتجابهم بالغواشي الهيولانية والغواسق الظلمانية في الهياكل السجنية مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران { جثيا } لاعوجاج هياكلهم بسبب عوج نفوسهم فلا يستطيعون قياما { ثم لننزعن من كل شيعة } أي: لنخصن من كل فرقة من هو أشد عتيا على الرحمن بعذاب أشد على ما علمنا من حاله، فنحن أعلم به منه، فنصليه بعذاب هو أولى به.
{ وإن منكم إلا واردها } أي: لا بد لكل أحد عند البعث والنشور أن يرد عالم الطبيعة لكونها مجاز عالم القدس { كان على ربك حتما مقضيا } أي: حكما جزما، مقطوعا به. ومن بعث برد روحه إلى الجسد لا يمكنه الجواز على الصراط إلا بالجواز على جهنم، لأن المؤمن لما جاء أطفأ نوره لهبها فلم يشعر بها. كما روي أنها تقول: جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي. ولو سألته بعد دخول الجنة: كيف كان حالك في النار؟ لقال: ما أحسست بها. كما سئل الصادق عليه السلام: أتردونها أنتم أيضا؟ فقال: جزناها وهي خامدة. وعن ابن عباس: يردونها كأنها أهالة. وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
" إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: وردتموها وهي خامدة "
وعنه رحمه الله أنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجا من بردها "
وأما قوله:
أولئك عنها مبعدون
[الأنبياء، الآية:101] فالمراد عن عذابها.
{ ثم ننجي الذين اتقوا } لتجردهم بالجواز على الصراط الذي هو سلوك طريق العدالة إلى التوحيد كالبرق { ونذر الظالمين } الذين نقصوا نور استعدادهم في الظلمات أو وضعوه غير موضعه { فيها جثيا } لا حراك بهم لتوردهم في المواد الظلمانية كما قال عليه السلام:
" الظلم ظلمات يوم القيامة ".
[19.76-82]
{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } أي: كما يمد أهل الضلالة في ضلالتهم بالخذلان مدا يزداد فيه ضلالهم واحتجابهم كلما أمعنوا في جهلهم ورذائلهم كذلك يزيد الله المهتدين بالتوفيق كلما عملوا بما علموا استعدوا لقبول علم آخر فورثوه كما قال عليه السلام:
" من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم "
فيزيدهم عند العمل بمقتضى العلم اليقيني عين اليقين، وعند العمل بمقتضاه حق اليقين { والباقيات الصالحات } من العلوم والفضائل { خير عند ربك ثوابا } لأدائها إلى التجليات الوصفية والجنات القلبية { وخير مردا } بالرجوع إلى الذات الأحدية.
[19.83-95]
{ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } قد مر في باب تنزل الملائكة أن النفس الخيرة تستمد من الملكوت والملائكة السماوية لاتصالها بهم في الصفاء والتجرد والنورية، والنفوس الشريرة تستمد من النفوس المظلمة الأرضية لمناسبتها إياهم ومجانستها لهم في الظلمة والكدورة والخبث، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة ظلمتهم وتماديهم في الغواية والاحتجاب، حيث تنزل عليهم الشياطين دائما فتؤزهم أي: تحرضهم وتخذلهم بإلقاء الوساوس والهواجس من أنواع الشر على التوالي { إنما نعد لهم عدا } أي: أنفاسهم المقربة لهم إلى المصير إلى وبال كفرهم وأعمالهم وعذاب هيئاتهم وعقائدهم، فإن لكل أجلا معينا سيصير إليه عن قريب.
{ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } إنما ذكر اسم الرحمن لعموم رحمته بحسب مراتب تقواهم كما ذكر في قوله:
من كان تقيا
[مريم، الآية: 63]، ولهذا لما سمعها بعض العارفين قال: ومن كان مع الرحمن فإلى من يحشر؟ فأجابه بعضهم بقوله: من اسم الرحمن إلى الرحمن ومن اسم القهار إلى اسم اللطيف. فإن المتقي عن المعاصي والرذائل وصفات النفس الذي هو في أول درجة التقوى قد يحشر إلى الرحمن في جنة الأفعال ثم الصفات ثم بعد الوصول إلى الله في جنة الصفات له سير في الله بحسب تجليات الصفات، وإذا انتهى السير إلى الذات يكون السير سير الله { وفدا } مكرمين.
{ ونسوق المجرمين } لأعمالهم الخبيثة { إلى جهنم } الطبيعة { وردا } كأنهم إبل عطاش فيوردهم النار { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } هذا العهد هو ما عاهد الله أهل الإيمان من الوفاء بالعهد السابق بالتوبة والإنابة إليه في الصفاء الثاني بعد الصفاء الأول، وذلك الانسلاخ عن حجب صفات النفس والاتصاف بصفات الرحمن والاتصال بعالم القدس الذي هو حضرة الصفات ولهذا ذكر اسم الرحمن المعطي لأصول النعم وجلائلها المشتمل على سائر الصفات اللطيفة، أي: لا يملك أحد أن يشفع له بالأمداد الملكوتية والأنوار القدسية إلا من استعد لقبول الرحمة الرحمانية واتصل بالجناب الإلهي بالعهد الحقيقي. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم:
" أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أني أعهد إليك أني أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عهدا تؤتنيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد ".
{ إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } لكونهم في حيز الإمكان ومكمن العدم لا وجود لهم ولا كمال إلا به، أفاض باسم الرحمن وجوداتهم وكمالاتهم، فهم أنفسهم ليسوا شيئا، فلو لم يعبدوه حق عبادته باستعدادات أعيانهم في العدم لما وجدوا، ولو لم يعبدوه بعد الوجوه بالقيام بحقوق نعمه التي أنعمها عليهم لما كملوا، فهم مربوبون، مجبورون وفي طي قهره وملكته مقهورون.
{ لقد أحصاهم } في الأزل بإفادة أعيانهم واستعداداتهم الأزلية من فيضه الأقدس وتعيينها بعلمه { وعدهم عدا } فماهياتهم وحقائقهم إنما هي صور معلومات ظهرت في العدم بمحض عالميته وبرزت إلى الوجود بفيض رحمانيته، فكيف تماثله وتناسبه.
{ وكلهم آتيه يوم القيامة } الصغرى منفردا مجردا عن الأسباب والأعوان كما كان في النشأة الأولى ويوم القيامة الوسطى { فردا } من العلائق البدنية مجردا عن الصفات النفسانية والقوى الطبيعية. وأما في القيامة الكبرى فكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
[19.96-98]
{ إن الذين آمنوا } الإيمان الحقيقي العلمي أو العيني { وعملوا الصالحات } من الأعمال المزكية المصفية المعدة لقبول تجليات الصفات بالتجرد عن ملابس صفاتهم { سيجعل لهم الرحمن ودا } كما قال:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها "
وفي الحقيقة هذا الود أثر ونتيجة العناية الأولى المستفادة من قوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة، الآية:54]، فإذا أحبه قبل الظهور في مكمن الغيب بمحبة الاجتباء ألزمه حبه الله عند البروز وحركه إلى الوفاء بالعهد السابق فتجدد ذلك العهد بالعقد اللاحق الذي هو العهد مع الله بالوفاء بذلك في متابعة الحبيب المطلق كما قال:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم
[آل عمران، الآية: 31]. وإن صحت المتابعة في الأعمال والأحوال أحبه الله بمحبة الاصطفاء فوق المحبة التي هي ثمرة المحبة الأولى لكون الأولى عينية كامنة ولكونها كمالية وبارزة وقعت محبته في قلوب الخلق وظهر له القبول عند أهل الإيمان الفطري. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أحب الله عبدا يقول الله تعالى: يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: أن الله تعالى قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له المحبة في الأرض "
وعن قتادة: ما أقبل عبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه. وهذا معنى قوله: { سيجعل لهم الرحمن ودا } والله أعلم.
[20 - سورة طه]
[20.1-5]
{ طه } الطاء إشارة إلى الطاهر، والهاء إلى الهادي. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حنوه وتعطفه على قومه لكونه صورة الرحمة ومظهر المحبة، تأسف من عدم تأثير التنزيل في إيمانهم واستشعر البقية كما ذكر في قوله:
فلعلك باخع نفسك على آثارهم
[الكهف، الآية:6]. وزاد في الرياضة فكان يحيي الليالي بالتهجد وبالغ في القيام حتى تورمت قدماه فأخبر أن عدم إيمانهم ليس من جهتك بل من جهتهم وغلظ حجابهم أعدم استعدادهم لا لبقاء صفات نفسك أو بقية أنائيتك أو وجود نقصك وقصورك في الهداية كما استشعرت فلا تتعب نفسك. ونودي باسمين من أسماء الله تعالى دالين على نزاهته عن الأمرين المذكورين وجود البقية أو القصور عن الهداية فقيل: يا طاهر عن لوث البقية، يا هادي { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } وتتعب بالرياضة لكن لتذكير من يلين قلبه ويستعد لقبوله بعد صفائك وطهارتك وقد حصل الأمران بحمد الله وكنت كاملا مكملا. وما المقصود بالرياضة إلا هذان الأمران اللذان ظهرا فيك تجلينا عليك بالاسمين المذكورين فلم تتعب نفسك وإنما لم يحصل الاهتداء بهدايتك لقسوة القلوب التي هي ضد الخشية واللين الذي هو شرط في حصوله لا لقصورك. ويجوز أن يكون قسما لا نداء، أي: أقسم بالاسمين اللذين يربه بهما ويتجلى بهما له لإفادة التزكية والتخلية إذ المقصود بالإنزال حصول أثرهما فيك لا التعب والمشقة وقد حصل فلا تفرط في الرياضة، ولهذا المعنى سمي آل محمدا: آل طه، أي بحصول المعنيين لهم وظهور مسمى الاسمين فيهم { تنزيلا ممن خلق الأرض } إلى قوله: { له الأسماء الحسنى } معناه: أنزلناه تنزيلا ممن اتصف بجميع الصفات الجمالية والجلالية فكان لذاتك نصيب من جميعها وإلا لما أمكنك قبوله وحمله إذ الأثر الوارد لا بد وأن يناسب المورد كما ناسب المصدر، فلما كان مصدره الذات الموصوفة بجميع الأسماء الحسنى وجب أن يكون مورده الذي هو ذاتك كذلك موصوفة بها، فكما خلق السموات العلا والأرض أي: عالم الأرواح وعالم الأجسام الذي هو الجسم المطلق وجعلها حجب جلاله الساترة لجماله كذلك حجبك بسموات طبقات غيوبك من الحجب السبعة المذكورة التي هي روحانيتك ومراتب كمالك وأرض شهادتك التي هي بدنك.
{ الرحمن } أي: ربك الجليل، المحتجب بحجب المخلوقات لجلاله، هو الجميل، المتجلي بجمال رحمته على الكل، إذ لا يخلو شيء من الرحمة الرحمانية وإلا لم يوجد. ولهذا اختص الرحمن به دون الرحيم لامتناع عموم الفيض للكل إلا منه، فكما استوى على عرش وجود الكل بظهور الصفة الرحمانية فيه وظهور أثرها أي: الفيض العام منه إلى جميع الموجودات فكذا استوى على عرش قلبك بظهور جميع صفاته فيه ووصول أثرها منه إلى جميع الخلائق، فصرت رحمة للعالمين وصارت نبوتك عامة خاتمة. فمعنى الاستواء: ظهوره فيه سويا تاما إذ لا يطابق كلها مظهر غيره فلا يستوي ولا يستقيم إلا عليه، ولذلك لم يكن له عليه السلام ظل إذ لم يبق من ذاته مع صفاته بقية لم تتحقق بالحق بالبقاء بعد الفناء التام.
[20.6-13]
{ له ما في السموات } إلى قوله: { وما تحت الثرى } بيان لشمول قهره وملكته للكل، أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره وكذلك فنيت بالكلية مقهورة بوحدانيته وفناء قهاريته لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش ولا تمشي إلا به وبأمره.
{ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } بيان لكمال لطفه أي: علمه نافذ في الكل يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر، فكذلك إن تجهر وإن تخفت فيعلمه بجهر وبخفت. ولما كانت الصفات المذكورة هي الأمهات التي لا صفة إلا تحت شمولها ولا اسم إلا كان مندرجا في هذه الأسماء المذكورة ولم تتكثر الذات بها، قال: { الله } أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله { لا إله إلا هو } لم تتكثر ذاته الأحدية وحقيقة هويته بها ولم يتعدد، فهو هو في الأبد كما كان في الأزل لا هو إلا هو ولا موجود سواه باعتبار واحديته ومصدريته لما ذكر { له الأسماء الحسنى } التي هي ذاته مع اعتبار تعيينات الصفات { إذ رأى نارا } هي روح القدس التي ينقدح منها النور في النفوس الإنسانية رأها باكتحال عين بصيرته بنور الهداية { فقال لأهله } القوى النفسانية { امكثوا } اسكنوا ولا تتحركوا إذ السير إنما يصير إلى العالم القدسي ويتصل به عند هذه القوى البشرية من الحواس الظاهرة والباطنة الشاغلة لها { إني آنست نارا } أي: رأيت نارا { لعلي آتيكم منها بقبس } أي: هيئة نورية اتصالية ينتفع بها كلكم فيتنور وتصير ذاته فضيلة { أو أجد على النار } من يهديني بالعلم والمعرفة الموجب للهداية إلى الحق أي: اكتسب بالاتصال بها الهيئة النورية أو الصور العلمية { فلما أتاها } أي: اتصل بها { نودي } من وراء الحجب النارية التي هي سرادقات العزة والجلال المحتجبة بها الحضرة الإلهية { يا موسى إني أنا ربك } محتجبا بالصورة النارية التي هي أحد أستار جلالي تجليا فيها { فاخلع نعليك } أي : نفسك وبدنك أو الكونين لأنه إذا تجرد عنهما فقد تجرد عن الكونين أي: كما تجردت بروحك وسرك عن صفاتهما وهيئاتهما حتى اتصلت بروح القدس وتجرد بقلبك وصدرك عنهما بقطع العلاقة الكلية ومحو الآثار والفناء عن الصفات والأفعال. وإنما سماهما نعلين ولم يسمهما ثوبين لأنه لو لم يتجرد عن ملابسهما لم يتصل بعالم القدس والحال حال الاتصال، وإنما أمره بالانقطاع إليه بالكلية كما قال:
وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل، الآية:8] فكأنه بقيت علاقته معهما والتعلق بهما يسوخ قدمه التي هي الجهة السفلية من القلب المسماة بالصدر، فهما بعد التوجه الروحي والسري نحو القدس، فأمره بالقطع عنهما في مقام الروح، ولهذا علل وجوب الخلع بقوله: { إنك بالواد المقدس طوى } أي: عالم الروح المنزه عن آثار التعلق وهيئات اللواحق والعلائق المادية المسمى طوى، لطي أطوار الملكوت وأجرام السموات والأرضين تحته.
ولقد صدق من قال: أمر بخلعهما لكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ. وقيل: لما نودي وسوس إليه الشيطان: إنك تنادى من شيطان! فقال: أفرق به، إني أسمع من جميع الجهات الست بجميع أعضائي ولا يكون ذلك إلا بنداء الرحمن.
{ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } هذا وعد بالاصطفاء الذي كان بعد التجلي التام الذاتي الذي جعل جبل وجوده دكا بالفناء فيه بالاندكاك وخروره صعقا عند إفاقته بالوجود الحقاني كما قال تعالى:
فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي
[الأعراف، الآيات:143 - 144]، وهذا التجلي هو تجلي الصفات قبل تجلي الذات، ولهذا أرسله ولم يستنبئه بالوحي هنا، وأمره بالرياضة والحضور والمراقبة ووعده وقوع القيامة الكبرى عن قريب. فهذا الاختيار قريب من الاجتباء الأصلي المشار إليه بقوله:
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
[طه، الآية:122] متوسط بينه وبين الاصطفاء.
[20.14-16]
وكرر { إنني أنا الله } بالتأكيد، وتبديل الرب بالله لئلا يقف مع الصفات في الحضرة الأسمائية فيحتجب عن الذات إذ الرب هو الاسم الذي تجلى به له، إذ لا يريه عند طلب الهداية والقبس إلا بذلك الاسم العليم الهادي الذي هو جبريل، أي: إنني الواحد الموصوف بجميع الصفات { لا إله إلا أنا } لم أتكثر ولم يتعدد أنائيتي وأحديتي بكثرة المظاهر وتعدد الصفات { فاعبدني } خصص عبادتك بذاتي دون أسمائي وصفاتي بالعبادة الذاتية وتهيئة استعداد فناء الأنية في حقيقتي والتسبيح المطلق الذاتي { وأقم الصلوة } أي: صلاة الشهود الروحي لذكر ذاتي فوق صلاة الحضور القلبي لذكر صفاتي.
{ إن الساعة } القيامة الكبرى بالفناء المحض في عين الأحدية { آتية أكاد أخفيها } باحتجابي بالصفات لتنفصل المراتب وتظهر النفوس والأعمال { لتجزى كل نفس } بحسب سعيها من الخير والشر، ويتميز الكمال والنقصان والسعادة والشقاوة فلا أظهرها إلا لأفراد خواصي واحدا بعد واحد لأني إن أظهرتها ظهر فناء الكل فلا نفس ولا عمل ولا جزاء ولا غير ذلك.
{ فلا يصدنك عنها } فتبقى في حجاب الصفات { من لا يؤمن بها } لقصور استعداده فيقف في بعض المراتب محجوبا إما بالصفات أو الأفعال أو الآثار أو الأنداد، أي: الشرك الخفي والجلي { واتبع هواه } في مقام النفس أو القلب، فإن الهوى باق ببقاء الأنائية فتهلك أنت كما هلك من صدك.
[20.17-21]
{ وما تلك بيمينك يا موسى } إشارة إلى نفسه، أي: التي هي في يد عقله إذ العقل يمين يأخذ به الإنسان العطاء من الله ويضبط به نفسه.
{ قال هي عصاي أتوكأ عليها } أي: أعتمد في عالم الشهادة وكسب الكمال والسير إلى الله والتخلق بأخلاقه عليها، أي: لا يمكن هذه الأمور إلا بها { وأهش بها على غنمي } أي: أخبط أوراق العلوم النافعة والحكم العملية من شجرة الروح بحركة الفكر بها على غنم القوى الحيوانية { ولي فيها مآرب أخرى } من كسب المقامات وطلب الأحوال والمواهب والتجليات. وإنما سأله تعالى لإزالة الهيبة الحاصلة له بتجلي العظمة عنه وتبديلها بالأمن، وإنما زاد الجواب على السؤال لشدة شغفه بالمكالمة واستدامة ذوق الاستئناس.
{ قال ألقها يا موسى } أي: خلها عن ضبط العقل { فألقاها } أي: خلاها وشأنها مرسلة بعد احتظائها من أنوار تجليات صفات القهر الإلهي { فإذا هي حية تسعى } أي: ثعبان يتحرك من شدة الغضب، وكانت نفسه عليه السلام قوية الغضب، شديدة الحدة، فلما بلغ مقام تجليات الصفات كان من ضرورة الاستعداد حظه من التجلي القهري أوفر كما ذكر في (الكهف)، فبدل غضبه عند فنائه في الصفات بالغضب الإلهي والقهر الرباني فصور ثعبانا يتلقف ما يجد.
{ قال خذها } أي: اضبطها بعقلك كما كانت { ولا تخف } من استيلائها عليك وظهورها فيكون ذنب حالك بالتلوين، فإن غضبك قد فنى، فيكون متحركا بأمري وليس هو مستورا بنور القلب في مقام النفس حتى يظهر بعد خفائه { سنعيدها سيرتها الأولى } أي: ميتة، فانية، صائرة إلى رتبة القوة النباتية التي لا شعور لها ولا داعية، ولإماتته عليه السلام إياها في تربية شعيب صلوات الله عليه وجعله إياها كالقوى النباتية سميت عصا، ولهذا قيل: وهبها له شعيب عليه السلام.
[20.22-24]
{ واضمم يدك إلى جناحك } أي: اضمم عقلك إلى جانب روحك الذي هو جناحك الأيمن لتتنور بنور الهداية الحقانية، فإن العقل بموافقة النفس وانضمامه إليها وإلى جانبها الذي هو الجناح الأيسر لتدبير المعاش يتكدر ويختلط بالوهم فيصير كدرا جاسيا لا يتنور ولا يقبل المواهب الربانية والحقائق الإلهية، فأمر بضمه إلى جانب الروح ليتصفى ويقبل نور القدس { تخرج بيضاء } منورة بنور الهداية الحقانية وشعاع النور القدسي { من غير سوء } أي: آفة ونقص ومرض من شوب الوهم والخيال { آية أخرى } صفة منضمة إلى الصفة الأولى { لنريك } من آيات تجليات صفاتنا الآية { الكبرى } التي هي الفناء في الوحدة، أي: لتكون ببصرك في مقام تجليات الصفات، فنريك من طريقها وجهتها ذاتنا عند التجلي الذاتي، فتبصرنا بنا في القيامة الكبرى.
{ اذهب إلى فرعون إنه طغى } بظهور الأنائية، فاحتجب بها فتعدى عن حد العبودية. وذلك يدل على أن النبوة والرسالة غير موقوفة على الفناء الذاتي لأن الدخول في الأربعينية التي تجلى فيها له بالذات كان بعد هلاك فرعون، وهذه الرسالة والدعوة إنما كانت في مقام تجلي الصفات. ويقوي هذا ما قلنا مرارا: إن أكثر سير النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد النبوة والوحي والاهتداء بالتنزيل.
[20.25-35]
{ رب اشرح لي صدري } بنور اليقين والتمكين في مقام تجلي الصفات لئلا يضيق بإيذائهم، ولا تتأذى وتتألم نفسي بطعنهم وسفاهتهم، فكما أتكلم بكلامك معهم أسمع بسمعك كلامهم وأجده كلامك، وأرى ببصرك إيذاءهم وأجده فعلك، فلا أرى ولا أسمع ما يقابلونني به إلا منك، فأصبر على بلائك بك ولا تظهر نفسي برؤيتها منهم، فتحتجب بصفاتها وصفاتهم عن صفاتك { ويسر لي أمري } أي: أمر الدعوة بتوفيقهم لقبول دينك وإمدادي على المعاندين من نصرك وتأييد قدسك { واحلل عقدة } من عقد العقل والفكر المانعين عن إطلاق لساني بكلامك والجراءة والشجاعة على تصريح الكلام في تبليغ رسالتك وإعلاء كلمتك وإظهار دينك على دينهم بالحجة والبينة في مقابلة جبروتهم وفرعنتهم رعاية لمصحلة خوف السطوة { يفقهوا قولي } لتليينك قلوبهم والخشوع والخشية فيها وتأييد إياي من عالم القدس والأيد. وباقي القصة لا يقبل التأويل فإن أردت التطبيق فاعلم أن موسى القلب يسأل الله تعالى بلسان الحال أن يجعل هارون العقل الذي هو أخوه الأكبر من أبيه روح القدس له وزيرا يتقوى به ويستوزره في أموره ويعتضد برأيه مشاركا معاونا له في اكتساب كمالاته معللا طلبه بقوله: { كي نسبحك } أي: بالتجريد عن صفات النفس وهيئاتها { ونذكرك } باكتساب المعارف والحقائق والحضور فى المكاشفات ومقام تجليات الصفات { كثيرا إنك كنت بنا } أي: باستعدادنا لقبول الكمال وأهليتنا له { بصيرا } فأعنا واجعلنا متعاونين على ما ترى منا وتريد.
[20.36-40]
{ قد أوتيت } أعطيت { سؤلك } ووفقت لتحصيل مطلوبك. { ولقد مننا عليك مرة أخرى } قبل إرادتك وطلبك بمحض عنايتنا { إذ أوحينا إلى أمك } النفس الحيوانية { ما يوحى } أي: أشرنا إليها { أن أقذفيه } في تابوت البدن أو الطبيعة الجسمانية { فاقذفيه } في يم الطبيعة الهيولانية { فليلقه اليم } عند ظهور نور التمييز والرشد بساحل النجاة { يأخذه عدو } النفس الأمارة الجبارة الفرعونية { وألقيت عليك محبة مني } أي: أحببتك وجعلتك محبوبا إلى القلوب وإلى كل شيء حتى النفس الأمارة والقوى، ومن أحببته يحبه كل شيء { ولتصنع } وتربى على كلاءتي وحفظي فعلت ذلك.
{ إذ تمشي أختك } العاقلة العملية عند ظهورها وحركتها { فتقول } للنفس الأمارة والقوى المنعطفة عليه { هل أدلكم } بالآداب الحسنة والأخلاق الجميلة على أهل بيت من النفس اللوامة وقواها الجزئية بفوات قرة عينها { على من يكفله } لكم بالتربية بالفكر والإرضاع بلبان الحكمة العملية والعلوم النافعة وهم له ناصحون معاونون على كسب الكمال، مرشدون إلى الأعمال الصالحة، معدون للترقي إلى المرتبة الرفيعة { فرجعناك إلى أمك } المشفقة عليك التي هي النفس اللوامة اللائمة لنفسها بتضييع قرة عينها ليحصل اطمئنانها بنور اليقين وتتهذب بالحكمة العملية وترضع منها اللبن المذكور وتتربى في حجر تربيتها بالمدركات الجزئية والآلات البدنية والأعمال الزكية { كي تقر عينها } أي: تتنور بنورك { ولا تحزن } على فوات قرة عينها ونقصها.
{ وقتلت نفسا } أي: الصورة الغضبية المسولة لك بالرياضة والإماتة { فنجيناك } من غم استيلاء النفس الأمارة وإهلاكها إياك { وفتناك } ضروبا من الفتن بظهور النفس وصفاتها والرياضة والمجاهدة في دفعها وقمعها وإماتتها وتزكيتها { فلبثت سنين في أهل مدين } العلم من القوى الروحانية عند شعيب العقل الفعال { ثم جئت على قدر } على حد من الكمال المقدر بحسب استعدادك أو على شيء مما قدرته لك، أي: بعض ما قدر لك من الكمال التام الذي هو التجلي الذاتي الذي سيوهب لك بعد كمال الصفات.
[20.41-47]
{ واصطنعتك لنفسي } أي: استخلصتك لنفسي وجعلتك من جملة خواصي من بين أهل مدينة البدن، ولما فيك من الخصال الشريفة والأهلية لخلافتي. { اذهب أنت وأخوك } إلى آخر القصة، إن أريد تطبيقها قيل: اذهب يا موسى القلب أنت وأخوك العقل { بآياتي } حججي وبيناتي ولا تفترا { في ذكري } { إلى فرعون } النفس الأمارة الطاغية المجاوزة حدها بالاستعلاء والاستيلاء على جميع القوى الروحانية { فقولا له قولا لينا } بالرفق والمداراة في دعوتها إلى الاستسلام لأمر الحق والانقياد لحكم الشرع. لعلها تلين فتتعظ وتنقاد. ولما خافا طغيانها وتفرعنها لتعودها بالاستعلاء، شجعهما الله بالتأييد والإعانة والمحافظة والكلاءة والإحاطة بما يقاسيانه ويكابدانه منها، وأمرهما بتبليغ الرسالة في تطويعها وتسخيرها وإلزامها الامتناع عن استعباد القوى الحيوانية.
والكف عن تسخيرها، وأن يرسلها معهما في التوجه إلى الحضرة الإلهية واستفاضة الأنوار الروحية القدسية والمعارف الحقيقية ولا يعذبها في تحصيل اللذات الحسية والزخارف الدنيوية { قد جئنات بآية } ببرهان دال على وجوب متابعتك إيانا.
{ والسلام } أي: السلامة من النقائص والنجاة من العلائق والفيض النوري من العالم الروحي { على من اتبع } البرهان وتمسك بالنور الإلهي.
[20.48-55]
{ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب } في جحيم الطبيعة وهاوية الهيولى على من خالفه وأعرض عنه { فمن ربكما } إشارة إلى احتجاب النفس من جناب الرب، وقوله: { ربنا الذي أعطى } هداية لها بالدليل وتبصيرا بالحجة، أي: أعطاه خلقا على وفق مصالح ذاته وآلات تناسب خواصه ومنافعه ومقاصده وهداه إلى تحصيلها { فما بال القرون الأولى } إشارة إلى احتجابها عن المعاد والأحوال الأخروية من السعادة والشقاوة وعن إحاطة علم الله تعالى لها. ولما كان الواجب الأول معرفة الله تعالى بصفاته وكانت معرفة المعاد موقوفة عليها أجاب بإحاطة علمه بها وبأحوالها مع كثرتها وكون ذلك العلم مثبتا في اللوح المحفوظ باقيا أزلا وأبدا، لا يجوز عليه الخطأ والنسيان.
{ الذي جعل لكم } أيها القوى البدنية أرض البدن { مهدا وسلك لكم فيها سبلا } من الأعضاء والجوارح كالعين والأذن والأنف وغيرها { وأنزل } من سماء الروح ماء الإدراك والمدد الروحاني { فأخرجنا به } أصنافا من الإدراكات والأفاعيل والخواص والهيئات والملكات المخصوصة بكل قوة منكم { كلوا } اغتذوا وتقووا بما يختص بكم من الأحوال والأخلاق والأمداد والمواهب كالرضا والصبر وعلم الأسماء والخواص والأعداد وسائر الإدراكات والإرادات والمقامات { وارعوا أنعامكم } القوى الحيوانية بما يختص بها من الأخلاق والآداب { منها خلقناكم } أنشأناكم على حسب اختلاف أمزجة الأعضاء التي هي مظاهرها { وفيها نعيدكم } بإماتة عند الرياضة حتى يلازم كل محله ويندس فيه لا حراك به ولا يتطلب التجاوز عن حده والاستيلاء على غيره بمحو صفات النفس حتى الفناء { ومنها نخرجكم تارة أخرى } عند البقاء بالحياة الموهوبة الحقيقية فتعتدل حركاتها وتفضل ملكاتها.
[20.56-63]
{ أريناه آياتنا } من الحجج والبينات الدالة على التجرد عن المواد ووجود الأنوار { فكذب } لكونها مادة { وأبى } القبول لامتناع إدراكها للمجردات وأنكر إزعاجها عن وكرها البدني بقوله: { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا } ونسب البرهان إلى السحر لقصورها عن إدراكه وعجزها عن قبوله وأغرى القوى التخيلية والوهمية على المعارضة والمجادلة وقلما أذعنت النفس للبرهان النير والحق البين بدون الرياضة والإماتة، وكلما أورد عليها حرضت الوهم والتخيل على التشكيك والقدح. والموعد هو وقت تركيب الحجة وترتيب المقامات وذلك وقت زينة النفس الناطقة بالمدركات وحشر القوى العقلية والروحانية لاستحضار المعلومات والمخزونات { ضحى } إشراق نور شمس العقل الفعال إذ هناك تعرض النفس عن قبولها ويجمع كيدها من أنواع المغالطات والوهميات ويقمعها القلب باليقينيات وإظهار أكاذيبها المفتريات. والتنازع الواقع بين القوى النفسانية هو عدم مسالمتها في طاعة القلب وانجذاب كل منها إلى لذته متمانعة متخالفة. وإسرارها النجوى استبطان الكل الدواعي المخالفة للقلب مع تخالفها في أنفسها. ونسبتها إلى السحر إشارة إلى عجزها عن إدراك معانيها وخفاء براهينها عليها. والطريق المثلى، أي: الفضلى عندها هي تحصيل اللذات الحسية والانهماك في الشهوات البدنية. وإلقاؤها أولا إشارة إلى تقدم الوهميات والخياليات في الوجود الإنساني على العقليات واليقينيات عند السلوك وإلا ما احتيج إلى البرهان القاطع والدليل الواضح وإلى أن الواجب على الداعي إلى الحق أولا نقض الباطل ودفع الشبهة بالحجة ليزول الاعتقاد الفاسد ويتمكن استقرار الحق. والحبال والعصي هي المغالطات والسفسطات من الشبهة الجدلية التي تكاد تتمشى وتغلب على القلب لولا تأييد الحق بنور الروح والعقل وهو معنى قوله:
لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك
[طه، الآية:68 - 69] العاقلة النظرية من البرهان المعتمد عليه يفن مصنوعاتهم المزخرفة وأباطيلهم المموهة، فتضمحل وتتلاشى. إنما صنعوا كيد تزوير ومكر لا حقيقة له لا ما صنعت كما زعموا، فألقي السحرة سجدا فانقادت حينئذ القوى الوهمية والخيالية والتخييلية والحسية عند ظهور عجزها والنفس الأمارة ثابتة في تفرعنها وعتوها لعدم ارتياضها واعتيادها بمألوفاتها وترأسها على القوى وتجبرها، باقية على عنادها وشدة شكيمتها. { ولأقطعن } إشارة إلى إبعادها وتخويفها للقوى عند إذعانها يمنع تصرفاتها في المعايش وترك سعيها في تحصيل الملاذ والمشتهيات الجسمانية من جهة مخالفتها إياها بموافقة القلب. وصلبها في جذوع النخل: إيقافها بالإماتة عند الرياضة في حد القوى النباتية وإثباتها في مقارها ومبادىء نشأتها من أعالي مراتب القوى النباتية دون التصرف في سائر المراتب والاستعلاء على المناصب والاستيلاء في المكاسب، أو من الأعضاء التي هي معادنها ومظاهرها. وهذا التخويف على هذا التأويل من قبيل أحاديث النفس وهواجسها بسبب اللمات الشيطانية المثبطة عن المجاهدة لقوله تعالى:
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه
[آل عمران، الآية:175] ليفيد إعراضها عن مطاوعة القلب وقيامها بخدمتها وتسخرها لها ولو حمل على المباحثة الظاهرة المستفادة من قوله تعالى:
وجادلهم بالتي هي أحسن
[النحل، الآية:125] بعد التصديق بالظاهر والإيمان بالإعجاز الباهر لأجرى قوله:
اذهب أنت وأخوك
[طه، الآية:42] على ظاهره إلى قوله: { فتنازعوا أمرهم بينهم } [طه، الآية:62] أي: تباحثوا فيما بينهم في السر، متنازعين فيما يعارضونه به من ضروب الجدل. وقيل في قوله: { إن هذان لساحران } [طه، الآية:63] مفلقان في البيان والفصاحة والاحتجاج لا يكاد يعارضهما أحد فيحجهما.
[20.64-71]
{ فأجمعوا كيدكم } أي: اتفقوا فيما تبارزونهما به فتكونوا متفقي الكلمة متعاضدين { فإذا حبالهم وعصيهم } أي: تخيلاتهم ووهمياتهم { يخيل إليه من سحرهم } في التركيب والبلاغة وحسن التقرير وتمشية المغالطة والسفسطة وهيئة ترتيب القياس الجدلي كأنها تسعى، أي: تمشي { خيفة } عن غلبة الجهال ودولة الضلال، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " لم يوجس موسى خيفة على نفسه، إنما خاف من غلبة الجهال ودولة الضلال ".
{ قلنا لا تخف } شجعناه وأيدناه، بروح القدس { وألق ما في يمينك } أي: ما في ضبط عقلك من النفس المؤتلفة بشعاع القدس المضيئة بنور الحق { تلقف ما صنعوا } ما زخرفوا وزوروا من الشبهات والتمويهات الباطلة والأباطيل المزخرفة بالحجج النيرة والبراهين الواضحة { إنما صنعوا } وتلقفوا { كيد ساحر } أي: تمويه وتزوير { فألقي السحرة سجدا } منصفين مذعنين مقرين بكونه على الحق لما عرفوا من صدق البينة وظهور المعجزة وقيام الحجة وجلية البرهان { قالوا آمنا } الإيمان اليقيني لأنهم كوشفوا بالحق فعرفوا ربوبيته للكل، وإنما أضافوا الرب إليهما مع تعميم الإضافة إلى العالمين لزيادة اختصاصهما به وفضل ربوبيته إياهما، فإنه يرب كل شيء باسم يناسبه ويقتضيه استعداده ويربهما بأكبر أسمائه الحسنى على حسب كمال استعدادهما ولظهوره فيهما بكمالات صفاته وتجليه عليهم فيهما بآياته ، فعلموا أنهم من شكوتهما عرفوا ما عرفوا، وبوسيلتهما وصلوا إلى ما وصلوا، وبتبعيتهما وجدوا ما وجدوا، لا على سبيل الاستقلال. واعلم أن الساحر أقرب الناس استعدادا من النبي لأن مبادىء خوارق العادات أمور ثلاثة: إما خواص التركيب وتمزيجات المواد العنصرية والصور وجمع الأخلاط المختلفة المزاج والجوهر وهو من باب النيرنجات. وإما جمع القوى السماوية والأرضية بإعداد الصور السفلية والمواد العنصرية لاستجلاب فيض النفوس السماوية واتصالها بقوى الأجرام الأرضية وهو من باب الطلسمات، وإما تأثير النفوس وهيئاتها المستفادة من العالم العلوي وهو من الكامل المبعوث للنبوة القائم بالدعوة إعجاز ومن الواصل المحق المترقي إلى ذروة الولاية غير المبعوث للنبوة كرامة. والفرق بينهما أن الإعجاز مقارن للتحدي والمعارضة دون الكرامة ومن المقبل على الدنيا المعرض عن العالم الأعلى سحر، فكانت نفس الساحر في بدء فطرتها قوية مخصوصة بهيئات مؤثرة في هذا العالم وأجرامه إلا أنها أعرضت عن مبدئها بالركون إلى العالم السفلي وانقطعت عن أصل القوى والقدر ومنبع التأثير والقهر بالميل إلى عالم الطبع، فلا يزال يضعف ما فيها من الهيئة النورية والشعاع القدسي كما لا يزال يزداد في نفس النبي والولي بالإقبال على الحق والائتلاف بنور القدس والتأييد بالقوة الملكوتية والتوجه إلى الحضرة الإلهية ولا جرم ينكسر من النبي حين عارضه وينقمع بنفسه إذا قابله، فهو أعرف الناس بالنبي عند عجزه وإنكاره وأقبل الخلق لدعوته وأنواره، وأسبقهم إلى الإقرار به لكونه أقربهم في الاستعداد إليه ما لم يبطل استعداده الأول بالكلية ولم يغلب عليه دين الطبيعة السفلية.
[20.72-73]
{ لن نؤثرك } كلام صادر من عظم الهمة الحاصلة للنفس بقوة اليقين، إذ قوة اليقين في القلب تورث النفس عظم الهمة وهو عدم مبالاتها بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسية في جنب السعادة الأخروية واللذة الباقية العقلية، ولهذا استخفوا بها واستحقروها بقولهم: { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا }. { ليغفر لنا خطايانا } أي: يستر بنوره الهيئات المظلمة والصفات الرديئة التي عرضت لنفوسنا بسبب الميل إلى اللذات الطبيعية ومحبة الزخارف الدنيوية { وما أكرهتنا عليه من السحر } أي: معارضة موسى لأنهم لما عرفوه بنور استعدادهم وعلموا كونه على الحق، فاستعفوا عن معارضته فأكرهم اللعين.
[20.74-79]
{ من يأت ربه } في القيامة الصغرى مجرما مثقلا بالهيئات البدنية المميلة إلى الأجرام الطبيعية { لا يموت فيها } بالموت الطبيعي، فلا يشعر بالآلام { ولا يحيى } بالحياة الحقيقية فينجو من تبعات الآثام.
{ ومن يأته مؤمنا } بالإيمان اليقيني { قد عمل الصالحات } من الفضائل النفسانية المزكية للنفوس { فأولئك لهم الدرجات العلى } من جنات الصفات بحسب درجات ترقيهم في الكمالات.
{ أن أسر بعبادي } في ظلمة صفات النفوس وليل الجسمانية { فاجعل لهم طريقا } من التجريد في بحر عالم الهيولى { يبسا } لا تصل إليه نداوة الهيئات الهيولانية ورطوبة المواد الجسمانية { لا تخاف دركا } لحوقا من البدنيين المنغمسين في غواشي الطبيعة الظلمانية { ولا تخشى } غلبتهم عليكم واستيلاءهم، فإنهم مقيدون محبوسون فيها، قاصرون عن شأنكم { فأتبعهم } لإهلاكهم دينهم بالانغماس في الطبيعيات فغشيهم من يم القطران ما غشيهم من الهلاك السرمدي والعذاب الأبدي، والتطبيق قد مر غير مرة.
[20.80-82]
{ وواعدناكم جانب } طور القلب { الأيمن } الذي يلي روح القدس وهو محل الوحي الذي يسمونه الروع والفؤاد { ونزلنا عليكم } من الأحوال والمذاهب من الذوقيات وسلوى العلوم والمعارف من اليقينيات { كلوا من طيبات ما رزقناكم } أي: تغذوا تلك المعارف الطيبة وتقبلوها بقلوبكم فإنها سبب حياتها { ولا تطغوا فيه } بظهور النفس وإعجابها بنفسها عند استشراقها ورؤيتها بهجتها وكمالها وزينتها { فيحل عليكم } غضب الحرمان وآفة الخذلان { فقد هوى } سقط عن مقام القرب في جحيم النفس واحتجب عن نور تجلي صفات الجمال في ظلمات الاستتار وأستار الجلال.
{ وإني لغفار } لستار صفات النفس الطاغية الظاهرة بتزييناتها واستغنائها بأنوار صفاتي { لمن تاب } عن تظاهرها واستيلائها، واستغفر بانكسارها وانقماعها ولزومها ذل فاقتها وافتقارها { وآمن } بأنوار الصفات القلبية وتجليات الأنوار الإلهية { وعمل صالحا } في اكتساب المقامات كالتوكل والرضا والملكات المانعة من التلوينات بالحضور والصفاء { ثم اهتدى } إلى نور الذات وحال الفناء.
[20.83-96]
{ وما أعجلك عن قومك } - إلى قوله - { في اليم نسفا } معناه على التحقيق: أن موسى عليه السلام لما شرف بمقام المكالمة وأوتي كشف الصفات وبعث لإنقاذ بني إسرائيل وإرشادهم إلى الحق وعد شريعة يسوس بها قومه، فاستخلف هارون على قومه وتخلى للمراقبة قبل تثبتهم على الإيمان وتقريرهم على الحق بالإيقان، فعوقب على تلك العجلة وإن كانت من غاية الشوق إلى المشاهدة. واقتضاء المقام عدم التفرغ إلى تكميل الغير لأن في تكميلهم بالمعرفة اليقينية والكمال العلمي ثبات قدمه في الطاعة وامتثال الأمر المستلزم للترقي في الحال، فاعتذر بكونهم على متابعته في الدين وإن لم تبن معاملتهم على أساس اليقين والتعجيل، إنما بدر منه لطلب مقام الرضا الذي هو كمال الفناء في الصفات وهو استحكام مقام التجلي الصفاتي الذي منه المكالمة، وإنما ابتلاهم الله بالسامري ليتميز المستعد القابل للكمال بالتجريد من القاصر الاستعداد المنغمس في المواد الذي لا يدرك إلا المحسوس ولا يتنبه للمجرد المعقول. ولهذا قالوا: { ما أخلفنا موعدك بملكنا } أي: بأن ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا، فإنهم عبيد بالطبع لا رأي لهم ولا ملكة وليسوا مختارين بل مطبوعون مسوسون مقودون بدنيون لا طريق لهم إلا التقليد والعمل، لا التحقيق والعلم. وإنما استعبدهم بالطلسم المفرع من الحلي لرسوخ محبة الذهب في طباعهم لكون نفوسهم سفلية منجذبة إلى الطبيعة الذهبية، وتجلي تلك الصورة النوعية فيها للتناسب الطبيعي وكان ذلك من باب مزج القوى السماوية بالقوى الأرضية ولذلك قال: { بصرت بما لم يبصروا به } من العلم الطبيعي والرياضي اللذين يبتنى عليهما علم الطلسمات والسيميات.
{ فقبضت قبضة من أثر الرسول } وهي على ما قيل: تراب موطىء حافر الحيزوم الذي هو فرس الحياة مركب جبرائيل، أي: مما اتصل به أثر النفس الحيوانية الكلية السماوية المسخرة للعقل الفعال، المتأثرة منه، الحاملة لصفاته التي هي بمثابة مركبه لاستعلائه عليها ووصول تأثيره إلى الطبائع العنصرية والأجرام السفلية بواسطتها من الأوضاع التي تفيض بسببها الآثار على المواد، فتنفعل منها بحسب الاستعداد وتقبل الأحوال الغريبة التي هي بمثابة تراب موطىء مركبه { فنبذتها } فطرحتها على الجرم المذاب عند الإفراغ في صورة العجل وذلك من تسويل النفس الشيطانية الشريرة.
[20.97]
وقوله: { فاذهب } صادر عن غضبه عليه السلام وطرده إياه، وإنما يجب حلول العذاب من غضب الأنبياء والأولياء لأنهم مظاهر صفات الله تعالى، فكل من غضبوا عليه وقع في قهره تعالى وشقى في الدنيا والآخرة، وعذب بعذاب الأبد، وذاق وبال العمل، وكانت صورة عذابه في التحرز عن المماسة نتيجة بعده عن الحق في الدعوة إلى الباطل. وأثر لعن موسى عليه السلام إياه عند إبطال كيده وإزالة مكره. وعلى التطبيق: إن القلب إذا سبق له كشف وجذبه الاجتهاد والسلوك وحصل عنده الكمال العلمي الكشفي دون العلمي الكسبي، يكون في معرض عتاب الحق عند التعجل إلى الشهود والحضور، ذاهلا عن أمر الشريعة والمجاهدة، ويجب أن يرد إلى العمل والرياضة لسياسة القوى واكتساب مقام الاستقامة، إذ لا يقوى هارون العقل الذي هو خليفته على قومه القوى الروحانية والجسمانية على تدبيرهم وتقويمهم وتسديدهم بدون الرياضة والمجاهدة والمواظبة على الطاعة والمعاملة، فينبعث سامري القوى النفسانية من الحواس ويوقد عليها نار حب الشهوات، ويطرح عليها شيئا من أمداد الطالع بحسب الأوضاع المخصوصة، أي: التي تأثرت من تأثير النفس الحيوانية التي هي فرس الحياة، فيمثل الطبيعة بصورة العجل المفرغ في قالب المواد الذي همه الأكل والشرب ودأبه اللذة والشهوة دون العمل والسعي بالإثارة والتعب كما أشير إليه، وينتفخ فيه روح الهوى فيحيا ويتقوى ويصيح ذا خوار، فيعبده جميع القوى ويتخذه إلها، وكلما نبهها العقل المؤيد بنور القلب على ضلالها وفتنتها ودعاها إلى الحق ومتابعة الرأي العقلي وطاعته، خالفته حتى يرجع إليها القلب المنور بنور الحق، المؤيد بتأييد القدس، غضبان لله تعالى أسفا على ضلالها وتفرقها في الدين، ويعيرها ويعنفها بلسان النفس اللوامة، ويأخذها بالوعد والوعيد، ويذكرها طول العهد من قرب الرب بمقتضى الخلقة والنشأة والسقوط عن الفطرة، ويخوفها باستحقاق الغضب والسخطة عن نسيان العهد وإخلاف الوعد حين الإقرار بالربوبية عند ميثاق الفطرة، فلا ينجع فيها القول إذا صارت مأسورة في أسر الهوى، منقادة لسلطان التخيل، مستسلمة للردى، ولا طريق إلا خرق الطبيعة الجسدانية بمبرد المجاهدة وإحراقها بنار الرياضة ونسفها برياح نفحات الرحمة الإلهية التي إذا هبت بها لاشت في يم الهيولى الجرمية لا حياة بها ولا حراك بعد تغير القوة العاقلة بعد متابعتها للقلب ومشايعتها للسر في التوجه، وبوجود موافقتها للقوى في الميل إلى الطبيعة والأخذ برأسها إلى جهتها العادية التي تلي الروح بتأثير النور فيه حتى تنفعل وتتأثر بشعاع القدس ونور الهداية الحقانية ولحيتها التي هي الهيئة الذكورية وصورة التأثير فيما تحت، أي: جهتها السفلية التي تلي القوى النفسانية. وجرها إليه، أي: الجهة العلوية وجناب الحق وعالم القدس الذي هو فيه، فيتقوى بالأيد الإلهي والقدرة الربانية وجولانها فتؤثر فيها وتطوعها بأمر الحق لها وللقلب، ويستخلصها من قهر التخيل والوهم.
واعتذار هارون إشارة إلى أن العقل غير المتنور بنور الهداية، المتأيد بأمر الشريعة، لا يقدر أن يحافظ القوى ويعاند التخيل والهوى، ولا يزيدها إلا التفرقة الموقعة في الردى. وعند استيلاء نور القلب والعقل وقهر الطبيعة بالكلية وحصول الاستقامة في الطريقة، ينخزل التخيل وينعزل ولا يقدر أن يماس شيئا من القوى بتخييله ولا يقاربه قوة منها بقبول تسويله فيصير ملعونا، مطرودا، فيقول: لا مساس. وله موعد، أي: حد ورتبة لا يجد خلفا فيه ولا يتجاوز، فيترأس، ويستولي، ويروج أكاذيبه وغلطه بالمعقولات، وينفقه في المرادات.
[20.98-104]
وذلك مقام الاستقامة إلى الله والقيام بحقائق العبودية لله، ولا تتجلى ناصية التوحيد ولا يحصل مقام التجرد والتفريد إلا به، ولذلك عقبه بقوله:
{ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو } إذ يكون السالك قبل ذلك مصليا إلى قبلتين، مترددا في العبادة بين جهتين، متخذ الإلهين { وسع كل شيء علما } أي: يتحقق هناك التوحيد بالفعل، وتظهر إحاطة علمه بكل شيء وحدوده وغاياته فتقف كل قوة بنور الحق وقدرته على حدها في عبادته وطاعته عائذة به عن حولها وقوتها، عابدة له بحسب وسعها وطاقتها، شاهدة إياه، مقرة بربوبيته بقدر ما أعطاها من معرفته: مثل ذلك القصص { نقص عليك من أنباء ما قد سبق } من أحوال السالكين الذي سبقوا، ومقاماتهم لتثبيت فؤادك وتمكينك في مقام الاستقامة كما أمرت { وقد آتيناك من لدنا ذكرا } أي : ذكرا ما أعظمه وهو: ذكر الذات الذي يشمل مراتب التوحيد.
{ من أعرض عنه } بالتوجه إلى جانب الرجس وحيز الطبع والنفس { فإنه يحمل يوم القيامة } الصغرى وزر الهيئات المثقلة الجرمانية، وآثام تعلقات المواد الهيولانية.
{ يوم ينفخ } الحياة { في الصور } الجسمانية، برد الأرواح إلى الأجساد { ونحشر المجرمين } الملازمين للأجرام { زرقا } عميا، بيض سواد العيون، أو شوها في غاية قبح المناظر، يحسن عندها القردة والخنازير، يسرون الكلام لشدة الخوف أو عدم القدرة على النطق، ويستقصرون مدة اللبث في الحياة الدنيوية لسرعة انقضائها وكل من كان أرجح عقلا منهم كان أشد استقصارا إياها.
[20.105-110]
{ ويسألونك عن الجبال } أي: وجودات الأبدان { فقل ينسفها ربي } برياح الحوادث رميما ورفاتا ثم هباء منثورا، فيسويها بالأرض لا بقية منها ولا أثر. أو حوادث الأشياء فقل: ينسفها ربي برياح النفحات الإلهية الناشئة عن معدن الأحدية { فيذرها } في القيامة الكبرى { قاعا صفصفا } وجودا أحديا صرفا { لا ترى فيها } إثنينية ولا غيرية، فتقدح في استوائها.
{ يومئذ } يوم إذ قامت القيامة الكبرى { يتبعون الداعي } الذي هو الحق، لا حراك بهم ولا حياة لهم إلا به { لا عوج له } أي: لا انحراف عنه ولا زيغ عن سمته إذ هو آخذ بناصيتهم وهو على صراط مستقيم، فهم يسيرون بسيرة الحق على مقتضى إرادته { وخشعت الأصوات } انخفضت كلها لأن الصوت صوته فحسب { فلا تسمع إلا همسا } خفيا، باعتبار الإضافة إلى المظاهر. أو يوم إذ قامت القيامة الصغرى { يتبعون الداعي } الذي هو إسرافيل مدبر الفلك الرابع، المفيض للحياة، لا ينحرف عنه مدعو إلى خلاف ما اقتضته الحكمة الإلهية من التعلق به. { وخشعت الأصوات } في الدعاء إلى غير ما دعا إليه الرحمن فلا تسمع إلا همس الهواجس والتمنيات الفاسدة و { لا تنفع الشفاعة } أي: شفاعة من تولاه وأحبه في الحياة الدنيا ممن اقتدى به وتمسك بهدايته { إلا من أذن له الرحمن } باستعداد قبولها، فإن فيض النفوس الكاملة التي تتوجه إليها النفوس الناقصة بالإرادة والرغبة موقوفة على استعدادها لقبوله بالصفاء وذلك هو الإذن { ورضي له قولا } أي: رضي له تأثيرا يناسب المشفوع له، فتتوقف الشفاعة على أمرين: قدرة الشفيع على التأثير، وقوة المشفوع له للقبول والتأثر. وهو { يعلم } الجهتين { ما بين أيديهم } من قوة القبول بالاستعداد الأصلي وتأثير الشفيع بالتنوير { وما خلفهم } من الموانع العارضة من جهة البدن وقواه، والهيئات الفاسقة المزيلة للقبول الأصلي أو المعدات الحاصلة من جهتها بالتزكية على وفق العقل العملي.
[20.111-123]
{ وعنت الوجوه } أي: الذوات الموجودات بأسرها { للحي القيوم } وكلها في أسر مملكته وذل قهره وقدرته، لا تحيا ولا تقوم إلا به لا بأنفسها ولا بشيء غيره. { وقد خاب } عن نور رحمته وشفاعة الشافعين من ظلم نفسه بنقص استعداده وتكدير صفاء فطرته، فزال قبوله للتنور باسوداد وجهه وظلمته.
{ ومن يعمل من الصالحات } بالتزكية والتحلية { وهو مؤمن } بالإيمان التحقيقي { فلا يخاف } أن ينقص شيء من كمالاته الحاصلة ولا أن يكسر من حقه الذي يقتضيه استعداده الأصلي في المرتبة { لعلهم يتقون } بالتزكية { أو يحدث لهم ذكرا } بالتحلية.
{ فتعالى الله } تناهى في العلو والعظمة بحيث لا يقدر قدره ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته في عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته { ولا تعجل } عند هيجان الشوق لغاية الذوق بتلقي العلم اللدني عن مكمن الجمع { من قبل } أن يحكم بوروده عليك ووصوله إليك، فإن نزول العلم والحكمة مترتب بحسب ترتب مراتب ترقيك في القبول. ولا تفتر عن الطلب والاستفاضة فإنه غير متناه، واطلب الزيادة فيه بزيادة التصفية والترقي والتحلية، إذ الاستزادة إنما تكون بدعاء الحال ولسان الاستعداد، لا بتعجيل الطلب والسؤال قبل إمكان القبول. وكلما علمت شيئا زاد قبولك لما هو أعلى منه وأخفى. وقصة آدم وتأويلها مرت غير مرة { ألا تجوع فيها ولا تعرى } إذ في التجرد عن ملابسة المواد في العالم الروحاني لا يمكن تزاحم الأضداد ولا يكون التحليل المؤدي إلى الفساد بل تلتذ النفس بحصول المراد آمنة من الفناء والنفاد.
[20.124-130]
{ ومن أعرض عن ذكري } بالتوجه إلى العالم السفلي بالميل النفسي، ضاقت معيشته لغلبة شحه وشدة بخله، فإن المعرض عن جناب الحق ركدت نفسه وانجذبت إلى الزخارف الدنيوية والمقتنيات المادية لمناسبتها إياها، واشتد حرصه وكلبه عليها ونهمه وشغفه بها لقوة محبته إياها للجنسية والاشتراك في الظلمة والميل إلى الجهة السفلية، فيشح بها عن نفسه وغيره، وكلما استكثر منها ازاد حرصه عليها وشحه بها وذلك هو الضنك في المعيشة. ولهذا قال بعض الصوفية: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وتشوش عليه رزقه. بخلاف الذاكر المتوجه إليه فإنه ذو يقين منه وتوكل عليه في سعة من عيشه ورغد، ينفق ما يجد ويستغنى بربه عما يفقد.
{ ونحشره يوم القيامة } الصغرى على عماه من نور الحق كقوله:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
[الإسراء، الآية:72] وإنكاره لعماه إنما يكون بلسان الاستعداد الأصلي والنور الفطري المنافي لعماه من رسوخ هيئة الحب السفلي والعشق النفسي بالفسق الجرمي ونسيان الآيات البينات والأنوار المشرقات الموجب لإعراضه تعالى عنه وتركه فيما هو فيه { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } من ضنك العيش في الدنيا لكونه روحانيا دائما.
{ ولولا كلمة سبقت } أي: قضاء سابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا لكون نبيهم نبي الرحمة، وقوله:
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم
[الأنفال، الآية:33] لكان الإهلاك لازما لهم. { فاصبر } بالله.
{ على ما يقولون } فإنك تراهم جارين على ما قضى الله عليهم، مأسورين في أسر قهره ومكره بهم { وسبح } أي: نزه ذاتك بتجريدها عن صفاتها متلبسا بصفات ربك، فإن ظهورها عليك هو الحمد الحقيقي { قبل طلوع } شمس الذات حال الفناء { وقبل غروبها } باستتارها عند ظهور صفات النفس، أي: في مقام القلب حال تجلي الصفات، فإن تسبيح الله هناك محو صفات القلب { ومن آناء الليل } أي: أوقات غلبات صفات النفس المظلمة والتلوينات الحاجبة { فسبح } بالتزكية { وأطراف } نهار إشراق الروح على القلب بالتصفية { لعلك } تصل إلى مقام الرضا الذي هو كمال مقام تجلي الصفات وغايته.
[20.131-135]
{ ولا تمدن عينيك } في التلوينات النفسية وظهور النفس بالميل إلى الزخارف الدنيوية، فإنها صور ابتلاء أهل الدنيا { ورزق ربك } من الحقائق والمعارف الأخروية والأنوار الروحانية { خير وأبقى } أفضل وأدوم { وأمر أهلك } القوى الروحانية والنفسانية بصلاة الحضور والمراقبة والانقياد والمطاوعة { واصطبر } على تلك الحالة بالمجاهدة والمكاشفة { لا نسألك } لا نطلب منك { رزقا } من الجهة السفلية كالكمالات الحسية والمدركات النفسية { نحن نرزقك } من الجهة العلوية المعارف الروحانية والحقائق القدسية { والعاقبة } التي تعتبر وتستأهل أن تسمى عاقبة للتجرد عن الملابس البدنية والهيئات النفسانية { أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } من الحقائق والحكم والمعارف اليقينية الثابتة في الألواح السماوية والأرواح العلوية، والله تعالى أعلم.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1-18]
{ اقترب للناس حسابهم } في القيامة الصغرى، بل لو عرفوا القيامة لعاينوا حسابهم الآن. أي: لو أردنا أن نتخذ موجودات تحدث وتفنى كما قيل:
نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر
[الجاثية، الآية:24] لأملكننا من جهة القدرة لكنه ينافي الحكمة والحقيقة فلا نتخذها { بل نقذف } باليقين البرهاني والكشفي على الاعتقاد الباطل { فيدمغه } فيقمعه { فإذا هو } زائل { ولكم } الهلاك { مما تصفون } من عدم الحشر أو نقذف بالتجلي الذاتي في القيامة الكبرى الذي هو الحق الثابت الغير المتغيرعلى باطل هذه الموجودات الفانية فيقهره ويجعله لا شيئا محضا، فإذا هو فان صرف، فيظهر أن الكل حق وأمره جد، لا باطل ولا لهو، ولكم الهلاك والفناء الصرف { مما تصفون } من إثبات وجود الغير واتصافه بصفة وفعل وتأثير { لفسدتا } لأن الوحدة موجبة لبقاء الأشياء، والكثرة موجبة لفسادها. ألا ترى أن كل شيء له خاصية واحدة يمتاز بها عن غيره هو بها هو ولو لم تكن لم يوجد ذلك الشيء، وهي الشاهدة بوحدانيته تعالى كما قيل:
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
[21.19-32]
والعدل الذي قامت به السموات والأرض هو ظل الوحدة في عالم الكثرة، ولو لم يوجد هيئة وحدانية في المركبات كاعتدال المزاج لما وجدت، ولو زالت تلك الهيئة لفسدت في الحال { فسبحان الله } أي: نزه للفيض على الكل بربوبيته للعرش الذي ينزل منه الفيض على جميع الموجودات عما تصفونه من إمكان التعدد.
{ يعلم ما بين أيديهم } أي: ما تقدمهم من العلم الكلي الثابت في أم الكتاب المشتمل على جميع علوم الذوات المجردة من أهل الجبروت والملكوت { وما خلفهم } من علوم الكائنات والحوادث الجزئية الثابتة في السماء الدنيا، فكيف يخرج عن علمهم إحاطة علمه ويسبق فعلهم أمره وقولهم قوله { ولا يشفعون إلا لمن } علمه أهلا للشفاعة بقبوله لصفاء استعداده ومناسبة نفسه للنور الملكوتي { وهم } في الخشية من سبحات وجهه والخشوع والإشفاق والانقهار تحت أنوار عظمته.
{ أو لم ير } المحجوبون عن الحق { أن السموات والأرض كانتا } مرتوقتين من هيولى واحدة ومادة جسمانية { ففتقناهما } بتباين الصور، أو أن سموات الأرواح وأرض الجسد كانا مرتوقتين في صورة نطفة واحدة ففتقناهما بتباين الأعضاء والأرواح.
{ وجعلنا } أي: خلقنا من النطفة كل حيوان { وجعلنا } في أرض الجسد { رواسي } العظام كراهة أن تضطرب وتجيء وتذهب وتختلف بهم فلا تقوم بهم وتستقل { وجعلنا فيها فجاجا } مجاري، طرقا للحواس وجميع القوى { لعلهم يهتدون } بتلك الحواس والطرق إلى آيات الله فيعرفوه.
{ وجعلنا } سماء العقل { سقفا } مرتفعا فوقهم { محفوظا } من التغير والسهو والخطأ { وهم } عن حججها وبراهينها { معرضون }.
[21.33-46]
{ وهو الذي خلق } ليل النفس ونهار العقل الذي هو نور شمس الروح وقمر القلب { كل في فلك } أي: مقر علوي وحد ومرتبة من سموات الروحانيات يسيرون إلى الله { خلق الإنسان من عجل } إذ النفس التي هي أصل الخلقة دائمة الطيش والاضطراب لا تثبت على حال فهو مجبول على العجل ولو لم يكن كذلك لم يكن له السير والترقي من حال إلى حال إذ الروح دائم الثبات وبتعلقه بالنفس يحصل وجود القلب ويعتدل بهما في السير، فما دام الإنسان في مقام النفس ولم يغلب عليه نور الروح والقلب المفيد للسكينة والطمأنينة يلزمه العجلة بمقتضى الجبلة.
{ لو يعلم } المحجوبون عن الرحمن العام الفيض وعن المعاد الشامل للكل وقت إحاطة العذاب بهم جميع الجهات بأمر الرحمن المحيط العلم الوحداني الأمر فلا يقدرون أن يمنعوه عما قدامهم من الجهة التي تلي الروح المعذبة بنار القهر الإلهي والحرمان الكلي من الأنوار الروحانية والكمالات الإنسانية ولا عما خلفهم من الجهة التي تلي الجسد المعذبة بنار الهيئات الجسمانية والعقارب والحيات السود النفسانية والأقذار الهيولانية والآلام الجسدانية { ولا هم ينصرون } من الأمدادات الرحمانية لكثافة حجابهم وشدة ارتيابهم لما استعجلوا.
{ أفلا يرون } أتمادت غفلتهم فلا يرون { أنا نأتي } أرض البدن بالشيخوخة { ننقصها من أطرافها } كالسمع والبصر وسائر القوى أو أرض النفس المتيقظة المتوجهة إلى الحق، الذاكرة بأنوار الصفات ننقصها من صفاتها وقواها { أفهم الغالبون } أم نحن.
{ ولئن مستهم نفحة } من النفحات الربانية في صورة العذاب أي: من الألطاف الخفية كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " سبحان من اشتدت نقمته على أعدائه في سعة رحمته، واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته ". فكشف عنهم حجاب الغفلة المتراكمة من طول التمتيع الذي هو النقمة في صورة الرحمة والقهر الخفي ليستيقظن ويتنبهن لظلمهم في إعراضهم عن الحق وانهماكهم في الباطل.
[21.47-50]
{ ونضع الموازين القسط } ميزان الله تعالى هو عدله الذي هو ظل وحدته وصفته اللازمة لها، به قامت سموات الأرواح وأرض الأجساد واستقامت ولولاه لما استقر أمر الوجود على النسق المحدود. ولما شمل الكل أصاب كل موجود قسطه منه بحسب حاله وقدر احتماله فصار بالنسبة إلى كل أحد بل كل شيء ميزانا خاصا وتعددت الموازين على حسب تعدد الأشياء وهي جزئيات الميزان المطلق ولذلك أبدل القسط المطلق منها أو وصفها به، فإنها كلها هي العدل المطلق الواحد ولا تعدد الحقيقة بتعدد المظاهر. ووضعها عبارة عن ظهور مقتضاها وذلك إنما يكون يوم القيامة الصغرى بالنسبة إلى المحجوب ويوم القيامة الكبرى بالنسبة إلى أهلها { فلا تظلم نفس شيئا } لأن كل ما عملت من خير وجد حالة عمله في كفة الحسنات التي هي جهة الروح من القلب وكل ما عملت من سوء وضع في كفة السيئات التي هي جهة النفس منه. والقلب هو لسان الميزان ولهذا قيل: يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة، إلا أن الثقل هناك يوجب الصعود والميل إلى العلو، والخفة توجب النزول والميل إلى السفل بخلاف الميزان الجسماني إذ الثقيل ثمة هو الراجح المعتبر الباقي عند الله والخفيف هو المرجوح الذي لا وزن له عند الله ولا اعتبار فلا ينقص مما عملت نفس شيئا { وإن كان مثقال حبة من خردل } ومن هذا يعلم ما قيل: إن الله تعالى يحاسب الخلائق في أسرع من فواق شاة.
{ آتينا موسى } القلب { وهارون } العقل أو على ظاهرهما { الفرقان } أي: العلم التفصيلي الكشفي المسمى بالعقل الفرقاني { وضياء } أي: نورا تاما من المشاهدات الروحانية { وذكرى } أي: تذكيرا وموعظة { للمتقين الذين } تزكت نفوسهم من الرذائل والصفات الحاجبة فأشرقت أنوار طيبات العظمة من قلوبهم على نفوسهم لصفائها وزكائها فأورثت الخشية في حال الغيبة قبل الوصول إلى مقام الحضور القلبي { وهم من الساعة } أي: القيامة الكبرى على إشفاق وتوقع لوقوعها لقوة يقينهم إذ الإشفاق إنما يكون عند التوقع لشيء مترقب الوقوع. أي: آتيناهما في مقام القلب، العلم الذي به يفرق بين الحق والباطل من الحقائق والمعارف الكلية وفي مقام الروح ومرتبته النور المشاهد الباهر على كل نور، وفي مقام النفس ورتبة الصدر التذكير بالمواعظ والنصائح والشرائع من العلوم الجزئية النافقة للمستعدين القابلين السالكين.
{ وهذا ذكر } غزير الخير والبركة، شامل للأمور الثلاثة، زائد عليها بالكشف الذاتي والشهود الحق في مقام الهوية وعين جمع الأحدية جامع لجوامع الكلم، حاف بجميع المشاهدات والحكم إذ في البركة معنى النماء والزيادة.
[21.51-57]
{ ولقد آتينا إبراهيم } الروح { رشده } المخصوص به الذي يليق بمثله وهو الاهتداء إلى التوحيد الذاتي ومقام المشاهدة والخلة { من قبل } أي: قبل مرتبة القلب والعقل متقدما عليهما في الشرف والعز { وكنا به عالمين } أي: لا يعلم بكماله وفضيلته غيرنا لعلو شأنه.
{ إذ قال لأبيه } النفس الكلية { وقومه } من النفوس الناطقة السماوية وغيرها { ما هذه التماثيل } أي: الصور المعقولة من حقائق العقول والأشياء وماهيات الموجودات المنتقشة فيها { التي أنتم لها عاكفون } مقيمون على تمثلها وتصورها وذلك عند عروجه من مقام الروح المقدسة وبروزه عن الحجب النورية إلى فضاء التوحيد الذاتي، كما قال عليه السلام:
إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا
[الأنعام، الآيات:78 - 79]، ومن هذا المقام قوله لجبريل عليه السلام: أما إليك فلا.
{ وجدنا آباءنا } عللنا من العوالم السابقة على النفوس كلها من أهل الجبروت { لها عابدين } باستحضارهم إياها في ذواتهم لا يذهلون عنها { في ضلال مبين } في حجاب عن الحق نوري، غير واصلين إلى عين الذات عاكفين في برازخ الصفات لا تهتدون إلى حقيقة الأحدية والغرق في بحر الهوية { أجئتنا بالحق } أي: أحدث مجيئك إيانا من هذا الوجه بالحق فيكون القائل هو الحق عز سلطانه أم استمر بنفسك كما كان فتكون أنت القائل فيكون قولك لعبا لا حقيقة له. فإن كنت قائما بالحق، سائرا بسيره، قائلا به، صدقت وقولك الجد وتفوقت علينا، وتخلفنا عنك، وإن كنت بنفسك فبالعكس { بل ربكم } الجائي والقائل ربكم الذي يربكم بالإيجاد والتقويم والإحياء والتجريد والإنباء والتعليم رب الكل الذي أوجده { وأنا على ذلكم } الحكم بأن القائل هو الحق الموصوف بربوبية الكل { من الشاهدين } وهذا الشهود هو شهود الربوبية والإيجاد وإلا لم يقل أنا وعلي إذ الشهود الذاتي هو الفناء المحض الذي لا أنائية فيه ولا إثنينية، وتلك الإثنينية بعد الإفصاح بأن الجائي والقائل هو الحق الذي أوجد الكل مشعرة بمقام الكل المتخلف عن مقام { لأكيدن أصنامكم } لأمحون صور الأشياء وأعيان الموجودات التي عكفتم على إيجادها وحفظها وتدبيرها، وأقبلتم على إثباتها بعد أن تعرضوا عن عين الأحدية الذاتية بالإقبال إلى الكثرة الصفاتية بنور التوحيد.
[21.58-67]
{ فجعلهم } بفأس القهر الذاتي والشهود العيني { جذاذا } قطعا متلاشية فانية { إلا كبيرا لهم } هو عينه الباقي على اليقين الأول الذي به سمى الخليل خليلا { لعلهم إليه يرجعون } يقبلون منه الفيض ويستفيضون منه النور والعلم كما استفاض هو منه أولا.
{ قالوا } أي: قالت النفوس العاشقة بالعقول { من فعل هذا } الاستخفاف والتحقير { بآلهتنا } التي هي معشوقاتنا ومعبوداتنا بنسبتها إلى الاحتجاب والنظر إليها بعين الفناء وجعلها بقوة الظهر كالهباء، متعجبين منه، معظمين له، مستعظمين لأمره { إنه لمن الظالمين } الناقصين حقوق المعبودات المجردة وجميع الموجودات من الوجودات والكمالات بنفيها عنهم وإثباتها للحق، أو الناقصين حق نفسهم بإفنائها وقهرها { قالوا سمعنا فتى } كاملا في الفتوة والشجاعة على قهر ما سوى الله من الأغيار والسخاوة ببذل النفس والمال { يذكرهم } بنفي القدرة والكمال عنهم ونسبة العدم والفناء إليهم { فأتوا به } أي: استحضروه وأحضروه معاينا لجميع النفوس { لعلهم يشهدون } كماله وفضيلته فيستفيدون منه.
{ أأنت فعلت هذا } صورة إنكار لما لم يعرفوا من كماله إذ كل ما يمكن للنفوس معرفته فهو دون كمال العقول التي هي معشوقاتها وهي محجوبة عن كماله الإلهي الذي هو به أشرف منها { قال بل فعله كبيرهم } أي: ما فعلته بأنائيتي التي أنا بها أحسن منها، بل بحقيقتي وهويتي التي هي أشرف وأكبر منها { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } بالاستقلال، أي: لا نطق لهم ولا علم ولا وجود بأنفسهم بل بالله الذي لا إله إلا هو.
{ فرجعوا إلى أنفسهم } بالإقرار والإذعان معترفين بأن الممكن لا وجود له بنفسه فكيف كماله { فقالوا إنكم أنتم الظالمون } بنسبة الوجود والكمال إلى الغير لا هو { ثم نكسوا على رؤوسهم } حياء من كماله ونقصهم وخضوعا وانفعالا منه { لقد علمت } بالعلم اللدني الحقاني فناءهم فنفيت النطق عنهم، وأما نحن فلا نعلم إلا ما علمنا الله فاعترفوا بنقصهم كما اعترفوا به عند معرفتهم لآدم بعد الإنكار، فقالوا:
لا علم لنآ إلا ما علمتنآ
[البقرة، الآية: 32].
{ أفتعبدون من دون } وتعظمون غيره مما لا ينفع ولا يضر، إذ هو النافع الضار لا غير { أف لكم } أتضجر بوجودكم ووجود معبوداتكم ووجود كل ما سواء تعالى { أفلا تعقلون } أن لا مؤثر ولا معبود إلا الله.
[21.68-73]
{ حرقوه } أي: اتركوه يحترق بنار العشق التي أنتم أوقدتموها أولا بإلقاء الحقائق والمعارف إليه التي هي حطب تلك النار عند رؤيته ملكوت السموات والأرض بإراءة الله إياه، كما قال:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض
[الأنعام، الآية: 75] وإشراق الأنوار الصفاتية والأسمائية عند تجليات الجمال والجلال عليه من وراء أستار أعيانكم التي هي منشأة اتقاد تلك النار { وانصروا آلهتكم } أي: معشوقاتكم ومعبوداتكم في الإمداد بتلك الأنوار وإيقاد تلك النار { إن كنتم فاعلين } بأمر الحق.
{ يا نار كوني بردا وسلاما } بالوصول حال الفناء، فإن لذة الوصول تفيد الروح الكامل والسلامة عن نقص الحدثان وآفة النقصان والإمكان في عين نار العشق { وأرادوا به كيدا } بإفنائه وإحراقه { فجعلناهم الأخسرين } الأنقصين منه كمالا ورتبة { ونجيناه } ولوط العقل بالبقاء بعد الفناء بالوجود الحقاني الموهوب إلى أرض الطبيعة البدنية { التي باركنا فيها } بالكمالات العملية المثمرة والآداب الحسنة المفيدة والشرائع والملكات الفاضلة { للعالمين } أي: المستعدين لقبول فيضه وتربيته وهدايته.
{ ووهبنا له إسحاق } القلب للرد إلى مقامه بتكميل الخلق حال الرجوع عن الحق { ويعقوب } النفس المرتاضة الممتحنة بالبلاء، المطمئنة باليقين والصفاء { نافلة } متنورة بنور القلب متولدة منه { وكلا جعلنا صالحين } بالاستقامة والتمكين في الهداية { وجعلناهم أئمة } لسائر القوى والنفوس الناقصة المستعدة { يهدون بأمرنا } أما الروح فبالأحوال والمشاهدات والأنوار، وأما القلب فبالمعارف والمكاشفات والأسرار، وأما النفس فبالأخلاق والمعاملات والآداب، وهي المراد بقوله: { وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } بالتوحيد والعبودية الحقة في مقام التجريد والتفريد، وهذا هو تطبيق ظاهر إبراهيم على باطنه. وقد يمكن أن يؤول بضرب آخر من التأويل مناسب لما قال النبي عليه السلام:
" كنت أنا وعلي نورين نسبح الله تعالى ونحمده ونهلله، وسبحته الملائكة بتسبيحنا وحمدته بتحميدنا، وهللته بتهليلنا. فلما خلق آدم عليه السلام انتقلنا إلى جبهته ومن جبهته إلى صلبه إلى شيث "
. إلى آخر الحديث. وهو: أن الروح الإبراهيمي، قدسه الله تعالى، كان كاملا في أول مراتب صفوف الأرواح مفيضا على أطوار الملكوت كمالاتهم، جابرا لنقصهم، كاسرا لأصنام أعيان الموجودات وآلهة الذوات الممكنات من المادية والمجردات بنور التوحيد طاويا لمراتب الكمالات، ذاويا للواقفين مع الصفات والمحجوبين بالغير عن الذات، فوضعه نمروذ النفس الطاغية، العاصية، وقواها التي هي قومه، في منجنيق الذكر والقوة في نار حرارة طبيعة الرحم، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، أي: روحا وبراءة من الآفات، أي: وضعوا درة وجوده التي هي مظهر روحه ونجيناه إلى أرض البدن التي باركنا فيها للعالمين بهدايته إياهم وتكميله وتربيته لهم فيها بالعلوم والأعمال التي هي أرزاقهم الحقيقية وأوصافهم الكمالية.
[21.74-78]
واذكر لوط القلب { آتيناه } حكمة { وعلما ونجيناه من } أهل قرية البدن { التي كانت تعمل } خبائث الشهوات الفاسدة { فاسقين } بإتيانهم الأمور لا من جهتنا المأمورين بها ومباشرتهم الأعمال لا على ما ينبغي من وجه الشرع والعقل { وأدخلناه في رحمتنا } الرحيمية ومقام تجلي الصفات { إنه من الصالحين } العاملين بالعلم الثابتين على الاستقامة. ونوح العقل { إذ نادى } من جهة قدم القلب، واستدعى الله الكمال اللاحق { فاستجبنا له } بإفاضة كماله على مقتضى استعداده وإبرازه إلى الفعل { فنجيناه } فنجينا القوى القدسية والفكرية والحمدية وسائر القوى العقلية { من الكرب } الذي هو كون كمالاتها بالقوة، إذ كل ما هو كامن من الشيء بالقوة كرب له، يطلب التنفيس بالظهور والبروز إلى الفعل وكلما كان الاستعداد أقوى والكمال الممكن له، الكامن فيه، أتم، كان الكرب أعظم.
{ ونصرناه من القوم } أي: القوى النفسانية والبدنية المكذبين بآيات المعقولات والمحرمات { إنهم كانوا قوم سوء } يمنعونه من الكمال والتجريد ويحجبونه عن الأنوار بالتكذيب { فأغرقناهم } في يم القطران الهيولاني والبحر العميق الجسماني { أجمعين }.
{ وداود } العقل النظري الذي هو في مقام السر { وسليمان } العقل العلمي الذي هو في مقام الصدر { إذ يحكمان في الحرث } أي: فيما في أرض الاستعداد من الكمالات المودعة فيه، المخزونة في الأزل، والمغروزة في الفطرة الناشئة عند التوجه إلى الظهور والبروز { يحكمان } فيه بالعلم والعمل والفكر والرياضة في تثميرها وإيناعها وإدراكها.
{ إذ نفشت فيه } انتشرت فيه بالإفساد في ظلمة ليل غلبة الطبيعة البدنية والصفات النفسانية { غنم القوم } أي: القوى البهيمية الشهوانية { وكنا لحكمهم } على مقتضى أحوالهم حاضرين، إذ كان الحكم بأمرنا وعلى أعيننا، ومقتضى إرادتنا، فحكم داود السر على مقتضى الذوق بتسليم غنم القوى الحيوانية البهيمية إلى أصحاب الحرث من القوى الروحانية بالملكية ليذبحوها ويميتوها بالاستيلاء والقهر والغلبة، ويغتذوا بها. وحكم سليمان العقل العلمي على مقتضى العلم بتسليط القوى الروحانية عليها لينتفعوا بألبانها من العلوم النافعة والإدراكات الجزئية والأخلاق والملكات الفاضلة ويروضوها بالتهذيب والتأديب وإقامة أصحاب الغنم من النفس وقواها الحيوانية كالغضبية والمتحركة والمتخيلة والوهمية وأمثالها بعمارة الحرث وإصلاح ما في أرض الاستعداد بالطاعات والعبادات والرياضات من باب الشرائع والأخلاق والآداب وسائر الأعمال الصالحات حتى يعود الحرث ناضرا بالغا إلى حد الكمال، لترد الغنم إلى أصحابها عند حصول الكمال، فتصير محفوظة مرعية مسوسة مهذبة في الأعمال البهيمية بفضيلة العفة، ويرد الحرث إلى أربابه من الروح وقواه يانعا مثمرا بالعلوم والحكم، متزينا بأزهار المعارف والحقائق وأنوار التجليات والمشاهدات.
[21.79-82]
ولهذا قال: { ففهمناها سليمان } فإن العمل بالتقوى والرياضة على وفق الشرع والحكمة العملية أبلغ في تحصيل الكمال وإبرازه إلى الفعل من العلم الكلي والفكر والنظر والذوق والكشف { وكلا آتينا حكما وعلما } إذ كل منهما على الصواب في رأيه والحكمة النظرية والعملية والمكاشفة والمعاملة كلتاهما متعاضدتان في طلب الكمال، متوافقتان في تحصيل كرم الخصال بهما.
{ وسخرنا مع داود } الفؤاد، جبال الأعضاء { يسبحن } بألسنة خواصها التي أمرن بها ويسرن معه بسيرتها المخصوصة بها فلا تعصي ولا تمتنع عليه، فتكل وتثقل وتأبى أمره، بل تسير معه مأمورة بأمره، منقادة مطواعة لتأدبها وارتياضها وتعودها بأمره، وتمرنها في الطاعات والعبادات، وطير القوى الروحانية يسبحن بالأذكار والأفكار والطيران في فضاء أرواح الأنوار { وكنا } قادرين على ذلك التسخير.
{ وعلمناه صنعة لبوس لكم } من الورع والتقوى ونعم الدرع الحصين الورع { لتحصنكم من } بأس القوى الغضبية السبعية واستيلاء الحرص والدواعي الطبيعية والقوى الوهمية الشيطانية { فهل أنتم شاكرون } حق هذه النعمة بالتوجه إلى الحضرة الربانية بالكلية.
{ ولسليمان } أي: سخرنا لسليمان العقل العملي المتمكن على عرش النفس في الصدر ريح الهوى { عاصفة } في هبوبها { تجري بأمره } مطيعة له إلى أرض البدن المتدرب بالطاعة والأدب { التي باركنا فيها } بتثمير الأخلاق والملكات الفاضلة والأعمال الصالحة { وكنا بكل شيء } من أسباب الكمال { عالمين }.
{ ومن } شياطين الوهم والتخيل { من يغوصون له } في بحر الهيولى الجسمانية يستخرجون درر المعاني الجزئية { ويعملون عملا دون ذلك } من التركيب والتفصيل والمصنوعات وبهيج الدواعي المكسوبات وأمثالها { وكنا لهم حافظين } عن الزيغ والخطأ والتسويل الباطل والكذب.
[21.83-88]
{ وأيوب } النفس المطمئنة الممتحنة بأنواع البلاء في الرياضة البالغة كمال الزكاء في المجاهدة { إذ نادى ربه } عند شدة الكرب في الكد وبلوغ الطاقة والوسع في الجد والجهد { أني مسني الضر } من الضعف والانكسار والعجز { وأنت أرحم الراحمين } بالتوسعة والروح { فاستجبنا له } بروح الأحوال عن كد الأعمال عند كمال الطمأنينة ونزول السكينة { وكشفنا ما به من ضر } الرياضة بنور الهداية ونفسنا عنه ظلمة الكرب بإشراق نور القلب { وآتيناه أهله } القوى النفسانية التي ملكناها وأمتناها بالرياضة بإحيائها بالحياة الحقيقية { ومثلهم معهم } من إمداد القوى الروحانية وأنوار الصفات القلبية ووفرنا عليهم أسباب الفضائل الخلقية وأحوال العلوم النافعة الجزئية { رحمة من عندنا وذكرى للعابدين }.
{ وذا النون } أي: الروح الغير الواصل إلى رتبة الكمال { إذ ذهب } بالمفارقة عن البدنية { مغاضبا } عن قومه، القوى النفسانية لاحتجابها وإصرارها على مخالفته وإبائها واستكبارها عن طاعته { فظن أن لن نقدر عليه } أي: لن نستعمل قدرتنا فيه بالابتلاء بمثل ما ابتلي به، أو: لن نضيق عليه، فالتقمه حوت الرحمة لوجوب تعلقه بالبدن في حكمتنا للاستعمال { فنادى } في ظلمات المراتب الثلاث من الطبيعة الجسمانية والنفس النباتية والحيوانية بلسان الاستعداد { أن لا إله إلا أنت } فأقر بالتوحيد الذاتي المركوز فيه عند العهد السابق وميثاق الفطرة والتنزيه المستفاد من التجرد الأول في الأزل بقوله: { سبحانك } واعترف بنقصانه وعدم استعمال العدالة في قومه فقال: { إني كنت من الظالمين فاستجبنا له } بالتوفيق بالسلوك والتصبير بنور الهداية إلى الوصول { ونجيناه } من غم النقصان والاحتجاب بنور التجلي ورفع الحجاب { وكذلك ننجي المؤمنين } بالإيمان التحقيقي الموقنين.
[21.89-91]
{ وزكريا } الروح الساذج عن العلوم { إذ نادى ربه } في استدعاء الكمال بلسان الاستعداد، واستوهب يحيى القلب لتنتعش فيه العلوم، وشكا انفراده عن معاضدة القلب في قبول العلم وحيازة ميراثه مع علمه بأن الفناء في الله خير من الكمال العملي حيث قال: { وأنت خير الوارثين } من القلب وغيره { ووهبنا له يحيى } القلب بإصلاح زوجه النفس العاقر لسوء الخلق وغلبة ظلمة الطبع عليها بتحسين أخلاقها وإزالة الظلمة الموجبة للعقر عنها { إنهم } إن أولئك الكمل من الأنبياء { كانوا يسارعون في الخيرات } أي: يسابقون إلى المشاهدات التي هي الخيرات المحضة بالأرواح { ويدعوننا } لطلب المكاشفات بالقلوب { رغبا } إلى الكمال { ورهبا } من النقصان أو رغبا إلى اللطف والرحموت في مقام تجليات الصفات ورهبا من القهر والعظموت { وكانوا لنا خاشعين } بالنفوس.
{ والتي أحصنت } أي: النفس الزكية الصافية المستعدة العابدة التي أحصنت فرج استعدادها ومحل تأثير الروح من باطنها بحفظه من مسافحي القوى البدنية فيها { فنفخنا فيها } من تأثير روح القدس بنفخ الحياة الحقيقية فولدت عيسى القلب { وجعلناها } مع القلب علامة ظاهرة وهداية واضحة { للعالمين } من القوى الروحانية والنفوس المستعدة المستبصرة يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
[21.92-95]
{ إن هذه } الطريقة الموصلة إلى الحقيقة وهي طريقة التوحيد المخصوصة بالأنبياء المذكورين طريقتكم أيها المحققون السالكون، طريقة { واحدة } لا اعوجاج ولا زيغ ولا انحراف عن الحق إلى الغير ولا ميل { وأنا } وحدي { ربكم } فخصصوني بالعبادة والتوجه ولا تلتفتوا إلى غيري { وتقطعوا } أي: تفرق المحجوبون الغائبون عن الحق، الغافلون في أمر الدين وجعلوا أمر دينهم قطعا يتقسمونه { بينهم } ويختارون السبل المتفرقة بالأهواء المختلفة { كل إلينا راجعون } على أي مقصد وأية طريقة وأية وجهة كانوا فنجازيهم بحسب أعمالهم وطرائقهم.
{ فمن } يتصف بالكمالات العملية { وهو } عالم موقن فسعيه مشكور غير مكفور في القيامة الوسطى والوصول إلى مقام الفطرة الأولى { وإنا } لصورة ذلك السعي لكاتبون في صحيفة قلبه فيظهر عليه عند التجرد أنوار الصفات وممتنع { على قرية } حكمنا بإهلاكها وشقاوتها في الأزل رجوعهم إلى الفطرة من الاحتجاب بصفات النفس في النشأة.
[21.96-103]
{ حتى إذا فتحت يأجوج } القوى النفسانية { ومأجوج } القوى البدنية بانحراف المزاج وانحلال التركيب { وهم من كل حدب } من أعضاء البدن التي هي محالها ومقارها { ينسلون } الذهاب والزوال { واقترب الوعد الحق } من وقوع القيامة الصغرى بالموت، فحينئذ شخصت أبصار المحجوبين لشدة الهول والفزع، داعين بالويل والثبور، ومعترفين بالظلم والقصور.
{ إنكم وما تعبدون } أي: كل عابد منكم لشيء سوى الله محجوب به عن الحق، مرمي مع معبوده الذي وقف معه في طبقة من طبقات جهنم، البعد والحرمان على حسب مرتبة معبوده { لهم فيها زفير } من ألم الاحتجاب وشدة العذاب واستيلاء نيران الأشواق وطول مدة الحرمان والفراق { وهم فيها لا يسمعون } كلام الحق والملائكة لتكاثف الحجاب وشدة طرق مسامع القلب لقوة الجهل كما لا يبصرون الأنوار لشدة انطباق الظلمة وعمى البصيرة.
{ إن الذين سبقت لهم منا } السعادة { الحسنى } وحكمنا بسعادتهم في القضاء السابق { أولئك عنها مبعدون } لتجردهم عن الملابس النفسانية والغشاوات الطبيعية { لا يسمعون حسيسها } لبعدهم عنها في الرتبة { وهم في ما اشتهت } ذواتهم من الجنات الثلاث وخصوصا المشاهدات في جنة الذات { خالدون } { لا يحزنهم الفزع الأكبر } بالموت في القيامة الصغرى ولا بتجلي العظمة والجلال في القيامة الكبرى { وتتلقاهم الملائكة } عند الموت بالبشارة أو عند البعث النفساني بالسلامة والنجاة، أو في القيامة الوسطى والبعث الحقيقي بالرضوان أو عند الرجوع إلى البقاء بعد الفناء حال الاستقامة بالسعادة التامة.
[21.104-112]
{ يوم نطوي السماء } أي: لا يحزنهم يوم نطوي سماء النفس بما فيها من صور الأعمال وهيئات الأخلاق في الصغرى { كطي } الصحيفة للمكتوبات التي فيها، أي: كما تطوى ليبقى ما فيها محفوظا، أو سماء القلب بما فيها من العلوم والصفات والمعارف والمعقولات في الوسطى، أو سماء الروح بما فيها من العلوم من المشاهدات والتجليات في الكبرى { كما بدأنا أول خلق نعيده } بالبعث في النشأة الثانية على الأول أو بالرجوع إلى الفطرة الأولى على الثاني أو بالبقاء بعد الفناء على الثالث.
{ ولقد كتبنا في } زبور القلب { من بعد الذكر } في اللوح أن أرض البدن يرثها القوى الصالحة المنورة بنور السكينة بعد إهلاك الفواسق بالرياضة. أو: ولقد كتبنا في زبور اللوح المحفوظ من بعد الذكر في أم الكتاب { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } من الروح والسر والقلب والعقل والنفس وسائر القوى بالاستقامة بعد إهلاك الصالحين بالفناء في الوحدة { لبلاغا } لكفاية { لقوم } عبدوا الله بالسلوك فيه { رحمة } عظيمة مشتملة على الرحيمية بهدايتهم إلى الكمال المطلق والرحمانية بأمانهم من العذاب المستأصل في زمانه لغلبة رحمته على غضبه.
[22 - سورة الحج]
[22.1-17]
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم } احذروا عقابه بالتجرد عن الغواشي الهيولانية والصفات النفسانية { إن } اضطراب أرض البدن في القيامة الصغرى للمنقسمين فيها { شيء عظيم } { يوم ترونها تذهل كل مرضعة } أي: غاذية مرضعة للأعضاء عن إرضاعها { وتضع كل ذات حمل } إرضاعها { وتضع كل ذات حمل } من القوى الحافظة لمدركاتها كالخيال والوهم والذاكرة والعاقلة { حملها } من المدركات لسكرها وذهولها وحيرتها وبهتها، أو كل قوة حاملة للأعضاء حملها وتحريكها واستقلالها بالضعف، أو كل عضو حامل لما فيه من القوة حملها بالتخلي عنها، أو كل ما يمكن فيها من الكمالات بالقوة حملها بفسادها وإسقاطها، أو كل نفس حاملة لما فيها من الهيئات والصفات من الفضائل والرذائل بإظهارها وإبرازها { وترى الناس سكارى } من سكرات الموت، ذاهلين، مغشيا عليهم { وما هم بسكارى } في الحقيقة من الشراب، ولكن من شدة العذاب.
{ وترى } أرض النفس { هامدة } ميتة بالجهل لا نبات فيها من الفضائل والكمالات. { فإذا أنزلنا عليها } ماء العلم من سماء الروح { اهتزت } بالحياة الحقيقية { وربت } بالترقي في المقامات والمراتب { وأنبتت من كل } صنف { بهيج } من الكمالات والفضائل المزينة لها { ذلك ب } سبب { أن الله هو الحق } الثابت الباقي وما سواه هو المغير الفاني { وأنه يحيي } موتى الجهل بفيض العلم في القيامة الوسطى كما يحيي موتى الطبع في القيامة الصغرى { وأن الساعة } بالمعنيين { آتية وأن الله يبعث من في القبور } أي: قبر البدن من موتى الجهل في الساعة الوسطى بالقيام في موضع القلب والعود إلى الفطرة وحياة العلم كما يبعث موتى الطبع في النشأة الثانية والقيامة الصغرى { بغير علم } أي: استدلال { ولا هدى } ولا كشف ووجدان { ولا كتاب } ولا وحي وفرقان { يدعو } مما سوى الله { ما لا يضره وما لا ينفعه } كائنا ما كان فإن الاحتجاب الغيري { هو الضلال البعيد } عن الحق وإنما كان ضره أقرب من نفعه لأن دعوته والوقوف معه يحجبه عن الحق.
[22.18]
{ يسجد له من في السموات ومن في الأرض } من الملكوت السماوية والأرضية وغيرهم مما عد ومما لم يعد من الأشياء بالانقياد والطاعة والامتثال لما أراد الله منها من الأفعال والخواص وأجرى عليها شبه تسخيرها لأمره وامتناع عصيانها لمراده وانقهارها تحت قدرته بالسجود الذي هو غاية الخضوع، ولما لم يمكن لشيء منها إلا للإنسان التابع للشيطان في ظاهر أمره دون باطنه خص عموم كثير من الناس الذين حق عليهم العذاب وحكم بشقاوتهم في الأزل وهم الذين غلبت عليهم الشيطنة ولزمتهم الزلة والشقوة { ومن يهن الله } بأن يجعل أهله قهره وسخطه ومحل عقابه وغضبه { فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء }.
[22.19-24]
{ قطعت لهم ثياب من نار } جعلت لهم ملابس من نار غضب الله وقهره، وهي هيئات وأجرام مطابقة لصفات نفوسهم المنكوسة، معذبة لها غاية التعذيب { يصب من فوق رؤوسهم } حميم الهوى، وحب الدنيا الغالب عليهم، أو حميم الجهل المركب والاعتقاد الفاسد المستعلي على جبهتهم العلوية التي تلي الروح في صورة القهر الإلهي مع الحرمان عن المراد المحبوب المعتقد فيه { يصهر به } أي: يذاب به ويضمحل { ما في } بطون استعداداتهم من المعاني القوية وما في ظاهرهم من الصفات الإنسانية والهيئات البشرية، فتتبدل معانيهم وصورهم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها.
{ ولهم مقامع } أي: سياط { من حديد } الأثيرات الملكوتية بأيدي زبانية الأجرام السماوية المؤثرة في النفوس المادية، تقمعهم بها وتدورهم من جناب القدس إلى مهاوي الرجس { كلما أرادوا } بدواعي الفطرة الإنسانيةوتقاضي الاستعداد الأولي { أن يخرجوا } من تلك النيران إلى فضاء مراتب الإنسان { من غم } تلك الهيئات السود المظلمة وكرب تلك الدركات الموجبة، ضربوا بتلك المقامع المؤلمة وأعيدوا إلى أسافل الوهدات المهلكة { و } قيل لهم: { ذوقوا عذاب الحريق }.
{ جنات } القلوب { تجري من } تحتهم أنهار العلوم { يحلون فيها من أساور } الأخلاق والفضائل المصوغة { من ذهب } العلوم العقلية والحكمة العملية { ولؤلؤا } المعارف القلبية، والحقائق الكشفية { ولباسهم فيها حرير } شعاع أنواع الصفات الإلهية والتجليات اللطيفة، وهداهم { إلى الطيب من } ذكر الصفات في مقام القلب { وإلى صراط } ذي الصفات، أي: توحيد الذات الحميدة باتصافها بتلك الصفات، تلك بعينها صراط الذات وسلم الوصول إليها بالفناء.
[22.25-26]
{ كفروا } حجبوا بالغواشي الطبيعية { ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } الذي هو صدر فناء كعبة القلب { الذي جعلناه } لناس القوى الإنسانية مطلقا { سواء } المقيم فيه من القوى العقلية الروحانية وبادي القوى النفسانية لإمكان وصولها إليه وطوافها فيه عند ترقي القلب إلى مقام السر.
{ ومن يرد فيه } من الواصلين إليه مرادا { بإلحاد } ميل إلى الطبيعة والهوى { بظلم } وضع شيء من العلوم والعبادات القلبية مكان النفسية كاستعمالها للأغراض الدنيوية وإظهارها لتحصيل اللذات البدنية من طلب السمعة والمال والجاه أو بالعكس، كمباشرة الشهوات الحسية واللذات النفسية بتوهم كونها مصالح الدارين أو تغير عن وجهها كالرياء والنفاق، أو ملحدا ظالما { من عذاب أليم } في جحيم الطبيعة.
{ وإذ بوأنا } أي: جعلنا { لإبراهيم } الروح مكان بيت القلب وهو المصدر مباءة يرجع إليها في الأعمال والأخلاق. وقيل: أعلم الله إبراهيم مكانه بعدما رفع إلى السماء أيام الطوفان بريح أرسلها، فكشف ما حولها، فبناه على أسه القديم، أي: هداه إلى مكانه بعد رفعه إلى السماء. وأيام طوفان الجهل وأمواج غلبات الطبع برياح نفحات الرحمة فكشفت ما حوله من الهيئات النفسانية والألواث الطبيعية والغبارات الهيولانية فبناه على أسه القديم من الفطرة الإنسانية { أن لا تشرك } أي: جعلناه مرجعا في بناء البيت بأحجار الأعمال وطين الحكم وجص الأخلاق، وقلنا: لا تشرك، أي: أمرناه بالتوحيد ثم بتطهير بيت القلب عن الألواث المذكورة { للطائفين } من القوى النفسانية التي تطوف حوله للتنور واكتساب الفضائل الخلقية { والقائمين } من القوى الروحانية التي تقوم عليها بإلقاء المعارف والمعاني الحكمية { والركع السجود } من القوى البدنية التي تستفيد منه صور العبادات والآداب الشرعية والعقلية، أو لهداية الطالبين من المستبصرين المتعلمين، والمجاهدين السالكين، والمتعبدين الخاضعين.
[22.27-30]
{ وأذن في الناس } بالدعوة إلى مقام القلب وزيارته { يأتوك رجالا } مجردين عن صفات النفوس { وعلى كل } نفس ضامرة بطول الرياضة والمجاهدة { يأتين من كل } طريق بعيد العمق في قعر الطبيعة { ليشهدوا منافع لهم } من الفوائد العلمية والعملية المستفادة من مقام القلب { ويذكروا اسم الله } بالاتصاف بصفاته { في أيام معلومات } من أنوار التجليات والمكاشفات { على ما رزقهم من بهيمة } أنعام النفوس المذبوحة تقربا إلى الله تعالى بحراب المخالفات وسكاكين المجاهدات { فكلوا } استفيدوا من لحوم أخلاقها وملكاتها المعينة المقوية في السلوك { وأطعموا } أي: أفيدوا { البائس } الطالب القوي النفس، الذي أصابه شدة من غلبة صفاتها واستيلاء هيئاتها للتهذيب والتأديب، والفقير الضعيف النفس، القديم العلم، الذي أضعفه عدم التعليم والتربية المحتاج إليها.
{ ثم ليقضوا } وسخ الفضول وفضلات ألواث الهيئات كقص شارب الحرص، وقلم أظفار الغضب والحقد. وفي الجملة: بقايا تلوينات النفس { وليوفوا نذورهم } بالقيام بإبراز ما قبلوه في العهد الأول من المعاني والكمالات المودعة فيهم إلى الفعل، فقضاء التفث التزكية وإزالة الموانع والإيفاء بالنذور والتحلية وتحصيل المعارف { وليطوفوا } بالانخراط في سلك الملكوت الأعلى حول عرش الله المجيد البيت القديم.
{ ذلك } أي: الأمر ذلك { ومن يعظم حرمات الله } وهي مالا يحل هتكه وتطهيره والقربان بالنفس وجميع ما ذكر من المناسك كالتحلي بالفضائل، واجتناب الرذائل، والتعرض للأنوار في التجليات، والاتصاف بالصفات، والترقي في المقامات { فهو خير له } في حضرة ربه ومقعد قربه { وأحلت لكم } أنعام النفوس السليمة بالانتفاع بأخلاقها وأعمالها في الطريقة والتمتع بالحقوق دون الحظوظ { إلا ما يتلى عليكم } في صورة المائدة من الرذائل المشتبهة بالفضائل وهي التي صدرت من النفس لا على وجهها ولا على ما ينبغي من أمرها بالرذائل المحضة، فإنها محرمة في سبيل الله على السالكين { فاجتنبوا الرجس من } أوثان الشهوات المتعبدة؛ والأهواء المتبعة، كقوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية، الآية: 23]. { واجتنبوا قول الزور } من العلوم المزخرفة والشبهات المموهة من التخيلات والموهومات، المستعملة في الجدل والخلاف والمغالطة.
[22.31-33]
{ حنفاء لله } مائلين عن الطرق الفاسدة، والعلوم الباطلة، معرضين عن كل ما يغيره من الكمالات والأعمال، ولو لنفس الكمال والتزين به فإنه حجاب { غير مشركين به } بالنظر إلى ما سواه والالتفات في طريقه إلى ما عداه. { ومن يشرك بالله } بالوقوف مع شيء والميل إليه { فكأنما خر من } سماء الروح { فتخطفه } طير الدواعي النفسانية والأهواء الشيطانية فتمزقه قطعا جذاذا { أو تهوي به } ريح هوى النفي في { مكان } بعيد من الحق ومهلكة عمياء متلفة { ومن يعظم شعائر الله } من النفوس المستعدة المسوقة نسائق التوفيق في سبيل الله ليهدي بها لوجه الله، فإن تعظيمها بتحصيل كمالها من أفعال ذي القلوب المتقية المجردة عن الصفات النفسانية والهيئات الظلمانية.
{ لكم فيها منافع } من الأعمال والأخلاق والكمالات العلمية والعملية { إلى أجل مسمى } هو الفناء في الله بالحقيقة { ثم محلها } حد سوقها وموضع وجوب نحرها بالوصول إلى حرم الصدر عند كعبة القلب إلى مقام السر، وترقي النفس إلى مقامه، فانية عن حياتها وصفاتها.
[22.34-37]
{ ولكل أمة } من القوى { جعلنا } عبادة مخصوصة بها { ليذكروا اسم الله } بالاتصاف بصفاته التي هي مظاهرها في التوجه إلى التوحيد { على ما رزقهم من } الكمال بواسطة { بهيمة } النفس التي هي من جملة { الأنعام } أي: النفوس السليمة { فإلهكم إله واحد } فوحدوه بالتوجه نحوه من غير التفات إلى غيره، وخصصوه بالانقياد والطاعة ولا تنقادوا إلا له { وبشر } المنكسرين المتذللين القابلين لفيضه.
{ الذين إذا ذكر الله } بالحضور { وجلت قلوبهم } انفعلت لقبول فيضه { والصابرين } الثابتين { على ما أصابهم } من المخالفات والمجاهدات { والمقيمي } صلاة المشاهدة { ومما رزقناهم } من الفضائل والكمالات { ينفقون } بالفناء في الله والإفاضة على المستعدين.
{ والبدن } أي: النفوس الشريفة العظيمة القدر { جعلناها } من الهدايا المعلمة لله { لكم فيها خير } سعادة وكمال { فاذكروا اسم الله عليها } بالاتصاف بصفاته وإفناء صفاتكم فيه، وذلك هو النحر في سبيل الله { صواف } قائمات بما فرض الله عليها، مقيدات بقيود الشريعة، وآداب الطريقة، واقفات عن حركاتها واضطراباتها { فإذا } سقطت عن هواها الذي هو حياتها وقوتها التي بها تستقل وتضطرب بقتلها في الله { فكلوا } استفيدوا من فضائلها وأفيدوا المستعدين والطالبين المتعرضين للطلب من المريدين { كذلك سخرناها لكم } بالرياضة { لعلكم تشكرون } نعمة الاستعداد والتوفيق باستعمالها في سبيل الله.
{ لن ينال الله } لحوم فضائلها وكمالاتها ولا إفناؤها بإزالة أهوائها التي هي دماؤها { ولكن يناله } التجرد { منكم } عنها وعن صفاتها. فإن سبب الوصول هو التجرد والفناء في الله، لا حصول الفضائل مكان الرذائل. مثل ذلك التسخير بالرياضة { سخرها لكم لتكبروا الله } بالفناء فيه عنها وعن كل شيء على النحو الذي هداكم إليه بالتجريد والتفريد والسلوك في الطريقة إلى الحقيقة { وبشر المحسنين } الشاهدين في العبودية عن البقاء والفناء حال الاستقامة والتمكين.
[22.38-41]
{ إن الله يدافع } ظلمة القوى النفسانية بالتوفيق { عن الذين آمنوا } من القوى الروحانية { إن الله لا يحب كل خوان } من القوى التي لم تؤد أمانة الله من كمالها المودع فيها بالطاعة فيها وخانت القلب بالغدر وعدم الوفاء بالعهد { كفور } باستعمال نعمة الله في معصيته.
{ أذن للذين يقاتلون } الوهم والخيال وغيرها من القوى الروحانية المجاهدين مع القوى النفسانية { ب } سبب { أنهم ظلموا } باستيلاء صفات النفس واستعلائها { الذين } أي: المظلومين الذين { أخرجوا } من مقارهم ومناصبهم باستخدامها واستعبادها في طلب الشهوات واللذات البدنية { بغير حق } لهم عليهم موجب لذلك إلا للتوحيد الموجب للتعظيم والتمكين والتوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل.
{ ولولا دفع الله } ناس القوى النفسانية { بعضهم ببعض } كدفع الشهوانية بالغضبية وبالعكس، أو ناس القوى مطلقا كدفع النفسانية بالروحانية ودفع الوهمية بالعقلية والنفسانية بعضها ببعض كما ذكر { لهدمت صوامع } رهبان السر وخلواتهم { وبيع } نصارى القلب ومحال تجلياتهم { وصلوات } يهود الصدور ومتعبداتهم { ومساجد } مؤمني الروح ومقامات مشاهداتهم وفنائهم في الله { يذكر فيها اسم الله } الأعظم بالتخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته والتحقق بأسراره والفناء في ذاته { ولينصرن الله } يقهر بنوره من بارزه بوجوده وظهوره { عزيز } يغلب من ماثله باستعلائه وجبروته.
{ الذين إن مكناهم في الأرض } بالاستقامة بالوجود الحقاني { أقاموا } صلاة المراقبة والمشاهدة { وآتوا } زكاة العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية من نصاب المكاشفة مستحقيها من الطلبة { وأمروا } القوى النفسانية والنفوس الناقصة { بالمعروف } من الأعمال الشرعية والأخلاق المرضية في مقام المشاهدة، ونهوهم { عن المنكر } من الشهوات البدنية واللذات الحسية والرذائل المردية والمعاملة { ولله عاقبة الأمور } بالرجوع إليه.
[22.42-53]
الفرق بين النبي والرسول، أن النبي هو الواصل بالفناء في مقام الولاية، الراجع بالوجود الموهوب إلى مقام الاستقامة متحققا بالحق، عارفا به، متنبئا عنه وعن ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه بأمره، مبعوثا للدعوة إليه على شريعة المرسل الذي تقدمه غير مشرع لشريعة ولا واضع لحكم وملة، مظهرا للمعجزات، منذرا أو مبشرا للناس كأنبياء بني إسرائيل إذ كلهم كانوا داعين إلى دين موسى عليه السلام غير واضعين لملة وشريعة، ومن كان ذا كتاب كداود عليه السلام كان كتابه حاويا للمعارف والحقائق والمواعظ والنصائح دون الأحكام والشرائع. ولهذا قال عليه السلام:
" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "
، وهم الأولياء العارفون، المتمكنون. والرسول هو الذي يكون له مع ذلك كله وضع شريعة وتقنين، فالنبي متوسط بين الولي والرسول.
{ إذا تمنى } ظهرت نفسه بالتمني في مقام التلوين { ألقى الشيطان في } وعاء { أمنيته } ما يناسبها لأن ظهور النفس يحدث ظلمة وسوادا في القلب يحتجب بها الشيطان ويتخذها محل وسوسته وقالب إلقائه بالتناسب { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } بإشراق نور الروح على القلب بالتأييد القدسي وإزالة ظلمة ظهور النفس وقمعها ليظهر فساد ما يلقيه ويتميز منه الإلقاء الملكي فيضمحل ويستقر الملكي { ثم يحكم الله آياته } بالتمكين { والله عليم } يعلم الإلقاءات الشيطانية وطريق نسخها من بين وحيه { حكيم } يحكم آياته بحكمته، ومن مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطاني فتنة للشاكين المنافقين المحجوبين القاسية قلوبهم عن قبول الحق وابتلاءهم لازدياد شكهم وحجابهم به، فإنهم بمناسبة نفوسهم الظلمانية وقلوبهم المسودة القاسية لا يقبلون إلا ما يلقي الشيطان، كما قال تعالى:
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم
[الشعراء، الآيات:221 - 222]. وإنهم لفي خلاف بعيد عن الحق فكيف يقبلونه.
[22.54-60]
{ وليعلم الذين أوتوا العلم } من أهل اليقين والمحققين: أن تمكن الشيطان من الإلقاء هو الحكمة والحق من ربك على قضية العدل والمناسبة { فيؤمنوا به } بأن يروا الكل من الله فتطمئن { له قلوبهم } بنور السكينة والاستقامة الموجبة لتمييز الإلقاء الشيطاني من الرحماني { وإن الله } لهاديهم إلى طريق الحق والاستقامة فلا تزل أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن لصفائها وشدة نوريتها وضيائها.
{ ولا يزال } المحجوبون { في شك منه حتى } تقوم عليهم القيامة الصغرى { لو يأتيهم عذاب } وقت هائل لا يعلم كنهه ولا يمكن وصفه من الشدة أو وقت لا مثل له في الشدة أو لا خير فيه.
{ الملك يومئذ } إذ وقع العذاب وقامت القيامة { لله } لا يمنعهم منه أحد إذا لا قوة ولا قدرة ولا حكم لغيره يفصل { بينهم } فالموقنون العاملون بالاستقامة والعدالة { في جنات } الصفات يتنعمون والمحجوبون عن الذات والمكذبون بالصفات بنسبتها إلى الغير في عذاب مهين من صفات النفوس والهيئات لاحتجابهم عن عزة الله وكبريائه وصيرورتهم في ذل قهره.
{ والذين هاجروا } عن مواطن النفوس ومقارها السفلية { في سبيل الله ثم قتلوا } بسيف الرياضة والشوق { أو ماتوا } بالإرادة والذوق { ليرزقنهم الله } من علوم المكاشفات وفوائد التجليات { رزقا حسنا } وليدخلنهم مقام الرضا { وإن الله لعليم } بدرجات استعداداتهم واستحقاقاتهم وما يجب أن يفيض عليهم من كمالاتهم { حليم } لا يعاجلهم بالعقوبة في فرطاتهم في التلوينات وتفريطاتهم في المجاهدات فيمنعهم مما تقتضيه أحوالهم ليمكنهم قبولهم ذلك. من راعى طريق العدالة في المكافأة بالعقوبة ثم مال إلى الانظلام لا إلى الظلم، لوجب في حكمة الله تأييده بالأمداد الملكوتية ونصرته بالأنوار الجبروتية، فإن الاحتياط في باب العدالة هو الميل إلى الانظلام لا إلى الظلم. قال النبي عليه السلام:
" كن عبدا لله المظلوم ولا تكن عبدا لله الظالم "
{ إن الله لعفو } يأمر بالعفو وترك المعاقبة { غفور } يغفر لمن لا يقدر على العفو.
[22.61-78]
{ ذلك } الغفران عند ظهور النفس في المعاقبة أو التأييد والنصر عند رعاية العدالة فيها مع الانظلام في الكرة الثانية { ب } سبب { أن الله يولج } ليل ظلمة النفس في نور نهار القلب بحركتها واستيلائها عليه، فينبعث إلى المعاقبة { ويولج } نور نهار القلب في ظلمة النفس فيعفو، وكل بتقديره وتصريفه قدرته { وأن الله سميع } لنياتهم { بصير } بأعمالهم، يعاملهم على حسب أحوالهم.
{ ما قدروا الله حق قدره } أي: ما عرفوه حق معرفته إذ نسبوا التأثير إلى غيره، وأثبتوا وجودا لغيره، إذ كل عارف به لا يعرف منه إلا ما وجد في نفسه من صفاته ولو عرفوه حق معرفته لكانوا فانين فيه، شاهدين لذاته وصفاته، عالمين أن ما عداه ممكن موجود بوجوده، قادر بقدرته لا بنفسه، فكيف له وجود وتأثير { إن الله لقوي } يقهر ما عداه بقوة قهره فيفنيه فلا وجود ولا قوة له { عزيز } يغلب كل شيء فلا قدرة له.
{ يا أيها الذين آمنوا } الإيمان اليقيني { اركعوا } بفناء الصفات { واسجدوا } بفناء الذات { واعبدوا ربكم } في مقام الاستقامة بالوجود الموهوب، فإن من بقي منه بقية لم يمكنه أن يعبد الله حق عبادته إذ العبادة إنما تكون بقدر المعرفة { وافعلوا الخير } بالتكميل والإرشاد { لعلكم تفلحون } بالنجاة من وجود البقية والتلوين { وجاهدوا في الله حق جهاده } أي: بالغوا في المعبودية حتى لا تكون بأنفسكم وأنائيتكم وهو المبالغة في التحذير عن وجود التلوين لأن من نبض منه عرق الأنائية لم يجاهد في الله حق جهاده، إذ حق الجهاد فيه هو الفناء بالكلية بحيث لا عين له ولا أثر، وذلك هو الاجتهاد في ذاته.
{ وهو اجتباكم } بالوجود الحقاني لا غيره، فلا تلتفتوا إلى غيره بظهور أنائيتكم { وما جعل عليكم في } دينه { من حرج } من كلفة ومشقة في العبادة فإنه ما دامت النفس باقية أو يجد العابد من القلب والروح بقية ولم يستقر بنور التوحيد ولم يستحكم مقام التفريد لم يكن في العبادة روح تام وذوق عام، ولا يخلو من حرج وضيق وكلفة ومشقة، وإما إذا تمكن في الاستقامة، وتصفى في المحبة التامة وجد السعة والروح.
{ ملة } أي: أعني وأخص ملة { أبيكم } الحقيقي { إبراهيم } التي هي التوحيد المحض. ومعنى أبوته: كونه مقدما في التوحيد، مفيضا على كل موحد، فكلهم من أولاده { هو } أي: إبراهيم، أو الله تعالى { سماكم المسلمين } الذين أسلموا ذواتهم إلى الله بالفناء فيه وجعلكم علماء في الإسلام أولا وآخرا وهو معنى قوله: { من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم } بالتوحيد، رقيبا يحفظكم في مقامه بالتأييد حتى لا تظهر منكم بقية { وتكونوا شهداء على الناس } بتكميلهم، مطلعين على مقاماتهم ومراتبهم، تفيضون عليهم أنوار التوحيد إن قبلوا { فأقيموا } صلاة الشهود الذاتي فإنكم على خطر لشرف مقامكم وعز مرامكم { وآتوا الزكاة } بإفاضة الفيض على المستعدين وتربية الطالبين المستبصرين فإنه شكر حالكم وعبادة مقامكم { واعتصموا } في ذلك الإرشاد { بالله } بأن لا تروه من نفسكم وتكونوا به متخلقين بأخلاقه { هو مولاكم } في مقام الاستقامة بالحقيقة وناصركم في الإرشاد بدوام الإمداد { فنعم المولى ونعم النصير } وهو الموفق.
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1-11]
{ قد أفلح } دخل في الفوز الأعظم الموقنون { الذين هم } في صلاة حضور القلب { خاشعون } باستيلاء الخشية والهيبة عليهم لتجلي نور العظمة لهم { والذين هم عن اللغو } أي: الفضول { معرضون } لاشتغالهم بالحق { والذين هم للزكاة فاعلون } بالتجرد عن صفاتهم { والذين هم لفروجهم } وأسباب لذاتهم وشهواتهم { حافظون } بترك الحظوظ والاقتصار على الحقوق { فمن ابتغى وراء ذلك } بالميل إلى الحظوظ { فأولئك هم } المرتكبون العدوان على أنفسهم { والذين هم لأماناتهم } من أسراره التي أودعهم الله إياها في سرهم { وعهدهم } الذي عاهدهم الله عليه في بدء الفطرة { راعون } بالأداء إليه والإحياء به { والذين هم على } صلاة مشاهدة أرواحهم { يحافظون } { أولئك } الموصوفون بهذه الصفات { هم الوارثون } { الذين يرثون } فردوس جنة الروح في حظيرة القدس.
[23.12-22]
{ ثم أنشأناه خلقا آخر } غير هذا المتقلب في أطوار الخلقة بنفخ روحنا فيه وتصويره بصورتنا، فهو في الحقيقة خلق وليس بخلق { لميتون } بالطبيعة.
{ ثم إنكم يوم القيامة } الصغرى { تبعثون } في النشأة الثانية، أو ميتون بالإرادة، ويوم القيامة الوسطى تبعثون بالحقيقة، أو ميتون بالفناء ويوم القيامة الكبرى تبعثون بالبقاء { فوقكم } أي: فوق صوركم وأجسامكم { سبع طرائق } عن الغيوب السبعة المذكورة { وما كنا } عن خلقها { غافلين } فإن الغيب لنا شهادة { وأنزلنا } من سماء الروح ماء العلم اليقيني { فأسكناه } فجعلناه سكينة في النفس { وإنا على ذهاب به لقادرون } بالاحتجاب والاستتار { فأنشأنا لكم به جنات } من نخيل الأحوال والمواهب وأعناب الأخلاق والمكاسب { لكم فيها فواكه كثيرة } من ثمرات لذات النفوس والقلوب والأرواح { ومنها } تقوتون وبها تتقون { وشجرة } التفكر { تخرج من طور } الدماغ أو طور القلب الحقيقي بقوة العقل { تنبت } ما تنبت من المطالب ملتبسا بدهن استعداد الاشتعال بنور نار العقل الفعال { وصبغ } لون نوري أو ذوق حالي للمستبصرين المتعلمين المستطعمين للمعاني { وإن لكم في } أنعام القوى الحيوانية { لعبرة } تعتبرون بها من الدنيا إلى الآخرة { نسقيكم مما في بطونها } من المدركات والعلوم النافعة { ولكم فيها منافع كثيرة } في السلوك { ومنها تأكلون } تتقوتون بالأخلاق { وعليها وعلى } فلك الشريعة الحاملة إياكم في البحر الهيولاني { تحملون } إلى عالم القدس بقوة التوفيق.
[23.23-41]
{ فأوحينا إليه أن اصنع } فلك الحكمة العملية والشريعة النبوية { بأعيننا } على محافظتنا إياك عن الزلل في العمل { ووحينا } بالعلم والإلهام { فإذا جاء أمرنا } بإهلاك القوى البدنية والنفوس المنغمسة المادية { وفار } تنور البدن باستيلاء المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة { فاسلك فيها من كل زوجين } أي: من كل شيء صنفين من الصور الكلية والجزئية أعني صورتين اثنتين إحداهما كلية نوعية والأخرى جزئية شخصية { وأهلك } من القوى الروحانية والنفوس المجردة الإنسانية ممن تشرع بشريعتك { إلا من سبق عليه القول } بإهلاكه من زوجتك النفس الحيوانية والطبيعة الجسمانية { ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا } من القوى النفسانية والنفوس المنغمسة الهيولانية بالاستيلاء على القوى الروحانية والنفوس المجردة الإنسانية وغصب مناصبهم { إنهم مغرقون } في البحر الهيولاني.
{ فإذا استويت } بالاستقامة في السير إلى الله، فاتصف بصفات الله التي هي الحمد القلبي على نعمة الإنجاء من ظلمة الجنود الشيطانية { وقل رب أنزلني منزلا مباركا } هو مقام القلب الذي بارك الله فيه بالجمع بين العالمين وإدراك المعاني الكلية والجزئية وأمنه من طوفان بحر الهيولى وطغيان مائه { إن في ذلك لآيات } دلائل ومشاهدات لأولي الألباب { وإن كنا } ممتحنين إياهم ببليات صفات النفوس والتجريد عنها بالرياضة، أو ممتحنين العقلاء بالاعتبار بأحوالهم عند الكشف عن حالاتهم وحكاياتهم.
[23.42-61]
{ ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } في النشأة الثانية { وجعلنا ابن مريم } القلب { وأمه } النفس المطمئنة { آية } واحدة باتحادهما في التوجه والسير إلى الله وحدوث القلب منها عند الترقي { وآويناهما إلى ربوة } مكان مرتفع بترقي القلب إلى مقام الروح وترقي النفس إلى مقام القلب { ذات } استقرار وثبات وتمكن يستقر فيها لخصبها { ومعين } وعلم يقين مكشوف ظاهر.
{ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين } { نسارع لهم في الخيرات } أي: ليس التمتيع باللذات الدنيوية والإمداد بالحظوظ الفانية هو مسارعتنا لهم في الخيرات كما حسبوا، إنما المسارعة فيها هو التوفيق لهذه الخيرات الباقية وهي الإشفاق بالانفعال والقبول من شدة الخشية عند تجلي العظمة والإيقان العيني بآيات تجلي الصفات الربانية والتوحيد الذاتي بالفناء في الحق، والقيام بهداية الخلق وإعطاء كمالاتهم في مقام البقاء مع الخشية من ظهور البقية في الرجوع إلى عالم الربوبية من الذات الأحدية وهو السبق في الخيرات وإليها ولها.
[23.62-95]
{ ولا نكلف نفسا إلا وسعها } أي: لا نكلف كل أحد بمقامات السابقين فإنها مقامات لا يبلغها إلا الأفراد كما قيل: جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد، بل كل مكلف بما يقتضيه استعداده بهويته من كماله اللائق به. وهو غاية وسعه. { ولدينا كتاب } هو اللوح المحفوظ أو أم الكتاب { ينطق بمراتب استعداد كل نفس وحدود كمالاتها وغاياتها، وما هو حق كل منها { وهم لا يظلمون } بمنعهم عنه وحرمانهم إذا جاهدوا فيه وسعوا في طلبه بالرياضة، بل يعطى كل ما أمكنه الوصول إليه وما يشتاقه في السلوك إليه.
{ بل } قلوب المحجوبين { في غمرة } غشاوات الهيولى وغفلة غامرة { من هذا } السبق وطلب الحق { ولهم أعمال } على خلاف ذلك موجبة للبعد عن هذا الباب تكاثف الحجاب، أي: كما أن أعمال السابقين موجبة للترقي في التنور كشف الغطاء والوصول إلى الحق، فأعمالهم موجبة للتسفل والتكدر وغلظ الحجاب والطرد عن باب الحق لكونها في طلب الدنيا وشهواتها وهوى النفس ولذاتها. { هم لها عاملون } دائبون عليها مواظبون. وكلما سمعوا ذكر الآيات والكمالات ازدادوا عتوا وانهماكا في الغي، واستكبارا وتعمقا في الباطل، وهو النكوص على الأعقاب إلى مهاوي جحيم الطبيعة. ولما أبطلوا استعداداتهم وأطفؤوا أنوارها بالرين والطبع على مقتضى قوى النفس والطبع واشتد احتجابهم بالغواشي الهيولانية والهيئات الظلمانية عن نور الهدى والعقل، لم يمكنهم تدبر القول ولم يفهموا حقائق التوحيد والعدل، فنسبوه إلى الجنة ولم يعرفوه للتقابل بين النور والظلمة والتضاد بين الباطل والحق وأنكروه وكرهوا الحق الذي جاء به.
{ ولو اتبع الحق } الذي هو التوحيد والعدل، أي الدعوة إلى الذات والصفات { أهواءهم } المتفرقة في الباطل، الناشئة من النفوس الظالمة، المظلمة، المحتجبة بالكثرة عن الوحدة لصار باطلا لانعدام العدل الذي قامت به السموات والأرض والتوحيد الذي قامت به الذوات المجردة، إذ بالوحدة بقاء حقائق الأشياء، وبظلها الذي هو العدل ونظام الكثرات قوام الأرض والسماء فلزم فساد الكل.
الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة في النفس ووجود المحبة في القلب وشهود الوحدة في الروح. والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات وعن العقل بالحس وعن القدس بالرجس إنما هم منهمكون في الظلم والبغضاء والعداوة والركون إلى الكثرة، فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضده، فهو في واد وهم في واد.
[23.96-118]
{ ادفع بالتي هي أحسن السيئة } أي: إذا قابلك أحد بسيئة فتثبت في مقام القلب وانظر أي الحسنات أحسن في مقابلتها لتنقمع بها نفس صاحبك وتنكسر فترجع عن السيئة وتندم ولا تدع نفسك تظهر وتقابله بمثلها فتزداد حدة نفسه وسورتها وتزيد في السيئة، فإنك إن قابلته بحسن الحسنات، ملكت نفسك، وغلبت شيطانك، وثبت قلبك، واستقمت على ما أمرك الله به، وحصلت على فضيلة الحلم، وتمكنت على مقتضى العلم، واستقررت في طاعة الرحمن ومعصية الشيطان، وأضفت إلى حسنتك إصلاح نفس صاحبك وملكتها إن كان فيه أدنى مسكة وقومتها وشددتها، وتلك حسنة أخرى لك، فكنت حائزا للحسنيين وإن عكست كنت جامعا للسوأيين { نحن أعلم بما يصفون } أي: كل المسيء إلى علم الله. واعلم أن الله عالم به، فيجازيه عنك إن كان مستحقا للعقوبة وهو أقدر منك عليه أو يعفو عنه إن أمكن رجوعه وعلم صلاحه بالعفو عنه. واستعذ بالله من سورة الغضب وظهور النفس بنخس الشيطان وهمزه إياها ومن حضوره وقربه، أي: توجه إلى ربك مستعيذا به قائلا: { رب أعوذ بك } منخرطا في سلك التوجه إلى جنابه بالقلب واللسان والأركان لائذا ببابه من تحريضات اللعين ودواعيه وحضوره، فيصير مقهورا مرجوما مطرودا.
والموصوف بالسيئة الواصف لك بها، الذاكر لك بالسوء، إن بقي على حاله حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب وعاين وحشة هيئات السيئات تمنى الرجوع وأظهر الندامة ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك ولم يحصل إلا على الحسرة والندامة والتلفظ بألفاظ التحسر والندم، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة { ومن ورائهم } أي: أمام رجوعهم حائل من هيئات جرمانية ظلمانية مناسبة لهيئات سيئاتهم من الصور المعلقة، مانعة من الرجوع إلى الحق وإلى الدنيا، وهو البرزخ بين بحري النور والظلمة وعالم الأرواح المجردة والأجساد المركبة يتعذبون فيه بأشد أنواع العذاب، وأفحش أصناف العقاب إلى وقت البعث في الصورة الكثيفة عند النفخ في الصور ووقوع القيامة وحشر الأجساد، وحينئذ { فلا أنساب بينهم } لاحتجاب بعضهم عن بعض بالهياكل المناسبة لأخلاقهم وأعمالهم وهيئاتهم الراسخة في نفوسهم المكتوبة عليهم، فلا يتعارفون { ولا يتساءلون } لشدة ما بهم من الأهوال وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال، وتنقطع العلائق والوصل التي كانت بينهم لتفرقهم بأنواع العذاب وأسباب الحجاب، وتتغير صورهم وجلودهم وتتبدل أشكالهم ووجوههم على حسب اقتضاء معايبهم وصفات نفوسهم، وهو معنى قوله: { تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون } وذلك غلبة الشقوة وسوء العاقبة الموجبة للخسء والطرد والبعد واللعن كخسء الكلاب.
{ لبثنا يوما أو بعض يوم } قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين: الاحتجاب في البرزخ المذكور، فالصور المذكور أنساهم مدة اللبث وإنما استقصروها لانقضائها وكل منقض فهو ليس بشي، ولهذا صدقهم بقوله: { إن لبثتم إلا قليلا } ومعنى: { لو أنكم كنتم تعلمون } إنكم حسبتموها كثيرا فاغتررتم بها وفتنتم بلذاتها وشهواتها، ولو علمتموها قليلا لتزودتم وتجردتم عن تعلقاتها. { رب اغفر } هيئات المعلقات { وارحم } بإفاضة الكمالات { وأنت خير الراحمين }.
[24 - سورة النور]
[24.1-34]
{ إن الذين جاؤوا بالإفك } إلى قوله: { لهم مغفرة ورزق كريم } إنما عظم أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه بما لم يغلظ في غيره من المعاصي، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ فيه في باب الزنا وقتل النفس المحرمة لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية إنما يكون على حسب القوة التي هي مصدرها. وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسية وتوريطه في المهالك الهيولانية والمهاوي الظلمانية على حسب تفاوت مباديها. فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف، كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ وبالعكس، لأن الرذيلة ما تقابل الفضيلة. فلما كانت الفضيلة أشرف كان ما يقابلها من الرذيلة أخس، والإفك رذيلة القوة الناطقة التي هي أشرف القوى الإنسانية، والزنا رذيلة القوة الشهوانية، والقتل رذيلة القوة الغضبية فبحسب شرف الأولى على الباقيتين تزداد رداءة رذيلتها، وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنسانا وترقيه إلى العالم العلوي، وتوجهه إلى الجناب الإلهي، وتحصيله للمعارف والكمالات، واكتسابه للخيرات والسعادات، إنما يكون بها، فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها واحتجب عن النور باستيلاء الظلمة، حصلت الشقاوة العظمى وحقت العقوبة بالنار وهو الرين والحجاب الكلي لقوله:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين، الآيات:14-15] ولهذا وجب خلود العقاب ودوام العذاب بفساد الاعتقاد دون فساد الأعمال
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء، الآية:48]. وأما الباقيتان فرذيلة كل منهما إنما تعود بظهورها على النطقية الملكية ثم ربما محيت بانقهارها وتسخرها لها عند سكون هيجانها وفتور سلطانها باستيلاء غلبة النور وتسلطها عليها بالطبع، كحال النفس اللوامة عند التوبة والندامة. وربما بقيت بالإصرار وترك الاستغفار، وفي الحالين لا تبلغ رذيلتهما مقام السر ومحل الحضور ومناجاة الرب، ولا تتجاوز حد الصدر. ولا تصير الفطرة بها محجوبة الحقيقة منكوسة بخلاف تلك، ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الإلهية من السبعية والبهيمية وأبعد بما لا يقدر قدره؟ فالإنسان برسوخ رذيلة النطقية يصير شيطانا، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع وكل حيوان أرجى صلاحا وأقرب فلاحا من الشيطان ولهذا قال تعالى:
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم
[الشعراء، الآيات:221-222]، ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان، فإن ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه، فيكون أخس منه وأذل، محروما من فضل الله الذي هو نور هدايته، محجوبا من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة، ملعونا في الدنيا والآخرة، ممقوتا من الله والملائكة، تشهد عليه جوارحه بتبدل صورها وتشوه منظرها، خبيث الذات والنفس، متورطا في الرجس، فإن مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين، كما قال تعالى: { الخبيثات للخبيثين } وأما الطيبون المتنزهون عن الرذائل، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل { لهم مغفرة } بستر الأنوار الإلهية صفات نفوسهم { ورزق كريم } من المعاني والمعارف الواردة على قلوبهم.
[24.35]
{ الله نور السماوات والأرض } النور هو الذي يظهر بذاته وتظهر الأشياء به، وهو مطلقا اسم من أسماء الله تعالى باعتبار شدة ظهوره وظهور الأشياء به، كما قيل:
خفي لإفراط الظهور تعرضت
لإدراكه أبصار بوم أخافش
وحفظ العيون الزرق من نور وجهه
كشدة حظ للعيون العوامش
ولما وجد بوجوده، وظهر بظهوره، كان نور السموات والأرض، أي: مظهر سموات الأرواح وأرض الأجساد وهو الوجود المطلق الذي وجد به ما وجد من الموجودات والإضاءة { مثل نوره } صفة وجوده وظهوره في العالمين بظهورها به كمثل { مشكاة فيها مصباح } وهي إشارة إلى الجسد لظلمته في نفسه وتنوره بنور الروح الذي أشير إليه بالمصباح وتشبكه بشباك الحواس وتلألؤ النور من خلالها كحال المشكاة مع المصباح. والزجاجة إشارة إلى القلب المتنور بالروح المنور لما عداه بالإشراق عليه، تنور القنديل كله بالشعلة وتنويره لغيره. وشبه الزجاجة بالكوكب الدري لبساطتها وفرط نوريتها وعلو مكانها وكثر شعاعها كما هو الحال في القلب. والشجرة التي توقد منها هذه الزجاجة هي النفس القدسية المزكاة، الصافية، شبهت بها لتشعب فروعها وتفنن قواها، نابتة من أرض الجسد ومتعالية أغصانها في قضاء القلب إلى سماء الروح، وصفت بالبركة لكثرة فوائدها ومنافعها من ثمرات الأخلاق والأعمال والمدركات وشدة نمائها بالترقي في الكمالات وحصول سعادة الدارين، وكمال العالمين بها، وتوقف ظهور الأنوار والأسرار والمعارف والحقائق والمقامات والمكاسب والأحوال والمواهب عليها، وخصت بالزيتونة لكون مدركاتها جزئية مقارنة لنوء اللواحق المادية كالزيتون، فإنه ليس كله لبا، ولوفور قلة استعدادها للاشتعال والاستضاءة بنور نار العقل الفعال، الواصل إليها بواسطة الروح والقلب كوفور الدهنية القابلة لاشتعال الزيتون. ومعنى كونها { لا شرقية ولا غربية } إنها متوسطة بين غرب عالم الأجساد الذي هو موضع غروب النور وبروزه عن الحجاب النوراني لكونها ألطف وأنور من الجسد وأكثف من الروح.
{ يكاد } زيت استعدادها من النور القدسي الفطري الكامن فيها، يضيء بالخروج إلى الفعل والوصول إلى الكمال بنفسه، فتشرق { ولو لم تمسسه نار } العقل الفعال. ولم يتصل به نور روح القدس لقوة استعداده وفرط صفائه { نور على نور } أي: هذا المشرق بالإضاءة من الكمال الحاصل نور زائد على نور الاستعداد الثابت المشرق في الأصل كأنه نور متضاعف { يهدي الله لنوره } الظاهر بذاته المظهر لغيره، بالتوفيع والهداية { من يشاء } من أهل العناية ليفوز بالسعادة { والله بكل شيء عليم } يعلم الأمثال وتطبيقها، ويكشف لأوليائه تحقيقها.
[24.36-38]
{ في بيوت } أي: يهدي الله لنوره من يشاء في مقامات { إذن الله } أن يرفع بناؤها وتعلى درجاتها { ويذكر فيها اسمه } باللسان والمجاهدة والتخلق بالأخلاق في مقام النفس والحضور والمراقبة، والاتصاف بالأوصاف في مقام القلب والمناجاة والمكالمة، والتحقيق بالأسرار في مقام السر والمناغاة بالمشاهدة، والتحير في الأنوار في مقام الروح والاستغراق والانطماس والفناء في مقام الذات.
{ يسبح له فيها } بالتزكية والتنزيه والتوحيد والتجريد والتفريد بغدو التجلي وآصال الاستتار { رجال } أي: رجال أفراد سابقون مجردون مفردون قائمون بالحق { لا تلهيهم تجارة } باستبدال متاع العقبى بالدنيا في زهدهم، ولا بيع أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة في جهادهم عن ذكر الذات { وإقام } صلاة الشهود في الفناء { وإيتاء } زكاة الإرشاد والتكميل حال البقاء { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب } إلى الأسرار { والأبصار } إلى البصائر، بل تتقلب حقائقها بأن تفنى وتوجد بالحق، كما قال: " كنت سمعه وبصره " من ظهور البقية وبقاء الأنية { ليجزيهم الله } بالوجود الحقاني { أحسن ما عملوا } من جنات الأفعال والنفوس والأعمال { ويزيدهم من فضله } من جنات القلوب والصفات { والله يرزق من يشاء } من جنات الأرواح والمشاهدات { بغير حساب } لكونه أكثر من أن يحصى ويقاس.
[24.39-42]
{ والذين كفروا } حجبوا عن الدين { أعمالهم } التي يعملونها رجاء الثواب { كسراب بقيعة } لكونها صادرة عن هيئات خالية قائمة بساهرة نفس حيوانية { يحسبه الظمآن ماء } أي: يتوهمها صاحبها المؤمل لثوابها أمورا باقية لذيذة دائمة مطابقة لما توهمه { حتى إذا جاءه } في القيامة الصغرى { لم يجده } شيئا موجودا، بل خاليا، فاسدا ، وظنا كاذبا، كما قال تعالى:
وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا
[الفرقان، الآية:23].
{ ووجد الله عنده } أي: وجد ملائكة الله من زبانية القوى والنفوس السماوية والأرضية عند ذلك التخيل الموهوم يقودونه إلى نيران الحرمان وخزي الخسران، ويوفونه ما يناسب اعتقاده الفاسد وعمله الباطل من حميم الجهل وغساق الظلمة.
{ أو كظلمات } في بحر الهيولى اللجي العميق الغامر لجثة كل نفس جاهلة، محجوبة بهيئات بدنية، الغامس لكل ما يتعلق به من القوى النفسانية { يغشاه موج } الطبيعة الجسمانية { من فوقه } موج النفس النباتية { من فوقه } سحاب النفس الحيوانية وهيئاتها الظلمانية { ظلمات } متراكمة { بعضها فوق بعض إذا أخرج } المحجوب بها، المنغمسن المحبوس فيها { يده } القوة العاقلة النظرية بالفكر { لم يكد يراها } لظلمتها وعمى بصيرة صاحبها وعدم اهتدائه إلى شيء، وكيف يرى الأعمى الشيء الأسود في الليل البهيم؟.
{ ومن لم يجعل الله له نورا } بإشراق أنوار الروح عليه من التأييد القدسي والمدد العقلي { فما له من نور } ، { ألم تر أن الله يسبح له من في } عالم سماوات الأرواح بالتقديس وإظهار صفاته الجمالية { ومن في } عالم أراضي الأجساد بالتحميد والتعظيم وإظهار صفاته الجلالية، وطير القوى القلبية والسرية بالأمرين { صافات } مترتبات في مراتبها من فضاء السر، مستقيمات بنور السكينة، لا تتجاوز واحدة منها حدها، كما قال:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات، الآية: 164].
{ كل قد علم صلاته } طاعته المخصوصة به من انقهاره وتسخره تحت قهره، وسلطنته علمية كانت أو عملية، ومن محافظته لتربيته وحضوره لوجهه تعالى فيما أمره به { وتسبيحه } إظهار خاصيته التي ينفرد بها، الشاهدة على وحدانيته { والله عليم } بأفعالهم وطاعاتهم.
[24.43-44]
{ ألم تر أن الله يزجي } برياح النفخات والإرادات سحاب العقل فروعا منتزعة من الصور الجزئية ثم يؤلف فيه على ضروب المتألفات المنتجة { ثم يجعله ركاما } حججا وبراهين { فترى } ودق النتائج والعلوم اليقينية { يخرج من خلاله وينزل من } سماء الروح من جبال أنوار السكينة واليقين الموجبة للوقار والطمأنينة والاستقرار { فيها } أي في تلك الجبال من برد الحقائق والمعارف الكشفية والمعاني الذوقية، أو من جبال في السماء وهي معادن العلوم والكشوف وأنواعها، فإن لكل علم وصنعة معدنا في الروح ثابتا فيه بحسب الفطرة، يفيض منه ذلك العلم، ولهذا يتأتى لبعضهم بعض العلوم بالسهولة دون بعض، ويتأتى لبعضهم أكثرها ولا يتأتى لبعضهم شيء منها، وكل ميسر لما خلق له، أي: ينزل من سماء الروح من الجبال التي فيها برد المعارف والحقائق { فيصيب به من يشاء } من القوى الروحانية { ويصرفه عمن يشاء } من القوى النفسانية والنفوس المحجوبة.
{ يكاد سنا برقه } أي: ضوء بوارق ذلك البرد، وهو ما يقدمه من الأنوار الملتمعة التي لا تلبث ولا تستقر بل تلمع وتخفى إلى أن تصير متمكنة تذهب بأبصار البصائر حيرة ودهشا، وكلما زاد ازدادت تحيرا، ولهذا قال عليه السلام:
" رب زدني تحيرا "
أي: علما ونورا { يقلب الله } ليل ظلمة النفس ونهار نور الروح بأن يغلب تارة نور الروح فينور القلب والنفس ويعقبه أخرى ظلمة النفس بالظهور فتتكدر وتكدر القلب في التلوينات { إن في ذلك لعبرة } يعتبر بها أولو الأبصار القلبية أو البصائر، فيلتجئون إلى الله في التلوينات وظلم النفس، ويلوذون بجناب الحق ومعدن النور، ويعبرون إلى مقام السر والروح، فينكشف عنهم الحجاب.
[24.45-64]
{ والله خلق كل دابة } من أصناف دواب الدواعي التي تدب في أراضي النفوس وتبعثها إلى الأفعال { من ماء } مخصوص، أي: علم مناسب لتلك الداعية المتولدة منه. فإن منشأ كل داعية إدراك مخصوص.
{ فمنهم من يمشي على بطنه } ويزحف في الطبيعة، ويحدث الأعمال البدنية الطبيعية { ومنهم من يمشي على رجلين } من الدواعي الإنسانية فيحدث الأعمال الإنسانية والكمالات العملية { ومنهم من يمشي على أربع } من الدواعي الحيوانية فيبعث على الأعمال السبعية والبهيمية { يخلق الله ما يشاء } من هذه الدواعي من منشأ قدرته الباهرة، الكاملة في إنشاء الأعمال ويهدي من يشاء بالآيات السابقة المذكورة من الحكم والمعاني والمعارف والحقائق من منشأ حكمته البالغة التامة في إظهار العلوم والأحوال إلى صراط التوحيد الموصوف بالاستقامة إليه { ويقولون آمنا بالله وبالرسول } أي: يدعون التوحيد جمعا وتفصيلا والعمل بمقتضاه { ثم يتولى فريق منهم } بترك العمل بمقتضى الجمع والتفصيل، بارتكاب الإباحة والتزندق { وما أولئك بالمؤمنين } الإيمان الذي عرفته وادعوه من العلم بالله جمعا وتفصيلا.
{ ومن يطع الله } باطنا بشهود الجمع { ورسوله } ظاهرا بحكم التفصيل { ويخشى الله } بالقلب بمراقبة تجليات الصفات { ويتقه } بالروح عن ظهور أنائيته في شهود الذات { فأولئك هم الفائزون } بالفوز العظيم.
{ وعد الله الذين آمنوا منكم } باليقين { وعملوا الصالحات } باكتساب الفضائل { ليستخلفنهم } وأقسم ليجعلنهم خلفاء في أرض النفس إذ جاهدوا في الله حق جهاده { كما استخلف الذين } سبقوهم إلى مقام الفناء في التوحيد من أوليائه { وليمكنن لهم } بالبقاء بعد الفناء { دينهم } طريق الاستقامة فيه المرضية { وليبدلنهم من بعد خوفهم } في مقام النفس { أمنا } بالوصول والاستقامة { يعبدونني } أي: يوحدونني من غير التفات إلى غيري وإثباته { ومن كفر بعد ذلك } بالطغيان بظهور الأنائية، وخرج عن الاستقامة والتمكين والتلوين { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن دين التوحيد.
[25 - سورة الفرقان]
[25.1-3]
{ تبارك الذي } أي: تكاثر خير الذي { نزل الفرقان } وتزايد، لأن إنزال الفرقان هو إظهار العقل الفرقاني المخصوص بعبده المخصوص به بانفراده من جملة العالمين بالاستعداد الكامل الذي لم يكن لأحد مثله، فيكون عقله الفرقاني هو العقل المحيط المسمى عقل الكل، الجامع لكمالات جميع العقول، وذلك إنما يكون بظهوره تعالى في مظهره المحمدي بجميع صفاته المفيض بها على جميع الخلائق على اختلاف استعداداتهم، وذلك الظهور هو تكثر الخير وتزايده الذي لم يمكن أزيد ولا أكثر منه، ولذلك قال: { ليكون للعالمين نذيرا } أي: على العموم، فإن كل نبي غيره كانت رسالته مخصوصة بمن ناسب استعداده من الخلائق، ورسالته عليه السلام عامة للكل، وهو بعينه معنى ختم النبوة ومن هذا تبين كون أمتة خير الأمم.
{ الذي له ملك السماوات والأرض } يقهرهما تحت ملكوته، أوجد كل شيء موسوما، يتعين بسمة الإمكان، ويشهد عليه بالعدم { فقدره تقديرا } على قدر قبول بعض صفاته ومظهرية بعض كمالاته دون بعض، أي: هيأ استعداداتهم لما شاء من كمالاتهم التي هي صفاته.
[25.4-20]
{ قل أنزله الذي يعلم } الغيب المخفي عن المجحوبين في العالمين { إنه كان غفورا } يستر صفات النفوس الحاجبة للغيوب بأنوار صفاته { رحيما } يفيض الكمالات على القلوب عند صفائها بحسب الاستعدادات. ومن غفرانه ورحمته هذا الإنزال الذي تشكون فيه أيها المحجوبون { بل كذبوا } بالقيامة الكبرى، وذلك التكذيب إنما يكون لفرط الاحتجاب أو نقصان الاستعداد، وكلاهما يوجب التعذيب بالعذاب لاستيلاء نيران الطبيعة الجسمانية والهيئات الهيولانية على النفوس الظلمانية بالضرورة وتأثير زبانية النفوس السماوية والأرضية فيها التي إذا قابلتهم باستعداد قبول تأثيرها وقهرها من بعيد لكونها تكون في الجهة السفلية ظهر لهم آثار قهرها وتسلط غضب تأثيرها.
{ وإذا ألقوا } من جملة أماكن نار الطبيعة الحرمانية { مكانا ضيقا } يحبسها في برزخ يناسب هيئاتها مقدر بقدر استعدادها { مقرنين } بسلاسل محبة السفلانيات وهوى الشهوات، تمنعها عن الحركة في تحصيل المرادات وأغلال صور هيولانية مانعة لأطرافها وآلاتها عن مباشرة الحركات في طلب الشهوات، ومقرنين بما يجانسهم من الشياطين المغوية إياهم عن سبيل الرشاد والداعية لهم إلى الضلال { دعوا هنالك ثبورا } بتمني الموت والتحسر على الفوت، لكونهم من الشدة فيما يتمنى فيه الموت.
{ قل أذلك خير أم جنة } عالم القدس الموعودة للمجردين عن ملابس الأبدان وصفات النفوس { لهم فيها ما يشاؤون } من اللذات الروحانية أبدا سرمدا { وما يعبدون } عام لكل معبود سوى الله، والقول إنما يكون بلسان الحال لأن كل شيء سوى الإنسان المحجوب شاهد بوجوده ووجده بالله تعالى ووحدانيته، مسبح له بإظهار خاصيته وكماله، مطيع له فيما أراد الله من أفعاله، وذلك معنى قوله: { سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } فحالهم ناطقة بنفي الضلال عن نفسهم في إثبات الضلال للواقفين معهم، المحجوبين بهم بسبب الانهماك في اللذات الحسية والاشتغال بالطيبات الدنيوية الموجبة للغفلة ونسيان الذكر والبور الهلكى.
[25.21-26]
{ يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين } لأن ذلك اليوم هو وقت وقوع القيامة الصغرى وإخراب البدن الذي به تؤثر فيهم الروحانيات السماوية والأرضية بالقهر والتعذيب وإلزام الهيئات البرزخية المنافية لطباع أرواحهم في الأصل، وإن كانت مناسبة لها في الحال { ويقولون حجرا محجورا } يتمنون أن يدفع الله عنهم ذلك ويمنعه. وإنما جعلت أعمالهم هباء لكونها غير مبنية على عقائد صحيحة. والأصل في العمل الإيمان اللازم لسلامة الفطرة وإذا لم يكن كان كل حسنة سيئة لمقارنتها النية الفاسدة والتوجه بها لغير وجه الله.
{ ويوم تشقق } سماء الروح الحيواني بغمام الروح الإنساني بانفتاحها عنه، ولهذا قيل في التفاسير: إنه غمام أبيض دقيق. وإنما شبه بالغمام لاكتسابه الهيئة الجسدانية والصورة اللطيفة النفسانية من البدن واحتجابه بها وكونه منشأ العلم كالغمام للماء، وفي تلك الصورة الثواب والعقاب قبل البعث الجسداني { ونزل الملائكة } باتصالها به إما للثواب وإما للعقاب لأنها إما مظاهر اللطف وإما مظاهر القهر.
{ الملك يومئذ الحق } أي: الثابت الي لا يتغير { للرحمن } الموصوف بجميع صفات اللطف والقهر، المفيض على كل ما يستحق لزوال كل ملك باطل ولا قدرة حينئذ لأحد على إنجاء المعذبين منه ولا يمكنهم الالتجاء بغيره لبطلان التعلقات والإضافات وظهور ملك الرحمن على الإطلاق. أو يوم تشقق سماء القلب بغمام نور السكينة وتنزل ملائكة القوى الروحانية بالأمداد الإلهية والأنوار الصفاتية في القيامة الوسطى تكون تلك السلطنة على القلب للرحمن المستوي على عرشه، المتجلى له بجميع صفاته { و } على كلا التقديرين { كان يوما على الكافرين عسيرا } أما على الأول فلتعذبهم عند خراب البدن بالهيئات المظلمة وقهر القوى السماوية، وأما على الثاني فلظهور تعذبهم في شهود صاحب هذه القيامة واطلاعه، ولم يوجد موجودا مستقلا في التأثير فيناسبه ولم يكن قاهر غيره فيشاركه على حالهم أو للبناء على تأويلهم بالقوى النفسانية المقهورة هناك، المعذبة بالرياضة، والله أعلم.
[25.27-32]
تثبيت فؤاده عليه السلام بالقرآن هو أنه لما رد في مقام البقاء بعد الفناء إلى حجاب القلب لهداية الخلق كان قد يظهر نفسه وقتا غب وقت على قلبه بصفاتها، ويحدث له التلوين بسببها كما ذكر في قوله:
ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
[الحج، الآية:52]، وفي قوله:
عبس وتولى
[عبس، الآية:1] فكان يتداركه الله تعالى بإنزال الوحي والجذبة ويؤدبه ويعاتبه فيرجع إليه في كل حال ويتوب، كما قال عليه السلام:
" أدبني ربي فأحسن تأديبي "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة "
حتى يتمكن ويستقيم. وكان سبب ظهور ابتلاء الله تعالى إياه بالدعوة لإيذاء الناس إياه وعداوتهم ومناصبتهم له، والحكمة في الابتلاء أمران، أحدهما: راجع إليه، وهو أن يظهر نفسه بجميع صفاتها في مقابلة استيلاء الأعداء المختلفين في النفوس وصفاتها واستعداداتها ومراتبها فيؤدبه الله بحكمة وجود كل صفة وفضيلة كل قوة، فيحصل له جميع مكارم الأخلاق وكمالات جميع الأنبياء كما قال عليه السلام:
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وأوتيت جوامع الكلم ".
فإن ظهوره بكل صفة هو ظرف قبوله لفضيلتها وحكمتها، إذ لولا الجهات المختلفة في القلب بواسطة صفات النفس لما استعد لقبول الحكم المتفننة والفضائل بتخصص توجهه لكل واحدة منها. والثاني: راجع إلى الأمة، فإنه رسول إلى الكل واستعداداتهم متباينة، ونفوسهم في الصفات متفاوتة. فيجب أن يكون فيه جوامع الحكم والكلم والفضائل والأخلاق ليهدي كلا منهم بما يناسبه من الحكمة، ويزكيه بما يليق به من الخلق، ويعلمه ما ينتفع به من العلم على حسب استعداداتهم وصفاتهم وإلا لم يمكنه دعاء الكل. فعلى هذا كون التنزيل مفرقا منجما إنما يكون بحسب اختلاف صفات نفسه في الظهور منها على أوقاته موجبا لتثبت قلبه في الاستقامة في السلوك إلى الله، وفي الله عند الاتصاف بصفاته، ومن الله في هداية الخلق، وتلك هي الاستقامة التامة المطلقة. فليقتدي به السالكون والواصلون والكاملون المكملون في سلوكهم وكونهم مع الحق وتكميلهم.
والترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر مدة يمكن فيها تزايله في قلبه ويترسخ ويصير ملكة لا حالا.
[25.33-46]
ومن هذا تبين معنى قوله: { ولا يأتونك بمثل } أي: صفة عجيبة { إلا جئناك بالحق } الذي يقمع باطل تلك الصفة كما قال:
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه
[الأنبياء: الآية:18] وهو الفضيلة المقابلة لتلك الرذيلة { وأحسن تفسيرا } أي: كشفا بإظهار صفة إلهية تجلى بها لك تقوم مقامها فتكشفها، وبالحقيقة تلك الصفة الإلهية الكاشفة إياها هي تفسير الصفة الباطلة ومعاناتها فإن كل صفة نفسانية ظل ظلماني لصفة إلهية نورانية تنزلت في مراتب التنزلات واحتجبت وتضاءلت وتكدرت كالشهوة للمحبة والغضب للقهر وأمثالها.
{ الذين يحشرون على وجوههم } لشدة ميل نفوسهم لى الجهة السفلية فتنكست فطرتهم فبعثوا على صور وجوهها إلى الأرض يسحبون إلى نار الطبع { أولئك شر مكانا } من أن يقبلوا الحق الدامغ لباطل صفاتهم { وأضل سبيلا } من أن يهتدوا إلى صفات الله تعالى التي هي تفسير صفاتهم وكشفها.
{ أرأيت من اتخذ إلهه هواه } كل محجوب بشيء واقف معه، فهو محب له، مجانس لذلك الشيء، فهو في الحقيقة عابد لهواه بعبادته لذلك المحبوب، والباعث لهواه على محبة غير الله هو الشيطان، فمحب كل شيء غير الله لا لله وبغير محبة الله عابد له ولهواه وللشيطان متعدد المعبود متفرق الوجهة. أبعد ذلك { تكون عليه وكيلا } بدعوته إلى التوحيد وقد كان في غاية البعد محجوبا بظل من ظلاله.
{ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } بالوجود الإضافي. اعلم أن ماهيات الأشياء وحقائق الأعيان هي ظل الحق وصفة عالمية الوجود المطلق، فمدها إظهارها باسمه النور الذي هو الوجود الظاهر الخارجي الذي يظهر به كل شيء ويبرز كتم العدم إلى فضاء الوجود أي الإضافي { ولو شاء لجعله ساكنا } أي: ثابتا في العدم الذي هو خزانة وجوده، أي: أم الكتاب واللوح المحفوظ الثابث وجود كل شيء فيهما في الباطن وحقيقته لا العدم الصرف بمعنى اللاشيء فإنه لا يقبل الوجود أصلا، وما ليس له وجود في الباطن وخزانة علم الحق وغيبه لم يمكن وجوده أصلا في الظاهر، والإيجاد والإعدام ليس إلا إظهار ما هو ثابت في الغيب وإخفاؤه فحسب وهو الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم { ثم جعلنا } شمس العقل { عليه } أي: الظل { دليلا } يهدي إلى أن حقيقته غير وجوده وإلا فلا مغايرة بينهما في الخارج فلا يوجد إلا الوجود فحسب، إذ لو يمكن وجوده لما كان شيئا فلا يدل على كونه شيئا غير الوجود إلى العقل { ثم قبضناه إلينا } بإفنائه { قبضا يسيرا } لأن كل ما يفنى من الموجودات في كل وقت فهو يسير بالقياس إلى ما سبق، وسيظهر كل مقبوض عما قليل في مظهر آخر. والقبض دليل على أن الإفناء ليس إعداما محضا بل هو منع عن الانتشار في قبضته التي هي العقل الحافظ لصورته وحقيقته أزلا وأبدا.
[25.47-49]
{ وهو الذي جعل لكم } ليل ظلمة النفس { لباسا } يغشاكم بالاستيلاء عن مشاهدة الحق وصفاته والذات وظلالها فتحتجبون يوم الغفلة في الحياة الدنيا { سباتا } تسبتون بها عن الحياة الحقيقية السرمدية كما قال عليه السلام:
" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا "
{ وجعل } نهار نور الروح { نشورا } تحيا قلوبكم به فتنتشرون في فضاء القدس بعد نوم الحس.
{ وهو الذي أرسل } رياح النفحات الربانية ناشرة محيية أو مبشرة بين يدي رحمة الكمال بتجلي الصفات { وأنزلنا } من سماء الروح ماء العلم { طهورا } مطهرا يطهركم عن لوث الرذائل ورجس الطبائع والعقائد الفاسدة والجهالات المفسدة { لنحيي به بلدة ميتا } أي: قلبا ميتا بالجهل { ونسقيه مما خلقنا أنعاما } من القوى النفسانية بالعلوم النافعة العملية { وأناسي } من القوى الروحانية { كثيرا } بالعلوم النظرية.
[25.50-57]
{ ولقد صرفناه } هذا العلم المنزل على صور وأمثال مختلفة { ليذكروا } حقائقهم وأوطانهم الحقيقية وما نسوا من العهد والوصل وطيب الأصل { فأبى أكثر الناس إلا كفروا } لنعمة الهداية الحقانية، وغمطا للرحمة الرحيمية للاحتجاب بصور الرحمة في ستور الجلال من الغواشي الهيولانية.
{ ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } أي: فرقنا كمالك المطلق الذي تدعو به جميع الخلق إلى الحق على أشخاص و وزعناه بحسب أصناف الناس على اختلاف استعداداتهم على الأنبياء، كما قال:
ولكل قوم هاد
[الرعد، الآية:7]، فبعثنا في كل صنف نبيا يناسبهم كما كان قبل بعثه محمد من اختصاص موسى ببني إسرائيل واختصاص شعيب بأهل مدين وأصحاب الأيكة وغير ذلك. وخففنا عنك الجهاد، إذ الجهاد إنما يكون بحسب الكمال وكلما كان الكمال أعظم كان الجهاد أكبر لأن الله تعالى يرب كل طائفة باسم من أسمائه فإذا كان الكامل مظهر جميع صفاته متحققا بجميع أسمائه وجب عليه الجهاد مع جميع طوائف الأمم بجميع الصفات، ولكن ما فعلنا ذلك لعظم قدرك وكونك الكامل المطلق، والقطب الأعظم، والخاتم على ما ذكر في تأويل قوله:
كذلك لنثبت به فؤادك
[الفرقان: الآية: 32].
{ فلا تطع } المحجوبين بموافقتهم في الوقوف مع بعض الحجب ونقصان بعض الصفات { وجاهدهم } لكونك مبعوثا إلى الكل { جهادا كبيرا } هو أكبر الجهادات كما قال: " ما أوذي نبي مثل ما أوذيت " ، أي: ما كمل نبي مثل كمالي.
{ وهو الذي مرج البحرين } أي: خلط بحر الجسم والروح في الإيجاد { هذا } الذي هو بحر الروح { عذب فرات } أي: صاف لذيذ، وهذا الذي هو بحر الجسم { ملح أجاج } أي: متغير متكدر غير لذيذ { وجعل بينهما برزخا } هو النفس الحيوانية الحائلة بينهما من الامتزاج وتكدر الروح بالجسم وتكثفه وتنور الجسم بالروح وتجرده { وحجرا محجورا } عياذا يتعوذ به كل منهما من بغي الآخر ومانعا يمنع ذلك.
[25.58-60]
{ وتوكل على الحي الذي لا يموت } أي: شاهد موت الكل وعدم حراكهم بذواتهم، كما قال:
إنك ميت وإنهم ميتون
[الزمر، الآية:30] فإنهم لا يتحركون إلا بدواع أوجدها الله تعالى فيهم بفناء أفعالك وأفعال الكل في أفعال الحق ورفع حجبها عن أفعاله إذ مقام التوكل هو الفناء في الأفعال.
وبين بقوله: { على الحي الذي لا يموت } إن منشأ التوكل شهود صفة حياته التي بها يحيا كل حي لأن من يموت لا يكون حيا بالذات وبالترقي عن مقام فناء الأفعال إلى الفناء في صفة الحياة يصح مقام التوكل كما قالت المتصوفة: لا يمكن تصحيح كل مقام إلا بالترقي إلى المقام الذي فوقه، وإذا كان كل حي يموت إنما يحيا بحي الذات الذي حياته عين ذاته فبه يتحرك، فلا تبال بأفعالهم فإنهم لو اجتمعوا بأسرهم على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بما كتب الله عليك، على ما ورد في الحديث.
{ وسبح بحمده } ونزهه بتجردك عن صفاتك ومحوها في صفاته عن أن تكون لغيره صفة مستقلة تكون مصدرا لفعله ملتبسا بحمده، أي: متصفا بصفاته، فإن الحمد الحقيقي هو الاتصاف بصفاته الكمالية التي هو بها حميد وذلك هو تصحيح مقام التوكل وتحقيقه بنفي الصفات التي هي مبادىء الأفعال من الغير، وإذا تجردت عن صفاتك بالاتصاف بصفاته شاهدت إحاطة علمه بالكل، فاكتفيت به عن سؤاله في دفع جناياتهم عنك وجزاء إيذائهم لك، وشاهدت قدرته على مجازاتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: " حسبي من سؤالي علمه بحالي ". وذلك معنى قوله: { وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السموات والأرض } أي: احتجب بسموات الأرواح وأرض الأجسام { وما بينهما } من القوى في الأيام الستة التي هي الآلاف الستة من ابتداء زمان آدم إلى محمد عليهما السلام، لأن الخلق ليس إلا احتجاب الحق بالأشياء والأيام هي أيام الآخرة لا أيام الدنيا؛ إذ لم تكن الدنيا ثمة ولا الشمس والنهار
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج، الآية:47].
{ ثم استوى على } عرش القلب المحمدي في السابع الذي هو يوم الجمعة، أي: يوم اجتماع جميع الأوصاف والأسماء فيه، وذلك هو معنى الاستواء في الاستقامة بالظهور التام والفيض العام الذي هو الرحمة الرحمانية ولهذا جعل فاعل الاستواء اسم الرحمن دون اسم آخر إذ لا يكون الاستواء بمعنى الظهور التام إلا به، ويمكن أن تؤول الأيام بالشهور الستة التي يتم فيها خلق سموات أرواح الجنين وأرض جسده وما بينهما من القوى والاستواء بالظهور التام على عرش قلبه الذي كان على ماء النطفة قبل خلقه ما خلق في الشهر السابع الذي أنشأه فيه خلقا آخر بحصوله إنسانا، والرحمانية بعموم فيضه المعنوي والصوري من قلبه إلى جميع أجزاء وجوده { فاسئل به خبيرا } اسأل عارفا به يخبرك بحاله واسأله في حالة كونه عالما بكل شيء.
{ وإذا قيل لهم اسجدوا } أي: إذا أمرتهم بالفناء في جميع صفاته وطاعته بها أنكروا ولم يمتثلوا أمرك لقصور استعدادهم عن قبول هذا الفيض وعدم معرفتهم لهذا الاسم لعدم احتظائهم من جميع الصفات أو وجود احتجابهم عنها.
[25.61-66]
{ تبارك الذي جعل في } سماء النفس بروج الحواس { وجعل فيها } سراج شمس الروح وقمر القلب { منيرا } بنور الروح { وهو الذي جعل } ليل ظلمة النفس، ونهار نور القلب يعتقبان { لمن أراد أن يذكر } في نهار نور القلب العهد المنسي وينظر في المعاني والمعارف ويعتبر { أو أراد } في ليل ظلمة النفس { شكورا } بأعمال الطاعات واكتساب الأخلاق والملكات { وعباد الرحمن } أي: المخصوصون بقبول فيض هذا الاسم لسعة الاستعداد { الذين يمشون على الأرض هونا } أي: الذين اطمأنت نفوسهم بنور السكينة وامتنعت عن الطيش بمقتضى الطبيعة فهم هينون في الحركات البدنية لتمرن أعضائهم بهيئة الطمأنينة { وإذا خاطبهم } أهل السفاهة يسلمون مقالهم ولا يعارضونهم لامتلائهم بالرحمة وبعد حالهم عن ظهور النفس بالسفاهة وكبر نفوسهم بالتقوي بنور القلب عن أن تتأثر بالإيذاء وتضطرب.
{ والذين يبيتون } أي: الذين هم في مقام النفس ميتون بالإرادة { سجدا } فانين بالرياضة قائمين بصفات القلب أحياء بحياته لله قائلين بلسان الحال الذي لا تتخلف عن دعائه الإجابة { ربنا اصرف }.
[25.67-73]
ولما وصفهم بالتزكية التامة والفناء عن جميع صفات النفس من الرذائل المذيقة المورطة في عذاب جهنم الطبيعة ومستقر السوء والعاقبة الوخيمة عقب وصفهم بالتحلية التامة من الاتصاف بجميع أجناس الفضائل الأربع، وذلك هو حياتهم بالقلب بعد موتهم عن النفس، كما قيل: مت بالإرادة تحيا بالطبيعة، فالقوام بين الإسراف والإقتار في الإنفاق هو العدل والتوحيد المشار إليه بقوله:
{ لا يدعون مع الله إلها آخر } هو أساس فضيلة الحكمة الذي إذا حصل وقع ظله الذي هو العدل في النفس فاتصفت بجميع أنواع الفضائل، والامتناع عن قتل النفس المحرمة إشارة إلى فضيلة الشجاعة، والامتناع عن الزنا فضيلة العفة. ثم ذكر من في مقابلتهم من المحجوبين من فيض الرحمة الرحيمية التي في ضمن الرحمانية الذين لا يستعدون لقبول عموم فيضه فلا يختصون به وإن كانوا لا يخلون من فيضه الظاهر الشامل للكل فقال: { ومن يفعل ذلك } أي: يرتكب جميع أجناس الرذائل حتى الشرك بالله { يلق } جزاء الإثم الكبير المطلق، وهو مضاعفة العذاب الروحاني والجسماني بالاحتجاب الكلي وهيئات الهيكل السفلي { يوم القيامة } الصغرى والخلود فيه على غاية الهوان.
{ إلا من تاب } رجع إلى الله وتنصل عن المعاصي فبدل الشرك بالإيمان واستبدل الرذائل بالفضائل { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } بمحو الهيئات عن نفوسهم وإثبات هذه { وكان الله غفورا } يستر صفات نفوسهم بنوره { رحيما } يفيض عليهم الكمالات بوجوده، وهذه هي التوبة الحقيقية. ثم بين بعد ذكر التوبة الحقيقية حال أهل السلوك فقال: { والذين لا يشهدون الزور } أي: لا يحضرون أهل الزور المشتغلين بمتاع الغرور، فإن أهل الدنيا أهل الزور يحسبون الفاني باقيا والقبيح حسنا ويعدون المعدوم موجودا، والشر خيرا، فهم الكذابون المبطلون، الخاطئون، أي: يعتزلونهم بملازمة الخلوات وإيثار الطاعات وإقام الصلاة.
{ وإذا مروا باللغو } أي: الفضول غير الضرورية تركوها وأعرضوا عنها { ومروا } بها مكرمين أنفسهم عن مباشرتها، قانعين بالحقوق عن الحظوظ وهم الزاهدون بالحقيقة، التاركون المجردون. ثم لما بين الزهد الحقيقي والتجريد قرن به العبادة الحقيقية والتحقيق بقوله: { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } أي: كوشفوا المعارف والحقائق وتجليات الصفات والمشاهدات { لم يخروا } على العلم بتلك الآيات من المعارف والحقائق { صما } بل تلقوها بآذان واعية هي آذان القلوب لا النفوس، وعلى مشاهدتها { و } تجليها { عميانا } بل أحدقوا نحوها ببصائر جديدة مكحلة بنور الهداية.
[25.74-77]
ثم وصف طلبهم للترقي عن مقام القلب إلى مرتبة السابقين والاستعانة بالله عن تلوين النفس وصفاتها لينخرطوا في سلك المقربين بقوله: { والذين يقولون ربنا هب لنا من } أزواج نفوسنا وذريات قوانا ما تقر به أعيننا من طاعاتهم وانقيادهم خاضعين، وتنورهم بنور القلب مخبتين غير طالبين للاستعلاء والترفع والاستكبار والتجبر { واجعلنا للمتقين } أي: المجردين { إماما } بالوصول إلى مقام السابقين { أولئك يجزون } غرفة الفردوس وجنة الروح بصبرهم مع الله وفي الله عن غيره { ويلقون فيها تحية } خلود حياة { وسلاما } سلامة وبراءة عن الآفات، أي: يحييهم الله بإبقائهم سرمدا ببقائه ويسلمهم بإيتائهم كماله كما قيل:
تحيتهم يوم يلقونه سلام
[الأحزاب، الآية: 44]، وقال:
تحيتهم فيها سلام
[إبراهيم، الآية: 23].
{ ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } أي: لو لم يكن طلبكم لله وإرادتكم لكنتم شيئا غير ملتفت إليه ولا معبوء به كالحشرات والهوام، فإن الإنسان إنما يكون إنسانا وشيئا معتدا به إذا كان من أصحاب الإرادة والطلب، والله تعالى أعلم.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1-3]
(ط) إشارة إلى الطاهر و (س) إلى السلام و(م) إلى المحيط بالأشياء بالعلم. و { الكتاب المبين } الذي هذه الأسماء والصفات آياته هو الموجود المحمدي الكامل ذو البيان والحكمة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
وفيك الكتاب المبين الذي
بأحرفه يظهر المضمر
فيكون معناه على ما ذكره في (طه): إنه عليه السلام لما رأى عدم اهتدائهم بنوره وقبولهم لدعوته استشعر أنه من جهته لا من جهتهم، فزاد في الرياضة والمجاهدة والفناء في المشاهدة، فأوحى إليه بأن هذه الصفات التي هي الطهارة من لوث البقية المانع من التأثير في النفوس وسلامة الاستعداد عن النقص في الأمثال، والكمال الشامل لجميع المراتب بالعلم هي صفات كتاب ذاتك، المبين لكل كمال ومرتبة باتصافها بجميع الصفات الإلهية واشتمالها على معاني جميع أسمائه، فلا تبخع نفسك، أي: لا تهلكها على آثارهم بشدة الرياضة لعدم إيمانهم وامتناعه، فإنه من جهتهم إما لوجود المانع بشدة الحجاب وإما لعدم الاستعداد، فمعنى لعل في { لعلك باخع }: الإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تهلكها بالرياضة لعدم إيمانهم وفواته.
[26.4-12]
{ إن نشأ ننزل عليهم من السماء } من العالم العلوي بتأييدنا لك قهرا فتخضع أعناقهم له، منقادين، مسلمين، مستسلمين ظاهرا، وإن لم يدخل الإيمان في قلوبهم كما كان يوم الفتح أي: امتنع إيمانهم لأنه أمر قلبي سيظهر إسلامهم بالقهر والإلجاء والاضطرار.
{ وإذ نادى ربك موسى } القلب المهذب بالحكمة العملية، المدرب بالعلوم العقلية، المشوق بذكر الأنوار القدسية والكمالات الأنسية، ووصف المفارقات والمجردات إلى الحضرة الإلهية الغالب على القوة الشهوانية بالسعي في طلب الأرزاق الروحانية من المعارف اليقينية والمعاني الحقيقية بعد قتل جبار الشهوة الذي كان يجبر لفرعون النفس الأمارة وفراره من استيلائها إلى مدين مدينة العلم من الأفق الروحاني ووصوله إلى خدمة شعيب الروح في مقام السر الذي هو محل المكالمة والمناجاة بالسير العقلي بطريق الحكمة، واكتساب الأخلاق بالتعديل قبل السلوك في الله بطريق التوحيد والرياضة بالترك والتجريد مع بقاء النفس المتقوية بالعلم والمعرفة، المتزينة بالفضيلة والمتبجحة بزينتها وكمالها، الطاغية بظهورها على أشرف أحوالها، المنازعة ربها صفة العظمة والكبرياء، المعجبة بالبهجة والبهاء لاحتجابها بأنائيتها وانتحالها كمال الحق برؤيته لها، فكانت شر الناس كما قال عليه الصلاة والصلاة:
" شر الناس من قامت القيامة عليه وهو حي ولو ماتت "
ثم قامت القيامة عليها لكانت خير الناس.
{ إن ائت القوم الظالمين } من القوى النفسانية الفرعونية العانية لفرعون النفس الأمارة، المتخذة لها ربا، الواضعة كمال الحق موضع كمالها وهو أفحش الظلم { ألا يتقون } قهري وبأسي بتدميرهم وإفنائهم { أخاف أن يكذبون } في دعوتي إلى التوحيد ولم يطيعوني في الرياضة والترك والتجريد.
[26.13-19]
{ ويضيق صدري } لعدم اقتداري على قهرهم وعلمي بامتناعهم عن قبول الأوامر الشرعية والأسرار الوحيية وما يكون خارجا عن طور الفكر والعقل لتدربهم بذلك وتفرعنهم باستبدادهم { ولا ينطلق لساني } معهم في هذه المعاني لكونها على خلاف ما تعودوا به ونشؤوا عليه من الحكم العملية الداعية إلى مراعاة التعديل في الأخلاق دون الفناء بالإطلاق { فأرسل إلى هارون } العقل ليؤدبهم بالمعقول ويسوسهم بما يسهل قبولهم له من رعاية مصلحة الدارين واختيار سعادة المنزلين فتلين عريكتهم وتضعف شكيمتهم بمداراته ورفقه وموافقته لهم بعلمه وحلمه { ولهم علي ذنب } بقتلي جبار الشهوة { فأخاف } إن دعوتهم إلى التوحيد وأمرتهم بالتجريد وترك الحظوظ والاقتصار على الحقوق { أن يقتلون } بالاستيلاء والغلبة، وهذا صورة حال من احتجبت نفسه بالحكمة ولم يتألف بعد طريق الوحدة مع قوة استعداده وعدم وقوفه مع ما نال من كمال، فقلما تقبل نفسه خلاف ما يعتقد وتنقاد في متابعة الشريعة وتقلد إلا من تداركه سبق العناية وساعده التوفيق بالجذبة و { كلا } ردع له عن الخوف بالتشجيع والتأييد { فاذهبا } أمر باستصحاب العقل للمناسبة والجنسية وتقرير التوحيد بطريق البرهان القامع للتفرعن والطغيان و { إنا معكم مستمعون } وعد بالكلاءة والحفظ وتقوية اليقين، فإن من كان الحق معه لا يغلبه أحد { أن أرسل معنا بني إسرائيل } القوى الروحانية المستضعفة، المستخدمة في تحصيل اللذات الجسمانية. وتربيته إياه وليدا ولبثه فيهم سنين صورة حال الطفولية والصبوية إلى أوان التجرد وطلب الكمال الذي أشده ببلوغ الأربعين، فإن القلب في هذا الزمان في تربية النفس والولاية لها لحكمة عادية الآلة. والفعلة هي الحركة المذمومة عند النفس من الاستيلاء على الشهوة والكفر الذي نسبه إليه هو إضاعة حق التربية.
[26.20-29]
{ وأنا من الضالين } أي: لست من الكافرين لكون الصلاح في ذلك بل من الذين لا يهتدون إلى طريق الوحدة. { فوهب لي ربي حكما } أي: حكمة متعالية عن طريق البرهان وراء طور الكسب والعقل { وجعلني من المرسلين } إليكم بها. وأما تعبيد بني إسرائيل القوى التي هي قومي فليس بمنة تمنها علي، بل عدوان وطغيان إذ لو لم تعبدهم لما ألقتني أمي الطبيعة البدنية في يم الهيولى في تابوت الجسد، ولقام بتربيتي أهلي وقومي من القوى الروحانية.
{ قال فرعون وما رب العالمين } قيل في القصة: إن فرعون كان منطقيا مباحثا سأل بما هو عن حقيقته تعالى، فلما أجابه موسى عليه السلام بقوله: { رب السموات والأرض وما بينهما } وبين أن حقيقته لا تعرف بالحد لبساطتها، غير معلومة للعقل لشدة نوريتها ولطافتها، بأن عرفها بالصفة الإضافية والخاصة اللازمة، وعرض به في تجهيله ونفي الإيقان عنه بقوله: { إن كنتم موقنين } أي: لو كنتم من أهل الإيقان لعلمتم أن لا طريق للعقل إلى معرفته إلا الاستدلال على وجوده بأفعاله الخاصة به، وأما حقيقته فلا يعرفها إلا هو وحده وما سألتم عنه بما مما لا يصل إليه نظر العقل. استخفه ونبه قومه على خفة عقله وكون جوابه غير مطابق للسؤال تعجبا منه لقومه وتسفيها له، فلما ثنى قوله بمثل ما قال أولا من إيراد خاصة أخرى جننه، فثلث بقوله: { إن كنتم تعقلون } أي: إن جننت فأين عقلكم حتى يعرف طوره ولم يتجاوز حده. وهذه المقالة إشارة إلى أن النفس المحجوبة بمعقولها لا تهتدي إلى معرفة الحق وحكمة الرسالة والشرع، ولا تذعن للمتابعة، ولا تنقاد للمطاوعة بل تظهر بالأنائية وطلب العلوم والربوبية والتغلب على الرسالة الإلهية وهو معنى قوله: { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين }.
[26.30-40]
والشيء المبين الذي يمنعه عن الاستيلاء ويردعه عن الغلبة والاستعلاء هو النور البارق القدسي، والبرهان النير العرشي الذي ائتلف به القلب في الأفق الروحي المعجز للنفس والقوى الدالة على صدقه في الدعوى المفيد لقوتيه العاقلتين النظرية والعلمية للهيئة النورية والقوة القهرية حتى صارت الأولى قوة قدسية متأيدة بالحكمة البالغة يعتمد عليها في قمع العدو عند المجادلة ودفع الخصم عند المغالطة. والثانية قوة ملكية متأيدة بالقدرة الكاملة يعجز بها من غالبه في القوة وعارضه بالقدرة، فإذا ألقى عصا القوة القدسية بالذكر القلبي صار ثعبانا ظاهر الثعبانية في الغلبة القوية، وإذا نزع يد الملكية من جيب الصدر حير الناظر بالإشراق والنورية.
[26.41-60]
ولما تحيرت النفس الفرعونية وقواها وعجزت وخافت أن يخرجها من أرض البدن ويدفع شر فسادها ورياستها فيها، ويمنع تسلطها واستيلاءها بعثوا الدواعي الشيطانية، واستنهضوا البواعث النفسانية إلى مدائن محال القوى الوهمية والتخيلية، وأحضروا سحرتها لإلقاء الوساوس والهواجس بآلات المغالطات والتشكيكات وجمعوها لوقت الحضور وجمعية جميع القوى النفسانية والبدنية والروحانية في توجه السر إلى حضرة القدس، فألقوا حبال التخييلات والوهميات وعصي الهواجس والوساوس لتوهم الغلبة بعزة فرعون النفس الأمارة وقوته، ورجاء التعظيم والمنزلة والتقريب في صدر الرياسة والسلطنة فتلقفها ثعبان القوة القدسية بقوة التوحيد وابتلع مأفوكاتها بنور التحقيق، فانقادت سحرة الوهم والخيال والتخيل إذ فقدت آلاتها وآمنت بنور اليقين في متابعة موسى القلب وهارون العقل بربهما، فبقيت مقطوعة الأرجل والأيدي عن السعي في أرض البدن بأنواع الحيل والكيد والمكر وطلب المعاش وتحصيل اللذات والشهوات والتصرف في أملاك القوى البدنية بالرياسة والسلطنة من جهة مخالفة النفس وموافقة القلب مصلوبة على جذوع النفس النباتية، ممنوعة عن حركاتها بالرياضة والقهر والسياسة، منقلبة إلى ربهم في متابعة القلب ومشايعة السر عند التوجه إلى الحق، مغفورة خطاياهم من التزويرات والمفتريات بنور القدس.
وأوحى إلى موسى القلب إسراء القوى الروحانية في ليل هدوء الحواس وسكون القوى النفسانية إلى الحضرة الوحدانية والعبور من بحر المادة الهيولانية.
[26.61-82]
فلما أتبعهم فرعون النفس في التلوينات حاشرا جنوده من مدائن طبائع الأعضاء، حاذرا من ذهاب رياسته وملكه، ممتلئا من غيظ تسلط القلب واتباعه واستيلائه على مملكته وأعوانه، فكادوا أن يظفروا بهم، ضرب موسى القلب بأمر الحق عند تقابلهما وتعارضهما بعصا القوة القدسية البحر الهيولاني فانفلق إلى الحقوق والحظوظ ونجا موسى وقومه بطريق التجريد وأخرج أعداءهم بالمنع عن الحظوظ والإجبار على الحقوق من جنات اللذات النفسانية وعيون أذواقها وأهوائها وكنوز مدخراتها وأسبابها ومقام الركون إلى مشتهياتها إلى أن خرج موسى وأهله من البحر بالمفارقة وغرق فرعون النفس وقومه أجمعون.
{ ما تعبدون } كل من عكف على شيء يهواه ويحبه ويتولاه فهو عابد له، محجوب به عن ربه، موقوف معه عن كماله، وذلك عدو الموحد، إذ الغير لا يوجد عنده إلا في التوهم. فالباعث على عبادته الشيطان والغالب على عابده الظلم والعدوان، ولا يضر غير الحق في شهوده ولا ينفع ولا يبصر بنفسه ولا يسمع لأنه يشهد الحق قائما على كل نفس بما تفعل وأيدي الأفعال كلها في حضرة أسمائه منه تصدر، كما قال عليه السلام: { الذي خلقني فهو يهدين } { والذي هو يطعمني ويسقين } إلى آخره، فهو الخالق والهادي والمطعم والساقي والممرض والشافي والمميت والمحيي، ويقرر هذا المعنى قوله:
أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون
[الشعراء، الآيات:92 - 93] إلى قوله:
فما لنا من شافعين ولا صديق حميم
[الشعراء، الآيات:100 - 101]، ولما كان هذا المقام مقام الفناء وذنبه لا يكون إلا بوجود البقية، خاف ذنب حاله، ورجا غفرانه منه بنور ذاته فقال: { والذي أطمع أن يغفر في خطيئتي يوم الدين } أي: القيامة الكبرى ولا يجازيني من ظهور البقية بالحرمان.
[26.83-149]
ثم سأل الاستقامة في التحقق به في مقام البقاء بقوله: { رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين } أي: حكمة وحكما بالحق لأكون من الذين جعلتهم سببا لصلاح العالم وكمال الخلق واجعلني محبوبا لك فيحبني بحبك خلقك أبدا فيحصل لي { لسان صدق في الآخرين } إذ لا بد لمن يحب شيئا من كثرة ذكره بالخير ذكر اللازم مكان الملزوم { إلا من أتى الله بقلب سليم } أي: إلا حال من أتى الله وسلامة القلب بأمرين: براءته عن نقص الاستعداد في الفطرة، ونزاهته عن حجب صفات النفس في النشأة.
يمكن أن يؤول كل نبي مذكور فيها بالروح أو القلب وتكذيب قومه المرسلين بامتناع القوى النفسانية عن قبول التأدب بآداب الروحانيين والتخلق بأخلاق الكاملين. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: { ألا تتقون } معناه: تجتنبون الرذائل { إني لكم رسول أمين } أؤدي إليكم ما تلقفت من الحق من الحكم والمعاني اليقينية غير مخلوطة بالوهميات والتخيلات.
[26.150-212]
{ فاتقوا الله } في التجريد والتزكية { وأطيعون } في التنور والتحلية { وما أسألكم عليه من أجر } مما عندكم من اللذات والمدركات الجزئية فإني غني عنها { إن أجري إلا على رب العالمين } بإلقاء المعاني والحكم الكلية وإشراق الأنوار اللذيذة القدسية.
{ وما تنزلت به الشياطين } لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والغدر والخيانة وسائر الرذائل، فإن مدركات الشياطين من قبيل الوهميات والخياليات، فمن تجرد عن صفات النفس وترقى عن أفق الوهم إلى جناب القدس، وتنورت نفس بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية، وأشرق عقله بالاتصال بالعقل الفعال، وتلقى المعارف والحقائق في العالم الأعلى ما ينبغي ولا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه ولا أن يتلفقوا المعارف والحقائق والمعاني الكلية والشرائع، فإنهم معزولون عن جناب سماء الروح واستماع كلام الملكوت الأعلى، مرجومون بشهب الأنوار القدسية والبراهين العقلية، لأن طور الوهم لا يترقى عن أفق القلب ومقام الصدر ولا يتجاوز إلى السر، فكيف إلى حد من هو
بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى
[النجم، الآيات: 7 - 8]؟.
[26.213-219]
{ فلا تدع مع الله إلها آخر } أي: لا تلتفت إلى وجود الغير بظهور النفس ولا تحتجب في الدعوة بالكثرة عن الوحدة { فتكون من المعذبين } بإلقاء الشياطين وإن امتنع تنزلهم بالموافقة والمراقبة كقوله:
ألقى الشيطان في أمنيته
[الحج، الآية:52]، فإنه لا يأمن في الإنذار والنزول إلى مبالغ عقول المنذرين ونفوسهم إلقاءهم وإن أمن تنزلهم ومصاحبتهم وإغواءهم عند التلقي.
{ وأنذر عشيرتك الأقربين } من الذين يقارب استعدادهم استعدادك ويناسب حالهم بحسب الفطرة حالك، إذ القبول لا يكون إلا بجنسية ما في النفس وقرب في الروح.
{ واخفض جناحك } بالنزول إلى مرتبة من { اتبعك من المؤمنين } لتخاطبه بلسانه ليفهم، وترقيه عن مقامه فيصعد، وإلا لم يمكنهم متابعتك { فإن عصوك } لاستحكام الرين وتكاثف الحجاب فتبرأ عن حولهم وقوتهم وحولك وقوتك بالتوكل والفناء في أفعاله تعالى فإنهم وإياك لا يقتدرون على ما لم يشأ الله ولا يكون إلا ما يريد وشاهد في توكلك وفنائك عن أفعالك مصادر أفعاله من العزة التي يقهر بها من يشاء من العصاة فيحجبهم ويمنعهم من الإيمان والرحمة التي يرحم بها ويفيض النور على من يشاء من أهل الهداية فإنه يحجب المحجوبين بقهره وجلاله ويهدي المهتدي بلطفه وجماله، وليس لك من الأمر شيء
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء
[القصص، الآية:56].
{ الذي يراك } ويحضرك ويحفظك { حين تقوم } في النشأة في القيامة الصغرى والفطرة في الوسطى بالوحدة حين الاستقامة في الكبرى { وتقلبك } انقلابك وانتقالك في أطوار الفانين في أفعاله تعالى وصفاته وذاته بالنفس والقلب والروح في زمرتهم وقبل النشأة الاولى في أصلاب آبائك الأنبياء الفانين في الله عنها.
[26.220-227]
{ إنه هو السميع } لما تقوله { العليم } لما تعلمه فيعلم أنه ليس من كلام الشياطين وإلقائهم. { هل أنبئكم } إلى آخره، تقريره لقوله تعالى:
وما ينبغي لهم وما يستطيعون
[الشعراء، الآية:211] لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية المستمدة من الشياطين بالمناسبة، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية ومن جملتهم الشعراء الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة سواء كانت موزونة أم لا، فيتبعهم الغاوون الضالون في ذلك ويأخذون منهم التزويرات والمفتريات دون الذي ينظمون المعارف والحقائق والآداب والمواعظ والأخلاق والفضائل وما ينفع الناس ويفيد ويهيج أشواقهم في الطلب ويزيد، والله أعلم.
[27 - سورة النمل]
[27.1-3]
{ طس } أي: { تلك } الصفات العظيمة المذكورة في طسم التي أصلها الطهارة من صفات النفس وسلامة الاستعداد في الأصل عن النقص هي { آيات القرآن } أي: العقل القرآني وهو الاستعداد الحمدي الجامع لجميع الكمالات باطنا فإذا ظهرت وبرزت إلى الفعل في القيامة الكبرى كانت فرقانا، وقوله: { هدى وبشرى } قائم مقام (م) في طسم لأن الهداية إلى الحق والبشارة بالوصول لا يكونان إلا بعد الكمال العلمي، إذ الهداية للغير التي هي التكميل ملزومة العلم الذي هو الكمال، فيحصل الاكتفاء بها عنه وهما حالان معمولان لتلك المشار بها إلى الصفات المذكورة في { طسم } كما ذكر، أي: هاديا ومبشرا للمؤمنين، أي: الموقنين بعلم التوحيد.
{ الذين يقيمون } صلاة الحضور والمراقبة { ويؤتون الزكاة } عن صفات النفوس، أي: يزكون بالتجريد والمجاهدة { وهم بالآخرة } أي: مقام المشاهدة { يوقنون } يعني في حال المكاشفة يوقنون بالمعاينة والرسول يهديهم إليها ويبشرهم بجنة الذات والفوز الأعظم.
[27.4-8]
{ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } من المحجوبين بتزين نفوسهم بكمالاتها وهيئات أعمالها { فهم يعمهون } يعمون بصائرهم عن إدراك صفات الحق وتجليات أنوارها وإلا لم يحجبوا بصفاتهم وأفعالهم بل فنوا عنها. { أولئك الذين لهم سوء العذاب } بنيران الحجاب والحرمان عن لذات تجليات الصفات { وهم في الآخرة } ومقام كشف الذات في القيامة الكبرى { هم الأخسرون } لتكاثف حجابهم بصفاتهم وذواتهم فلا خلاق لهم من الجنتين ولذاتهما.
{ وإنك لتلقى القرآن } أي: العقل القرآني { من لدن } أي: من عين جمع الوحدة في الصفات الأول الذي لا حجاب بينه وبين الحضرة الأحدية بل هو نفسه الحجاب الأقدس المفيض لكل الاستعدادات من العقول الفرقانية على أربابها من الأعيان الثابتة الإنسانية { حكيم } ذي حكمة بالغة تامة وعلم محيط شامل.
اذكر من جملة علوم الحق وحكمه وقت قول موسى القلب { لأهله } من النفس والحواس الظاهرة والباطنة { امكثوا } واثبتوا ولا تشوشوا وقتي بالحركات { إني آنست } بعين البصيرة { نارا } أي: نار وما أعظمها هي نار العقل والفعال { سآتيكم منها بخبر } أي: علم بالطريقة إلى الله، وكان حاله أنه ضل الطريقة إلى الله برعاية أغنام القوى البهيمية وزوجه النفس الحيوانية { أو آتيكم بشهاب قبيس } أي: بشعلة نورية تشرق عليكم حين اتصالي بالنار وتنوري بها { لعلكم تصطلون } عن برد الركون إلى البدن والسكون إليه وهوى لذاته فتشتاقوا بحركة تلك النار إلى جناتي وتسيرون بمحبتي إلى مقام الصدر.
{ فلما جاءها نودي أن بورك } أي: كثر خير { من في النار } أي: هو موسى القلب الواصل إلى النار بتجليات الصفات الإلهية ووجدان الكمالات الحقيقية ومقام المكالمة عن النبوة { ومن حولها } من القوى الروحانية والملائكة السماوية بأنوار المكاشفة وأسرار العلوم والحكم والتأييدات القدسية والأحوال السرية والذوقية { وسبحان الله رب العالمين } ونزه ذات الله بتجردك عن الصفات النفسانية والغواشي الجسدانية والنقائص والمعائب.
[27.9-14]
{ أنا الله } القوي الذي قهر نفسك وكل شيء بالفناء فيه { الحكيم } الذي علمك الحكمة وهداك بها إلى مقام المكالمة { وألق } عصا نفسك القدسية المؤتلفة بشعاع القدس، أي: خلفا عن الضبط بالرياضة وأرسلها ولا تمنعها عن الحركة فإنها تنورت { فلما رآها } تضطرب وتتحرك { كأنها } حية غالبة بالظهور { ولى } إلى جناب الحق { مدبرا } خوف ظهور النفس { ولم يعقب } أي: لم يرجع وبقي مشتغلا بتدارك البقية { لا تخف } من استيلاء النفس وظهور الحجاب، فإن النفس إذا حييت بعد موتها بالإرادة وفنائها بالرياضة إن استقلت بنفسها واستبدت بأمر كانت حجابا وابتلاء، وإذا تحركت بأمري حية بنور الروح والمحبة الحقانية لا بهواها لم تكن حجابا { إني لا يخاف لدي المرسلون } الذين أرسلتهم بالبقاء بعد الفناء وأحييت نفوسهم بحياتي.
{ إلا من ظلم } بظهور النفس قبل وقت الاستقامة واستحكام مقام البقاء، فإنه ذنب حاله تجب عنه التوبة بالاستغفار والخوف بالابتلاء { ثم بدل حسنا } بالخوف والتدارك بقمعها والالتجاء إلى جناب الحق من شرها { بعد سوء } أية صفة ظهرت بها من صفاتها { فإني غفور } أستر بنوري ظلمتها { رحيم } أرحم بعد الغفران بصفتي القائمة صفتها الظاهرة هي بها.
{ وأدخل يدك } العاقلة العلمية { في جيبك } تحت لباس النفس متصلة بالقلب في إبطك الأيسر موضع الصدر { تخرج بيضاء } نورانية ذات قدرة { من غير سوء } أي: التلوين والظهور بصفة من صفاتها بل بالتنور بالنور { في تسع آيات } أي: اذهب بهاتين الآيتين بين النفس القدسية والعاقلة العلمية الحية إحداهما بحياة القلب، والمتنورة ثانيتهما بنوره، في جملة تسع آيات هما ثنتان منها والباقية هي السبع المشار إليها في قول المتكلمين بالقدماء السبعة: وهي الصفات الإلهية التي تجلى بها الحق تعالى على القلب فقامت مقام صفاته، وهي الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والتكلم. { إلى فرعون } النفس الأمارة بالسوء المحجوبة بالأنائية { وقومه } من قواها كلما ظهرت بتفرعنها على أية صفة في أي مظهر ظهرت وأينما وجدت اذهب بهذه الصفات { إنهم كانوا قوما فاسقين } خارجين عن دين الحق وطاعته بدين الهوى، منكرين للتوحيد بظهورهم.
{ فلما جاءتهم آياتنا مبصرة } منه نورانية تحيروا فيها { وجحدوا بها } بظهورهم بصفاتها ومخالفتها { ظلما وعلوا } وإن استيقنتها أنفسهم من طريق العلم والعقل لتفرعنها وتعودها بالاستعلاء وعدم ملكية العدل { فانظر كيف كان } عاقبتهم من الغرق في يم القطران لإفسادهم في أرض البدن بالطغيان.
[27.15-17]
{ ولقد آتينا داود } الروح { وسليمان } القلب { علما } واتصفا بالصفات الربانية العامة وذلك قولهما: { الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين }.
{ وورث سليمان } القلب { داود } الروح الملك بالسياسة والنبوة بالهداية { وقال يا أيها الناس } أي: نادى القوى البدنية وقت الرياسة عليها، وقال: { علمنا منطق الطير } القوى الروحانية { وأوتينا من كل شيء } من المدركات الكلية والجزئية والكمالات الكسبية والعطائية { إن هذا لهو الفضل المبين } أي: الكمال الظاهر الراجح صاحبه على غيره.
{ وحشر لسليمان جنوده } من جن القوى الوهمية والخيالية ودواعيها، وإنس الحواس الظاهرة، وطير القوى الروحانية بتسخيره ريح الهوى وتسليطه عليها بحكم العقل العملي، جالسا على كرسي الصدر، موضوعا على رفوف المزاج المعتدل { فهم يوزعون } يحبس أولهم على آخرهم ويوقفون على مقتضى الرأي العقلي لا يتقدم بعضهم بالإفراط ولا يتأخر البعض بالتفريط.
[27.18-19]
{ حتى إذا أتوا على وادي النمل } أي: نمل الحرص في جمع المال والأسباب في السير على طريق الحكمة العملية وقطع الملكات الردية { قالت نملة } هي ملكة الشره، ملكة دواعي الحرص. وكانت على ما قيل: عرجاء، لكسر العاقلة رجلها ومنعها بمخالفة طبعها عن مقتضاه من سرعة سيرها { يا أيها النمل } أي: الدواعي الحرصية الفائتة الحصر { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده } أي: اختبئوا في مقاركم ومحالكم ومباديكم لا يكسرنكم القلب والقوى الروحانية بالإماتة والإفناء. وهذا هو السير الحكمي باكتساب الملكات الفاضلة وتعديل الأخلاق وإلا لما بقيت للنملة الكبرى ولصغارها عين ولا أثر في الفناء بتجليات الصفات { فتبسم ضاحكا من قولها } أي: استبشروا بزوال الملكات الرديئة وحصول الملكات الفاضلة ودعا ربه بالتوفيق لشكر هذه النعمة التي أنعم بها عليه بالاتصاف بصفاته وأفعاله والفناء عن أفعال نفسه وصفاتها. وعلى والديه، أي: الروح والنفس بكمال الأول وتنوره وقبول الثانية وتأثرها بقوله: { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه } بالاستقامة في القيام بحقوق تجليات صفاتك والعبادات القلبية لوجهك ونور ذاتك { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } أي: بكمال ذاتك في زمرة الكمل الذين هم سبب صلاح العالم وكمال الخلق.
[27.20-24]
{ وتفقد } حال طير القوى الروحانية ففقد هدهد القوة المفكرة لأن القوة المفكرة إذا كانت في طاعة الوهم كانت متخيلة والمفكرة غائبة بل معدومة، ولا تكون مفكرة إلا إذا كانت مطيعة للعقل { لأعذبنه عذابا شديدا } بالرياضة القوية ومنعها عن طاعة الوهمية وتطويعها للعاقلة { أو لأذبحنه } بالإماتة { أو ليأتين بسلطان مبين } أو تصير مطواعة للعقل لصفاء جوهرها ونورية ذاتها فتأتي بالحجة البينة في حركتها.
{ فمكث غير بعيد } أي: لم يطل زمان رياضتها لقدسيتها وما احتاجت إلى الإماتة لطهارتها حتى رجعت بسلطان مبين، وتمرنت في تركيب الحجج على أصح المناهج { فقال أحطت بما لم تحط به } من أحوال مدينة البدن وإدراك الجزئيات وتركيبها مع الكليات، فإن القلب لا يدرك بذاته إلا بالكليات ولا يضمها إلى الجزئيات في تركيب القياس، واستنتاج واستنباط الرأي إلا الفكر وبواسطته يحيط بأحوال العالمين ويجمع بين خيرات الدارين { وجئتك من سبأ } مدينة الجسد { بنبأ يقين } عياني مشاهد بالحس.
{ إني وجدت امرأة تملكهم } هي الروح الحيوانية، المسماة باصطلاح القوم: النفس { وأوتيت من كل شيء } من الأسباب التي يدبرها البدن ويتم بها تملكه { ولها عرش عظيم } هو الطبيعة البدنية التي هي متكؤها بهيئة ارتفاعها من طبائع البسائط العنصرية التي هي المزاج المعتدل، أو تؤول مدينة سبأ بالعالم الجسماني، والعرش بالبدن.
{ وجدتها وقومها يسجدون } لشمس عقل المعاش المحجوب عن الحق بانقيادها له وإذعانها لحكمه دون الانقياد لحكم الروح والانخراط في سلك التوحيد، والإذعان لأمر الحق وطاعته { وزين لهم } شيطان الوهم { أعمالهم } من تحصيل الشهوات واللذات البدنية والكمالات الجسمانية { فصدهم عن } سبيل الحق وسلوك طريق الفضيلة بالعدل { فهم لا يهتدون } إلى التوحيد والصراط المستقيم.
[27.25-27]
{ ألا يسجدوا لله } أي: فصدهم عن السبيل لئلا ينقادوا ويذعنوا في إخراج كمالاتهم إلى العقل { الذي يخرج الخبء } أي: المخبوء من الكمالات الممكنة في سموات الأرواح وأرض الجسم { ويعلم ما يخفون } مما فيهم بالقوة من الكمالات بالأعمال الحاجبة والمانعة لخروج ما في الاستعداد إلى العقل { وما يعلنون } من الهيئات المظلمة والأخلاق المردية.
{ الله لا إله إلا هو } فلا يجوز التعبد والانقياد إلا له { رب العرش العظيم } المحيط بكل شيء، فما أصغر عرش بلقيس النفس في جنب عظمته، فكيف لا تطيعه وتحتجب بمحبة عرشها عن طاعته { سننظر أصدقت } في تضليلهم والإحاطة بأحوالهم بالطريق العقلي { أم كنت من الكاذبين } بموافقة الوهم وتركيب التخيلات الفاسدة.
[27.28-36]
{ اذهب بكتابي هذا } أي: الحكمة العملية والشريعة الإلهية { فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون } أيقبلون الطاعة والانقياد أم يأبون { إنه من سليمان } أي: باسم الذات الموصوفة بإفاضة الاستعداد وما يخرج به ما فيه إلى العقل من الآلات وإفاضة الكمال المناسب له من الأخلاق والصفات.
{ ألا تعلو علي } ألا تغلبوا ولا تستعلوا { وائتوني } منقادين مستسلمين. وقولها: { يا أيها الملأ أفتوني } إلى آخره، إشارة إلى قابلية النفس ونجابة جوهرها ومخالفتها لأمر قواها في الاستعلاء والغرور بهيئة الشوكة والاستيلاء، وإن لم يمكنها القبول إلا بمظاهرتهم ومشاورتهم. وإفساد القرية وإذلال أعزتها إشارة إلى منعها عن الحظوظ واللذات، وقمع ما يغلب ويستولي على القوى بالرياضات.
{ وإني مرسلة إليهم بهدية } من أموال المدركات الحسية والشهوات النفسية، واللذات الوهمية والخيالية، وإمداد المواد الهيولانية بتزيينها عليهم وتسويلها لهم على أيدي الهواجس والدواعي والبواعث { فناظرة } هل يقبلها فيلين ويميل إلى النفس أو يردها فيتصلب في الميل إلى الحق { فما آتاني الله } من المعارف اليقينية والحقائق القدسية واللذات العقلية والمشاهدات النورية { خير مما آتاكم } من المزخرفات الحسية والخيالية والوهمية { بل أنتم بهديتكم تفرحون } لا نحن، وإنما فرحنا بما هو من عند الله لا بما ذكر.
[27.37-40]
{ ارجع إليهم } خطاب للمتخيل المرسل العارض للهدايا عليهم بالتسويل { فلنأتينهم بجنود } من القوى الروحانية وأمداد الأنوار الإلهية { لا } طاقة { لهم بها ولنخرجنهم منها } بالقهر والاستيلاء والقمع { أذلة وهم } أذلاء بالطبع والرتبة لدنو مرتبتهم في الأصل والطينة وتنويرها بالآداب { قبل أن يأتوني مسلمين } أي: قبل قرب النفس وقواها بالأخلاق والطاعة، فإن تسخير القوى الطبيعية بالأعمال والآداب أسهل وأقرب من تسخير النفس الحيوانية وقواها بالأخلاق والملكات. والعفريت هو الوهم لأنه يسخرها بالخوف والرجاء ويبعثها على الأعمال بالدواعي الوهمية والأماني الموافقة.
{ قبل أن تقوم من مقامك } أي: ما دمت في مقام الصدر قبل الترقي إلى مقام السر، فإن الوهم حينئذ ينعزل عن فعله بالهداية والمشايعة: { والذي عنده علم من الكتاب } هو العقل العملي الذي عنده بعض العلم وهو الحكمة العملية والشريعة من كتاب اللوح المحفوظ يسخرها ويقربها ويبعثها على الطاعات بتحبيب الكمال وحصول الشرف والذكر الجميل والكرامة إليها { قبل أن يرتد إليك طرفك } أي: نظرك إلى ذاتك وما ينبغي لها من الترقي إلى عالمك في عالم القدس لإدراك الحقائق والمعارف الكلية، والمشاهدات الحقة العينية، فإن الكمال العملي مقدم على الكمال الذوقي والكشفي { فلما رآه مستقرا عنده } ثابتا على حالة اتصاله به، متمرنا في الطاعة غير متغير بالدواعي الشهوانية والنوازع الشيطانية { قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر } بالطاعة والعمل بالشريعة { أم أكفر } بالمعصية ومخالفة الشريعة، أو أشكر عند التوفيق للطاعة بالسلوك في الطريقة والإقبال على الحضرة، وتبديل الصفات، ومراقبة التجليات، أم أكفر بالاحتجاب برؤية الأعمال، والإدبار عن الحق بالغرور والعجب، والوقوف مع المعقول والعقل.
[27.41-44]
{ نكروا لها عرشها } بتغيير العادات وترك المذمومات، ونهك القوى الطبيعية بالرياضات، وتنكيسه بجعل ما كان أعلى رتبة منه عندها وهي الهيئات البدنية وراحات البدن ولذاته، وما كان في جهة الإفراط من الأكل والشرب والنوم وأمثالها، والقوى الطبيعية المستعلية أسفل، وما كان أسفل من أنواع التعب والرياضة والتقليل والسهر، وكل ما مال إلى التفريط من الأمور البدنية والقوى الروحانية المستضعفة أعلى { ننظر أتهتدي } إلى الفضائل وطرق الكمالات بالرياضة لنجاة جوهرها وشرف أصلها وحسن استعدادها وقبولها { أم تكون من الذين لا يهتدون } إليها لعكس ما ذكر.
{ فلما جاءت } مترقية إلى مقام القلب متنورة بأنواره، متخلقة بأخلاقه، منقادة مستسلمة بجنودها { قيل أهكذا عرشك } أي: على هذه الصورة المغيرة عرشك أم على الصورة الأولى؟ أي: أهذا صورته المستوية التي ينبغي أن يكون عليها أم تلك، وتلك منكوسة أم هذه { قالت كأنه هو } أي: كأن هذا بالنسبة إلى حالي هو بالنسبة إلى الحالة الأولى، أي: إذا كنت متوجهة إلى جهة السفل كان عرشي على تلك الصورة مطابقا لحالي { وأوتينا العلم } من قبل هذه الحالة، أي: أوتيناه في الأزل عند ميثاق الفطرة { وكنا } منقادين قبل هذه النشأة إلا أننا نسينا فتذكرنا الساعة { وصدها ما كانت تعبد } من شمس عقل المعاش بصرفها إلى التوحيد { إنها كانت من قوم } محجوبين عن الحق { قيل لها ادخلي الصرح } أي: مقام الصدر الذي هو صرح ممرد مملس عن تقابل الأضداد وتخالف الطباع مستويا بالتجرد عن المواد من قوارير أنوار القلب الصافي المشبه بالزجاجة في الصفاء والتنور { فلما رأته حسبته لجة } بحر الوحدة لكونه غاية رتبتها في التجرد والترقي ونهاية كمالها في التداني والتلقي، ولا يتجاوز نظرها إلى أعلى منه وكل ما لا يمكن فوقه من الكمال لشيء فيه نهايته في التوحيد ومعظم ما يستغرق فيه من جمال المعبود والمطلوب { وكشفت عن ساقيها } يعني: جردت جهتها السفلية التي تلي البدن وتسعى بها فيه المنقسمة إلى القوة الغضبية والشهوية عن الغواشي البدنية والملابس الهيولانية بقطع التعلقات لكن كان عليها شعر الهيئات الباقية من أعمالها والآثار المسودة من كدوراتها، ومن هذا قيل: يدخل سليمان الجنة بعد الأنبياء بخمسمائة خريف ويحبو حبوا { ظلمت نفسي } بالاحتجاب واتخاذ العقل المشوب بالوهم، المشرب بالهوى، إلها ومعبودا { وأسلمت } بالانقياد لأمر الحق والانخراط في سلك التوحيد { مع سليمان لله رب العالمين } وعلى تأويل العرش بالبدن يستقيم هذا أيضا ويتجه وجه آخر وهو أن يراد أنها كانت محجوبة بمعقولها ما بقي عرشها، وما انقادت لسليمان القلب إلا في النشأة الثانية، فعلى هذا يكون { الذي عنده علم من الكتاب } هو العقل الفعال وإيتاؤه به قبل ارتداد الطرف إيجاد البدن الثاني في آن واحد، ومعنى: { قبل أن يأتوني مسلمين } تقدم مادة البدن على تعلق النفس به. وقال ابن الأعرابي رحمه الله: إن الإتيان كان بإفنائه ثمة وإيجاده بحضرة سليمان والتنكير تغيير الصورة. ومعنى: كأنه هو أنه يشابه صورته، والصرح هو مادة البدن الثاني، فيكون دخول الصرح على هذا مقدما على تنكير الصورة، وكشف الساقين قطع تعلق البدن الأول دون زوال الهيئات البدنية التي هي بمثابة الشعر، وهذا بناء على أن النفوس المحجوبة الناقصة لا بد لها من التعلق والله أعلم.
[27.45-53]
{ ولقد أرسلنا إلى ثمود } أي: أهل الماء القليل الذي هو المعاش صالح القلب بالدعوة إلى التوحيد { فإذا هم فريقان } فريق القوى الروحانية وفريق القوى النفسانية { يختصمون }. تقول الأولى: ما جاء به صالح حق، وتقول الثانية: بل باطل، وما نحن عليه حق { لم تستعجلون بالسيئة } أي: الاستيلاء على القلب بالرذيلة { قبل } الإتيان بالفضيلة { لولا تستغفرون الله } بالتنور بنور التوحيد، والتنصل عن الهيئات البدنية المظلمة { لعلكم ترحمون } بإفاضة الكمال.
{ اطيرنا بك } لمنعك إيانا من الحظوظ والترفه { طائركم عند الله } سبب خيركم وشركم من الله. والرهط المفسدون الحواس: الغضب والشهوة والوهم والتخيل، وتبييته: إهلاكه في ظلمة ليل النفس، والولي: الروح، ومكر الله بهم: إهلاكهم بهد جبال الأعضاء عليهم وتدميرهم في غار محلهم وتدمير قومهم بالصيحة التي هي النفخة الأولى.
[27.54-59]
وفاحشة قوم لوط في هذا التطبيق وهي إتيان الذكور، إتيان القوى النفسانية أدبار القوى الروحانية واستنزالهم عن رتبة التأثير بتأثرهم عن تأثير هذه من الجهة السفلية واستيلاؤها عليهم في تحصل اللذات والشهوات البدنية بهم.
{ قل الحمد لله } بظهور كمالاته وتجليات صفاته على مظاهر مخلوقاته { وسلام على عباده الذين اصطفى } بصفاء استعداداتهم وبراءتهم من النقص والآفة، فالحمد مطلقا مخصوص به لكون جميع الكمالات الظاهرة على مظاهر الأكوان صفاته الجمالية والجلالية ليس لغيره فيها نصيب، وصفاء ذوات المصطفين من عباده ونزاهة أعيانهم عن نقص الاستعداد، وآفة الحجاب سلامه عليهم وحصول الأمرين للمظهر التام النبوي بالفعل هو قوله ذلك مأمورا به من عين الجمع في مقام التفصيل، منتقلا من مقام التفصيل لعين الجمع، مبتدئا منه وراجعا إليه { آلله } الذي له الحمد المطلق والسلام المطلق، خير مطلق محض في ذاته { أما يشركون } من الأكوان التي أثبتوا لها وجودا وتأثيرا إذ لا يبقى بعد الكمال المطلق والقبول المطلق الذي هو اسم السلام المطلق باعتبار الفيض الأقدس إلا العدم البحت، والشر الصرف المطلق الذي يقابل الخير المحض المطلق فكيف يكون خيرا.
[27.60-86]
{ أمن خلق السموات والأرض } أي: المؤثر المطلق الموجد للكل من الأعيان الممكنة وصفاتها خير في التأثير والإيجاد، أم ما لا وجود له، فكيف بالتأثير والإيجاد. { أإله مع الله } في التأثير والإيجاد { بل هم قوم يعدلون } عن الحق، فيثبتون الباطل بالتوهم. { أمن يهديكم } إلى نور ذاته { في ظلمات البر } أي: حجب الأكوان والأفعال { والبحر } أي: حجب الصفات { ومن يرسل } رياح النفحات محيية للقلوب من يدي رحمة التجليات.
{ أمن يبدأ الخلق } باختفائه بأعيانهم واحتجابه بذواتهم { ثم يعيده } بإفنائهم في عين الجمع وإهلاكهم في ذاته بالطمس أو بإظهارهم في النشأة وإعادتهم إلى الفطرة { ومن يرزقكم من السماء } الغذاء الروحاني { و } من { الأرض } الجسماني إذ من السماء المعارف والحقائق ومن الأرض الحكم والأخلاق.
{ وإذا وقع القول عليهم } أي: وإذا تحقق وقوع ما سبق في القضاء حكمنا به من الشقاوة الأبدية عليهم { أخرجنا لهم دابة } من صورة نفس كل شقي مختلفة الهيئات والأشكال هائلة، بعيدة النسبة بين أطرافها وجوارحها على ما ذكر من قصتها بحسب تفاوت أخلاقها وملكاتها من أرض البدن قدام القيامة الصغرى التي هي من أشراطها { تكلمهم } بلسان حياتها وصفاتها { أن الناس كانوا بآياتنا } قدرتنا على البعث { لا يوقنون }.
[27.87-93]
{ ويوم ينفخ في الصور } النفخة الأولى نفخة الإماتة في القيامة الصغرى { ففزع من في السموات ومن في الأرض } من العقلاء المجردين والجهال والجهار البدنيين، أو من القوى الروحانية والجسمانية { إلا من شاء الله } من الموحدين الفانين في الله، والشهداء القائمين بالله { وكل أتوه } إلى المحشر للبعث، صاغرين، أذلاء ، لا قدرة لهم ولا اختيار، أو أتوه منقادين قابلين لحكمه بالموت.
{ وترى } جبال الأبدان { تحسبها جامدة } ثابتة في مكانها { وهي تمر } وتذهب وتتلاشى بالتحليل كالسحاب لتجتمع أجزاؤها عند البعث في اليوم الطويل { صنع الله } أي: صنع هذا النفخ والإماتة والإحياء لمجازاة العباد بالأعمال صنعا متقنا يليق به { إنه خبير بما تفعلون } { من جاء بالحسنة } أي: بمحو صفة من صفات نفسه بالتوبة إلى الله عنها من قيام صفة إلهية مقامها. { ومن جاء بالسيئة } باحتجابه بصفة من صفات نفسه { فكبت وجوههم } بتنكيس بنائهم لشدة ميلهم إلى الجهة السفلية في نار الطبيعة { هل تجزون } إلا بصور أعمالكم وجعل هيئاتها صوركم.
{ إنما أمرت أن } لا ألتفت إلى غير الحق و { أعبد رب هذه البلدة } أي: القلب { الذي حرمها } حماها عن استيلاء صفات النفس ومنعها من دخول أهل الرجس وآمنها وآمن من فيها لئلا ينكب وجهي في نار الطبيعة { وله كل شيء } أي: تحت ملكوته وربوبيته يعطي عابده ما شاء أن يعطيه ويمنعه ما شاء أن يمنعه ويدفع من غالبه { وأمرت أن أكون من المسلمين } الذين أسلموا وجوههم بالفناء فيه { وأن أتلو القرآن } أفضل الكمالات المجموعة في إبرازها وإخراجها إلى الفعل في مقام البقاء { وقل الحمد لله } بالاتصاف بصفاته الحميدة { سيريكم } صفاته في مقام القلب { فتعرفونها } أو آيات أفعاله وآثارها بالقهر في مقام النفس فتعرفونها عند التعذب بها أو { يوم ينفخ في الصور } بتجلي الذات في القيامة الكبرى، { ففزع من في السماوات ومن في الأرض } بصعقة الفناء والقهر الكلي إلا من شاء الله من أهل البقاء الذين أحيوا لحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء به
وكل أتوه داخرين
[النمل، الآية: 87] ساقطين عن درجة الحياة والوجود، مقهورين. وترى جبال الوجودات تحسبها جامدة ثابتة على حالها ظاهرا وهي تمر مر السحاب في الحقيقة زائلة.
[28 - سورة القصص]
[28.1-6]
{ إن فرعون } النفس الأمارة استعلى وطغى في أرض البدن { وجعل أهلها } فرقا مختلفة متخالفة متعادية لاتباعهم السبل المتفرقة وتجافيهم عن طريق العدل والتوحيد والصراط المستقيم { يستضعف طائفة منهم } هم أهل القوى الروحانية { يذبح } من ناسب الروح في التأثير والتعلي من نتائجها بإماتته وعدم امتثال داعيته وقهره { ويستحيي } ما ناسب النفس في التأثر والتسفل بتقويته وإطلاقه في فعله.
{ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا } بالإذلال والإهانة والاستعمال في الأعمال الطبيعية والاستخدام في تحصيل اللذات البهيمية والسبعية وذبح الأبناء واستحياء النساء، فننجيهم من العذاب { ونجعلهم } رؤساء مقدمين { ونجعلهم } وراث الأرض وملوكها بإفناء فرعون وقومه { ونمكن لهم في الأرض } بالتأييد { ونري فرعون } النفس الأمارة { وهامان } العقل المشوب بالوهم المسمى عقل المعاش { وجنودهما } من القوى النفسانية { ما كانوا يحذرون } من ظهور موسى القلب وزوال ملكهم ورياستهم على يده.
[28.7-10]
{ وأوحينا إلى أم موسى } أي: النفس الساذجة السليمة الباقية على فطرتها وهي اللوامة { أن أرضعيه } بلبان الإدراكات الجزئية والعلوم النافعة الأولية { فإذا خفت عليه } من استيلاء النفس الأمارة وأعوانها { فألقيه } في يم العقل الهيولاني والاستعداد الأصلي أو في يم الطبيعة البدنية بالإخفاء { ولا تخافي } من هلاكه { ولا تحزني } من فراقه { إنا رادوه إليك } بعد ظهور التمييز ونور الرشد { وجاعلوه من المرسلين } إلى بني إسرائيل.
{ فالتقطه آل فرعون } من القوى النفسانية الظاهرة عليه، الغالبة على أمره، فإنه لا يصل إلى التمييز والرشد ولا يتوقى إلا بمعاونة التخيل والوهم وسائر المدركات الظاهرة والباطنة وإمدادها { ليكون لهم عدوا وحزنا } في العاقبة ويعلم أن أعدى عدوه النفس التي بين جنبيه فيقهرها وأعوانها بالرياضة ويفنيها بالقمع والكسر والإماتة.
{ وقالت امرأة فرعون } أي: النفس المطمئنة العارفة بنور اليقين والسكينة حالة المحبة لصفائها له التي تستولي عليها الأمارة وتؤثر فيها بالتلوين { قرة عين لي } بالطبع للتناسب { ولك } بالتوسط ورابطة الزوجية والتواصل. وقيل، قال فرعون: لك لا لي. وعالجوا التابوت فلم ينفتح، ففتحته آسية بعدما رأت نورا في جوفه فأحبته { عسى أن ينفعنا } في تحصيل أسباب المعاش ورعاية المصالح وتدبير الأمور بالرأي { أو نتخذه ولدا } بأن يناسب النفس دون الروح، ويتبع الهوى، ويخدم البدن بالإصلاح، فيقوينا { وهم لا يشعرون } على أن الأمر على خلاف ذلك.
{ وأصبح فؤاد أم موسى } أي: النفس الساذجة اللوامة { فارغا } عن العقل من استيلاء فرعون عليها وخوفها منه لمقهوريتها له { إن كادت لتبدي به } أي: كادت تطيع النفس الأمارة باطنا وظاهرا فلا تخالفها بسرها وما أضمرته من نور الاستعداد وحال موسى المخفي لكونه بالقوة بعد { لولا أن ربطنا على قلبها } أي: صبرناها وقويناها بالتأييد الروحي والإلهام الملكي { لتكون من المؤمنين } بالغيب لصفاء الاستعداد.
[28.11-14]
{ وقالت لأخته } القوة المفكرة { قصيه } أي: اتبعيه وتفقدي حاله بالحركة في تصفح معانيه المعقولة وكمالاته العلمية والعملية { فبصرت به عن جنب } أدركت حاله عن بعد لأنها لا ترتقي إلى حده ولا تطلع عن مكاشفته وأسراره وما يحصل له من أنوار صفاته { وهم لا يشعرون } أي: لا يطلعون على اطلاع أخته عليه لقصور جميع القوى النفسانية عن حد المفكرة وبلوغ شأوه.
{ وحرمنا عليه المراضع } أي: منعناه من التقوي والتغذي بلذات القوى النفسانية وشهواتها وقبول أهوائها وإعدادها { من قبل } أي: قبل استعمال الفكر بنور الاستعداد وصفاء الفطرة { فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } بالقيام بتربيته بالأخلاق والآداب ويرضعونه بلبان المبادىء من المشاهدات والوجدانيات والتجريبات، وما طريقة الحس والحدس من العلوم { وهم له ناصحون } يشدونه بالحكم العملية والأعمال الصالحة، ويهذبونه ولا يغوونه بالوهميات والمغالطات، ويفسدونه بالرذائل والقبائح.
{ فرددناه إلى أمه } النفس اللوامة بالميل نحوها والإقبال { كي تقر عينها } بالتنور بنوره { ولا تحزن } بفوات قرة عينها وبهائها وتقويتها به { ولتعلم } بحصول اليقين بنوره { أن وعد الله } بإيصال كل مستعد إلى كماله المودع فيه وإعادة كل حقيقة إلى أصلها { حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك فلا يطلبون الكمال المودع فيهم لوجود الحجاب وطريان الشك والارتياب.
{ ولما بلغ أشده } أي: مقام الفتوة وكمال الفطرة { واستوى } استقام بحصول كماله ثم بتجرده عن النفس وصفاته { آتيناه حكما وعلما } أي: حكمة نظرية وعملية { وكذلك نجزي المحسنين } المتصفين بالفضائل، السائرين في طريق العدالة.
[28.15-19]
{ ودخل } مدينة البدن { على حين غفلة من أهلها } أي: في حال هدو القوى النفسانية وسكونها حذرا من استيلائها عليه وعلوها { فوجد فيها رجلين يقتتلان } أي: العقل والهوى { هذا } أي: العقل { من شيعته وهذا } أي: الهوى { من عدوه } من جملة أتباع شيطان الوهم وفرعون النفس الأمارة { فاستغاثه } العقل واستنصره على الهوى { فوكزه } ضربه بهيئة من هيئات الحكمة العملية بقوة من التأييدات الملكية بيد العاقلة العملية فقتله { قال هذا } الاستيلاء والاقتتال { من عمل الشيطان } الباعث للهوى على التعدي والعدوان { إنه عدو مضل مبين } أو هذا القتل من عمل الشيطان، لأن علاج الاستيلاء بالإفراط لا يكون بالفضيلة التي هي العدالة الفائضة من الرحمن بل إنما يكون بالرذيلة التي يقابلها من جانب التفريط كعلاج الشره بالخمود وعلاج البخل بالتبذير والإسراف بالتقتير كلاهما من الشيطان { إني ظلمت نفسي } بالإفراط والتفريط { فاغفر لي } استر لي رذيلة ظلمي بنور عدلك { فغفر له } صفات نفسه المائلة إلى الإفراط والتفريط بنوره، فحصلت له العدالة { إنه هو الغفور } الساتر هيئات النفس بنوره { الرحيم } بإفاضة الكمال عند زكاء النفس عن الرذائل.
{ قال رب بما أنعمت علي } أي: اعصمني بما أنعمت علي من العلم والعمل { فلن أكون ظهيرا } معاونا { للمجرمين } المرتكبين الرذائل من القوى النفسانية { فأصبح } في مدينة البدن { خائفا } من استيلاء القوى النفسانية بإشارة الدواعي والهواجس وإلقاء أحاديث النفس والوساوس في مقام المراقبة { يستصرخه } أي: يستنصره العقل على أخرى من قوى النفس وهي الوهم والتخيل لأنهما يفسدان في مقام الترقب، ويثيران الوساوس والهواجس ويبعثان النوازع والدواعي ولا ينكسران ولا يفتران في حال ما من أحوال وجود القلب إلا عند الفناء في الله، ألا ترى إلى معارضته ومماراته له في قوله: { إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } وإنما نسب صاحبه الذي هو العقل بقوله: إنك لغوي، لافتتانه بالوهم وعجزه عن دفعه واحتياجه في معارضته إلى القلب، وإنما أراد أن يبطش ولما تيسر له البطش، ومانعه وأنكر فعله، بقوله: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟، لأن القلب ما لم يصل إلى مقام الروح ولم يفن في مقام الولاية، ولم يتصف بالصفات الإلهية لم يذعن له شيطان الوهم لأنه من المنظرين إلى يوم القيامة الكبرى، فما دام القلب في مقام الفتوة متصفا بكمالاته في القيامة الوسطى يطمع هو في إغوائه ولا ينقهر ولا يمتنع بمجرد الكمال العلمي والعملي عن استعلائه.
[28.20-25]
{ وجاء رجل من أقصى المدينة } هو الحب الباعث على السلوك في الله الذي يسمونه الإرادة، وإتيانه من أقصى المدينة: انبعاثه من مكمن الاستعداد عند قتل هوى النفس { يسعى } إذ لا حركة أسرع من حركته يحذره عن استيلائهم عليه وينبهه على تشاورهم وتظاهرهم عند ظهور سلطان الوهم عليه ومقابلته ومماراته ومجادلته له على هلاكه بالإضلال { فاخرج } عن مدينتهم حدود سلطنتهم إلى مقام الروح { إني لك من الناصحين } { فخرج } بالأخذ في المجاهدة في الله ودوام الحضور والمراقبة { خائفا } من غلبتهم، متلجئا إلى الله في طلب النجاة من ظلمهم.
{ ولما توجه تلقاء مدين } مقام الروح، غلب رجاؤه على الخوف لقوة الإرادة وطلب الهداية الحقانية بالأنوار الروحية و التجليات الصفاتية إلى سواء سبيل التوحيد وطريقة السير في الله.
{ ولما ورد ماء مدين } أي: مورد علم المكاشفة ومنهل علم السر والمكالمة { وجد عليه أمة من الناس } من الأولياء والسالكين في الله والمتوسطين الذين مشربهم من منهل المكاشفة { يسقون } قواهم ومريديهم منه، أو العقول المقدسة والأرواح المجردة من أهل الجبروت فإنها في الحقيقة أهل ذلك المنهل، يسقون منه أغنام النفوس السماوية والإنسية وملكوت السموات والأرض { ووجد من دونهم } من مرتبة أسفل من مرتبتهم { امرأتين } هما العاقلتان النظرية والعملية { تذودان } أغنام القوى عنه لكون مشربها من العلوم العقلية والحكمة العملية قبل وصول موسى القلب إلى المناهل الكشفية والموارد الذوقية ولا نصيب لها من علوم المكاشفة { لا نسقي حت يصدر الرعاء } أي: شربنا من فضلة رعاء الأرواح والعقول المقدسة عند صدورها عن المنهل متوجهة إلينا، مفيضة علينا فضلة الماء { وأبونا } الروح { شيخ كبير } أكبر من أن يقوم بالسقي { فسقى لهما } من مشرب ذوقه ومنهل كشفه بالإفاضة على جميع القوى من فيضه، لأن القلب إذا ورد منهلا ارتوى من فيضه في تلك الحالة جميع القوى وتنورت بنوره { ثم تولى } من مقامه { إلى الظل } أي: ظل النفس في مقام الصدر مستحقرا لعلمه المعقول بالنسبة إلى العلوم الكشفية مستمدا من فضل الحق ومقامه القدسي والعلم اللدني الكشفي.
{ فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } أي: محتاج سائل لما أنزلت إلي من الخير العظيم الذي هو العلم الكشفي وهو مقام الوجد والشوق، أي: الحال السريع الزوال وطلبه حتى يصير ملكا.
{ فجاءته إحداهما } هي النظرية المتنورة بنور القدس التي تسمى حينئذ القوة القدسية { تمشي على استحياء } لتأثرها منه وانفعالها بنوره { إن أبي يدعوك } أشار به إلى الجذبة الروحية بنور القوة القدسية واللمة الملكية { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } أي: ثواب ارتواء القوى الشاغلة الحاجبة من استفاضتك وتنورها بنورك فإنها إذا انفعلت بالبارق القدسي، وارتوت بالفيض السري، سهل الترقي إلى جناب القدس وقوي استعداد القلب للاتصال بالروح لزوال الحجب أو زوال ظلمتها وكثافتها.
{ فلما جاءه } واتصل به وترقى في مقامه، وأطلع الروح على حاله { قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } وهو صورة حاله.
[28.26-28]
{ قالت إحداهما يا أبت استأجره } أي: استعمله بالمجاهدة في الله والمراقبة لحاله في رعاية أغنام القوى حتى لا تنتشر فتفسد جمعيتنا وتشوش فرقتنا، وبالذكر القلبي في مقام تجليات الصفات والسير فيها بأجره ثواب التجليات وعلوم المكاشفات { إن خير من استأجرت } لهذا العمل { القوي } على كسب الكمال { الأمين } الذي لا يخون عهد الله بالوفاء بإبرازها في الاستعداد من وديعته أو لا يخون الروح بالميل إلى بناته فيحتجب بالمعقول. وقد قيل: إن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال، وقيل عشرة، فأقله وحده وذلك قوته. وفيها إشارة إلى أن العلم اللدني لا يحصل إلا بالاتصاف بالصفات السبع الإلهية أو العشر.
{ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } أي: أجعلها تحتك، تحظى عندك بنور القدس وعلوم الكشف وتكون بحكمك وأمرك لا تحتجب عنك بقولها { على أن تأجرني ثماني حجج } أي: تعمل لأجلي بالمجاهدة حتى تأتي عليك ثمانية أطوار هي أطوار الصفات السبعة الإلهية بالفناء عن صفاته في صفات الله التي آخرها مقام المكالمة مع طور المشاهدة التي يتم بها الوصول المطلوبة بقوله:
رب أرني أنظر إليك
[الأعراف، الآية:143].
{ فإن أتممت عشرا } بالترقي في طورين آخرين هما الفناء في الذات والبقاء بعده بالتحقق { فمن عندك } فمن كمال استعدادك وقوته وخصوصية عينك واقتضاء هويتك وهي الكمالات العشر التي ابتلى بها إبراهيم ربه فأتمهن فجعله إماما للناس في مقام التوحيد والله أعلم. { وما أريد أن أشق عليك } أحمل عليك فوق طاقتك وما لا يفي به وسع استعدادك { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } المربين بما يصلح للوصول من الإفاضات والعلوم، الهادين إلى ما في أصل الاستعداد من الكمال المودع في عين الذات بالأنوار، غير مكلفين ما لم يكن في وسعك.
{ ذلك بيني وبينك } ذلك الأمر الذي عاهدتني عليه قائم بيني وبينك، يتعلق بقوتنا واستعدادنا وسعينا، لا مدخل لغيرنا فيه { أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي } أيما النهايتين بلغت فلا إثم علي، إذ لا علي إلا السعي. وأما البلوغ فهو بحسب ما أوتيت من الاستعداد في الأزل وإنما تتقدر قوتي في السعي بحسب ذلك والله هو الذي وكل إليه أمرنا وفي ذلك شاهد عليه، أي: ما أوتينا من الكمال المقدر لنا أمر تولاه الله بنفسه وعينه من فيضه الأقدس لا يمكن لأحد تغييره ولا يطلع عليه أحد غيره، ولا يعلم قبل الوصول قدر الكمال المودع في الاستعداد وهو غيب الغيوب الذي استأثر به الله لذاته.
[28.29-32]
{ فلما قضى موسى الأجل } أي: بلغ حد الكمال الذي هو أقصر الأجلين { وسار بأهله } من القوى بأسرها إلى جانب القدس مستصحبا للجميع بحيث لم يمانعه ولم يتخلف عنه واحدة منها، وحصل له ملكة الاتصال للتدرب في المجاهدة والمراقبة بلا كلفة { آنس من جانب الطور } طور السر الذي هو كمال القلب في الارتقاء نار روح القدس وهو الأفق المبين الذي أوحى منه إلى من أوحى إليه من الأنبياء { في البقعة المباركة } أي: مقام كمال القلب المسمى سرا من شجرة نفسه القدسية { أن يا موسى إنني أنا الله } وهو مقام المكالمة والفناء في الصفات فيكون القائل والسامع هو الله، كما قال:
" كنت سمعه الذي به يسمع، ولسانه الذي به يتكلم "
وإلقاء العصا والإدبار وإظهار اليد البيضاء مر تأويله في سورة (النمل).
{ واضمم إليك جناحك من الرهب } أي: لا تخف من الاحتجاب والتلوين عند الرجوع من الله واربط جأشك بتأييدي آمنا متحققا بالله. وقد سمعت شيخنا المولى نور الدين عبد الصمد قدس الله روحه العزيز في شهود الوحدة ومقام الفناء عن أبيه أنه كان بعض الفقراء في خدمة الشيخ الكبير شهاب الدين السهروردي في شهود الوحدة ومقام الفناء ذا ذوق عظيم، فإذا هو في بعض الأيام يبكي ويتأسف، فسأله الشيخ عن حاله. فقال: إني حجبت عن الوحدة بالكثرة، ورددت، فلا أجد حالي. فنبه الشيخ على أنه بداية مقام البقاء، وإن حاله أعلى وأرفع من الحال الأولى وأمنه { فذانك برهانان من ربك } من التمتع المذكور.
[28.33-43]
{ وأخي هارون } العقل { هو أفصح مني لسانا } لأن العقل بمثابة لسان القلب ولولاه لم يفهم أحوال القلب، إذ الذوقيات ما لم تدرج في صورة المعقول وتتنزل في هيئة العلم والمعلوم، وتقرب بالتمثيل والتأويل إلى مبالغ فهوم العقول والنفوس لم يمكن فهمها { ردءا يصدقني } عونا يقرر معناي في صورة العلم بمصداق البرهان { إني أخاف أن يكذبون } لبعد حالي عن أفهامهم وبعدهم عن مقامي وحالي فلا بد من متوسط.
{ سنشد عضدك بأخيك } نقويك بمعاضدته { ونجعل لكما } غلبة بتأثيرك فيهم بالقدرة الملكوتية وتأييدك العقل بالقوة القدسية، وإظهار العقل كمالك في الصورة العملية والحجة القياسية { فأوقد لي يا هامان } نار الهوى على طين الحكمة الممتزجة من ماء العلم وتراب الهيئات المادية { فاجعل لي } مرتبة عالية من الكمال، من صعد إليها كان عارفا. وهو إشارة إلى احتجابه بنفسه، وعدم تجرد عقله من الهيئات المادية لشوب الوهم. أي: حاولت النفس المحجوبة بأنائيته من عقل المعاش المحجوب بمعقوله أن يبني بنيانا من العلم والعمل المشوبين بالوهميات، ومقاما عاليا من الكمال الحاصل بالدراسة والتعلم لا بالوراثة والتلقي، من استعلى عليه توهم كونه عارفا بالغا حد الكمال، كما ذكر في الشعراء أنهم كانوا قوما محجوبين بالمعقول عن الشريعة والنبوة، متدربين بالمنطق والحكمة، معتنين بهما، معتقدين الفلسفة غاية الكمال، منكرين للعرفان والسلوك والوصال { لعلي أطلع إلى إله موسى } بطريقة التفلسف، وإنما ظنه من الكاذبين لقصوره عن درجة العرفان والتوحيد، واحتجابه بصفة الأنائية والطغيان والتفرعن بغير الحق من غير أن يتصفوا بصفة الكبرياء عند الفناء، فيكون تكبرهم بالحق لا بالباطل عن صفات نفوسهم.
[28.44-54]
{ وما كنت بجانب الغربي } أي: جانب غروب شمس الذات الأحدية في عين موسى واحتجابها بعينه في مقام المكالمة لأنه سمع النداء من شجرة نفسه، ولهذا كانت قبلته جهة المغرب ودعوته إلى الظاهر التي هي مغارب شمس الحقيقة بخلاف عيسى عليه السلام { إذ قضينا إلى موسى الأمر } أوحينا إليه بطريق المكالمة { وما كنت من الشاهدين } مقامه في مرتبة نقبائه وأولياء زمانه الذين شهدوا مقامه، ولكن بعد قرنك من قرنه بإنشاء قرون كثيرة بينهما فنسوا فأطلعناك على مقامه وحاله في معراجك وطريق صراطك ليتذكروا { وما كنت ثاويا } مقيما { في أهل مدين } مقام الروح { تتلو عليهم } علوم صفاتنا ومشاهداتنا، بل كنت في طريقك إذ ترقيت من الأفق الأعلى فدنوت من الحضرة الأحدية إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، فأخبرتهم بذلك عند إرسالنا إياك بالرجوع إلى مقام القلب بعد الفناء في الحق.
{ وما كنت بجانب الطور } مقام السر واقفا { ولكن رحمة } تامة واسعة شاملة { من ربك } تداركتك ورقتك إلى مقام الفناء في الوحدة الذي تتدرج فيه مقامات جميع الأنبياء وصارت وصفك وصورة ذاتك عند التحقق به في مقام البقاء والإرسال لتعم نبوتك بختم النبوات و { لتنذر قوما } بلغت استعدادتهم في القبول حدا من الكمال ما بلغ استعدادات آبائهم الذين كانوا في زمن الأنبياء المتقدمين وتدعوهم إلى كمال مقام المحبوبين الذي لم يدع إليه أحد منهم أمته ف { ما أتاهم من نذير من قبلك } يدعوهم إلى ما دعوت إليه { لعلهم يتذكرون } بالوصول إلى كمال المحبة.
{ الذين آتيناهم } العقل القرآني والفرقاني { من قبله هم به يؤمنون } لكمال استعدادهم دون غيرهم { إنا كنا من قبله مسلمين } وجوهنا لله بالتوحيد، منقادين لأمره.
{ أولئك يؤتون أجرهم مرتين } أولا في القيامة الوسطى من جانب الأفعال والصفات قبل الفناء في الذات، وثانيا في القيامة الكبرى عند البقاء بعد الفناء من الجنات الثلاث { ويدرؤون بالحسنة } المطلقة من شهود أفعال الحق والصفات والذات { السيئة } المطلقة من أفعالهم وصفاتهم وذواتهم { ومما رزقناهم ينفقون } بالتكميل وإفاضة الكمالات على المستعدين القابلين.
[28.55-70]
{ وإذا سمعوا } لغوا لفضول المانع من القبول لم يلحوا وأعرضوا لكونهم أولياء موحدين لا أنبياء { سلام عليكم } سلمكم الله من الآفات المانعة عن قبول الحق { لا نبتغي } صحبة { الجاهلين } المفقودين بالسفاهة والجهل المركب، فإنهم لا ينتفعون بصحبتنا ولا يقبلون هدايتنا.
{ إنك لا تهدي من أحببت } هدايته لاهتمامك بحاله غير مطلع على استعداده بمجرد الجنسية النفسية أو للقرابة البدنية دون الأصلية، أو الصحبة العارضية دون الحقيقة الروحية { ولكن الله يهدي من يشاء } من أهل عنايته { وهو أعلم بالمهتدين } القابلين للهداية لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم.
{ فعميت عليهم الأنباء يومئذ } أي: خفيت عليهم الحقائق والتبست في القيامة الصغرى لكونهم محجوبين، واقفين مع الأغيار كالعمي، وقد رسخ جهلهم الشامل أوقات النشأتين كقوله:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
[الإسراء، الآية:72]، { فهم لا يتساءلون } لعجزهم عن النطلق وكونهم مختوما على أفواههم.
{ فأما من تاب } تنصل عما غطى بصيرته وغشى قلبه واستعداده من صفات النفس، وآمن بالغيب بطريق العلم { وعمل } في التحلية واكتساب الخيرات والفضائل { عملا صالحا فعسى أن يكون من المفلحين } الفائزين بالتجرد عن مقام النفس بمقام القلب والرجوع إلى الفطرة من حجاب النشأة.
{ وربك يخلق ما يشاء } من المحجوبين والمكاشفين { ويختار } بمقتضى مشيئته وعنايته لهم ما يريد { ما كان لهم الخيرة } في ذلك { سبحان الله } نزهه عن أن يكون لغيره اختيار مع اختياره فيكون شريكه.
{ لا إله إلا هو } لا شريك له في الوجود { له الحمد } المطلق لثبوت جميع الكمالات الظاهرة على مظاهر الأكوان، والباطنة فيها وعنها له، فيكون كل جميل غني قوي عزيز في الدنيا بجماله وغناه وقوته وعزته جميلا غنيا قويا عزيزا، وكل كامل عالم عارف به في الآخرة بكماله وعلمه ومعرفته كاملا عالما عارفا { وله الحكم } يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته ويحكم عليه بموجب إرادته، فيكون كل قبيح فقير ذليل ضعيف في الدنيا بحكمه، وتحت قهره، كذلك وكل محجوب مخذول، أسير، مردود في الآخرة في قهره وتحت حكمه مخذولا محجوبا أسيرا مردودا { وإليه ترجعون } بالفناء في وجوده أو أفعاله وصفاته أو ذاته.
[28.71-75]
{ إن جعل الله عليكم } ليل ظلمة النفس { سرمدا إلى يوم القيامة } الصغرى { من إله غير الله يأتيكم بضياء } من نور الروح { أفلا تسمعون } حال كونكم في الحجاب، فتفهمون المعاني والحكم فتؤمنون بالغيب { إن جعل الله عليكم } نهار نور الروح سرمدا بالتجلي الدائم دون الاستتار { إلى يوم القيامة } الصغرى { من إله غير الله يأتيكم بليل } من أوقات الغفلات وغلبات صفات النفس وغشاوات الطبع { تسكنون فيه } إلى حقوق نفوسكم وراحات أبدانكم { أفلا تبصرون } بنور روح تجليات الحق.
{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار } بالغفلة والحضور في مقام القلب والاستتار والتجلي في مقام الروح { لتسكنوا } في ظلمة النفس إلى نور البدن وترتيب المعاش { ولتبتغوا } من فضل مكاشفاته وتجليات صفاته ومشاهداته { لعلكم تشكرون } نعمه الظاهرة والباطنة والجسمانية والروحانية في أولاكم وأخراكم باستعمالها لوجه الله فيما وجب عليكم من طاعته في كل مقام به وفيه وله.
{ ونزعنا من كل أمة شهيدا } أي: نخرج يوم القيامة عند خروج المهدي من كل أمة نبيهم هو أعرفهم بالحق { فقلنا } على لسان الشهيد الذي يشهد الحق بشهود الكل ولا يحتجب بهم عنه { هاتوا برهانكم } على ما أنتم عليه أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم وظهر برهان النبي { فعلموا أن الحق لله } أظهره مظهر الشهيد { وضل عنهم } مفترياتهم من المذاهب المختلقة والطرق المتشعبة المتفرقة. أو قلنا للشهداء. { هاتوا برهانكم } بإظهار التوحيد، فأظهروا، فعلموا أن الحق لله.
[28.76-88]
{ إن قارون كان من قوم موسى } عالما كبلعم بن باعوراء { فبغى عليهم } لاحتجابه بنفسه وعلمه بالتكبر والاستطالة عليهم، فغلب عليه الحرص. ومحبة الدنيا ابتلاء من الله لغروره واحتجابه برؤيته زينة نفسه بكاملها، فمال هواه إلى الجهة السفلية، فخسف به فيها محجوبا ممقوتا.
{ تلك الدار الآخرة } من العالم القدسي الباقي { نجعلها للذين } لا يحتجبون بنفوسهم وصفاتها فتصير فيهم الإرادة الفطرية الطالبة للترقي والعلو في سماء الروح هوى نفسانية تطلب الاستعلاء والاستطالة والتكبر على الناس في الأرض، ويصير صلاحهم بطلب المعارف واكتساب الفضائل والمعالي فسادا يوجب جمع الأسباب والأموال وأخذ حقوق الخلق بالباطل { والعاقبة } للمجردين الذين تزكت نفوسهم عن الرذائل المردية والأهواء المغوية.
{ إن الذي فرض عليك القرآن } أوجب لك في الأزل عند البداية والاستعداد الكامل الذي هو العقل القرآني الجامع لجميع الكمالات وجوامع الكلم والحكم { لرادك إلى معاد } ما أعظمه لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره هو الفناء في الله في أحدية الذات والبقاء بالتحقق به بجميع الصفات { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } أي: لا يعلم حالي وكنه هدايتي وما أوتيت من العلم اللدني المخصوص به إلا ربي لا أنا ولا غيري، لفنائي فيه عن نفسي واحتجاب غيري عن حالي { ومن هو في ضلال مبين } من هو محجوب عن الحق لعدم الاستعداد وكثافة الحجاب لكون غيري محجوبا عن حال استعدادي فما علمته بل هو العالم به لا أنا، لفنائي فيه وتحققي به.
{ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } كتاب العقل الفرقاني بتفصيل ما جمع فيك لكونك في حجب النشأة مغمورا، وعما أودع فيك محجوبا { إلا } أي: لكن ألقى إليك لتجلي صفة الرحمة الرحيمية { من ربك } وظهور فيضها فيك شيئا فشيئا حتى صارت وصفك { فلا تكونن ظهيرا للكافرين } المحجوبين باحتجابك بها عن الفناء في الذات، فتظهر أنائيتك برؤية كمالها { ولا يصدنك عن آيات الله } وتجليات صفته فتقف مع أنائيتك كوقوفهم مع الغير فتكون من المشركين بالنظر إلى نفسك وإشراكها بالله في الوجود { وادع إلى ربك } به لا إلى نفسك بها، فإنك الحبيب، والحبيب لا يدعو إلى نفسه ولا يكون بنفسه بل إلى حبيبه بحبيبه { لا إله إلا هو } فلا تدع معه غيرا لا نفسك ولا غيرها. فمن امتثال قوله: { وادع إلى ربك } حصل له وصف ما طغى ومن قوله: { ولا تدع مع الله } ،
ما زاغ البصر
[النجم، الآية:17]. { كل شيء هالك إلا وجهه } أي: ذاته، إذ لا موجود سواه { له الحكم } بقهره كل ما سواه تحت صفاته { وإليه ترجعون } بالفناء في ذاته.
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1-2]
{ الم } أي: الذات الإلهية والصفات الحقيقية التي أصلها وأولها باعتبار النسبة إلى الغير العلم والإضافية التي أولها ومنشؤها المبدئية اقتضت أن لا يترك الناس على نقصانهم وغفلتهم واحتجابهم بمجرد أقوالهم المطابقة للحق وظواهر أعمالهم، بل يفتنوا بأنواع البليات ويمتحنوا بالشدائد والرياضات حتى يظهر ما كمن في استعداداتهم وأودع في غرائزهم. فإن الذات الإلهية أحبت أن تظهر كمالاتها المخزونة في عين الجمع فأودعها معادن أعيان الناس، وأوجدها في عالم الشهادة، كما قال تعالى:
" كنت كنزا مخفيا "
الحديث. فتحبب إليهم بالابتلاء بالنعم والنقم ليعرفوه عند ظهور صفاته عليهم فيصيروا مظاهر له في الانتهاء إليه، كما كانوا معادن وخزائن عند الابتداء منه، فإن كونه منتهى من لوازم كونه مبتدأ.
[29.3-24]
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } من أهل الاستبصار والاستعداد بأنواع المصائب والمحن والرياضات والفتن، حتى يتميز الصادق في الطلب، القابل للكمال بظهور كماله من الكاذب المهوس الضعيف الاستعداد.
{ من كان يرجو لقاء الله } في أحد المواطن سواء كان موطن الثواب والآثار أو موطن الأفعال أو موطن الأخلاق أو موطن الصفات أو موطن الذات { فإن أجل الله } في إحدى المقامات الثلاثة { لآت } أي: فليتيقن وقوع اللقاء بحسب حاله ورجائه عند الأجل المعلوم، وليعمل الحسنات ليجد الكرامة في جنة النفس من باب الآثار والأفعال عند الموت الطبيعي، أو ليجتهد في المحو بالرياضات والمراقبات ليشاهد في جنة القلب من تجليات الصفات ومقامات الأخلاق ما يشتهيه ويدعيه عند الموت الإرادي، أو ليجاهد في الله حق جهاده بالفناء فيه ليجد روح الشهود وذوق الجمال في جنة الروح عند الموت الأكبر والطامة الكبرى.
{ ومن جاهد } في أي مقام كان لأي موطن أراد { فإنما يجاهد لنفسه }. { والذين آمنوا } كل واحد من أنواع الإيمان المذكورة { وعملوا الصالحات } بحسب إيمانهم { لنكفرن عنهم } سيئات أعمالهم وأخلاقهم، أو صفاتهم أو ذواتهم بأنوار ذاته { ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون } من أعمالنا الصادرة عن صفاتنا بدل أعمالهم.
{ ووصينا الإنسان } إلى آخره، جعل أول مكارم الأخلاق إحسان الوالدين إذ هم مظهرا صفتي الإيجاد والربوبية، فكان حقهما يلي حق الله بقرن طاعتهما بطاعته لأن العدل ظل التوحيد، فمن وحد الله لزمه العدل وأول العدل مراعاة حقوقهما لأنهما أولى الناس، فوجب تقديم حقوقهما على حق كل أحد إلا على حقه تعالى، ولهذا أوجبت طاعتهما في كل شيء إلا في الشرك بالله.
[29.25-44]
{ إنما اتخذتم من دون الله } شيئا عبدتموه مودودا فيما بينكم { في الحياة الدنيا } أو أن كل ما اتخذتم من دون الله شيئا مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا، أو أن كل ما اتخذتم أوثانا مودودا في هذه الحياة أو لمودة بينكم في هذه على القراءتين. والمعنى: أن المودة قسمان: مودة دنيوية ومودة أخروية، والدنيوية منشؤها النفس من الجهة السفلية، والأخروية منشؤها الروح من الجهة العلوية. فكل ما يحب ويود من دون الله لا لله ولا بمحبة الله فهو محبوب بالمودة النفسية، وهي هوى زائل كلما انقطعت الوصلة البدنية زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات فإنها نشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج، فإذا انحل التركيب وانحرف المزاج تلاشت وبقي التضاد والتعاند بمقتضى الطبائع كقوله تعالى:
{ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن في قوله: { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت } إلى آخر الآية. وأما الأخرية فمنشؤها الذات الأحدية والمحبة الإلهية، وتلك المودة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء لتناسب الصفات وتجانس الذوات لا تتصفى غاية الصفاء ولا تتجرد عن الغطاء إلا عند زوال التركيب والبروز عن حجب النفس والبدن في مقام القلب الروح لقربها من منبعها هناك فتصير يوم القيامة محبة صرفة صافية الهيئة بخلاف تلك.
[29.45-46]
{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة } أي: فصل ما أجمل فيك من كتاب العقل القرآني بسبب الوحي ونزول كتاب العلم الفرقاني، وأقم الصلاة المطلقة على ترتيب تفاصيل التلاوة والعلوم. ومعناه: اجمع بين الكمال العلمي والعمل المطلق، فإن لك بحسب كل علم صلاة وكما أن العلوم إما نافعة تتعلق بالآداب والأعمال وإصلاح المعاش وهي علوم القوى من غيب الملكوت الأرضية، وإما شريفة تتعلق بالأخلاق والفضائل وإصلاح المعاد وهي علوم النفس من غيب الصدر والعقل العلمي، وإما كلية يقينية تتعلق بالصفات وهي على نوعين: عقلية نظرية وكشفية سرية، وكلاهما من غيب القلب والسر. وإما حقيقية تتعلق بالتجليات والمشاهدات، وهي من غيب الروح، وإما ذوقية لدنية تتعلق بالعشقيات والمواصلات وهي من غيب الخفاء. وإما حقية من غيب الغيوب. وبحسب كل علم صلاة، فالأولى هي الصلاة البدنية بإقامة الأوضاع وأداء الأركان، والثانية صلاة النفس بالخضوع والخشوع والانقياد والطمأنينة بين الخوف والرجاء، والثالثة صلاة القلب بالحضور والمراقبة، والرابعة صلاة السر بالمناجاة والمكالمة، والخامسة صلاة الروح بالمشاهدة والمعاينة، والسادسة صلاة الخفاء بالمناغاة والملاطفة، ولا صلاة في المقام السابع لأنه مقام الفناء والمحبة الصرفة الفناء في عين الوحدة. وكما كان نهاية الصلاة الظاهرة وانقطاعها بظهور الموت الذي هو ظاهر اليقين وصورته كما قيل في تفسير قوله تعالى:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر، الآية:99]، فكذلك انتهاء الصلاة الحقيقية بالفناء المطلق الذي هو حق اليقين. وأما في مقام البقاء بعد الفناء فيتجدد جميع الصلوات الست مع سابعة وهي صلاة الحق بالمحبة والتفريد.
{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فالصلاة البدنية تنهى عن المعاصي والسيئات الشرعية، وصلاة النفس تنهى عن الرذائل والأخلاق الرديئة والهيئات المظلمة، وصلاة القلب تنهى عن الفضول والغفلة، وصلاة السر تنهى عن الالتفات إلى الغير والغيبة، كما قال عليه السلام:
" لو علم المصلي من يناجي ما التفت "
وصلاة الروح عن الطغيان بظهور القلب بالصفات كنهي صلاة القلب عن ظهور النفس بها، وصلاة الخفاء عن الاثنينية وظهور الأنائية، وصلاة الذات تنهى عن ظهور البقية بالتلوين وحصول المخالفة في التوحيد { ولذكر الله أكبر } الذي هو ذكر الذات في مقام الفناء المحض، وصلاة الحق عند التمكين في مقام البقاء أكبر من جميع الأذكار والصلوات { والله يعلم ما تصنعون } في جميع المقامات والأحوال والصلوات.
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } إنما منع المجادلة مع أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن لأنهم ليسوا محجوبين عن الحق بل عن الدين، فهم أهل استعداد ولطف لا أهل خذلان وقهر. وإنما ضلوا عن مقصدهم الذي هو الحق في الطريق لموانع وعادات وظواهر فوجب في الحكمة مرافقتهم في المقصد الذي هو التوحيد كما قال: { وإلهنا وإلهكم واحد } ومرافقتهم في الطريق ما استقام منها ووافق طريق الحق، لا ما اعوج وانحرف عن المقصد كالانقياد والاستسلام للمعبود بالحق الواحد المطلق كما قال: { ونحن له مسلمون } ليتحقق عندهم أنهم على الحق متوجهون إلى مقصدهم سالكون لسبيله، فتطمئن قلوبهم.
وملاطفتهم في بيان كيفية سلوك الطريق بتصويب ما هو حق مما هو عليه وتبصير ما هو باطل لاحتجابهم عنه بالعبادة، كقوله: { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } لمناسبتهم ومشراكتهم إياهم في اللطف، فيستأنسوا بهم ويقبلوا قولهم ويهتدوا بهداهم إلا الذي ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فبطل استعدادهم وحجبوا عن ربهم، وهم الذين ظلموا منهم على أنفسهم بإبطال استعداداتهم ونقص حقوقها من كمالاتها بتكديرها وتسويدها، ومنعها عن القبول بكثرة ارتكاب الفضول فإنهم أهل القهر لا يؤثر فيهم إلا القهر ولا تنجع فيهم الملاطفة للمضادة بين الوصفين.
[29.47-69]
{ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } أي: القرآن علوم حقيقية ذوقية بينة، محلها صدور العلماء المحققين، وهي المعاني النازلة من غيب الغيوب إلى الصدر لا الألفاظ والحروف الواقعة على اللسان والذكر، وما يجحد بها إلا الكافرون المحجوبون لعدم الاستعداد، أو الظالمون الذين أبطلوا استعدادهم بالرذائل والوقوف مع الأضداد { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } المحجوبين عن الحق لكونهم مغمورين في الغواشي الطبيعية والحجب الهيولانية بحيث لم يبق فيهم فرجة إلى عالم النور فيستبصروا ويستضيئوا بها ويتنفسوا منها فيتروحوا فيها.
{ يوم يغشاهم العذاب من فوقهم } لحرمانهم عن الحق واحتجابهم عن النور واحتراقهم تحت القهر { ومن تحت أرجلهم } لحرمانهم اللذات والشهوات واحتجابهم عنها بفقدان الأسباب والآلات، وتعذبهم بإيلام الهيئات ونيران الآثام وهم بين مبتلين شديدين ومشوقين قويين إلى الجهة العلوية بمقتضى الفطرة الأصلية، وإلى السفلية باقتضاء رسوخ الهيئة العارضية مع الحرمان عنهما واحتباسهم في برزخ بينهما نعوذ بالله منه.
{ والذين جاهدوا } من أهل الطريقة { فينا } بالسير في صفاتنا، وهو السير القلبي لأن المبتدىء الذي هو في مقام النفس سيره بالجهاد إلى الله. والمجاهدة في هذا السير بالحضور والمراقبة والاستقامة إلى الله في الثبات على حكم التجليات { لنهدينهم } إلى طرق الوصول إلى الذات، وهي الصفات لأنها حجب الذات، فالسلوك فيها بالاتصاف بها موصل إلى حقيقة الاسم الثابت له تعالى بحسب الصفة الموصوف هو بها وهو عين الذات الواحدية وهي باب الحضرة الأحدية { وإن الله لمع المحسنين } الذين يعبدون الله على المشاهدة، كما قال عليه السلام:
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه "
فالمحسنون السالكون في الصفات والمتصفون بها لأنهم يعبدون بالمراقبة والمشاهدة، وإنما قال: " كأنك تراه " لأن الرؤية والشهود العيني لا يكون إلا بالفناء في الذات بعد الصفات.
[30 - سورة الروم]
[30.1-7]
{ الم غلبت الروم } الذات الأحدية مع صفتي العلم والمبدئية كما ذكر، اقتضت أن روم القوى الروحانية تكون مغلوبة في أقرب موضع من أرض النفس الذي هو الصدر، لأن فيض المبدأ يوجب إظهار الخلق واحتجاب الحق به، فكل ما كان أقرب إلى الحق كان مغلوبا بالذي هو أقرب إلى الخلق وذلك حكم الاسم المبدئ في مظهر النشأة وتجليه تعالى به وباسمه الظاهر واسمه الخالق، وفي الجملة: بما في حضرته المبدئية من الأسماء { وهم من بعد } كونهم مغلوبين { سيغلبون } على فارس القوى النفسانية الأعجمية المحجوبة بالرجوع إلى الله، وظهور الغلب.
{ في بضع سنين } من الأطوار التي يكون فيها الترقي إلى الكمال وأوقات الحضور والمقامات والتجليات.
{ لله الأمر من قبل } بحكم اسمه المبدىء { ومن بعد } بحكم اسمه المعيد، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه { ويومئذ } أي: يوم غلبة روم الروحانيات على النفسانيات { يفرح المؤمنون بنصر الله } وتأييده من الملكوت السماوية وإمدادهم بالأمداد القدسية { ينصر من يشاء } من أهل عنايته المستعدين بها { وهو العزيز } القوي الغالب على قهر الفارسيين المحجوبين { الرحيم } بإضافة الأمداد الكمالية والأنوار التأييدية القدسية على الروميين الغالبين.
{ وعد الله } في تكميل المستعدين من أهل عنايته { لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون } لاحتجابهم يحسبون أن هذه الغلبة بقوتهم وكسبهم، وأنه قد يمكن أنه لا يبلغ المعنى به السعي إلى الكمال لعدم السعي ولا يعرفون أن ذلك المستعد أيضا من توفيقه وعلامة عنايته تعالى به، وعدم السعي من خذلانه وآية كونه غير معني به، فإن أعمالنا معرفات لا موجبات.
{ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } وأن وجوه المكاسب منوطة بسعي العباد وتدبيرهم { وهم } عن الباطن وأحوال العالم الروحاني { هم غافلون } لا يفطنون أن وراء هذه الحياة المنقطعة حياة سرمدية كما قال:
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت، الآية:64]، وأن وراء تدبير العباد وسعيهم لله تعالى تقديرا وحكما.
[30.8-10]
{ أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله } سموات الغيوب السبعة وأرض البدن { وما بينهما } من القوى الطبيعية والملكوت الأرضية والروحانية، والملكوت السماوية والصفات والأخلاق وغيرها إلا بالحكمة والعدل وظهور الحق في مظاهرهم بالصفات على حسب استعداد قبولها لتجليه { وأجل مسمى } هو غاية كمال كل منهم وفنائه في الله بمقتضى هوية استعداده الأول حتى يشهدوا بقدر استعدادهم وإلقاء الله فيهم بصفاته وذاته { وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } لاحتجابهم عنه، فيتوهمون أنه لا يكون إلا بالمقابلة الصورية في عالم آخر باندراج الهوية في الهوية.
[30.11-21]
{ الله يبدأ الخلق } بإظهار الفرس على الروم { ثم يعيده } بإظهار الروم على الفرس { ثم إليه ترجعون } بالفناء فيه.
{ ويوم تقوم الساعة } بوقوع القيامة الصغرى { يبلس المجرمون } عن رحمة الله وتحيرهم في العذاب، غير قابلين للرحمة، أو القيامة الكبرى بظهور المهدي وقهرهم تحت سطوته وحرمانهم من رحمته، وحينئذ يتفرق الناس بتميز المؤمن عن الكافر.
{ فسبحان الله } أن يكون غيره في الوجود والصفة والفعل والتأثير { حين تمسون } بغلبة ظلمة الفرس على نور الروم { وحين تصبحون } عند ظهور نورهم على ظلمة الفرس { وله الحمد } بظهور صفات كماله وتجليات جماله في سموات الغيوب السبعة وقت إصباح غلبة نور الروحانيات على ظلمات النفسانيات وقرب طلوع شمس الروح، وبظهور صفات جلاله في أرض البدن عند إمساء غلبة ظلمة النفسانيات على نور الروحانيات { وعشيا } وقت فنائهم وغيبة شمس الروح في الذات { وحين تظهرون } في البقاء بعد الفناء عند الاستقامة والاستواء.
{ يخرج } حي القلب من ميت النفس بالإعادة وقت الإصباح و { يخرج } ميت النفس من حي القلب في الإبداء عند الإمساء { ويحيي } أرض البدن حينئذ { وكذلك تخرجون } في النشأة الثانية.
{ ومن آياته } أي: من أفعاله وصفاته التي يتوصل بها إلى ذاته معرفة وسلوكا { أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا } أي: خلق لكم من النفوس أزواجا للأرواح { لتسكنوا إليها } وتركنوا وتميلوا نحوها بالمودة والتأثير والتأثر { وجعل بينكم } من الجانبين المودة والرحمة فتود النفس نور الروح وتأثيره بالقبول والتأثر، فتسكن عن الطيش وتتصفى فيرحمها الله بولد القلب في مشيمة الاستعداد برا بها، فتهتدي ببركته وتتخلق بأخلاقه فتفلح، وتود الروح النفس بالتأثير فيها وإفاضةالنور عليها فيرحمه الله بالولد المبارك برا، عطوفا، فيرتقي ببركته ويظهر به كماله { إن في ذلك لآيات } صفات وكمالات { لقوم يتفكرون } في أنفسهم وذواتهم وما جبلت عليها وأودعت فيها.
[30.22-30]
{ واختلاف ألسنتكم } من لسان النفس والقلب والسر والروح والخفاء بكل مقال في كل مقام، فإنه لا ينحصروجوه اختلافات هذه الألسن { وألوانكم } تلوناتكم للعلماء العارفين في مراتب علومهم { منامكم } غفلتكم في ليل النفس ونهار القلب بظهور صفاتها { وابتغاؤكم من فضله } بالترقي، فيفهمون معناه بحسب مقاماتهم في الأطوار.
{ يريكم } برق اللوامع والطوالع في البدايات، خائفين من انقضاضها وخفوقها وبقائكم في الظلمة بفواتها، وطامعين في رجوعها ومزيدكم بها،وينزل مياه الواردات والمكاشفات بعدها من سماء الروح وسحاب السكينة، فيحيي بها أراضي النفوس والاستعدادات الهامدة بعد موتها بالجهل { يعقلون } بمطاوعة نفوسهم للدواعي العقلية معاني الواردات وما يصلحهم من الحكم والمعقولات.
{ وله المثل الأعلى } أي: الوصف الأعلى بالفردانية في الوجود والوحدة الذاتية، وما أحسن قول مجاهد في معناه أنه: لا إله إلا هو.
{ فأقم وجهك } لدين التوحيد وهو طريق الحق تعالى، ولذلك أطلق من غير إضافة أي: هو الدين مطلقا وما سواه ليس بدين لانقطاعه دون الوصول إلى المطلوب، والوجه هو الذت الموجودة مع جميع لوازمها وعوارضها، وإقامته للدين تجريده عن كل ما سوى الحق قائما بالتوحيد والوقوف مع الحق غير ملتفت إلى نفسه ولا إلى غيره فيكون سيره حينئذ سير الله ودينه وطريقته اللذان هو عليهما دين الله وطريقته إذ لا يرى غيره موجودا { حنيفا } مائلا منحرفا عن الأديان الباطلة التي هي طرق الأغيار والأنداد لمن أثبت غيره فأشركه بالله { فطرة الله } أي: الزموا فطرة الله، وهي الحالة التي فطرت الحقيقة الإنسانية عليها من الصفاء والتجرد في الأزل وهي الدين القيم أزلا وأبدا، لا يتغير ولا يتبدل عن الصفاء الأول، ومحض التوحيد الفطري. وتلك الفطرة الأولى ليست إلا من الفيض الأقدس الذي هو عين الذات، من بقي عليها لم يمكن انحرافه عن التوحيد واحتاجبه عن الحق، إنما يقع الانحراف والاحتجاب من غواشي النشأة وعوارض الطبيعة عند الخلقة أو التربية والعادة. أما الأول فلقوله عليه السلام في الحديث الرباني:
" كل عبادي خلقت حنفاء فاحتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري "
وأما الثاني فلقوله صلى الله عليه وسلم:
" كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه "
، لا أن تتغير تلك الحقيقة في نفسها عن الحالة الذاتية فإنه محال، وذلك معنى قوله: { لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } تلك الحقيقة.
[30.31-60]
{ منيبين إليه } حال من الضمير المتصل في: إلزموا المقدر، أي: الزموا تلك الفطرة المخصوصة بالله منيبين إليه من جميع الأغيار المتوهم وجودها من قبل شياطين الوهم والخيال وأديانها الباطلةبالتجرد عن الغواشي الجبلية والعوارض البدنية والهيئات الطبيعية والصفات النفسانية إلى الحق ودينه { واتقوه } بعد الإنابة إليه بتجريد الفطرة بالفناء فيه { وأقيموا الصلاة } الشهود الذاتي { ولا تكونوا من المشركين } ببقية الفطرة وظهور الأنائية في مقامها { من الذين } فارقوا دينهم الحقيقي بسقوطهم عن الفطرة واحتجابهم بحجب النشأة والعادة { وكانوا شيعا } فرقا مختلفة لوقوف كل أحد مع حجابه واختلاف حجبهم وتفريق الشيطان إياهم في أودية صفات النفس، فبعضهم على دين البهائم، وبعضهم على دين السباع، وبعضهم على دين الهوى، وبعضهم على دين الشيطان خاصة، وأنواع الشياطين لا تنحصر فكذا الأديان.
{ كل حزب بما لديهم فرحون } أي: من المفارقين الدين الحقيقي المتفرقين شيعا مختلفة كل حزب عند تكدرالفطرة وتكاثف الحجاب يفرح بما يقتضيه استعدادهم من الحجاب لكونه مقتضى طبيعة حجابه، فيناسب حاله من الاستعداد الغالب والفرح إنما يكون بالإدراك الملائم من حيث هو ملائم وذلك ملائم في الحال بحسب الاستعداد العارضي وإن لم يلائم في الحقيقة بحسب الاستعداد الأصلي، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-28]
{ ومن يسلم وجهه إلى الله } أي: وجوده إلى الله بالفناء في أفعاله أو صفاته أو ذاته { وهو محسن } عابد له على مشاهدته بحسب مقامه يعمل في الأول بأعمال التوكل على مشاهدة أفعاله تعالى، وفي الثاني بأعمال مقام الرضا على مشاهدة صفاته، وفي الثالث بالاستقامة في التحقق به على شهود ذاته { فقد استمسك } بدين التوحيد الذي هو أوثق العرى { وإلى الله عاقبة الأمور } بالفناء فيه وإليه انتهاء الكل.
[31.29-34]
{ ألم تر } أن فلك البدن تجري في بحر الهيولى بإفاضة آثار صفاته من الحياة والقدرة والإدراك عليه وإعداده بالآلات { بنعمة الله } أي: لقبول الكمالات عليه { ليريكم } بهذا الجري والاستعداد من آيات تجليات أفعاله وصفاته { إن في ذلك لآيات } من تجليات أفعاله وصفاته، إذ لا تظهر إلا على هذا المظهر { لكل صبار } يصبر مع الله في المجاهدة عن ظهور أفعال نفسه وصفاتها لأحكام مقام التوكل والرضا { شكور } يشكر نعم التجليات بالقيام بحقها والعمل بأحكام مقام التوكل في تجليات الأفعال وأحكام مقام الرضا في تجليات الصفات ليكون على مزيد من جلاله.
{ وإذا غشيهم موج } من غلبات صفات النفس ومقتضيات الطبع { كالظلل } كالحجب الساترة لأنوار التجليات { دعوا الله مخلصين له الدين } التجؤوا إلى الله بالإخلاص والقيام بحقه في مقامهم لتنكشف الحجب ببركة الثبات على العمل بالإخلاص، فإن السالك إذا حجب بالتلوين عن المقام الأعلى وجب عليه التثبيت في المقام الذي دونه مما هو ملك له كالإخلاص بالنسبة إلى التوكل { فلما نجاهم } بالتجلي الفعلي إلى أبر مقام التوكل والأمن من الغرق في بحر الهيولى بغلبات النفس { فمنهم مقتصد } ثابت على العدل في القيام بحقوق التوكل والسير في أفعاله تعالى على التمكين { وما يجحد بآياتنا } بإضافة حقوق مقامه في التجليات واحتجابه عنها في التلوينات { إلا كل ختار } يغدر في الوفاء بعقد العزيمة وعهد الفطرة مع الله عند الابتلاء بالفترة { كفور } لا يستعمل نعم الله في مراضيه ولا يقضي حقوق مقامه في التجليات، ولا يعمل بأعمال أهل التوكل والرضا عند ظهور أنوار الأفعال والصفات، أو تلك الشريعة تجري مراكبها في هذا البحر إلى ساحل بر النجاة وجنة الآثار ليريكم من آيات تجليات الأفعال.
{ اتقوا ربكم } احذروه في الظهور بأفعالكم وصفاتكم وذواتكم بالفناء فيه عنها { واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده } لانقطاع الوصل عند بروزكم لله المتجلى بالوحدة والقهر ولا يبقى وجود للوالد والولد، فلا يجزي بعضهم عن بعض شيئا { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } من الحياة القلبية التي هي أقرب إليكم بأنها حقيقة دائمة فإنه لا حياة لأحد حينئذ { ولا يغرنكم بالله الغرور } فتظهروا بالأنائية وتحتجبوا بوسوسته فتقعوا في الطغيان.
{ إن الله عنده علم الساعة } الكبرى لفناء الكل فيه حينئذ فكيف بعلومهم { وينزل } غيث ذلك بحسب الاستعدادات قبل الفناء { ويعلم ما في } أرحام الاستعداد من الكمالات أهي تامة أم لا؟ أو في أرحام النفوس من أولاد القلوب أهي رشيدة كاملة أم لا؟، { وما تدري نفس ماذا تكسب } من العلوم والمقامات في الزمان المستقبل لاحتجابها عما في استعدادها { وما تدري نفس بأي أرض } من أراضي المقامات { تموت } ويفنى استعدادها لانقضاء ما فيها من الكمالات، لأن علم الاستعدادات وحدودها مما استأثر به الله تعالى لذاته في غيب الغيب، والله تعالى أعلم.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-4]
{ الم } أي: ظهور الذات الأحدية والصفات والحضرات الأسمائية هو { تنزيل } كتاب العقل الفرقاني المطلق على الوجود المحمدي { من رب العالمين } بظهوره في مظهره بصورة الرحمة التامة { الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما } باحتجابه بها في الأيام الستة الإلهية التي هي مدة دور الخفاء من لدن آدم عليه السلام إلى دور محمد عليه الصلاة والسلام { ثم استوى } على عرش القلب المحمدي للظهور في هذا اليوم الأخير الذي هو جمعة تلك الأيام بالتجلي بجميع صفاته، فإن استواء الشمس هو كمال ظهورها في الإشراق ونشر الشعاع، ولهذا قال عليه السلام:
" بعثت في نسم الساعة "
، فإن وقت بعثته طلوع صبح الساعة ووسط نهار هذا اليوم وقت ظهور المهدي عليه السلام، ولأمر ما استحب قراءة هذه السورة في صبح يوم الجمعة. { ما لكم من دونه } عند ظهوره { من ولي ولا شفيع } لفناء الكل فيه { أفلا تتذكرون } العهد الأول من ميثاق الفطرة عند ظهور الوحدة.
[32.5-12]
{ يدبر الأمر } بالإخفاء والخلاقية من سماء ظهور الوحدة إلى أرض خفائها وغروبها في الأيام الستة { ثم يعرج إليه } بالظهور في هذا اليوم السابع الذي كان { مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك } المدبر { عالم الغيب } وحكمة الخفاء في الستة { والشهادة } أي: الظهور في هذا اليوم { العزيز } المنيع بستور الجلال في الاحتجاب { الرحيم } بكشفها وإظهار الجمال { الذي أحسن كل شيء خلقه } بأن جعله مظاهر صفاته، فإن الحسن مختص بالصفات والأكوان كلها مظاهر صفاته إلا الإنسان الكامل فإنه مختص بجمال الذات ولهذا خصه بالتسوية أي: التعديل بأعدل الأمزجة وأحسن التقويم ليستعد بذلك لقبول الروح المخصوص به تعالى { ونفخ فيه من روحه } وبهذا النوع أنهى الخلق وظهر الحق.
{ ملك الموت } أي: النفس الإنسانية الكلية التي هي معاد النفوس الجزئية ما لم تسقط عن الفطرة بالكلية وإن احتجبت الهيئات الظلمانية والصفات النفسانية فإنها ما لم تبلغ إلى حد الرين وانغلاق باب المغفرة تتوفاها النفس التي هي بمثابة القلب للعالم، وإن بلغت فرقتها ملائكة العذاب فحسب، ولما لم يبلغوا إلى هذا الحد وإن احتجبوا عن لقاء الرب وصفهم مع ميلهم إلى الجهة السفلية المنكسة لرؤوسهم بسبب رسوخ هيئات الأجرام بالبصر والسمع وتمنى الرجوع إذ لو لم يبق فيهم نور الفطرة وطمسوا بالكلية لم يقولوا: { ربنا أبصرنا وسمعنا } ولم يتمنوا الرجوع، وهؤلاء هم الذين لا يتخلدون في النار بل يعدلون بحسب رسوخ الهيئات ثم يرجعون.
[32.13-15]
{ لآتينا كل نفس هداها } بالتوفيق للسلوك مع المساواة في الاستعداد، ولكنه ينافي الحكمة لبقائهم حينئذ على طبيعة واحدة وبقاء سائر الطبقات الممكنة في حين الإمكان مع عدم الظهور أبدا، وخلو أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها فلا تمشي الأمور الخسيسة والدنيئة المحتاج إليها في العالم التي تقوم بها أهل الحجاب والذلة والقسوة والظلمة، البعداء عن المحبة والرحمة والنور والعزة، فلا ينضبط نظام العالم ولا يتم صلاح المهتدين أيضا لوجوب الاحتياج إلى سائر الطبقات، فإن النظام ينصلح بالمخافي وبالمظاهر فلو كانوا مظاهر كلهم أنبياء وسعداء لاختل بعدم النفوس الغلاظ وشياطين الإنس القائمين بعمارة العالم. ألا ترى إلى قوله تعالى: " إني جعلت معصية آدم سببا لعمارة العالم " ، فوجب في الحكمة الحقة التفاوت في الاستعداد بالقوة والضعف والصفاء والكدورة والحكم بوجود السعداء والأشقياء في القضاء ليتجلى بجميع الصفات في جميع المراتب، وهذا معنى قوله: { ولكن حق القول مني } أي: في القضاء السابق { لأملأن جهنم } الطبيعة { من الجنة } أي: النفوس الأرضية الخفية عن البصر { والناس أجمعين } { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } لاحتجابكم بالغشاوات الطبيعية والملابسة البدنية { إنا نسيناكم } بالخذلان عن الرحمة لعدم قبولكم إياها وإدباركم { وذوقوا عذاب الخلد } بسبب أعمالكم، فعلى هذا التأويل المذكور تكون الخلد مجازا وعبارة عن الزمان الطويل، أو يكون الخطاب بذوقوا لمن حق عليهم القول في القضاء السابق من الجنة والناس.
{ إنما يؤمن } على التحقيق بآيات صفاتنا { الذين إذا ذكروا بها خروا } لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم { سجدا } فانين فيها { وسبحوا بحمد ربهم } أي: جردوا ذواتهم متصفين بصفات ربهم فذاك هو تسبيحهم وحمدهم له بالحقيقة { وهم لا يستكبرون } بظهور صفات النفس والأنائية.
[32.16-30]
{ تتجافى جنوبهم } بالتجرد عن الغواشي الطبيعية والقيام { عن المضاجع } البدنية والخروج عن الجهات بمحو الهيئات { يدعون ربهم } بالتوجه إلى التوحيد في مقام القلب خوفا من الاحتجاب بصفات النفس بالتلوين { وطمعا } في لقاء الذات { ومما رزقناهم } من المعارف والحقائق { ينفقون } على أهل الاستعداد { فلا تعلم نفس } شريفة منهم { ما أخفي لهم } من جمال الذات ولقاء نور الأنوار الذي تقر به أعينهم فيجدون من اللذة والسرور ما لا يبلغ كنهه ولا يمكن وصفه { جزاء بما كانوا يعملون } من التجريد والمحو في الصفاء والعمل بأحكام التجليات { مؤمنا } بالتوحيد على دين الفطرة.
{ كمن كان فاسقا } بخروجه عن ذلك الدين القيم بحكم دواعي النشأة { جنات المأوى } بحسب مقاماتهم من الجنان الثلاث { كلما أرادوا أن يخرجوا منها } بالميل الفطري { أعيدوا فيها } لاستيلاء الميل السفلي وقهر الملكوت الأرضية بسبب رسوخ الهيئات الطبيعية.
{ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } الذي هو عذاب الآثار ونيران مخالفات النفوس والطباع في البليات والشدائد والأهوال { دون العذاب الأكبر } الذي هو الاحتجاب بالظلمات عن أنوار الصفات والذات { لعلهم يرجعون } إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى قبل الرين بكثافة الحجاب.
{ ولقد آتينا موسى } كتاب العقل الفرقاني { فلا تكن في مرية } من لقاء موسى عند بلوغك إلى مرتبته في معراجك كما ذكر في قصة المعراج أنه لقيه في السماء الخامسة وهو عند ترقيه عن مقام السر الذي هو مقام المناجاة إلى مقام الروح الذي هو الوادي المقدس { يوم الفتح } المطلق يوم القيامة الكبرى بظهور المهدي لا ينفع إيمان المحجوبين حينئذ لأنه لا يكون إلا باللسان، ولا يفنى عنهم العذاب، والله تعالى أعلم.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1-6]
{ يا أيها النبي اتق الله } بالفناء عن ذاتك بالكلية دون بقاء البقية { ولا تطع الكافرين } بموافقتهم في بعض الحجب لظهور الأنائية { والمنافقين } بالنظر إلى الغير فتكون ذا وجهين وبالانتهاء بحكم هذا النهي وصف بقوله:
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم، الآية:17]، { إن الله كان عليما } يعلم ذنوب الأحوال { حكيما } في ابتلائك بالتلوينات فإنها تنفع في الدعوة وإصلاح أمر الأمة إذ لو لم يكن له تلوين لم يعرف ذلك من أمته فلا يمكنه القيام بهدايتهم { واتبع } في ظهور التلوينات { ما يوحى إليك من ربك } من التأديبات وأنواع العتاب والتشديدات بحسب المقامات كما ذكر غير مرة في قوله:
ولولا أن ثبتناك
[الإسراء، الآية:74] وأمثاله { إن الله كان بما تعلمون خبيرا } يعلم مصادر الأعمال وأنها من - أي الصفات - تصدر من الصفات النفسانية أو الشيطانية أو الرحمانية فيهديك إليها ويزكيك منها ويعلمك سبيل التزكية والحكمة في ذلك { وتوكل على الله } في دفع تلك التلوينات ورفع تلك الحجب والغشاوات { وكفى بالله وكيلا } فإنها لا ترتفع ولا تنكشف إلا بيده لا بنفسك وعلمك وفعلك، أي: لا تحتجب برؤية الفناء في الفناء فإنه ليس من فعلك سواء كان في الأفعال أو الصفات أو الذات أو إزالة التلوينات فإنها كلها بفعل الله لا مدخل لك فيها وإلا لما كنت فانيا.
{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } لأنه مبدأ وجوداتهم الحقيقية ومبدأ كمالاتهم ومنشأ الفيضين الأقدس الاستعدادي أولا والمقدس الكمالي ثانيا، فهو الأب الحقيقي لهم ولذلك كانت أزواجه أمهاتهم في التحريم ومحافظة الحرمة مراعاة لجانب الحقيقة وهو الواسطة بينهم وبين الحق في مبدأ فطرتهم فهو المرجع في كمالاتهم ولا يصل إليهم فيض الحق بدونه لأنه الحجاب الأقدس واليقين الأول، كما قال:
" أول ما خلق الله نوري "
، فلو لم يكن أحب إليهم من نفسهم لكانوا محجوبين بأنفسهم عنه، فلم يكونوا ناجين، إذ نجاتهم إنما هي بالفناء فيه لأنه المظهر الأعظم.
{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين } بعضهم أولى ببعض من غيرهم للاتصال الروحاني والجسماني والأخوة الدينية والقرابة الصورية ولا تخلو القرابة من تناسب ما في الحقيقة لاتصال الفيض الروحاني بحسب الاستعداد المزاجي، فكما تتناسب أمزجة أولي الأرحام وهياكلهم الصورية فكذلك أرواحهم وأحوالهم المعنوية { إلا إن تفعلوا إلى أوليائكم } المحبوبين في الله للتناسب الروحي والتقارب الذات { معروفا } إحسانا بمقتضى المحبة والاشتراك في الفضيلة زائدا عما بين الأقارب { كان ذلك في الكتاب } أي: اللوح المحفوظ { مسطورا }.
[33.7-20]
{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } وخصوصا الخمسة المذكورة لاختصاصهم بمزيد المرتبة والفضيلة ميثاق التوحيد والتكميل والهداية بالتبليغ عند الفطرة وهو الميثاق الغليظ المضاعف بالكمال والتكميل ولذلك أضافه إليهم بقوله: ميثاقهم، أي: الميثاق الذي ينبغي لهم ويختص بهم، وقدم في الاختصاص بالذكر نبينا عليه السلام بقوله منك، لتقدمه على الباقين في الرتبة والشرف { ليسأل } الله بسبب عهدهم وميثاقهم وبواسطة هدايتهم { الصادقين } الذين صدقوا العهد الأول والميثاق الفطري في قوله:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف، الآية:172]، { عن صدقهم } بالوفاء والوصول إلى الحق بإخراج ما في استعدادهم من الكمال بحضور الأنبياء كما قال تعالى:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
[الأحزاب، الآية: 23] فالسؤال إنما كان مسببا عن ميثاق الأنبياء لأنه يسألهم على ألسنتهم وهم الشاهدون لهم آخرا كما كانوا شاهدين عليهم أولا.
[33.21-22]
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وجب على كل مؤمن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقا حتى يتحقق رجاؤه ويتم عمله لكونه الواسطة في وصولهم والوسيلة في سلوكهم للرابطة وقرن به الذكر الكثير الذي هو عمل ذلك المقام ليعلم أن من كان في بدايته يلزمه متابعته في الأعمال والأخلاق والمجاهدة والمواساة بالنفس والمال، إذ لو لم يحكم البداية لم يفلح بالنهاية. ثم إذا تجرد وتزكى عن صفات نفسه فليتابعه في موارد القلب، أي: الصدق والإخلاص، والتسليم والتوكل، كما تابعه في منازل النفس ليحتظي ببركة متابعته بالمواهب والأحواب وتجليات الصفات في مقامه كما احتظى بالمكاسب والمقامات وتجليات الأفعال في مقام النفس، وكذا في مقام السر والروح حتى الفناء. ومن صحة المتابعة تصديقه في كل ما أخبر به بحيث لا يعتروه الشك في شيء من أخباره وإلا فترت العزيمة وبطلت المتابعة، فإن الأصل والعمدة في العمل الاعتقاد الجازم، ولهذا مدحهم بقوله: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } إذ وعدهم الابتلاء والزلزال حتى ينخلعوا عن أبدانهم ويتجردوا في التوجه إليه عن نفوسهم في قوله:
ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله
[البقرة، الآية:214].
{ وما زادهم } أي: وقوع البلاء بالأحزاب { إلا إيمانا وتسليما } لقوة اعتقادهم في البداية وصحة متابعتهم في التسليم ففازوا بمقام الفتوة والانخلاع بالبلاء وعن قيود النفس لسلامة الفطرة، فوصفهم بالوفاء الذي هو كمال مقام الفتوة، وسماهم رجالا على الحقيقة بقوله.
[33.23-35]
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أي: رجال أي رجال، ما أعظم قدرهم لكونهم صادقين في العهد الأول الذي عاهدوا الله عليه في الفطرة الأولى بقوة اليقين وعدم الاضطراب عند ظهور الأحزاب، فلم يتنحوا بكثرتهم وقوتهم عن التوحيد وشهود تجلي الأفعال فيقعوا في الارتياب ويخافوا سطوتهم وشوكتهم { فمنهم من قضى نحبه } بالوفاء بعهده والبلوغ إلى كمال فطرته { ومنهم من ينتظر } في سلوكه بقوة عزيمته والبدن ولذاتهما والميل إلى الجهة السفلية وشهواتها فيكونوا كاذبين في العهد، غادرين { ليجزي الله الصادقين بصدقهم } جنات الصفات { ويعذب المنافقين } الذين واقفوا المؤمنين بنور الفطرة وأحبوهم بالميل الفطري إلى الوحدة، وأحبوا الكافرين بسبب غواشي النشأة والانهماك في الشهوة، فمنهم متذبذبون بين الجهتين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وبهيئات نفوسهم المظلمة { إن شاء } لرسوخها { أو يتوب عليهم } لعروضها وعدم رسوخها { إن الله كان غفورا } يستر هيئات النفوس بنوره { رحيما } يفيض الكمال عند إمكان قبوله.
{ يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى آخره، اختبر النساء هو إحدى خصال التجريد وأقدام الفتوة التي يجب متابعته فيها، فإنه عليه السلام مع ميله إليهن لقوله:
" حبب إلي من دنياكم ثلاث "
، إذ شوشن وقته بميلهن إلى الحياة الدنيا وزينتها خيرهن وجرد نفسه عنهن وحكمهن بين اختيار الدنيا ونفسه، فإن اخترنه لقوة إيمانهن بقين معه بلا تفريق لجمعيته وتشويش لوقته بطلب الزينة والميل إليها، بل على التجرد والتوجه إلى الحق كقوى نفسهن وإن اخترن الدنيا وزينتها متعهن وسرحهن وفرغ قلبه عنهن بمثابة إماتة القوى المستولية.
[33.36-44]
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآية، من جملة الخصال التي تجب طاعته ومتابعته فيها وهو مقام الرضا والفناء في الإرادة لكونه عليه السلام إذا فنى بذاته وصفاته في ذات الله وصفاته تعالى أعطي صفات الحق بدل صفاته عند تحققه بالحق في مقام البقاء بالوجود الموهوب وكان حكمه وإرادته حكم الله وإرادته تعالى كسائر صفاته. ألا ترى إلى قوله تعالى:
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
[النجم، الآيات:3 - 4] فمن لوازم متابعته الفناء في إرادة الحق، فإرادته إرادتة الحق فيجب الفناء في إرادته وترك الاختيار مع اختياره وإلا لكان عصيانا و { ضلالا مبينا } لكونه مخافة صريحة للحق.
{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } إلى قوله: { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } أحد التأديبات الإلهية النازلة في تلوينه عند ظهور نفسه للتثبيت وتلك التلوينات هي موارد التأديبات، ولهذا كان خلقه القرآن.
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله } باللسان في مقام النفس، والحضور في مقام القلب، والمناجاة في مقام السر، والمشاهدة في مقام الروح، والمواصلة في مقام الخفاء، والفناء في مقام الذات، { وسبحوه } بالتجريد عن الأفعال والصفات والذات { بكرة } وقت طلوع فجر نور القلب وإدبار ظلمة النفس وليل غروب شمس الروح بالفناء في الذات، أي: دائما من ذلك الوقت إلى الفناء السرمدي.
{ هو الذي يصلي عليكم } بحسب تسبيحكم بتجليات الأفعال والصفات دون الذات لاحتراقهم هناك بالسبحات، كما قال جبريل عليه السلام: " لو دنوت أنملة لاحترقت ".
{ ليخرجكم } بالإمداد الملكوتي والتجلي الأسمائي من ظلمة أفعال النفوس إلى نور تجليات أفعاله في مقام التوكل، ومن ظلمة صفات النفوس إلى نور تجليات صفاته ومن ظلمة الأنائية إلى نور الذات { وكان بالمؤمنين رحيما } يرحمهم بما يستدعيه حاله ويقتضيه استعدادهم من الكمالات.
{ تحيتهم } أي: تحية الله إياهم وقت اللقاء بالفناء فيه تكميلهم وتسليمهم عن النقص بجبر كسرهم بأفعاله وصفاته وذاته، أو تحيته لهم بإفاضة هذه الكمالات وقت لقائهم إياه بالمحو والفناء هي سلامتهم عن آفات صفاتهم وأفعالهم وذواتهم أو بسلامتهم، لأن التحية بالتجليات والسلامة عن الآفات تكونان معا والأول يناسب إطلاق اسم السلام على الله تعالى: { وأعد لهم أجرا كريما } بإثابة هذه الجنات عن أعمالهم في التسبيحات والمذاكرات.
[33.45-55]
{ إنا أرسلناك شاهدا } للحق في الإرسال إلى الخلق غير محتجب بالكثرة عن الوحدة مطلقا على أحوالهم وكمالاتهم بنور الحق { ومبشرا } للمستعدين السالمين فيه بالفوز بالوصول { ونذيرا } للمحجوبين { وداعيا إلى الله } كل مستعد بحسب حاله ومقامه { بإذنه } وما يسر الله له بحسب استعداده { وسراجا منيرا } بنور الحق النفوس المظلمة بغشاوات الجهل وهيئات البدن والطبع { وبشر المؤمنين } المستبصرين بنور الفطرة { بأن لهم } بحسب صفاء استعداداتهم { من الله فضلا } بإفاضة الكمالات بعد هبة الاستعدادات { كبيرا } من جنات الصفات.
{ ولا تطع الكافرين والمنافقين } في التلوينات كما ذكر في أول السورة فيتكدر نور سراجك { ودع أذاهم } بنفسك لتنجو من آفة التلوين ورؤية فعل الغير فإنهم لا يفعلون ما يفعلون بالاستقلال بأنفسهم { وتوكل على الله } برؤية أفعالهم وأفعالك منه { وكفى بالله وكيلا } يفعل بك وبهم ما يشاء، فإن آذاهم على مظهرك فهو القادر على ذلك مع براءتك عن ذنب التلوين كما فعل عند التمكين وإلا فهو أعلم بشأنه.
[33.56-71]
{ إن الله وملائكته يصلون على النبي } بالإمداد والتأييدات والإفاضة للكمالات فالمصلي في الحقيقة هو الله تعالى جميعا وتفصيلا بواسطة وغير واسطة، ومن ذلك تعلم صلاة المؤمنين عليه وتسليمهم له فإنها من حيز التفصيل وحقيقة صلاتهم عليه قبولهم لهدايته وكماله ومحبتهم لذاته وصفاته فإنها إمداد له منهم وتكميل وتعميم للفيض إذ لو لم يمكن قبولهم بالتأثير أو من تحت بالتأثر، وذلك كقبول المحبة. والصفاء هو حقيقة الدعاء في صلاتهم بقولهم: اللهم صل على محمد: وتسليمهم جعلهم إياه بريئا من النقص والآفة في تكميل نفوسهم والتأثير فيها وهو معنى دعائهم له بالتسليم { لعنهم الله في الدنيا والآخرة } لأن النبي في غاية القرب منه بحيث يتحقق به بفناء أنيته ولم تبق أثنينية هناك لخلوص محبته، فالمؤذي له يكون مؤذيا لله، والمؤذي لله هو الظاهر يأتيه نفسه لعداوة الله له فهو في غاية البعد الذي هو حقيقة اللعن في الدارين ظاهرا وباطنا وهو مقابل لحضرة العزة فيكون في غاية الهوان في عذاب الاحتجاب { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا لمن استعد لها { لعن الكافرين } لبعدهم عنه بالاحتجاب.
{ يوم تقلب وجوههم في النار } بتغيير صورهم في أنواع العذاب وبراز الحجاب. والصواب ، والصدق هو مادة كل سعادة وأصل كل كمال لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي قبول جميع الكمالات وأنوار التجليات، وهو وإن كان داخلا في التقوى المأمور بها لأنه اجتناب من رذيلة الكذب مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى لكنه أفرد بالذكر للفضيلة كأنه جنس برأسه كما خص جبريل وميكائل من الملائكة.
{ يصلح لكم أعمالكم } بإفاضة الكمالات والفضائل، أي: زكوا أنفسكم لقبول التحلية من الله بفيض الكمالات عليكم { ويغفر لكم } ذنوب صفاتكم بتجليات صفاته { ومن يطع الله ورسوله } في التزكية ومحو الصفات { فقد فاز } بالتحلية والاتصاف بالصفات الإلهية وهو الفوز العظيم.
[33.72-73]
{ إنا عرضنا الأمانة على السماوات الأرض والجبال } بإيداع حقيقة الهوية عندها واحتجابها بالتعينات بها { فأبين أن يحملنها } بأن تظهر عليهن مع عظم إجرامها لعدم استعدادها لقبولها { وأشفقن منها } لعظمها عن أقدارها وضعفها عن حملها وقبولها { وحملها الإنسان } لقوة استعداده واقتداره على حملها فانتحلها لنفسه بإضافتها إليه { إنه كان ظلوما } بمنعه حق الله حين ظهر بنفسه وانتحالها { جهولا } لا يعرفها لاحتجابه بأنائيته عنها.
{ لعذب الله المنافقين والمنافقات } الذين ظلموا بمنع ظهور نور استعدادهم بظلمة الهيئات البدنية والصفات النفسانية ووضعوه في غير موضعه فجهلوا حقه { والمشركين والمشركات } الذين جهلو لاحتجابهم بالأنائية والوقوف مع الغير بغلبة الرين وكثافة الحجب الخلقية فعظم ظلمهم لانطفاء نورهم بالكلية وامتناع وفائهم بالأمانة الإلهية.
{ ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } الذين تابوا عن الظلم بالاجتناب عن الصفات النفسانية المانعة عن الأداء وعدلوا بإبراز ما أخفوه من حق الله عند الوفاء وعن الجهل بحقه إذ عرفوه وأدوا أمانته إليه بالفناء { وكان الله غفورا } ستر ذنوب ظلمهم وجهلهم عن التزكية والتصفية والتجريد والمحو والطمس بأنوار تجلياته { رحيما } رحمهم بالوجود الحقاني عند البقاء بأفعاله وصفاته وذاته أو عرضنا الأمانة الإلهية بالتجلي عليها وإيداع ما تطيق حملها فيها من الصفات بجعلها مظاهر لها. أو: فأبين أن يحملنها بخيانتها وإمساكها عندها والامتناع عن أدائها، وأشفقن من حملها عندها فأدينها بإظهار ما أودع فيها من الكمالات وحملها الإنسان بإخفائها بالشيطنة وظهور الأنائية والامتناع عن أدائها بإظهار ما أودع فيه من الكمال وإمساكها بظهور النفس بالظلمة والمنع عن الترقي في مقام المعرفة، والله أعلم.
[34 - سورة سبإ]
[34.1-9]
{ الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } بجعله مظاهر لصفاته الظاهرة وكمالاته الباهرة وظهوره فيها بالحجب الجلالية { وله الحمد في الآخرة } بتجليه على الأرواح بالكمالات الباطنة والصفات الجمالية، أي: له الحمد بالصفات الرحمانية في الدنيا ظاهرا، وله الحمد بالصفات الرحيمية في الآخرة باطنا { وهو الحكيم } الذي أحكم ترتيب عالم الشهادة بمقتضى حكمته { الخبير } الذي نفذ علمه في بواطن عالم الغيب للطافته.
{ يعلم ما يلج في الأرض } من الملكوت الأرضية والقوى الطبيعية { وما يخرج منها } بالتجريد من النفوس الإنسانية والكمالات الخلقية { وما ينزل من السماء } من المعارف والحقائق الروحانية { وما يعرج فيها } من هيئات الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة { وهو الرحيم } بإفاضة الكمالات السماوية النورانية { الغفور } بستر الهيئات الأرضية الظلمانية.
{ ويرى الذين أوتوا العلم } أي: العلماء المحققون يرون حقية ما أنزل إليك عيانا لأن المحجوب لا يمكنه معرفة العارف وكلامه، إذ كل عارف بشيء لا يعرفه إلا بما فيه من معناه، فمن لم يكن له حظ من العلم ونصيب من المعرفة لا يعرف العالم العارف وعلمه لخلوه عما به يمكن معرفته { ويهدي إلى } طريق الوصول إلى الله { العزيز } الذي يغلب المحجوبين ويمنعهم بالقهر والقمع { الحميد } الذين ينعم على المؤمنين بأنواع اللطف ولو لم يعتبر تطبيق الصفتين على قوله:
ليجزي الذين آمنوا
[سبأ، الآية:4] إلى آخره، واعتبر التطبيق على قوله: { ويرى الذين أوتوا العلم } لكان معنى { العزيز } القوي الذي يغلب الواصلين بالإفناء { الحميد } الذي ينعم عليهم بصفاته عند البقاء.
[34.10-12]
{ ولقد آتينا داود } الروح { منا فضلا } بعلو الرتبة وتسبيح المشاهدة والمناغاة في المحبة مع مزيد العبادة والتفكر والكمالات العلمية العملية، بأن قلنا: { يا جبال } الأعضاء { أوبي } أي: سبحي { معه } بالتسبيحات المخصوصة بك من الانقياد والتمرن في الطاعات بالحركات والسكنات والأفعال والانفعالات التي أمرناك بها وطير القوى الروحانية بالتسبيحات القدسية من الأذكار والإدراكات والتعقلات والاستفاضات والاستشراقات من الأرواح المجردة والذوات المفارقة كل بما أمر { وألنا له } حديد الطبيعة الجسمانية العنصرية { أن اعمل سابغات } من هيئات الورع والتقوى فإن الورع الحصين في الحقيقة هو لباس الورع الحافظ من صوارم دواعي أعادي النفوس وسهام نوازع الشياطين { وقدر } بالحكمة العملية والصنعة المتقنة العقلية والشرعية في ترغيب الأعمال المزكية ووصول الهيئات المانعة من تأثير الدواعي النفسية { واعملوا } أيها العاملون لله بالجمعية في الجهة السفلية إلى الجهة العلوية عملا صالحا يصعدكم في الترقي إلى الحضرة الإلهية ويعدكم لقبول الأنوار القدسية. والخطاب لداود الروح وآله من القوى الروحانية والنفسانية والأعضاء البدنية.
{ ولسليمان } القلب ريح الهوى النفسانية { غدوها شهر } أي: جريها غداة طلوع نور الروح وإشراق شعاع القلب وإقبال النهار سير طور في تحصيل الأخلاق والفضائل والطاعات والعابدات والصوالح التي تتعلق بسعادة المعاد { ورواحها } أي: جريها رواح غروب الأنوار الروحية في الصفات النفسية وزوال تلألؤ أشعتها، وإدبار نهار النور سير طور آخر في ترتيب مصالح المعاش من الأقوات والأرزاق والملابس والمناكح وما يتعلق بصلاح النظام وقوام البدن. { وأسلنا له عين } قطر الطبيعة البدنية الجامدة بالتمرين في الطاعات والمعاملات { ومن } جن القوى الوهمية والخيالية { من يعمل بين يديه } بحضوره في التقديرات المتعلقة بصلاح العالم وعمارة البلاد ورفاهية العباد والتركيبات والتفضيلات المتعلقة بإصلاح النفس واكتساب العلوم { بإذن ربه } بتسخيره إياها له وتيسيره الأمور على أيديها { ومن يزغ منهم عن أمرنا } بمقتضى طبيعته الجنية وينحرف عن الصواب والرأي العقلي بالميل إلى الزخارف النفسية واللذات البدنية { نذقه من عذاب السعير } بالرياضة القوية وتسليط القوة الملكية عليها بضرب السياط النارية من الدواعي العقلية القهرية المخالفة للطباع الشيطانية.
[34.13]
{ يعملون له ما يشاء من محاريب } المقامات الشريفة { وتماثيل } الصور الهندسية { وجفان كالجواب } من ظروف الأرزاق المعنوية والأغذية الروحانية بمحاكاة المعاني بالصور الحسية وإيداع الحقائق في الأمثلة الصورية وإدراج المدركات الكلية والواردات الغيبية في الملابس اللفظية والهيئات الجزئية واسعة كالحياض لكونها عرية عن المواد الهيولانية، وإن اكتفت باللواحق المادية والعوارض الجسمانية { وقدور راسيات } من تهيئة الاستعدادات بتركيب القياسات المستقيمة وإعداد موارد العلوم والمعارف بالآراء الصائبة والعزائم القوية الثابتة { اعملوا آل داود } الروح بما سخرنا لكم ما سخرنا، وأفضنا عليكم من نعم الكمالات ما أفضنا { شكرا } باستعمال هذه النعم في طريق السلوك والتوجه إلي وأداء حقوق العبودية بالفناء في لا في تدبير المملكة الدنيويةوإصلاح الكمالات البدنية { وقليل من عبادي الشكور } الذي يعمل استعمال النعم في طاعة الله العمل الخالص لوجه الله.
[34.14-15]
{ فلما قضينا عليه الموت } بالفناء في في مقام السر { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } أي: ما اهتدوا إلى فنائه في مقام الروح وتوجهه إلى الحق في حال السر إلا بحركة الطبيعة الأرضية وقواها البدنية الضعيفة الغالبة على النفس الحيوانية التي هي منسأته إذ لا طريق لهم إلى الوصول إلى مقام السر ولا وقوف على حال القلب فيه ولا شعور بكونه في طور وراء أطوارهم إلا برابطة اتصال الطبيعة البدنية المتصلة به، المقهورة بالقوى الطبيعية لضعفها بالرياضة وانقطاع مدد القلب عنها حينئذ أي: لا يطلعون إلا على حال الدابة التي تأكل المنسأة بالاستيلاء عليها لأن النفس الحيوانية عند عروج القلب ضعفت وسقطت قواها ولم يبق منها إلا القوى الطبيعية الحاكمة عليها { فلما خر } من صعقته الموسوية وذهل في الحضور والاشتغال بالحضرة الإلهية عن استعمالها في الأعمال وإعمالها بالرياضات { تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون } غيب مقام السر بالاطلاع على المكاشفات لو كانوا مجردين { ما لبثوا في العذاب المهين } من الرياضة الشاقة التي تمنعهم الحظوظ والمرادات ومقتضيات الطباع والأهواء بالمخالفات والإجبارعلى الأعمال المتعبة في السلوك والاقتصار بها على الحقوق.
{ لقد كان لسبأ } أهل مدينة البدن { في مساكنهم } في مقارهم ومحالهم { آية } دالة لهم على صفات الله وأفعاله { جنتان } جنة الصفات والمشاهدات عن يمينهم من جهة القلب والبرزخ التي هي أقوى الجهتين وأشرفهما، وجنة الآثار والأفعال عن شمالهم من جهة الصدر والنفس التي هي أضعف الجهتين وأخسهما { كلوا من رزق ربكم } من الجهتين كقوله:
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة، الآية:66]، { واشكروا له } باستعمال نعم ثمراتها في الطاعات والسلوك فيها بالقربات { بلدة طيبة } باعتدال المزاج والصحة { ورب غفور } يستر هيئات الرذائل وظلمات النفوس والطباع بنور صفاته وأفعاله، فلكم التمكين من جهة الاستعداد والأسباب والآلات والتوفيق بالإمداد وإفاضات الأنوار.
[34.16-19]
{ فأعرضوا } عن القيام بالشكر والتوسل بها إلى الله بل عن الأكل من ثمراتها التي هي العلوم النافعة والحقيقية بالانهماك في اللذات والشهوات والانغماس في ظلمات الطبائع والهيئات. { فأرسلنا عليهم سيل } الطبيعة الهيولانية بنقب جرذان سيول الطبائع العنصرية سكر المزاج الذي سدته بلقيس النفس التي هي ملكتهم. والعرم الجرذ { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } من شوك الهيئات المؤذية وأصل الصفات السيئة البهيمية والسبعية والشيطانية { ذواتي أكل خمط } أي: ثمرة مرة بشعة كقوله:
طلعها كأنه رءوس الشياطين
[الصافات، الآية: 65].
{ وشيء من سدر } بقاء الصفات الإنسانية { قليل } { ذلك } العقاب { جزيناهم } بكفرانهم النعم { وهل نجازي } بذلك { إلا الكفور } الذي يستعمل نعمة الرحمن في طاعة الشيطان { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } من الحضرة القلبية والسرية والروحية والإلهية بالتجليات الأفعالية والصفاتية والأسمائية الذاتية وأنوار المكاشفات والمشاهدات { قرى ظاهرة } مقامات ومنازل مترائية متواصلة كالصبر والتوكل والرضا وأمثالها { وقدرنا فيها السير } إلى الله وفي الله مرتبا يرتحل السالك في الترقي من مقام وينزل في مقام { سيروا } في منازل النفوس { ليالي } وفي مقامات القلوب ومواردها { وأياما آمنين } بين القواطع الشيطانية وغلبات الصفات النفسانية بقوة اليقين والنظر الصحيح على منهاج الشرع المبين.
{ فقالوا } بلسان الحال والتوجه إلى الجهة السفلية المبعدة عن الحضرة القدسية والميل إلى المهاوي البدنية والسير في المهامة الطبيعية والمهالك الشيطانية { ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم } بالاحتجاب عن أنوار القرى المباركة لظلمات البرازخ المنحوسة { فجلعناهم أحاديث } وآثارا سائرة بين الناس في الهلاك والتدمير { ومزقناهم } بالغرق والتفريق.
[34.20-54]
{ ولقد صدق عليهم } على الناس { إبليس ظنه } في قوله:
ولأضلنهم... ولأمرنهم... فليغيرن خلق الله
[النساء، الآية:119] وأمثال ذلك. والفريق المستثنون هم المخلصون { وما كان له عليهم من سلطان } أي: ما سلطناه عليهم إلا لظهور علمنا في مظاهر العلماء المحققين المخلصين وامتيازهم عن المحجوبين المرتابين، فإن المستعد الموفق الصافي القلب ينبع علمه من مكمن الاستعداد ويتفجر من قلبه عند وسوسة الشيطان فيرجمه بمصابيح الحجج النيرة ويطرده بالعياذ بالله عند ظهور مفسدته الغوية بخلاف غيره من الذين اسودت قلوبهم بصفات النفوس وناسبت بجهالاتهم مكايد الشيطان وأحوال القيامة الكبرى من الجمع والفصل والفتح بين المحق والمبطل ومقالات الظالمين كلها تظهر عند ظهور المهدي عليه السلام.
[35 - سورة فاطر]
[35.1-9]
{ جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة } عن جهات التأثير الكائنة في الملكوت السماوية والأرضية بالأجنحة، جعلها الله رسلا مرسلة إلى الأنبياء بالوحي وإلى الأولياء بالإلهام وإلى غيرهم من الأشخاص الإنسانية وسائر الأشياء بتصريف الأمور وتدميرها، فما يصل بتأثيرهم إلى ما يتأثر منه فهو جناح، فكل جهة تأثير جناح مثلا: إن العاقلتين العلمية والنظرية جناحان للنفس الإنسانية والمدركة والمحركة الباعثة والمحركة الفاعلة ثلاثة أجنحة للنفس الحيوانية والغاذية والنامية والمولدة والمصورة أربعة أجنحة للنفس النباتية. ولا تنحصر أجنحتهم في العدد بل لهم بحسب تنوعات التأثيرات أجنحة. ولهذا
" حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح، وأشار إلى كثرتها بقوله تعالى: { يزيد في الخلق ما يشاء } "
[35.10-28]
{ من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } أي: العزة صفة من صفات الله مخصوصة به، من أرادها فعليه بالفناء في صفات الله تعالى عن صفاته، ثم علم طريق التجريد ومحو الصفات بقوله: { إليه يصعد الكلم الطيب } أي: النفوس الصافية الطيبة عن خبائث الطبائع الباقية على نور فطرتها، الذاكرة لميثاق توحيدها { والعمل الصالح } بالتزكية والتحلية { يرفعه } أي: يرفع ذلك الجنس الطيب إلى حضرته دون غيره فيتصف بصفة العزة وسائر الصفات. أو إليه يصعد العلم الحقيقي من التوحيد الأصلي الفطري الطيب عن خبائث التوهمات والتخيلات والعمل الصالح بمقتضاه يرفعه دون غيره كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " العلم مقرون بالعمل، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل " ، أي: سلم الصعود إلى الحضرة الإلهية هو العلم والعمل لا يمكن الترقي إلا بهما ولا يكفي التوحيد الذي هو الأصل في الاتصاف بعزته وسائر صفاته لأن الصفات مصادر الأفعال فما لم يترك الأفعال النفسية التي مصادرها صفات النفس بالزهد والتوكل ولم يتجرد عن هيئاتها بالعبادة والتبتل لم يحصل استعداد الاتصاف بصفاته تعالى، فكان العلم الحقيقي الذي هو التوحيد بمثابة عضادتي السلم والعمل بمثابة الدرجات في الترقي.
{ والذين يمكرون السيئات } بظهور صفات النفوس وإن كانوا عالمين { لهم عذاب } من هيئات الأعمال القبيحة المؤذية { شديد }.
{ إنما يخشى الله من عباده العلماء } أي: ما يخشى الله إلا العلماء، العرفاء به، لأن الخشية ليست هي خوف العقاب بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصور وصف العظمة واستحضاره لها، فمن لم يتصور عظمته لم يمكنه خشيه، ومن تجلى الله له بعظمته خشيه حق خشيته. وبين الحضور التصوري الحاصل للعالم الغير العارف وبين التجلي الثابت للعالم العارف بون بعيد، ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان { إن الله عزيز } غالب على كل شيء بعظمته { غفور } يستر صفة تعظم النفس وهيئة تكبرها بنور تجلي عزته.
[35.29-33]
{ إن الذين يتلون كتاب الله } الذي أعطاهم في بدء الفطرة من العقل القرآني بإظهاره وإبرازه ليصير فرقانا { وأقاموا } صلاة الحضور القلبي عند ظهور العلم الفطري { وأنفقوا مما رزقناهم } من صفة العلم والعمل الموجب لظهوره عليهم { سرا } بالتجريد عن الصفات { وعلانية } بترك الأفعال { يرجون } في مقام القلب بالترك والتجريد { تجارة لن تبور } من استبدال أفعال الحق وصفاته بأفعالهم وصفاتهم { ليوفيهم أجورهم } في جنات النفس والقلب من ثمرات التوكل والرضا { ويزيدهم من فضله } في جنات الروح مشاهدات وجهه في التجليات { إنه غفور } يستر لهم ذنوب أفعالهم وصفاتهم { شكور } يشكر سعيهم بالإبدال من أفعاله وصفاته.
{ والذي أوحينا إليك من الكتاب } الفرقاني المطلق { هو الحق } الثابت المطلق الذي لا مزيد عليه ولا نقص فيه { مصدقا لما بين يديه } لكونه مشتملا عليها، حاويا لما فيها بأسرها { إن الله بعباده لخبير } يعلم أحوال استعداداتهم { بصير } بأعمالهم، يعطيهم الكمال على حسب الاستعداد بقدر الاستحقاق بالأعمال.
{ ثم أورثنا } منك هذا { الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } المحمديين المخصوصين من عند الله بمزيد العناية وكمال الاستعداد بالنسبة إلى سائر الأمم لأنهم لا يرثون ولا يصلون إليه إلا منك وبواسطتك لأنك المعطي إياهم الاستعداد والكمال فنسبتهم إلى سائر الأمم نسبتك إلى سائر الأنبياء { فمنهم ظالم لنفسه } بنقص حق استعداده ومنعه عن خروجه إلى الفعل وخيانته في الأمانة المودعة عنده بحملها وإمساكها والامتناع عن أدائها لانهماكه في اللذات البدنية والشهوات النفسانية { ومنهم مقتصد } يسلك طريق اليمين ويختار الصالحات من الأعمال والحسنات، ويكتب الفضائل والكمالات في مقام القلب { ومنهم سابق بالخيرات } التي هي تجليات الصفات إلى الفناء في الذات { بإذن الله } بتيسيره وتوفيقه، { ذلك هو الفضل الكبير }.
{ جنات عدن } من الجنان الثلاث { يدخلونها يحلون فيها من أساور } صور كمالات الأخلاق والفضائل والأحوال والمواهب المصوغة بالأعمال من ذهب العلوم الروحانية ولؤلؤ المعارف والحقائق الكشفية الذوقية فلباسهم فيها حرير الصفات الإلهية.
[35.34-45]
{ وقالوا } بألسنة أحوالهم وأقوالهم عند اتصافهم بجميع الصفات الحميدة حالة البقاء بعد الفناء { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } اللازم لفوات الكمالات الممكنة بحسب الاستعدادات بهبته لنا إياها في هذا الوجود الحقاني { إن ربنا لغفور شكور } جزاؤنا منه أوفى وأبقى مما نستحقه بسعينا { الذين أحلنا دار } الإقامة الدائمة التي لا انتقال منها بوجه في هذا الوجود الموهوب من عطائه الصرف وفضله المحض { لا يمسنا فيها نصب } بالسعي والانتقال { ولا يمسنا فيها لغوب } بالسير والترحال. { والذين كفروا } المحجوبون منك بالإنكار، الذين لا يقبلون الكتاب ولا يرثونه لبعدهم عنك في الحقيقة، فلا تقارب ولا تواصل بينك وبينهم. { لهم نار } جهنم الطبيعة يعذبون فيها بأنواع الحرمان والآلام دائما { لا يقضي عليهم فيموتوا } ويستريحوا { ولا يخفف عنهم من عذابها } فيتنفسوا، والله أعلم.
[36 - سورة يس]
[36.1-6]
{ يس } أقسم بالصنفين الدالين على كمال استعداده كما ذكر في (طه). { والقرآن الحكيم } الذي هو الكمال التام اللائق باستعداده على أنه بسبب هذه الأمور من المرسلين على طريق التوحيد الموصوف بالاستقامة وذلك أن (ي) إشارة إلى اسمه الواقي و (س) إلى اسمه السلام الذي وقى سلامة فطرتك السالمة عن النقص في الأزل عن آفات حجب النشأة والعادة والسلام الذي هو عينها وأصلها، { والقرآن الحكيم } الذي هو صورة كمالها الجامع لجميع الكمالات المشتمل على جميع الحكم.
{ إنك } بسبب هذه الثلاثة { لمن المرسلين تنزيل العزيز الرحيم } أي: القرآن الشامل للحكمة الذي هو صورة كمال استعدادك تنزيل بإظهاره مفصلا من مكمن الجمع على مظهرك ليكون فرقانا من العزيز الغالب الذي غلب على أنائيتك وصفات نشأتك وقهرها بقوته لئلا تظهر وتمنع ظهور القرآن المكنون في غيبك على مظهر قلبك وصيرورته فرقانا. { الرحيم } الذي أظهره عليك بتجليات صفاته الكمالية بأسرها.
{ لتنذر قوما } بلغوا في كمال استعدادهم ما لم يبلغ آباؤهم فما أنذروا بما أنذرتهم به { فهم غافلون } عما أوتي إليهم من الاستعداد البالغ حدا لم يبلغه استعداد أحد من الأمم السابقة، كما قال:
الذين اصطفينا من عبادنا
[فاطر، الآية:32].
[36.7-12]
{ لقد حق القول على أكثرهم } في القضاء السابق بأنهم أشقياء { فهم لا يؤمنون } لأنه إذا قويت الاستعدادات عند ظهورك قوي الأشقياء في الشر كما قوي السعداء في الخير.
{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } من قيود الطبيعة البدنية ومحبة الأجرام السفلية { فهي إلى الأذقان } تمنع رؤوسهم عن التطأطؤ للقبول إذ عمت الأعناق التي هي مفاصل تصرفات الرؤوس وأطبقت المفاصل حتى جاوزت أعاليها وبلغت حد الرؤوس من قدام فلم يبق لهم تصرف بالقبول ولا تأثر بالانفعال والميل إلى الركوع والسجود للانقياد والفناء، فإن الكمالات الإنسانية انفعالية لا تحصل إلا بالتذلل والانقهار { فهم مقمحون } ممنوعون عن قبولها بإمالة الرؤوس.
{ وجعلنا من بين أيديهم } من الجهة الإلهية { سدا } من حجاب ظهور النفس والصفات المستولية على القلب منعهم من النظر إلى فوق ليشتاقوا للقاء الحق عند رؤية الأنوار الجمالية { ومن خلفهم } من الجهة البدنية { سدا } من حجاب الطبيعة الجسمانية ولذاتها المانعة لامتثالهم الأوامر والنواهي فمنعهم من العمل الصالح الذي يعدهم لقبول الخير والصفات الجلالية فانسد لهم طريق العلم والعمل فهم واقفون مع أصنام الأبدان حيارى يعبدونها لا يتقدمون ولا يتأخرون { فأغشيناهم } بالانغماس في الغواشي الهيولانية والانغمار في الملابس الجسمانية { فهم لا يبصرون } لكثافة الحجب من جميع الجهات وإحاطتها بهم وإذا لم يبصروا ولم يتأثروا فالإنذار وعدم الإنذار بالنسبة إليهم سواء.
{ إنما تنذر } أي: يؤثر الإنذار وينجع في { من اتبع الذكر } لنورية استعداده وصفائه فيتأثر به ويقبل الهداية بما في استعداده من التوحيد الفطري والمعرفة الأصلية، فيتذكر ويخشى الرحمن بتصور عظمته مع غيبته من التجلي فيتبعه بالسلوك ليحضر ما هو غائب عنه ويرى ما استضاء بنوره { فبشره بمغفرة } عظيمة من ستر ذنوب حجب أفعاله وصفاته وذاته { وأجر كريم } من جنات أفعال الحق وصفاته وذاته.
[36.13-19]
{ واضرب لهم مثلا أصحاب القرية } إلى آخر المثل، يمكن أن يؤول أصحاب القرية بأهل مدينة البدن والرسل الثلاثة بالروح والقلب والعقل، إذ أرسل إليهم اثنان أولا { فكذبوهما } لعدم التناسب بينهما وبينهم، ومخالفتهم إياهما في النور والظلمة، فعززوا بالعقل الذي يوافق النفس في المصالح والمناجح ويدعوها وقومها إلى ما يدعو إليه القلب والروح فيؤثر فيهم.
وتشاؤمهم بهم: تنفرهم عنهم لحملهم إياهم على الرياضة والمجاهدة ومنعهم عن اللذات والحظوظ. ورجمهم إياهم: رميهم بالدواعي الطبيعية والمطالب البدنية. وتعذيبهم إياهم: استيلاؤهم عليهم واستعمالهم في تحصيل الشهوات والبهيمية والسبعية.
[36.20-36]
والرجل الذي جاء من أقصى المدينة، أي: من أبعد مكان منها، هو العشق المنبعث من أعلى وأرفع موضع منها بدلالة شمعون العقل ونظره لإظهار دين التوحيد والدعوة إلى الحبيب الأول وتصديق الرسل { يسعى } لسرعة حركته ويدعو الكل بالقهر والإجبار إلى متابعة الرسل في التوحيد، ويقول: { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } وكان اسمه حبيبا وكان نجارا ينحت في بدايته أصنام مظاهر الصفات من الصور لاحتجابه بحسنها عن جمال الذات وهو المأمور بدخول جنة الذات، قائلا: { يا ليت قومي } المحجوبين عن مقامي وحالي { يعلمون بما غفر لي ربي } ذنب عبادة أصنام مظاهر الصفات ونحتها { وجعلني من المكرمين } لغاية قربي في الحضرة الأحدية. وفي الحديث:
" إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس "
، فلعل ذلك لأن حبيبا المشهور بصاحب يس آمن به قبل بعثته بستمائة سنة وفهم سر نبوته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين، علي بن أبي طالب عليه السلام وصاحب يس ومؤمن آل فرعون ".
[36.37-44]
{ وآية لهم الليل } أي : ليل ظلمة النفس { نسلخ منه } نهار ونور شمس الروح والتلوين { فإذا هم مظلمون } وشمس الروح { تجري لمستقر لها } وهو مقام الحق في نهاية سير الروح { ذلك تقدير العزيز } المتمنع من أن يصل إلى حضرة أحديته شيء، الغالب على الكل بالقهر والفناء { العليم } الذي يعلم حد كمال كل سيار وانتهاء سيره، وقمر القلب { قدرناه } أي: قدرنا مسيره في سيره { منازل } من الخوف والرجاء والصبر والشكر وسائر المقامات كالتوكل والرضا { حتى عاد } عند فنائه في الروح في مقام السر { كالعرجون القديم } وهو بقرب استسراره فيه وإضاءة وجهه الذي يلي الروح قبل تمام فنائه فيه، واحتجابه لنوريته عن النفس والقوى، وكونه بدرا إنما يكون في موضع الصدر في مقابلة مقام السر.
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } في سيره فيكون له الكمالات الصدرية من الإحاطة بأحوال العالمين والتجلي بالأخلاق والأوصاف { ولا الليل سابق النهار } بإدراك القمر الشمس وتحويل ظلمة النفس نهار نور القلب لأن القمر إذا ارتقى إلى مقام الروح بلغ الروح حضرة الوحدة فلا تدركه وتكون النفس حينئذ نيرة في مقام القلب لا ظلمة لها، فلم تسبق ظلمتها نوره بل زالت مع أن القلب ونوره في مقام الروح فلم تسبقه على تقدير بقائها { وكل في فلك } أي: مدار ومحل لسيره معين في بدايته ونهايته لا يتجاوز حديه المعينين { يسبحون } يسيرون إلى أن جمع الله بينهما في حد وخسف القمر بها وأطلع الشمس من مغربها فتقوم القيامة.
{ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } وهو سفينة نوح فيه سر من أسرار البلاغة حيث لم يذكر آباءهم الذين كانوا فيها بل ذرياتهم الذين كانوا في أصلابهم، فلا بد من وجود الذريات حينئذ { وخلقنا لهم من مثله } أي: مثل سفينة نوح وهي السفينة المحمدية { ما يركبون }.
[36.45-59]
{ اتقوا ما بين أيديكم } من أحوال القيامة الكبرى { وما خلفكم } من أحوال القيامة الصغرى، فإن الأولى تأتي من جهة الحق والثانية تأتي من جهة النفس بالفناء في الله في الأولى، والتجرد عن الهيئات البدنية في الثانية والنجاة منها. والصيحتان هما التنبه عن النفخة الأولى بوقوع مقدماتها وانزعاج القوى كلها دفعة عن مقارها، وعن الثانية بوقوعها وانتباهتهم دفعة، وانتشار القوى في محالها. والأجداث: الأبدان التي هي مراقدهم.
{ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } من أنوار التجليات ومشاهدات الصفات، متلذذون هم ونفوسهم الموافقة لهم في التوجه { في ظلال } من أنوار الصفات { على الأرائك } المقامات والدرجات { متكئون لهم فيها فاكهة } من أنواع المدركات وأصناف الواردات والمكاشفات { ولهم } ما يتمنون من المشاهدات، وهي: { سلام } أعني { قولا } بإفاضة الكمالات وتبرئتهم بها من وجوه النقص التي تنبعث منها دواعي التمنيات صادرا { من رب رحيم } يرحم بتلك المشتهيات.
[36.60-83]
والعهد عهد الأزل وميثاق الفطرة وعبادة الشيطان، هو الاحتجاب بالكثرة لامتثال دواعي الوهم والصراط المستقيم طريق الوحدة. وقال الضحاك في وصف جهنم: " إن لكل كافر بئرا من النار يكون فيه لا يرى ولا يدري " ، وذلك صورة احتجابه. ومعنى الختم على الأفواه وتكليم الأيدي وشهادة الأرجل: تغيير صورهم وحبس ألسنتهم عن النطق وتصوير أيديهم وأرجلهم على صور تدل بهيئاتها وأشكالها على أعمالها وتنطق بألسنة أحوالها على ملكاتها من هيئات أفعالها.
{ إنما أمره } عند تعلق إرادته بتكوين شيء ترتب كونه على تعلق الإرادة به دفعة معا بلا تحلل زماني { فسبحان } أي: نزه عن العجز والتشبه بالأجسام والجسمانيات في كونها وكون أفعالها زمانية { الذي } تحت قدرته وفي تصرف قبضته { ملكوت كل شيء } من النفوس والقوى المدبرة له { وإليه ترجعون } بالفناء فيه والانتهاء إليه، والله أعلم.
[37 - سورة الصافات]
[37.1-5]
{ والصافات صفا } أقسم بنفوس السالكين في سبيله طريق التوحيد، الصافات في مقامهم ومراتب تجلياتهم ومواقف مشاهداتهم { صفا } واحدا في التوجه إليه { فالزاجرات } في دواعي الشياطين، وفوارغ التمنيات النفسانية في الأحايين { زجرا } بالأنوار والأذكار والبراهين { فالتاليات } نوعا من أنواع الأذكار بحسب أحوالهم باللسان أو القلب أو السر أو الروح كما ذكر غير مرة على وحدانية معبودهم لتثبيتهم في التوجه عن الزيغ والانحراف بالالتفات إلى الغير { رب } سموات الغيوب السبعة التي هم سائرون فيها، وأرض البدن { وما بينهما ورب } مشارق تجليات الأنوار الصفاتية، وصفه بالوحدانية الذاتية في أطوار الربوبية الكاشفة عن وجوه التحولات بتعدد الأسماء ليتحفظوا عند تعدد وتجليات الصفات وترتب المقامات من الاحتجاب بالكثرة.
[37.6-40]
{ إنا زينا السماء الدنيا } أي: العقل الذي هو أقرب السموات الروحانية بالنسبة إلى القلب { بزينة } كواكب الحجج والبراهين، كقوله:
بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين
[الملك، الآية:5].
{ وحفظا } أي: وحفظناها { من كل شيطان } من شياطين الأوهام والقوى التخيلية عند الترقي إلى أفق العقل بتركيب الموهومات والمخيلات في المغالطات والتشكيكات { مارد } خارج عن طاعة الحق والعقل.
{ لا يسمعون إلى الملأ الأعلى } من الروحانيات والملكوت السماوية بتلك الحجج { من كل جانب } من جميع الجهات السماوية، أي: من أي وجه من وجوه المغالطة والتخييل يركبون القياس ويرتقون به، يقذفون بما يبطله من الدحور والطرد، أو مدحورين مطرودين { ولهم عذاب واصب } دائم الرياضات وأنواع الزجر في المخالفات.
{ إلا من خطف الخطفة } في الاستراق فموه كلامه بهيئة جلية وأوهم الحق بصورة نورية استفادها من كلمة حقة ملكية { فأتبعه شهاب ثاقب } من برهان نير عقلي، أو إشراق نور قدسي فأبطلها وطرد الجني بنفي الصورة الوهمية التي أوهمها.
{ إلا عباد الله المخلصين } استثناء منقطع، أي: لكن عباد الله المخصوصون به لفرط عنايتهم به، الذين أخلصهم الله عن شوب الغيرية والأنائية والبقية واستخلصهم لنفسه بفناء الأنائية والإثنينية.
[37.41-61]
{ أولئك لهم رزق معلوم } يعلمه الله دون غيره وهو معلومات الله المقوية لقلوبهم المغذية لأرواحهم.
{ فواكه } ملذة غاية التلذيذ، إذ الفاكهة ما يتلذذ به، أي: يتلذذون في مكاشفاتهم بما يحضرهم من معلوماته تعالى { وهم مكرمون } في مقعد صدق عند مليك مقتدر في الجنات الثلاث يتنعمون بقرب الحق في حضرته غاية الإكرام والتنعم.
{ على سرر } مراتب ودرجات { متقابلين } في الصف الأول، مترائين لا يحجب بعضهم عن بعض ولا يتفاضلون في المقاعد { يطاف عليهم بكأس من } خمر العشق { معين } مكشوف لأهل العيان إذا دنه المعاينة فكيف لا يعاين.
{ بيضاء } نورية من عين الأحدية الكافورية، لا شوب فيها ولا مزج من التعينات { لذة للشاربين لا فيها غول } يغتال العقل لأنهم أهل صحوا أخلصهم الله من الشوائب والحجاب فلا ينكر لهم { ولا هم عنها ينزفون } بذهاب العقول وإلا لم يكونوا أهل الجنات الثلاث في مقام البقاء.
{ وعندهم قاصرات الطرف } من أهل الجبروت والملكوت والنفوس المجردة، الواقفات تحت مراتبهم في مقام تجليات الصفات وسرادقات الجلال، وفي مجالي مشاهداتهم تحت قباب الجمال في روضات القدس وحضرة الأسماء { عين } لأن ذواتهم كلها عيون لا يمدون طرفا عنهم لفرط محبتهم وعشقهم لهم لأنهم هم المعشوقون.
{ كأنهن بيض مكنون } في الأداحي لغاية صفائها في خدور القدس ونقائها من مواد الرجس { يتساءلون } يتحادثون بأحاديث أهل الجنة والنار ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب، كما ذكر في وصف أهل (الأعراف).
[37.62-82]
{ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم الطبيعة، المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة، ثمراتها من الرذائل والخبائث كأنها من غاية القبح والتشوه والخبث بالتنفر { رؤوس الشياطين } أي: تنشأ منها الدواعي المهلكة والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة والأعمال السيئة، فتلك أصول الشيطنة ومبادئ الشر والمفسدة، فكانت رؤوس الشياطين. { فإنهم لآكلون منها } يستمدون منها، ويغتذون ويتقوون، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ولا يلتذون إلا بها { فمالئون منها البطون } بالهيئات الفاسقة والصفات المظلمة، كالممتلىء غضبا وحقدا وحسدا وقت هيجانها.
{ ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم } الأهواء الطبيعية، والمنى السيئة الرديئة، ومحبات الأمور السفلية، وقصور الشرور الموبقة التي تكسر بعض غلة الأشرار. { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } لغلبة الحرص، والشره بالشهوة، والحقد والبغض والطمع وأمثالها، واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها.
[37.83-101]
ويمكن تطبيق قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام على حال الروح الساذج من الكمال { إذ جاء ربه } بسابقة معرفة الأزل والوصلة الثابتة في العهد الأول { بقلب } باق على الفطرة واستعداد صاف { سليم } عن النقائص والآفات محافظ على عهد التوحيد الفطري، منكر على المحتجبين بالكثرة عن الوحدة، ناظر في نجوم العلوم العقلية الاستدلالية والحجج والبراهين النظرية، مدرك بالاستبصار والاستدلال سقمه من جهة الأعراض النفسانية والشواغل البدنية الحاجبة، فأعرض عنه قومه البدنيون المدبرون عن مقصده ووجهته لإنكاره عليهم في تقيد الأكوان وطاعة الشيطان إلى عيدهم واجتماعهم على اللذات والشهوات التي يعودون إليها كل وقت { فراغ } أي: فأقبل مخفيا حاله عنهم على كسر آلهتهم بفأس التوحيد والذكر الحقيقي يضربهم { ضربا } بيمين العقل فرجعوا { إليه } غالبين مستولين عند ضعفه، ساعين في تخريب قالبه { فألقوه } في نار حرارة الرحم، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، أي: روحا وسلامة من الآفات لبقاء صفاء استعداده ونقاء فطرته، وبنى عليه بنيان الجسد وجعل الله أعداءه من النفس الأمارة والقوى البدنية الملقية إياه في النار من الأسفلين لتكامل استعداده، فتوجه إلى ربه بالسلوك { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } ودعا ربه بلسان الاستعداد الكامل الأصلي أن يهب له ولد القلب الصالح، فبشره به ورزقه.
[37.102-182]
{ فلما بلغ معه السعي } بالسلوك في طريق الكمالات الخلقية والفضائل النفسانية، أوحى إليه أن يذبحه بالفناء في التوحيد والتسليم لربه الحق بالتجريد من الصفات الكمالية: فأخبره بذلك، فانقاد وأسلم وجهه بالفناء في ذاته عن صفاته، ففدى على يد جبريل العقل الفعال بذبح النفس الشريفة، السمينة العلوم، العظيمة الأخلاق وكمالات الفضائل، فذبحت بالفناء فيه، وأنجى إسماعيل القلب بالفناء الحقاني الموهوب المفدى من جهة الله، وترك الله عليه السلام في العالمين المتخلفين عن مقامه لاهتدائهم بنوره واقتدائهم بإيمانه وهديه.
{ وإن يونس } القلب { لمن المرسلين } إلى أهل النقصان، المحتجبين بالأبدان، المتبعين للشيطان، المتظاهرين بالطغيان { إذ أبق } إلى فلك البدن { المشحون } بالقوى البدنية وكمالاتها الحسية الجاري في بحر الهيولى { فساهم } أي: فاقترع معهم في الحظوظ البدنية واختيارها بالأفكار العقلية { فكان من المدحضين } المحجوبين، المزلقين بالحجة البرهانية اليقينية لأنهم بدنيون أهل البحر والسفينة، وهو القدسي المجرد من سكان الحضرة الإلهية، الآبق من سيده إلى السفينة، الملقي بيده إلى التهلكة، فألقي في البحر، فالتقمه حوت الرحم كلقطة النطفة { وهو مليم } مستحق للملامة للتعلق بالملابس البدنية الموجبة لوقوعه في تلك البلية.
{ فلولا أنه كان من المسبحين } المنزهين لربه بالتقديس حالة التجريد والتوحيد { للبث في بطنه } كسائر القوى الطبيعية والنفسانية المنغمسة في بطون حيتان الصور النوعية الجسمانية من الطبائع الهيولانية { إلى يوم يبعثون } أي: يوم يبعث المجردون عن مراقد أبدانهم مع بقائه في مرقده كسائر الغافلين، أو يوم يبعث رفقاؤه البدنيون في القيامة الصغرى { فنبذناه بالعراء } أي: بالفضاء من عرصة الدنيا بالولادة { وهو سقيم } ضعيف ممنو بالأعراض المادية واللواحق الطبيعية { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } لا تقوم على ساق وتنسرح على وجه الأرض تظلل عليه بأوارقها من الغواشي البدنية. وقد قيل في التفاسير الظاهرة: إنه قد ضعف بدنه في بطن الحوت وصار كطفل ساعة يولد { وأرسلناه } عند الكمال { إلى مائة ألف أو يزيدون } والله أعلم.
[38 - سورة ص]
[38.1-16]
{ ص } أقسم بالصورة المحمدية، والكمال التام المذكور بالشرف والشهرة، بأنه أتم الكمالات، وهو العقل القرآني الجامع لجميع الحكم والحقائق من الاستعداد التام المناسب لتلك الصورة الشريفة، كما روي عن ابن عباس: " (ص) جبل بمكة، كان عليه عرش الرحمن عاما " ، دل عليه قوله: { في عزة وشقاق } وحذف جواب القسم في مثل ذلك غير عزيز، وهو أنه لحق يجب أن يتبع ويذعن له ويقبل بخضوع وذلة { بل الذين } حجبوا عن الحق بأنائيتهم وضادوه في استكبار وعناد ولج وخلاف لظهور أنفسهم بباطلها في مقابلة الحق.
[38.17-20]
وقوله: { اصبر على ما يقولون } معناه: داوم استقامتك في التوحيد، وعارض أذاهم بالصبر في التمكين، ولا تظهر نفسك في مقابلة أذاهم بالتلوين، فإنك قائم بالله متحقق بالحق فلا تتحرك إلا به { واذكر } حال أخيك { عبدنا } المخصوص بعنايتنا القديمة { داود ذا الأيد } أي: القوة والتمكين والاضطلاع في الدين، كيف زل عن مقام استقامته في التلوين فلا يكن حالك في ظهور النفس حاله. ثم وصف قوة حال داود عليه السلام وكماله بقوله: { إنه أواب } رجاع إلى الحق عن صفاته وأفعاله بالفناء فيه.
{ إنا سخرنا } جبال الأعضاء معه { يسبحن } بالانقياد والتمرن في الطاعة أوقات العبادة وقت عشي الاستتار واحتجاب نور شمس الروح بظهور النفس وإشراق التجلي وسلطان نور شمس الروح على النفس لا يتفاوت حاله في العبادة بالفترة والعزيمة في الوقتين لكمال تمرين نفسه وبدنه في الطاعة، وطير القوى بأجمعها { محشورة } مجموعة، متسالمة بهيئة العدالة والانخراط في سلك الوحدة في تسبيحاتها المخصوصة بكل واحدة منها { كل له أواب } رجاع لتسبيحه بتسبيحه.
{ وشددنا ملكه } قويناه بالتأييد وإيتاء العزة والهيبة، وإعطاء العز والقدرة لائتلاف نفسه بأنوار تجليات القهر والعظمة والكبرياء والعزة واتصافه بصفاتنا الباهرة، فيهابه كل أحد ويجله ويذعن لسلطنته ويبجله { وآتيناه الحكمة } لاتصافه بعلمنا { وفصل الخطاب } والفصاحة المبينة للأحكام، أي: الحكمة النظرية والعملية والمعرفة والشريعة. وفصل الخطاب: هو المفصول، المبين من الكلام المتعلق بالأحكام.
[38.21-26]
ثم بين تلوينه وظهور نفسه في زلته، وتبيينه الحق بالعتاب على خطيئته وتأديبه إياه وتداركه بتوبته بقوله: { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } { وظن } أي: تيقن { داود أنما } ابتليناه بامرأة أوريا { فاستغفر ربه } بالتنصل عن ذنبه بالافتقار والالتجاء إليه في المجاهدة وكسر النفس وقمعها بالمخالفة { وخر } بمحو صفات النفس { راكعا } فانيا في صفات الحق { وأناب } إلى الله بالفناء في ذاته { فغفرنا له ذلك } التلوين بستر صفاته بنور صفاتنا { وإن له عندنا لزلفى } بالوجود الحقاني الموهوب حال البقاء بعد الفناء { وحسن مآب } لاتصافه حينئذ بصفاتنا لا بأنائيته ليلتحق بنا ويحكم بأحكامنا في محل الخلافة الإلهية، كما قال: { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس } بالحكم { الحق } لا بنفسك ليكون عدلا لا جورا { ولا تتبع الهوى } بظهور النفس فتجور ضالا عن سبيل الحق إلى سبيل الشيطان.
[38.27-33]
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما } خلقا { باطلا } لا حق فيها، بل حقا محتجبا بصورها لا وجود لها بنفسها فتكون باطلا محضا.
{ ذلك ظن } المحجوبين عن الحق بمظاهر الكون { فويل } لهم من نار الحرمان والاحتجاب والتقلب في نيران الطبيعة والأنائية بأشد العذاب.
بل لم نجعل { الذين آمنوا } بشهود جماله في مظاهر الأكوان { وعملوا الصالحات } من الأعمال المقصودة بذاتها، المتعلقة بصلاح العالم، الصادرة عن أسمائه { كالمفسدين } المحجوبين الفاعلين بأنفسهم وصفاتهم الأفعال البهيمية والسبعية والشيطانية في أرض الطبيعة { أم نجعل المتقين } المجردين عن صفاتهم { كالفجار } المتلبسين بالغواشي النفسانية والشيطانية في أعمالهم { ليدبروا آياته } بالنظر العقلي ما داموا في مقام النفس، فينخلعوا عن صفاتهم في متابعة صفاته { وليتذكر } حال العهد الأول والتوحيد الفطري عند التجرد { أولو } الحقائق المجردة الصافية عن قشر الخلقة.
ثم ذكر تلوين سليمان وابتلاءه تأكيدا لتثبيته، وتقوية له في استقامته وتمكينه { نعم العبد } لصلاحية استعداده للكمال النوعي الإنساني وهو مقام النبوة { إنه أواب } رجاع إلي بالتجريد.
{ إذ عرض عليه بالعشي } وقت قرب غروب شمس الروح في الأفق الجسماني بميل القلب إلى النفس وظهور ظلمتها بالميل إلى المال واستيلاء محبة الجسمانيات واستحسانها، كما قال الله تعالى:
زين للناس حب الشهوات
[آل عمران، الآية: 14] إلى قوله: { والخيل المسومة والأنعام والحرث }. فإن الميل إلى الزخارف الدنيوية والمشتهيات الحسية وهوى اللذات الطبيعية والأجرام السفلية يوجب إعراض النفس عن الجهة العلوية، واحتجاب القلب عن الحضرة الإلهية { الصافنات الجياد } التي استعرضها وانجذب بهواها وأحبها { فقال إني أحببت حب الخير } أي: أحببت منيبا حب المال { عن ذكر ربي } مشتغلا به لمحبتي إياه كما يجب لمثلي أن يشتغل بربه ذاكرا محبا له، فاستبدلت محبة المال بذكر ربي ومحبته فذهلت عنه { حتى توارت } شمس الروح بحجب النفس { ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق } أي: يمسح السيف مسحا بسوقها يعرقب بعضها وينحر بعضها، كسرا لأصنام: النفس التي تعبدها بهواها وقمعا لسورتها وقواها، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق واستغفارا وإنابة إليه بالتجريد والترك.
[38.34-35]
{ ولقد فتنا سليمان } ابتليناه مرة أخرى بما هو أشد من هذا التلوين وهو إلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختلف في تفسيره على ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ولد له ابن فهم الشياطين بقتله مخافة أن يسخرهم كأبيه، فعلم بذلك فكان يغدوه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه. والثاني: أنه قال ذات يوم: لأطوفن على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن ولم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. فعلى هذين الوجهين يكون ابتلاؤه بمحبة الولد، فظهور النفس بميله إليه إما بشدة الاهتمام بحفظه وتربيته وصونه عن شياطين الأوهام والتخيلات في سحاب العقل العملي وتغذيته بالحكمة العقلية واعتماده في ذلك على العقل والمعقول واستحاكم أهله لكماله دون تفويض أمره فيه إلى الله واتكاله في شأنه عليه، فابتلاه الله بموته، فتنبه على خطئه في شدة حبه للغير وغلبة أهله، وإما بظهور النفس في الاقتراح والتمني وغلبة الحسبان والظن والاحتجاب عن الاستيهاب بالعادة والفعل وبالتدبير عن التقدير والذهول عن أمر الحق بغلبة صفات النفس، فابتلاه الله بالمعلول البعيد عن المراد الذي تصوره في نفسه وقدره، فأناب الرجوع إلى الحق عند التنبه على ظهور النفس وتدارك التلوين بالاستغفار والاعتذار في التقصير. والوجه الثالث: أنه غزا صيدون مدينة في بعض جزائر البحر، فقتل ملكها وكان عظيم الشأن، وأصاب بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها، فاصطفاها لنفسه بعد أن أسلمت وأحبها وقد اشتد حزنها على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش لنفسه الرماد، فجلس عليه تائبا إلى الله متضرعا. وكانت له أم ولد يقال لها: أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان صاحب البحر اسمه صخر على صورة سليمان فقال: يا أمينة، خاتمي! فتختم به وجلس على كرسي سليمان وغير سليمان على هيئته فأنكرته وطردته، فعرف أن الخطيئة قد أدركته فأخذ يدور على البيوت بتكفف، وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه. ثم عمد إلى السماكين يخدمهم، فمكث على ذلك أربعين صباحا ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم، فتختم به وخر ساجدا ورجع إليه ملكه وجاب صخرة لصخر فجعله فيها وقذفه في البحر.
فإن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع كان قد اشتد تلوينه وابتلى بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما السلام، والحكاية من موضوعات حكماء اليهود وعظمائهم كسائر ما وضعت الحكماء في تمثيلاتهم من حكايات إيسال وسلامان وأمثالها، وتأويلها والله أعلم بصحتها ووضعها: أن سليمان قصد مدينة صيدون البدن، جزيرة في بحر الهيولى، وقتل ملكها النفس الأمارة العظيم الشأن ظاهر الطغيان بالمجاهدة في سبيل الله، وأصاب بنتا له اسمها جرادة وهي القوى المتخيلة بالطيارة كالجرادة، تجرد أشجار الأجسام والأشياء كلها بنزع صورها عن موادها مكتوفة بلواحقها حزينة، وهي من أحسن الناس صورة في تزيينها وتسويلها نفسها وما تخيلته من مدركاتها، وأسلمت على يده، أي: انقادت للعقل ورجعت عن دين الوهم، فصارت مفكرة، فاصطفاها لنفسه وأحبها لتوقف حصول كماله عليها، وحزنها على أبيها: ميلها إلى النفس بطبعها وتأسفها على فوات حظوظها. وأمره للشيطان بتمثيل صورة أبيها وكسوتها مثل كسوته هو إشارة إلى منشأ تلوينه وابتلائه بالميل إلى النفس واغتراره بكماله واشتغاله بحظوظ النفس قبل أوانه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ".
وطاعة الشيطان له: تسخير القوة الوهمية له في إعادة النفس إلى الهيئة الأولى وإن لم تكن على قوتها الأولى، وحياتها من الهوى: لكونه مصونا عن الاحتجاب معنيا به في العناية، وسجود جرادة وولائدها له كعادتهن في ملكه: تعبد الفكرية وسائر القوى البدنية للنفس بالانقياد والمراعاة والخدمة وإيصال الحظوظ إليها كعادتهن في الجاهلية الأولى، وإخبار آصف سليمان بذلك: تنبيه العقل للقلب على تلوينه عند قرب موته، وكسر الصورة وعقاب المرأة: ندامته وتوبته عن حاله، وتنصله متضرعا إلى الله وكسره للنفس بالرياضة وخروجه وحده إلى الفلاة: تجرده عن البدن عند سقوط قواه، وفرش الرماد وجلوسه فيه: تغير المزاج وترمد الأخلاط مع بقاء العلاقة البدنية، وأم الولد المسماة أمينة هي: الطبيعة البدنية أم الأولاد القوى النفسانية التي يضع هو خاتم بدنه عندها وقت الاشتغال بالأمور الطبيعية والضروريات البدنية كالدخول في الخلوة وإصابة المرأة وأمثالها، وهي أمينة على حفظه. وكون ملكه في خاتمه: إشارة إلى توقف كماله المعنوي والصوري على البدن، والشيطان الذي جاءها فأخذ منها الخاتم: هو الطبيعة العنصرية الأرضية صاحب بحر الهيولى السفلية سمي صخرا لميله إلى السفل وملازمته كالحجر للثقل، وتختمه به: لبسه به بانضمامه إلى نفسه، وجلوسه على كرسي سليمان: هو إلقاء الله تعالى بدنه ميتا على موضعه وسرير سلطنته كما قال تعالى: { وألقينا على كرسيه جسدا } وتغير سليمان عن هيئته بقاء الهيئات الجسمانية والآثار الهيولانية من بقايا الصفات النفسانية عليه بعد المفارقة البدنية وتغيره عن النورانية الفطرية والهيئة الأصلية، وإتيانه أمينة لطلب الخاتم: ميله إلى البدن ومحبته له وشوقه إليه، وإنكارها إياه وطردها له: عبارة عن عدم قبول الطبيعة البدنية الحياة لبطلان المزاج، ودوره على البيوت متكففا: ميله إلى الحظوظ واللذات الجسمانية وانجذابه إليها بالشوق للهيئات النفسانية، وحثيهم التراب على وجهه وسبهم إياه عبارة عن: حرمانه من تلك الحظوظ واللذات وفقدان أسباب تلك الشهوات، وقصده إلى السماكين وخدمته لهم: إشارة إلى الميل إلى قرارة الأرحام المتعلق بالنطفة، ومكثه أربعين يوما في خدمة السماكين: إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الرباني:
" خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا "
، وطيران الشيطان: سريان الطبيعة العنصرية في التركيب، وإلقاؤه الخاتم في البحر: تلاشي التركيب البدني في البحر الهيولاني، وابتلاع السمكة إياه: جذب الرحم للمادة البدنية التي هي النطفة، ووقوع السمكة في يد سليمان: تعلقه في الرحم بها واستيلاؤه على الرحم بالاغتذاء منه والتصرف فيه، وبقر بطنها وأخذ الخاتم منه وتختمه به: فتح الرحم وإخراج البدن منه وتلبسه به وخروره ساجدا ورجوع ملكه: حصول كماله به بالانقياد لأمر الله والفناء فيه، وجعله لصخر في صخرة وإلقاؤه إياه في البحر: إبقاء الطبيعة الأرضية على حالها منطبعة محبوسة في باطن الجرم ملازمة للثقل، والميل إلى السفل في بحر الهيولى عند وجود الطبيعة البدنية وتركه إياه فيه غير قادر على استيلاء أمينة وأخذ الخاتم منها إلى حين: { ثم أناب } بعد اللتيا والتي إلى الله بالتجريد والتزكية.
{ قال رب اغفر لي } ذنوب تعلقاتي وهيئاتي الساترة لنوري المظلمة المكدرة لصفائي بنورك { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } أي: كمالا خالصا باستعدادي يقتضيه هويتي لا ينبغي لغيري لاختصاصه به وهو الغاية التي يمكنه بلوغها { إنك أنت الوهاب } لجميع الاستعدادات وكل ما سئلت من الكمالات كما قال تعالى:
وآتاكم من كل ما سألتموه
[إبراهيم: الآية: 34].
[38.36-40]
{ فسخرنا له } ريح الهوى { تجري بأمره رخاء } لينة طيعة منقادة لا تتزعزع بالاستيلاء والاستعصاء { حيث } قصد وأراد { والشياطين } الجنية الباطنة من القوى النفسانية { كل بناء } مقدر بالهندسة عامل لأبنية الحكم العملية وقواعد القوانين العدلية { وغواص } في بحور العوالم القدسية والهيولانية، مخرج لدرر المعاني الكلية والجزئية والحكم العملية والنظرية { وآخرين } من القوى النفسانية والطبيعية { مقرنين في } أصفاد القيود الشرعية وأغلال الرياضات العقلية والإنسية الظاهرة من العمال المسخرين في الأعمال، والفساق والعصاة المقرنين في الأغلال.
{ هذا عطاؤنا } المحض { فامنن أو أمسك } أي: أطلق إرادتك واختيارك في الحل والعقد والإعطاء والمنع عند الكمال التام والعطاء الصرف، أي: الوجود الموهوب حال البقاء بعد الفناء كما شئت { بغير حساب } عليك، فإنك قائم بنا مختار باختيارنا متحقق بذاتنا وصفاتنا، وذلك معنى قوله: { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب }.
[38.41-43]
{ واذكر عبدنا أيوب } في ابتلائنا إياه عند ظهور نفسه في التلوين بإعجابه بكثرة ماله أو مداهنته لكافر النفس في ظهورها وترك تغذيته إياها بالرياضة والمجاهدة لكون ماشية قواه الطبيعية في ناحيته أو عدم إغاثته لمظلوم العقل النظري والقوى القدسية عند استقامته على اختلاف الروايات في التفاسير الظاهرة في سبب ابتلائه، ويمكن الجمع بينها وابتلاؤه بالمرض والزمانة، ووقوع ديدان القوى الطبيعية فيه، واستئكاله وسقوطه على فراش البدن حتى لم يبق منه إلا القلب واللسان، أي: الفطرة والاستعداد الأصليان دون ما اكتسب من الكمالات { إذ نادى ربه } بلسان الاضطرار والافتقار في مكمن الاستعداد { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } أي: استولى علي الوهم بالوسوسة فلقيت بسببه هذا المرض والعذاب من الأخلاق الرديئة والاحتجاب.
{ اركض برجلك } أي: اضرب بقوتك التي تلي أرض البدن من العقل العملي المسمى صدر أرض بدنك تنبع عينان من الحكمة العملية والنظرية { هذا مغتسل } أي: العملية المزكية للنفوس، المطهرة من ألواث الطبائع، المبرئة من أمراض الرذائل { بارد } ذو روح وسلامة { وشراب } من النظرية، أي: العلم المفيد لليقين الدافع لمرض الجهل، والزمانة عن السير، فتغتسل وتشرب منه تبرأ بإذن الله ظاهرك وباطنك وتصح وتقوى.
{ ووهبنا له أهله } قيل: كان له سبعة أبناء وسبع بنات، فانهدم عليهم البيت في الابتلاء فهلكوا فأحياهم الله عند كشف الضر وإعادة أموال الكمالات عليه، وهي إشارة إلى الروحانية والنفسانية الهالكة في التلوين واستيلاء الطبيعة البدنية أو البالغة في التلوين الأعظم وخراب البدن واستئكال الديدان إياه حتى لم يبق منه إلا القلب ولسان الاستعداد الفطري، فأحياهم عند الإنابة والرجوع إلى حال الصحة والقوة وكشف المرض والزمانة بالشرب والغسل من العينين المذكورتين { ومثلهم معهم } باكتساب الملكات الفاضلة والأخلاق الحميدة والصفات الجميلة حتى صارت القوى الطبيعية النفسانية أيضا روحانية في النشأة الثانية وحدوث القوى البدنية الفانية { رحمة منا } بإفاضة الكمالات التي سألها استعداده { وذكرى } وتذكيرا { لأولي } الحقائق المجردة عن قشور المواد الجسمانية الذين يفهمون بسمع القلب حتى يعتبروا أحوالهم بحاله ويتذكروا ما في فطرتهم من العلوم.
[38.44]
{ وخذ بيدك ضغثا } قيل: إنه حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إن برىء، واختلف في سبب حلفه فقيل: أبطأت ذاهبة في حاجة، وقيل: أوهمها الشيطان أن تسجد له سجدة ليرد أموالهم الذاهبة، وقيل: باعت ذؤابتين لها برغيفين وكانتا متعلق أيوب عند قيامه. وقيل: أشارت إليه ليشرب الخمر، كلها إشارات إلى التلوين المذكور بظهور النفس بإبطائها وتكاسلها في الطاعات أو طاعة شيطان الوهم وانقيادها له في تمني الحظوظ وترك ما يتعلق به القلب في القيام عن مرقد البدن والتجرد عن الهيئات المنشطة المشجعة من العلوم النافعة والأعمال الفضيلة، واستبدال الحظوظ القليلة المقدار، اليسيرة الوقع، والخطر بها، أو المراءاة بها، لاستجلاب حظ النفس أو شرب خمر الهوى والميل إلى ما يخالف العقل. وحلفه إشارة إلى نذره المخالفات والرياضات المتعبة والمجاهدات المؤلمة أو ما ركز في استعداده في محبته التجريد والتزكية بالرياضة وعزيمة تأديب النفس بالأخلاق والآداب بالمخالفات المؤلمة بمقتضى العهد الأول وحكم ميثاق الفطرة وأخذ الضغث. والضرب به إشارة إلى الرخصة والطريقة السهلة السمحة من تعديل الأخلاق بالاقتصار على الأوساط والاعتدالات من الرياضات والمخالفات لصفاء الاستعداد وشرف النفس ونجابة جوهرها دون الإفراط فيها، والأخذ بالعزائم الصعبة كما قال عليه الصلاة والسلام:
" بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ".
{ ولا تحنث } بترك التأديب بالكلية ونقص العزيمة في طلب الكمال، وترك الوفاء بالنذر الفطري { إنا وجدناه صابرا } في بليته وطلبه للكمال، فرحمناه، وليس كل طالب صابرا { نعم العبد إنه } رجاع إلى الله بالتجرد والمحو والفناء.
[38.45-54]
{ واذكر عبادنا } المخصوصين من أهل العناية { أولي الأيدي والأبصار } أي: العمل والعلم لنسبة الأول إلى الأيدي والثاني إلى البصر والنظر، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية.
{ إنا أخلصناهم } صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة الأنائية وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية ليس لغيرنا فيهم نصيب، ولا يميلون إلى الغير بالمحبة العارضية لا إلى أنفسهم ولا إلى غيرهم بسبب خصلة خالصة غير مشوبة بهم آخر هي { ذكرى الدار } الباقية والمقر الأصلي، أي: استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس وإعراضهم عن معدن الرجس مستشرفين لأنوارنا لا التفات لهم إلى الدنيا وظلماتها أصلا.
{ وإنهم عندنا } أي: في الحضرة الواحدية { لمن } الذين اصطفيناهم لقربنا من بني نوعهم { الأخيار } المنزهين عن شوائب الشر والإمكان والعدم والحدثان { هذا ذكر } أي: هذا باب مخصوص بذكر السابقين من أهل الله المخصوصين بالعناية { وإن للمتقين } المجردين من صفات نفوسهم دون الواصلين إلى بساط القرب والكرامة الناظرين إليه في جنة الروح بالمشاهدة { لحسن مآب } في مقام القلب من جنة الصفات { جنات عدن } مخلدة { مفتحة لهم } أبوابها بالتجليات { يدخلونها } من طرق الفضائل الخلقية والكمالات { متكئين فيها } على آرائك المقامات { يدعون فيها بفاكهة كثيرة } من المكاشفات اللذيذة { وشراب } المحبة الوصفية.
{ وعندهم قاصرات الطرف } من الأزواج القدسية وما في مراتبهم من النفوس الفلكية والإنسية { أتراب } متساوية في الرتب { ليوم الحساب } لوقت جزائكم من الصفات الإلهية على حساب فنائكم من الصفات البشرية { ما له من نفاد } لكونه غير مادي فلا ينقطع.
[38.55-64]
{ هذا } باب في وصف الجنة وأهلها { وإن } للذين طغوا حدودهم بصفات النفس وظهورها فنازعوا الحق علوه وكبرياءه باستعلائهم وتكبرهم { لشر مآب } إلى جهنم الطبيعة الآثارية ونيران الظلمات الهيولانية { يصلونها } بفقدان اللذات ووجدان الآلام { هذا فليذقوه حميم } الهوى والجهل { وغساق } الهيئات الظلمانية والكدورات الجسمانية.
{ و } خزي وعذاب { آخر } من نوعه من مذوقات أخر من مثله، أصناف من العذاب في الهوان والحرمان { هذا فوج } من أتباعكم وأشباهكم أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة { مقتحم معكم } في مضايق المذلة ومداخل الهوان. قال الطاغون: { لا مرحبا } بهم لشدة عذابهم وكونهم في الضيق والضنك واستيحاش بعضهم من بعض لقبح المناظر وسوء المخابر { قالوا } أي: الأتباع { بل أنتم لا مرحبا بكم } لتضاعف عذابكم ورسوخ هيئاتكم { أنتم قدمتموه لنا } بإضلالنا والتحريض على أعمالنا، وهذه المقولات قد تكون بلسان القال وقد تكون بلسان الحال، والرجال الذين اتخذوهم سخريا هم الفقراء الموحودون والصعاليك المحققون عدوهم من الأشرار في الدنيا لمخالفتهم إياهم في الإغراء عما سوى الله والتوجه إلى خلاف مقاصدهم وترك عاداتهم ومطالبهم بل { زاغت عنهم } أبصارهم لكونهم محجوبين بالغواشي البدنية والأمور الطبيعية عن حقائقهم المجردة وذواتهم المقدسة كما حجبوا بالعادات العامية والطرائق الجاهلية عن طرائقهم وسيرتهم على أن أم منقطعة، وإنما كان تخاصم أهل النار حقا لكونهم في عالم التضاد ومحل العناد، أسراء في قيود الطبائع المختلفة وأيدي القوى المتنازعة والأهواء الممانعة، والميول المتجاذبة.
[38.65-76]
ما أنا إلا منذر لا أدعوكم إلى نفسي ولا أقدر على هدايتكم لأني فان عن نفسي وعن قدري، قائم في الإنذار بالله وصفاته.
{ وما من إله } في الوجود { إلا الله الواحد } بذاته { القهار } الذي يقهر كل من سواه بإفنائه في وحدانيته { رب } الكل الذي يرب كل شيء في حضرة واحديته باسم من أسمائه { العزيز } الذي يغلب المحجوب بقوته فيعذبه بما حجب به في سترات جلاله لاستحقاقه فيض الربوبية من حضرة القهار المنتقم وسطوات العذاب المحتجب { الغفار } الذي يستر ظلمات صفات النفس بأنوار تجليات جماله لمن بقي فيه نور فطرته فيقبل نور المغفرة لبقاء مسكة من نوريته { قل هو } أي: الذي أنذرتكم به من التوحيد الذاتي والصفاتي { نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } ثم احتج على صحة نبوته باطلاعه على اختصام الملأ الأعلى من غير تعلم إذ لا سبيل إليه إلا الوحي، وفرق بين اختصام الملأ الأعلى واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار: إن ذلك لحق، وفي اختصام الملأ الأعلى { إذ يختصمون } لأن ذلك حقيقي لا ينتهي إلى الوفاق أبدا، وهذا عارضي نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه السلام الذي هو فوق كمالاتهم. وانتهى إلى الوفاق عند قولهم:
سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ
[البقرة، الآية: 32]، وقوله تعالى:
ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض
[البقرة، الآية: 33] على ما ذكر في سورة (البقرة) عند تأويل هذه القصة. وسجودهم لآدم عليه السلام: تعظيمهم له وانقيادهم وخضوعهم لانكشاف كماله الذي هو فوق كمالاتهم عليهم السلام، وإباء إبليس واستكباره: عدم انقياد شيطان الوهم وإذعانه لاحتجابه عن حقيقته بانطباعه في المادة، ولهذا قال تعالى: { وكان من الكافرين } [ص، الآية: 74].
{ لما خلقت بيدي } أي: خلقته بصفتي الجمال والجلال والقهر واللطف وجميع أسمائي المتقابلة المندرجة تحت صفتي القهر والمحبة لتحصل عند الجمعية الإلهية في الحضرة الواحدية بخلاف حال الملأ الأعلى، فإن من خلق منهم بصفة القهر لا يقدر على اللطف وبالعكس { أستكبرت } أي: أعرض لك التكبر والاستنكاف { أم كنت } عاليا عليه، زائدا في المرتبة؟ فأجاب المحجوب: بأني عال خير منه في الأصل لعدم اطلاعه على حقيقته المجردة واطلاعه على بشريته، ولا شك أن الروح الحيواني الناري الذي خلق منه اللعين أشرف من المادة الكثيفة البدنية ولكن الاحتجاب عن الجمعية الإلهية واللطيفة الروحانية بعث اللعين على الإباء حتى تمسك بالقياس وعصى الله في سجود الناس.
[38.77-85]
والرجيم واللعين من بعد عن الحضرة القدسية المنزهة عن المواد الرجسية بالانغماس في الغواشي الطبيعية والاحتجاب بالكوائن الهيولانية، ولهذا وقت اللعن بيوم الدين وحدد نهايته به، لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرد الروح عن البدن ومواده، وحينئذ لا يبقى تسلطه على الإنسان وينقاد ويذعن له في الوقت المعلوم الذي هو القيامة الكبرى فلا يكون ملعونا كما قال عليه السلام:
" إلا أن شيطاني أسلم على يدي "
والإنظار للإغواء واللعن ينتهيان إلى ذلك الوقت، لكن الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن شوب الكدورات النفسية وحجب البشرية والأنائية، وصفى فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة لا يمكنه إغواؤهم البتة في البداية أيضا، فكيف في النهاية؟. واللعن إن ارتفع بإسلامه وانقياده هناك لكن لزمه كونه جهنميا لملازمته الطبيعة الهيولانية والمادة الجسمانية فلا يتجرد أصلا وإن كان قد يرتقي إلى سماء العقل والأفق الروحانية بالوسوسة والإلقاء ويتصل في جنة النفس بآدم عند الإغواء ولا يزال يطرد عن ذلك الجناب { فاخرج منها فإنك رجيم }.
وإنما أقسم على الإغواء بعزته تعالى لأنه مسبب عن تعززه بأستار الجلال وسرادقات الكبرياء، وتمنعه عن إدراك إبليس لفنائه بسحب الأنوار. وأقسم الله تعالى في مقابلته بالحق الثابت الواجب الذي لا يتغير على إملائه جهنم منه ومن أتباعه لوجود ذلك التعزز وملازمة هؤلاء جهنم دائما أبدا على حاله لا يتغير ولا يتبدل، لأن تجرد المجرد بالذات وتعلق المتعلق بالطبع، أمر تقتضيه الذوات والأعيان والحقائق في الأزل غير عارض فلا يزال كذلك أبدا.
[38.86-88]
{ قل ما أسألكم عليه من أجر } ولا غرض لي في ذلك، فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات غير معللة بالغرض { وما أنا من المتكلفين } أي: المتصنعين الذين ينتحلون الكمالات ويظهرون بأنفسهم وصفاتها، ويدعون كمالات الله لأنفسهم، بل فنيت عن نفسي وصفاتها، فالله القائل بلساني { ولتعلمن نبأه بعد حين } عند القيامة الصغرى أو الكبرى لظهور تأويله حينئذ.
[39 - سورة الزمر]
[39.1-4]
هذا { تنزيل } كتاب العقل الفرقاني بظهوره عليك من غيب الغيوب { من الله } وحضرته الواحدية { العزيز } المحتجب بسترات الجلال في غيب غيبه { الحكيم } ذي الحكمة الكامنة هناك، البارزة في مراتب التنزيلات { بالحق } أي: أنزلناه بظهور الحق فيك بعد كمونه { فاعبد الله } فخصصه بالعبادة الذاتية حين تجلى لك بذاته ولم يبق أحدا من خلقه { مخلصا } ممحضا { له الدين } عن شوب الغيرية والاثنينية، أي: اعبده بشهوده لذاته ومطالعة تجليات صفاته بعينه وتلاوة كلامه به، فيكون سيرك سير الله ودينك دين الله وفطرتك ذات الله.
{ ألا لله الدين الخالص } عن شوب الغيرية والأنائية لا لك لفنائك فيه بالكلية، فلا ذات لك، ولا صفة، ولا فعل، ولا دين، وإلا لما خلص الدين بالحقيقة فلا يكون لله { والذين } احتجبوا بالكثرة عن الوحدة واتخذوا الغير وليا بالمحبة للتقرب والتوسل به إلى الله { إن الله يحكم بينهم } عند حشر مبعوداتهم معهم فيما اختلفوا فيه من صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم فيقرن كلا منهم مع من يتولاه من عابد ومعبود، ويدخل المبطل النار مع المبطلين كما يدخل المحق الجنة مع المحقين، ويجزى كلا بوصفه الغالب عليه وما وقف معه واحتجب به مع اختلافهم في الأوصاف وما وقفوا معه { إن الله لا يهدي } إلى النجاة وعالم النور وتجليات الصفات والذوات { من هو كاذب كفار } لبعده عنه واحتجابه بلظمة الرذائل وصفات النفس عن النور وامتناعه عن قبوله { سبحانه } أي: نزهه عن المماثلة والمجانسة واصطفاء الولد لكون الوحدة لازمة لذاته وقهره بوحدانيته لغيره، فلا تماثل في الوجود، فكيف في الوجوب؟.
[39.5-6]
{ خلق السموات والأرض بالحق } بظهوره في مظاهرها واحتجابه بصورها مصرفا للكل بقدرته وفعله { وسخر الشمس والقمر } بسلطانه وملكه فلا ذات ولا صفة ولا فعل لغيره، وذلك دليل وحدانيته { ألا هو العزيز } القوي الذي يقهر الكل بسطوة قهره { الغفار } الذي يسترهم بنور ذاته وصفاته فلا يبقى معه غيره أو العزيز المتمنع باحتجابه عن خلقه بصور مخلوقاته الغفار الذي يستر لمن يشاء ذنوب وجوده وصفاته فيظهر عليه ويتجلى له بصفاته وذاته.
{ خلقكم من نفس واحدة } هي آدم الحقيقي، أي: النفس الناطقة الكلية، التي تتشعب عنها النفوس الجزئية { ثم جعل منها زوجها } النفس الحيوانية { وأنزل لكم } لكون صورها في اللوح المحفوظ ونزول كل ما وجد في عالم الشهادة من عالم الغيب { خلقا من بعد خلق } يخلقكم في أطوار الخلقة متقلبين { في ظلمات ثلاث } من الطبيعة الجسمانية والنفس النباتية والحيوانية { ذلكم } الخالق لصوركم، المكورة، أي: المصرف بقدرته المسخر بملكوته وسلطانه، المنشىء للكثرة من وحدته بأسمائه وصفاته، المنزل لما قضى وقدر بأفعاله هو الذات الموصوفة بجميع صفاته يربكم بأسمائه { له الملك } يتصرف فيه بأفعاله { لا إله إلا هو } في الوجود { فأنى تصرفون } عن عبادته إلى عبادة غيره مع عدمه.
[39.7-9]
{ إن تكفروا } وتحتجبوا بصفاتكم وذواتكم فإن الله لا يحتاج إلى ذواتكم وصفاتكم في ظهوره وكماله، لكونها فانية في نفس الأمر ليست شيئا إلا به، فضلا عن احتياجه إليها وهو الظاهر بذاته لذاته والباطن بحقيقته، المشاهد لكماله بعينه { ولا يرضى لعباده } الاحتجاب لكونه سبب هلاكهم ووقوعهم في أسر المالك والزبانية ولا يتعلق بهم الرضا، ولا يقبلون نوره فيدخلوا الجنة { وإن تشكروا } برؤية نعمه واستعمالها في طاعته لتستعدوا لقبول فيضه يرضى الشكر لكم بتجلي الصفات لتتصفوا بها فتبلغوا مقام الرضا وتدخلوا الجنة، فما تبعة الكفر إلا عليكم ولا ثمرة الشكر إلا لكم، أهذا الكافر المحجوب أفضل.
{ أمن هو قانت } مطيع في مقام النفس وأوقات ظلمة صفاتها { ساجدا } بفناء الأفعال والصفات، قائما بالطاعة والانقياد، عند ظهور النفس بصفاتها وأفعالها { يحذر } عقاب الآخرة ويرجوا الرحمة، إذ السالك في مقام النفس لا يخلو عن الخوف والرجاء { قل هل يستوي } أي: لا يستويان، وإنما ترك المضمر إلى الظاهر ليبين أن المطيع في مقام النفس هو العالم والكافر هو الجاهل. أما الأول فإن العلم هو الذي رسخ في القلب وتأصل بعروقه في النفس بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته بل سيط باللحم والدم فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه، وأما المرتسم في حيز العقل والتخيل بحيث يمكن ذهول النفس عنه وعن مقتضاه فليس بعلم إنما هو أمر تصوري وتخيل عارضي لا يلبث بل يزول سريعا، لا يغذو القلب ولا يسمن ولا يغني من جوع. وأما الثاني فظاهر، إذ لو علم لم يحجب بالغير عن الحق { إنما يتذكر } ويتعظ بهذا الذكر { أولو } العقول الصافية عن قشر التخيل والوهم لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر. وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه، بل تتلجلج فيه فيذهب.
[39.10-16]
{ قل يا عباد } المخصوصين في من أهل العناية { الذين آمنوا } الإيمان العملي { اتقوا ربكم } بمحو صفاتكم { للذين أحسنوا } أي: اتصفوا بالصفات الإلهية فعبدوه على المشاهدة { في هذه الدنيا حسنة } لا يكتنه كنهها في الآخرة وهي شهود الوجه الباقي وجماله الكريم.
{ وأرض الله } أي: النفس المطمئنة المخصوصة بالله لانقيادها له وقبولها لنوره واطمئنانها إليه، ذات سعة بيقينها لا تتقيد بشيء ولا تلبث في ضيق من عادة ومألوف وأمر غير الحق { إنما يوفى الصابرون } الذين صبروا مع الله في فناء صفاتهم وأفعالهم وسلوكهم فيه وسيرهم في منازل النفس الواسعة باليقين { أجرهم } من جنات الصفات { بغير حساب } إذ الأجر الموفى بحسب الأعمال في مقام النفس مقدر بالأعمال في جنة النفوس، متناه لكونه من باب الآثار محصورا في المواد. وأما الذي يوفى بحسب الأخلاق والأحوال فهو غير متناه لكونه من باب تجليات الصفات في جنة القلب وعالم القدس مجردا عن المواد { مخلصا له الدين } عن الالتفات إلى الغير والسير بالنفس { وأمرت لأن أكون } مقدم { المسلمين } الذين أسلموا وجوههم إلى الله بالفناء فيه وسابقهم في الصف الأول، سائرا بالله، فانيا عن النفس وصفاتها.
{ أخاف إن عصيت ربي } بترك الإخلاص والنظر إلى الغير { عذاب يوم عظيم } من الاحتجاب والحرمان والبعد { قل الله } أخص بالعبادة { مخلصا له ديني } عن شوب الأنائية والاثنينية { قل إن الخاسرين } بالحقيقة، الكاملين في الخسران، هم الواقفون مع الغير، المحجوبون عن الحق { الذين خسروا أنفسهم وأهليهم } بإهلاك الأنفس وتضييع الأهل من الجواهر المقدسة التي تجانسهم وتناسبهم في عالمها الروحاني لاحتجابهم بالظلمات الهيولانية عنهم { ألا ذلك هو الخسران } الحقيقي الظاهر البين.
{ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } لانغمارهم في المواد الهيولانية واستقرارهم في قعر بئر الطبيعة الظلمانية، فوقهم مراتب من الطبائع وتحتهم مراتب أخرى وهم في غمرات منها.
[39.17-21]
{ والذين اجتنبوا } عبادة الغير { وأنابوا إلى الله } بالتوحيد المحض { لهم البشرى } باللقاء { فبشر عباد } المخصوصين بعنايتي.
{ الذين يستمعون القول } كالعزائم والرخص والواجب والمندوب في قول الحق والغير { فيتبعون أحسنه } كالعزائم دون الرخص والواجب دون المندوب والقول حق في الكل لا غير { أولئك الذين هداهم الله } إليه بنور الهداية الأصلية { وأولئك هم أولو الألباب } المميزون بين الأقوال بألبابهم المجردة فيتلقون المعاني المحققة دون غيرها.
{ أفمن حق عليه كلمة العذاب } أي: أأنت مالك أمرهم فمن سبق الحكم بشقاوته فأنت تنقذه، أي: لا يمكن إنقاذه أصلا { لكن الذين اتقو } أفعالهم وصفاتهم وذواتهم في التجريد والتفريد من أهل التوحيد { لهم غرف من فوقها غرف } أي: مقامات وأحوال بعضها فوق بعض كالتوكل بفناء الأفعال فوقه، الرضاء بفناء الصفات فوقه الفناء في الذات { تجري من تحتها } أنهار علوم المكاشفات { أنزل من السماء } الروح { ماء } العلم { فسلكه ينابيع } الحكم في أراضي النفوس بحسب استعدادتها { ثم يخرج به } زرع الأعمال والأخلاق { مختلفا } أصنافه بحسب اختلاف القوى والأعضاء { ثم يهيج } فينقطع عن أصله بأنوار التجليات { فتراه مصفرا } لاضمحلاله وتلاشيه بفناء أصوله، القائم هو بها من القوى والنفوس والقلوب { ثم يجعله حطاما } بذهابه وانكساره وانقشاعه عند ظهور صفاته تعالى واستقرارها بالتمكين.
{ إن في ذلك لذكرى لأولي } الحقائق المجردة من قشرة الأنائية.
[39.22-29]
{ أفمن شرح الله صدره للإسلام } بنوره حال البقاء بعد الفناء ونقى قلبه بالوجود الموهوب الحقاني فيسع صدره الحق والخلق من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر فيشاهد التفصيل في عين الوحدة والتوحيد في عين الكثرة، والإسلام هو الفناء في الله وتسليم الوجه إليه، أي: شرح صدره في البقاء لإسلامه وجهه حال الفناء { فهو على نور من ربه } يرى ربه { فويل } للذين قست قلوبهم من قبول ذكر الله لشدة ميلها إلى اللذات البدنية وإعراضها عن الكمالات القدسية { أولئك في ضلال مبين } عن طرين الحق { متشابها } في الحق والصدق { مثاني } لتنزلها عليك في مقام القلب قبل الفناء وبعده فتكون مكررة باعتبار الحق والخلق، فتارة يتلوها الحق وتارة يتلوها الخلق { تقشعر منه جلود } أهل الخشية من العلماء بالله لانفعالها بالهيئات النوراينة الواردة على القلب النازل أثرها إلى البدن { ثم تلين جلودهم وقلوبهم } وأعضاؤهم بالانقياد والسكينة والطمأنينة { إلى ذكر الله ذلك هدى الله } بالأنوار اليقينية { يهدي به من يشاء } من أهل عنايته { ومن يضلل الله } يحجبه عن النور فلا يفهم كلامه ولا يرى معناه { فما له من هاد أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } مع كونه أشرف الأعضاء لكون سائر جوارحه مقيدة بهيئات لا يتأتي له التحرز بها ولا يتهيأ، مغللة بأغلال لا يتيسر له بها الحركة في الدفع ولا يتسنى كمن أمن العذاب.
{ مثلا } في التوحيد والشرك { رجلا فيه شركاء متشاكسون } سيئو الأخلاق لا يتسالمون في شيء يوجهه هذا في حاجة ويمنعه هذا ويجذبه أحدهما إلى جهة والآخر إلى ما يقابلها، فيتنازعون ويتجاذبون وهذا صفة من تستولي عليه صفات نفسه المتجاذبة لاحتجابه بالكثرة المتخالفة فهو في عين التفرقة همه شعاع وقلبه أوزاع { ورجلا سلما لرجل } لا يبعثه إلا إلى جهته، وهذا مثل الموحد الذي تسالمت له مشايعة السر إلى جناب الرب ليس له إلا هم واحد ومقصد واحد في عين الجمعية مجموع ناعم البال خافض العيش والحال.
[39.30-52]
{ إنك ميت وإنهم ميتون } معناه: كل شيء هالك إلا وجهه، أي: فان في الله، وهم في شهودك هالكون معدومون بذواتهم.
{ ثم إنكم يوم القيامة } الكبرى { عند ربكم تختصمون } لاختلافكم في الحقيقة والطريقة لكونهم محجوبين بالنفس وصفاتها، سائرين بها طالبين لشهواتها ولذاتها، وكونك دائما بالحق سائرا به طالبا لوجهه ورضاه { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا } من صفات نفوسهم وهيئات رذائلهم { ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } من تجليات صفاته وجنات جماله، فيمحو ظلمات وجوداتهم بنور وجهه.
{ أليس الله بكاف عبده } المتوكل عليه في توحيد الأفعال وهو منبع القوى والقدر { ويخوفونك بالذين من دونه } لاحتجابهم بالكثرة عنه، فينسبون التأثير والقدرة إلى ما هو ميت بالذات لا حول له ولا قوة، فأنت أحق بأن يكفيك ربك شرهم { ومن يضلل الله } يحجبه عنه { فما له من هاد } إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.
{ قل لله الشفاعة جميعا } لتوقفها على إرضائه للمشفوع له بتهيئته لقبولها، وإذن الشفيع بتمكينه منها والتهيىء من فيضه الأقدس، فالقبول والتأثير من جهته له الملك مطلقا { وإليه } الرجوع دائما { ما لم يكونوا يحتسبون } مما يشاهدون من هيئات أعمالهم وصور أخلاقهم التي ذهلوا عنها لاشتغالهم بالشواغل الحسية، وأحصاه الله بإثباته في كتبهم بل في الكتب الأربعة من نفوسهم والسماء الدنيا واللوح المحفوظ وأم الكتاب.
[39.53-60]
{ لا تقنطوا من رحمة الله } فإن القنوط علامة زوال الاستعداد والسقوط عن الفطرة بالاحتجاب، وانقطاع الوصلة من الحق والبعد، إذ لو بقيت فيه مسكة من النور الأصلي لأدرك أثر رحمته الواسعة السابقة على غضبه بالذات فرجا وصول ذلك الأثر إليه، وإن أسرف في الميل إلى الجهة السفلية وفرط في جنب الحضرة الإلهية لاتصاله بعالم النور بتلك البقية. وإنما اليأس لا يكون إلا مع الاحتجاب الكلي واسوداد الوجه بالإعراض عن العالم العلوي، والتغشي بالغطاء الخلقي المادي.
{ إن الله يغفر الذنوب جميعا } بشرط بقاء نور التوحيد في القلب وهو مستفاد من اختصاص العباد لإفاضتهم إلى نفسه في قوله:
يعبادي
[الزمر، الآية:53]، ولهذا قيل: يغفر جميعها للأمة المحمدية الموحدين دون سائر الأمم، كما قال لأمة نوح عليه السلام:
يغفر لكم من ذنوبكم
[نوح، الآية:71] أي: بعضها. { إنه هو الفغور } لهئيات الرذائل من الإفراط والتفريط { الرحيم } بإفاضة الفضائل.
{ وأنيبوا إلى ربكم } بالتنصل عن هيئات السوء { وأسلموا له } وجوهكم بالتجرد عن ذنوب الأفعال والصفات من قبل انسداد باب المغفرة بوقوع العذاب الذي تستحقونه بالموت فلا يمكنكم الإنابة والتسليم لفقدان الآلات وانسداد الأبوب { يا حسرتا على ما فرطت } بترك السعي في طلب الكمال والتقصير في الطاعة حين كنت في جوار الله، قريبا منه، لصفاء استعدادي وتمكني من السلوك فيه بوجود الآلات البدنية المعدة لي.
{ ويوم القيامة } الكبرى { ترى الذين كذبوا على الله } من المحجوبين الذين يسوونه بالمخلوقات، إذ يجسمونه ويجوزون عليه ما يمتنع عليه من الصفات لاحتجابهم بالمواد { وجوههم مسودة } بارتكاب الهيئات الظلمانية ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم { أليس في جهنم } الطبيعة الهيولانية { مثوى للكافرين } الذين احتجبوا بصفات نفوسهم المستولية عليهم.
[39.61-67]
{ وينجي الله الذين اتقوا } الرذائل بتجردهم عن تلك الصفات { بمفازتهم } وأسباب فلاحهم من هيئات الحسنات وصور الفضائل والكمالات { لا يمسهم السوء } لتجردهم عن الهيئات المؤلمة المنافية { ولا هم يحزنون } بفوات كمالاتهم التي اقتضتها استعداداتهم.
{ له مقاليد السموات والأرض } هو وحده يملك خزائن غيوبها وأبواب خيرها وبركتها، يفتح لمن يشاء بأسمائه الحسنى، إذ كل اسم من أسمائه مفتاح لخزانة من خزائن جوده لا ينفتح بابها إلا به، فيفيض عليه ما فيها من فيض رحمته العامة والخاصة ونعمته الظاهرة والباطنة.
{ والذين كفروا بآيات الله } أي: حجبوا عن أنوار صفاته وأفعاله بظلمات طباعهم ونفوسهم { أولئك هم الخاسرون } الذين لا نصيب لهم من تلك الخزائن لإطفائهم النور الأصلي القابل لها، وتضييعهم الاستعداد الفطري، والاسم الذي يفتح به مقاليدها.
{ قل أفغير الله تأمروني أعبد } بالجهل، فأحتجب عن فيض رحمته ونور كماله، فأكون { من الخاسرين } بل خصص العبادة بالله موحدا فانيا فيه عن رؤية الغير إن كنت تعبد شيئا { وكن من الشاكرين } به له، { وما قدروا الله حق قدره } أي: ما عرفوه حق معرفته إذ قدروه في أنفسهم وصوروه وكل ما يتصورونه فهو مجعول مثلهم { والأرض جميعا قبضته } أي: تحت تصرفه وقبضة قدرته وقهر ملكوته { والسموات } في طي قهره ويمين قوته يصرفها كيف يشاء ويفعل بها ما يشاء، يطويها وينفيها عن شهود الشاهد يوم القيامة الكبرى، والفناء في التوحيد لفناء الكل حينئذ في شهود التوحيد، وكل تصرف تراه بيمينه ولك صفة تراها صفته، ويرى عالم القدرة بيمينه، بل كل شيء عينه فلا يرى غيره بل يرى وجهه، فلا عين ولا أثر لغيره { سحانه وتعالى عما يشركون } بإثبات الغير وتأثيره وقدرته.
[39.68-70]
{ ونفخ في الصور } عند الإماتة بسريان روح الحق وظهوره في الكل وشهود ذاته بذاته وفناء الكل فيه { فصعق } أي: هلك { من في السموات ومن في الأرض } حال الفناء في التوحيد وظهور الهوية بالنفخة الروحية { إلا من شاء الله } من أهل البقاء بعد الفناء الذين أحياهم الله بعد الفناء بالوجود الحقاني فلا يموتون في القيامة كرة أخرى لكون حياتهم به وفنائهم عن أنفسهم من قبل { ثم نفخ فيه أخرى } عند البقاء بعد الفناء والرجوع إلى التفصيل بعد الجمع { فإذا هم قيام } بالحق { ينظرون } بعينه.
{ وأشرقت } أرض النفس حينئذ { بنور ربها } واتصفت بالعدالة التي هي ظل شمس الوحدة والأرض كلها في زمن المهدي عليه السلام بنور العدل والحق { ووضع الكتاب } أي: عرض كتاب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته التي هي نفسه المنتقشة فيها صور أعماله المنطبع منها تلك الصور في بدنه { وجيء بالنبيين والشهداء } من السابقين المطلعين على أحوالهم الذين قال فيهم:
يعرفون كلا بسيماهم
[الأعراف، الآية:46] أي: أحضروا للشهادة عليهم لاطلاعهم على أعمالهم { وقضي بينهم بالحق } حيث وزن أعمالهم بميزان العدل ووفى جزاء أعمالهم لا ينقص منها شيء { وهو أعلم بما يفعلون } لثبوت صور أفعالهم عنده.
[39.71-73]
{ وسيق } المحجوبون { إلى جهنم } بسائق العمل وقائد الهوى النفسي والميل السفلي { فتحت أبوابها } لشدة شوقها إليهم وقبولها لهم لما بينهما من المناسبة { وقال لهم خزنتها } من مالك والزباينة، أي: الطبيعة الجسمانية والملكوت الأرضية الموكلة بالنفوس السفلية.
{ وسيق الذين اتقوا } الرذائل وصفات النفوس { إلى الجنة } بسائق العمل وقائد المحبة { وفتحت أبوبها } قبل مجيئهم لأن أبواب الرحمة وفيض الحق مفتوحة دائما والتخلف من جهة القبول لا من جهة الفيض بخلاف أبواب جهنم، فإنها مطبقة تنفتح بهم وبمجيئهم إليها لكون المواد غير مستعدة لقبول النفوس إلا بآثارها { وقال لهم خزنتها } من رضوان والأرواح القدسية والملكوت السماوية { سلام عليكم } أي: تحيتهم الصفات الإلهية والأسماء العلية بإفاضة الكمال عليهم وتبرئتهم من الآفة والنقص { طبتم } عن خبائث الأوصاف النفسانية والهيئات الهيولانية، فادخلوا جنة الفردوس الروحانية مقدرين الخلود لنزاهة ذواتكم عن التغيرات الجسمانية.
[39.74-75]
{ وقالوا الحمد لله } بالاتصاف بكمالاته والوصول إلى نعيم تجليات صفاته { الذي صدقنا وعده } بإيصالنا إلى ما وعدنا في العهد الأول وأودع فينا وأنبأنا عنه على ألسنة رسله { وأورثنا } جنة الصفات { نتبوأ } منها { حيث نشاء } بحسب شرفنا ومقتضى حالنا { فنعم أجر العالمين } الذين عملوا بما علموا فأورثوا جنة القلب والنفس من الأنوار والآثار { وترى } ملائكة القوى الروحانية في جنة الصفات { حافين من حول } عرش القلب { يسبحون } بتجردهم عن اللواحق المادية، حامدين ربهم بالكمالات الروحانية { وقضى بينهم بالحق } بتسالمهم واتحادهم في التوجه نحو الكمال بنور العدل والتوحيد واختصاص كل بما حكم بالحق في تسبيحه من غير تخاصم وتنازع { وقيل } على لسان الأحدية { الحمد } المطلق في الحضرة الواحدية للذات الإلهية الموصوفة بجميع صفاتها { رب العالمين } مربيهم على حسب استعدادات الأشياء وأحوالها.
أو ملائكة النفوس والأرواح السماوية حافين في جنة الفردوس من حول عرش الفلك الأعظم، يسبحون بحمد ربهم باتصاف ذواتهم المجردة بالكمالات الربانية. { وقضي بينهم بالحق } باختصاص كل بما حكم به الحق من الأفعال والكمالات. وقيل على لسان الكل: الكمال المطلق لله رب العالمين، وإن حملت القيامة على الصغرى فمعناه: وأرض البدن جميعا قبضته، يتصرف فيها بقدرته ويقبضها عن الحركة ويمسكها عن الانبساط بالحياة وقت الموت وسموات الأرواح وقواها مطويات بيمينه ونفخ في الصور عند النفس الآخر فصعق من في السموات من القوى الروحانية ومن في الأرض من القوى النفسانية الطبيعية إلا من شاء الله من الحقيقة الروحانية واللطيفة الإنسانية التي لا تموت، ثم نفخ فيه أخرى في النشأة الثانية بنور الحياة والاعتدال ووضع الكتاب، أي: لوح النفس المنتقش فيه صور أعماله فتنتشر بظهور تلك النفوس عليه وجيء بالنبيين والشهداء من الذين اطلعوا على استعدادهم وأحوالهم بأن يحشروا معهم فيجازوا على حسب أعمالهم، وقضي بينهم بالعدل وهم لا يظلمون. وباقي التأويلات بحالها إلى آخر السورة والله تعالى أعلم.
[40 - سورة غافر]
[40.1-3]
هذه { حم } أي: الحق المحتجب بمحمد فهو حق بالحقيقة، محمد بالخليقة، أحبه فظهر بصورته فكان ظهوره به { تنزيل الكتاب } المحمدي { من الله } أي: ذاته الموصوفة قد تجمع صفاته { العزيز } بستور جلاله حال كون الكتاب قرآنا { العليم } الظاهر بعلمه، فيكون فرقانا فقوله: (حم) معناه في الحقيقة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أي: الحق الباطن حقيقته الظاهر بمحمد هو تنزيل الكتاب الذي هو عين الجمع الجامع للكل المكنون بعزته في سرادقات جلاله المتنزل في مراتب غيوبه ومظاهر علية في الصورة المحمدية التي ظهر علمه بها في مظهر العقل الفرقاني.
{ غافر الذنب } بظهور نوره وستره لظلمات النفوس والطبائع { وقابل التوب } برجوع الحقيقة المجردة من غواشي النشأة إليه { شديد العقاب } للمحجوب الواقف مع الغير بالشرك غير الراجع إليه بالتوحيد { ذي الطول } أي: الفضل بإفاضة الكمال الزائد على نور الاستعداد الأول على حسب قبوله { لا إله إلا هو } أولا وآخرا وظاهرا وباطنا معاقبا ومتفضلا { إليه } مصير الكل على كل الأحوال من الراجع التائب والواقف المعاقب إما إلى ذاته أو صفاته أو أفعاله كيف كان لا يخرج عن إحاطته شيء فيكون خارجا عن ذاته موجودا بوجود غير وجوده،
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت، الآية:53].
[40.4-7]
{ ما يجادل في آيات الله إلا } المحجوبون عن الحق لأن غير المحجوب يقبلها بنور استعداده من غير إنكار لصفاته. وأما المحجوب فلظلمة جوهره وخبث باطنه لا يناسب ذاته آياته فينكرها ويجادل فيها { بالباطل } ليدحض بجداله آياته فيحق له العقاب.
{ الذين يحملون العرش } من النفوس الناطقة السماوية اللاتي أرجلهم في الأرضين السفلى بتأثيرهم فيها وأعناقهم مرقت من السموات العلى لتجردهم منها وتدبيرهم إياها أو الأرواح التي هي معشوقاتها { ومن حوله } من الأرواح المجردة القدسية والنفوس الكوكبية { يسبحون بحمد ربهم } ينزهونه عن اللواحق المادية بتجرد ذواتهم حامدين له بإظهار كمالاتهم المستفادة منه تعالى فكأنهم يقولون بلسان الحال: يا من هذه صفاته وهباته { ويؤمنون به } الإيمان العياني الحقيقي { ويستغفرون للذين آمنوا } بالأمداد النورية والإفاضات السبوحية لمناسبة ذواتهم ذواتهم في الحقيقة الإيمانية { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } أي: شملت رحمتك وأحاط بالكل علمك { فاغفر } بنورك { للذين تابوا } إليك بالتجرد عن الهيئات الظلمانية والظلمات الهيولانية { واتبعوا سبيلك } بالسلوك فيك على متابعة حبيبك في الأعمال والمقامات والأحوال يتنصلون عن ذنوب أفعالهم وصفاتهم وذواتهم { وقهم } بعنايتك { عذاب } جحيم الطبيعة.
[40.8-12]
{ ربنا وأدخلهم جنات } صفاتك وحظائر قدسك { التي وعدتهم ومن صلح } بالتجرد عن الغواشي المادية واستعد لذلك بالتزكية والتحلية من أقاربهم المتصلين بهم للمناسبة والقرابة الروحانية { إنك أنت العزيز } الغالب القادر على التعذيب { الحكيم } الذي لا يفعل ما يفعل إلا بالحكمة ومن الحكمة الوفاء بالوعد { وقهم السيئات } بتوفيقك وحسن عنايتك وكلاءتك.
{ ومن تق السيئات } فقد حقت له رحمتك { وذلك هو الفوز العظيم } لأن المرحوم سعيد، والمحجوب يمقت نفسه حين تظهر له هيئاتها المظلمة وصفاتها المؤلمة وسواد وجهه الموحش وقبح منظرها المنفر بارتفاع الشواغل الحسية التي كانت تشغله عن إدراك ذاته فينادى: { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } إذ هو نور الأنوار وكلما كان الشيء أشد نورية وأكثر ضوءا فهو أبعد مناسبة من الجوهر المظلم الكدر، فيكون أشد مقتا له، ومقته لنفسه أيضا ناشىء من النور الأصلي الاستعدادي لانطباع محبة النور في الأصل الاستعدادي النوري، بل النور لذاته محبوب والظلمة مبغوضة.
{ إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } أي: كبر مقته إياكم وقت احتجابكم عنه وعدم قبولكم للدعوة إلى الإيمان التوحيدي أو لاحتجابكم وآبائكم عن الدعوة الإيمانية.
{ قالوا ربنا أمتنا اثنتين } أي: أنشأتنا أمواتا مرتين { وأحييتنا } في النشأتين { فاعترفنا بذنوبنا } عند وقوع العقاب المرتب عليها وامتناع المحيص عنه { ذلكم } العذاب السرمد والمقت الأكبر بسبب شرككم واحتجابكم عن الحق بالغير { فالحكم لله } بعقابكم الأبدي لا للغير فلا سبيل إلى النجاة لعلوه وكبريائه فلا يمكن أحدا رد حكمه وعقابه.
[40.13-35]
{ هوالذي يريكم } آيات صفاته بتجلياته { وينزل لكم } من سماء الروح { رزقا } حقيقيا ما أعظمه وهو العلم الذي يحيا به القلب ويتقوى { وما يتذكر } أحواله السابقة بذلك الرزق { إلا من ينيب } إليه بالتجرد وقطع النظر عن الغير فأنيبوا إليه لتتذكروا بتخصيص العبادة به وإخلاص الدين عن شوب الغيرية وتجريد الفطرة عن النشأة ولو أنكر المحجوبون وكرهوا.
{ رفيع الدرجات } أي: رفيع درجات غيوبه ومصاعد سمواته من المقامات التي يعرج فيها السالكون إليه { ذو العرش } أي: المقام الأرفع المالك للأشياء كلها { يلقي الروح } أي: الوحي والعلم اللدني الذي تحيا به القلوب الميتة { من } عالم { أمره على من يشاء من عباده } الخاصة به أهل العناية الأزلية { لينذر يوم } القيامة الكبرى الذي يتلاقى فيه العبد والرب بفنائه فيه أو العباد في عين الجمع.
{ يوم هم بارزون } عن حجاب الأنيات أو غواشي الأبدان { لا يخفى على الله منهم شيء } مما ستروا من أعمالهم واستخفوا بها من الناس توهما أنه لا يطلع عليهم لظهورها في صحائفهم وبروزها من الكمون إلى الظهور، كما قال:
أحصاه الله ونسوه
[المجادلة، الآية:6]، وقالوا:
مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها
[الكهف، الآية:49]، ولا يخفى عليه منهم شيء لبروزهم عن حجب الاوصاف إلى عين الذات.
{ لمن الملك اليوم } ينادي به الحق سبحانه عند فناء الكل في عين الجمع فيجيب هو وحده { لله الواحد } الذي لا شيء سواه { القهار } الذي أفنى الكل بقهره { إن الله سريع الحساب } لوقوعه دفعة باقتضاء سيئاتهم المكتوبة في صحائف نفوسهم تبعاتها وحسناتها ثمراتها { وأنذرهم يوم الأزفة } أي: الواقعة القريبة وهي القيامة الصغرى { إذ القلوب لدى الحناجر } لشدة الخوف.
{ كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } كقوله:
إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب
[غافر، الآية:28] أي: الإضلال والخذلان كل واحد منهما مرتب على الرذيلتين العلمية والعملية. فإن الكذب والارتياب كلاهما من باب رذيلة القوة النطقية لعدم اليقين والصدق والإسراف عن رذيلة القوتين الأخريين والإفراط في أعمالها.
[40.36-50]
والصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه هو قاعدة الحكمة النظرية من القياسات الفكرية، فإن القوم كانوا منطقيين محجوبين بعقولهم المشوبة بالوهم غير المنورة بنور الهداية، أراد أن يبلغ طرق سموات الغيوب ويطلع على الحضرة الأحدية بطريق الفكر دون السلوك في الله بالتجريد والمحو والفناء ولاحتجابه بأنائيته وعلمه قال { وإني لأظنه كاذبا وكذلك } أي: مثل ذلك التزيين والصد { زين لفرعون سوء عمله } لاحتجابه بصفات نفسه ورذائله { وصد عن السبيل } لخطئه في فكره، أي: فسد علمه ونظره لشدة ميله إلى الدنيا ومحبته إياها بغلبة الهوى بخلاف حال الذي آمن حيث حذر أولا من الدنيا بقوله: { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار } لسرعة زوال الأولى وبقاء الأخرى دائما { أدعوكم إلى النجاة } أي: التوحيد والتجريد الذي هو سبب نجاتكم { وتدعونني } إلى الشرك الموجب لدخول النار { وأشرك به ما ليس لي } بوجوده علم إذ لا وجود له { وأنا أدعوكم إلى العزيز } الغالب الذي يقهر من عصاه { الغفار } الذي يستر ظلمات نفوس من أطاعه بأنواره.
{ لا جرم } إلى آخره، أي: وجب وحق { أن ما تدعونني إليه } لا دعوة له في الدارين لعدمه بنفسه واستحالة وجوده فيهما { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } أي: تصلى أرواحهم بنار الهيئات الطبيعية واحتجاب الأنوار القدسية والحرمان عن اللذات الحسية والشوق إليها مع امتناع حصولها.
{ ويوم تقوم الساعة } بمحشر الأجساد أو ظهور المهدي عليه السلام. قيل لهم: ادخلوا { أشد العذاب } لانقلاب هيئاتهم وصورهم وتراكم الظلمات وتكاثف الحجب وضيق المحبس وضنك المضجع على الأول، وقهر المهدي عليه السلام إياه وتعذيبه لهم لكفرهم به وبعدهم عنه ومعرفته إياهم بسيماهم على الثاني.
[40.51-61]
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } بالتأييد الملكوتي والنور القدسي في الدارين. { فاصبر إن وعد الله حق } أي: احبس النفس عن الظهور في مقابلة أذاهم، واعلم أنك ستغلب حال البقاء والتمكين، إنا غالبون { واستغفر } لذنب حالك بالتنصل عن أفعالك { وسبح } بالتجريد { بحمد ربك } موصوفا بكماله دائما، أي: ما دمت في حال الفناء لا تأمن التلوين بظهور النفس وصفاتها، وجب عليك الصبر والاستغفار والتجريد عن الأوصاف التي تظهر بها النفس، والتحقق بالله وصفاته، فإذا حصل لك مقام الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء فذلك وقت الغلبة وظهور النفس والوفاء بالوعد.
{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } هذا دعاء الحال، لأن الدعاء باللسان مع عدم العلم بأن المدعو به خير له أم لا دعاء المحجوبين، وقال الله تعالى:
وما دعآء الكافرين إلا في ضلال
[الرعد، الآية:14] أي: ضياع. وأما الدعاء الذي لا تتخلف عنه الاستجابة فهو دعاء الحال بأن يهيىء العبد استعداده لقبول ما تطلبه ولا تتخلف الاستجابة عن هذا الدعاء كمن طلب المغفرة، فتاب إلى الله وأناب بالزهد والطاعة، ومن طلب الوصول فاختار الفناء، ولهذا قال تعالى: { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } أي: لا يدعونني بالتضرع والخضوع والاستكانة بل تظهر أنفسهم بصفة التكبر والعلو { سيدخلون جهنم داخرين } لدعائهم بلسان الحال مع القهر والإذلال إذ صفة الاستكبار ومنازعة الله في كبريائه تستدعي ذلك.
[40.62-82]
{ ذلكم الله ربكم } أي: ذالكم المتجلي بأفعاله وصفاته الله الموصوف بجميع الصفات ربكم بأسمائه المختصة بكل واحدة من أحوالكم { خالق كل شيء } بالاحتجاب به { لا إله إلا هو } في الوجود يخلق شيئا ويظهر بصفة { فأنى تؤفكون } عن طاعته إلى إثبات الغير وطاعته. مثل ذلك الضرب الذي ضربتم به لاحتجابكم بالكثرة يؤفك الجاحدون بآيات الله حين لم يعرفوها إذ يسترها إلى الغير.
{ الذين كذبوا بالكتاب } لبعد مناسبتهم له واحتجابهم بظلماتهم عن النور { فسوف يعلمون } وبال أمرهم { إذ } أغلال قيود الطبائع المختلفة { في أعناقهم } وسلاسل الحوادث الغير المتناهية ممنوعين بها عن الحركة إلى مقاصدهم { يسحبون في } حميم الجهل والهوى ثم { يسجرون } في نار الأشواق إلى المشتهيات واللذات الحسية مع فقدها ووجدان آلام الهيئات المؤذية بدلها، فاقدين لما احتجبوا بها ووقفوا معها من صور الكثرة التي عبدوها قائلين { لم نكن ندعو من قبل شيئا } لاطلاعهم على أن ما عبدوه وضيعوا أعمارهم في عبادته ليس بشيء فضلا عن إغنائه عنهم شيئا.
{ ذلكم } العذاب بسبب فرحكم بالباطل الزائل الفاني في الجهة السفلية بالنفس ونشاطكم به لمناسبة نفوسكم الكدرة الظلمانية البعيدة عن الحق له { ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها } لرسوخ رذائلكم واستحكام حجابكم { فبئس مثوى المتكبرين } الظاهرين برذيلة الكبر.
[40.83-85]
{ فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } أي: المحجوبون بالعقول المشوبة بالوهم وبمعقولهم الخالي عن نور الهداية والوحي، إذ جاءتهم الرسل بالعلوم الحقيقية التوحيدية والمعارف الحقانية الكشفية، فرحوا بعلومهم وحجبوا بها عن قبول هدايتهم واستهزؤوا برسله لاستصغارهم بما جاؤوا به في جنب علومهم، فحاق بهم جزاء استهزائهم وهلكوا عن آخرهم، والله أعلم.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-5]
{ حم } ظهور الحق بالصورة المحمدية { تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب } الكل الجامع لجميع الحقائق من الذات الأحدية الموصوفة بالرحمة الرحمانية العامة للكل، بإفاضة الوجود والكمال عليه، والرحيمية الخاصة بالأولياء المحمديين، المستعدين لقبول الكمال الخاص العرفاني، والتوحيد الذاتي. وهو كتاب العقل الفرقاني الذي { فصلت آياته } بالتنزيل بعد ما أجملت قبل في عين الجمع حال كونه { قرآنا } أي: فصلت بحسب ظهور الصفات وحدوث الاستعدادات في حال كونه جامعا للكل { عربيا } لوجود نشأته في العرب { لقوم يعلمون } حقائق آياته لقرب استعداداتهم منه وصفاء فطرهم { بشيرا } للقابلين المستعدين للكمال، المستبصرين بنوره باللقاء { نذيرا } للمحجوبين بظلمات نفوسهم من العقاب { فأعرض أكثرهم } لاحتجابهم بالأغيار وبقائهم في ظلمات الاستتار { فهم لا يسمعون } كلام الحق لوقر سمع القلب كما قالوا: { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر } لأن غشاوات الطبيعة وحجب صفات النفوس أعمت أبصار قلوبهم وأصمت آذانها وجعلتها في أغطية وأكنة وحجبت بينهم وبينه.
[41.6-8]
{ قل إنما بشر مثلكم } أي: إني من جنسكم وأناسبكم في البشرية والمماثلة النوعية، لتوجهه للإنس والخلطة، وأباينكم بالوحي المنبه على التوحيد المبين لطريق السلوك، فاتصلوا بي بالمناسبة النوعية والمجانسة البشرية لتهتدوا بنور التوحيد والوحي المفيد لبيان الدين، وتسلكوا سبيل الحق الذي عرفنيه بقوله: { أنما إلهكم إله واحد } لا شريك له في الوجود { فاستقيموا } بالثبات على الإيمان والسكينة والإيقان في التوجه { إليه } من غير انحراف إلى الباطل والطرق المتفرقة ولا زيغ بالالتفات إلى الغير والميل إلى النفس { واستغفروه } بالتنصل عن الهيئات المادية والتجرد عن الصفات البشرية ليستر بنور صفاته ذنوب صفاتكم { وويل } للمحتجبين بالغير.
{ الذين } لا يزكون أنفسهم بمحو صفاتها ليرتفع حجاب الغيرية فتتحقق بالوحدة { وهم بالآخرة هم كافرون } لسترهم النور الفطري المقتضي الشوق إلى عالم القدس ومعدن الحياة الأبدية بظلمات الحس وهيئات الطبيعة البدنية.
[41.9-11]
{ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } أي: في حادثين كما ذكر أن اليوم معبر به عن الحادث لنسبته إليه في قولهم: الحوادث اليومية لتشابهها في الظهور والخفاء، وهما الصورة والمادة { وبارك فيها } أي: أكثر خيرها { وقدر فيها } معايشها وأرزاقها { في أربعة أيام } هي الكيفيات الأربع والعناصر الأربعة التي خلق منها المركبات بالتركيب والتعديل { سواء } مستوية بالامتزاج والاعتدال للطالبين للأقوات والمعايش، أي: قدرها لهم { ثم استوى إلى السماء } أي:قصد إلى إيجادها وثم للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه، واختلافهما في الجهة والجوهر لا للتراخي في الزمان إذ لا زمان هناك { وهي دخان } أي: جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } أي: تعلق أمره وإرادته بإيجادهما فوجدتا في الحال معا كالمأمور المطيع إذ ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله، وهو من باب التمثيل إذ لا قول ثمة.
[41.12-18]
{ فقضاهن سبع سموات في يومين } أي: المادة والصورة كالأرض { وأوحى في كل سماء أمرها } أي: أشار إليها بما أراد من حركتها وتأثيرات ملكوتها وتدبيراتها وخواص كوكبها وكل ما يتعلق بها.
{ وزينا السماء الدنيا } أي: السطح الذي يلينا من فلك القمر { بمصابيح } الشهب { و } حفظناها { حفظا } من أن تنخرق بصعود البخارات إليها ووصول القوى الطبيعية الشيطانية إلى ملائكتها { ذلك تقدير العزيز } الغالب على أمره كيف يشاء { العليم } الذي أتقن صنعه بعلمه، أو أئنكم لتكفرون وتحتجبون بالغواشي البدنية عن الذي خلق أرض البدن وجعلها حجاب وجهه في يومين أي شهرين أو حادثين مادة وصورة، وتجعلون له أندادا بوقوفكم مع الغير ونسبتكم التأثير إلى ما لا وجود له ولا أثر، ذلك الخالق هو الذي يرب العالمين بأسمائه وجعل فيها رواسي الأعضاء من فوقها أو رواسي الطبائع الموجبة للميل السفلي من القوى العنصرية والصور المادية التي تقتضي ثباتها على حالها، وبارك فيها بتهيئة الآلات والأسباب والمزاجات والقوى التي تتم بها لمقته وأفعاله وقدر فيها أقواتها بتدبير الغاذية وأعوانها وتقدير مجاري الغذاء وأمور التغذية وأسبابها وموادها في تتمة أربعة أشهر، أي: جميع ذلك في أربعة أشهر سواء متساوية أو في مواد العناصر الأربعة، ثم استوى أي: بعد ذلك قصد قصدا مستويا من غير أن يلوي إلى شيء آخر، إلى سماء الروح وتسويتها وهي دخان أي: مادة لطيفة من بخارية الأخلاط ولطافتها مرتفعة من القلب. وقد جاء في الحديث:
" إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح "
ويعضده حديث آخر في أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد أربعة أشهر من وقت الحمل.
فقال لها ولأرض البدن: ائتيا، أي: تعلقت إرادته بتكوينهما وصيرورتهما شيئا واحدا وخلقا جديدا، فتكونا على ما أراد من الصورة وهذا معنى خلو الأرض قبل السماء غير مدحوة ودحوها بعده. فإن المادة البدنية وإن تخلقت بدنا قبل اتصال الروح وانتفاخه فيها لكن الأعضاء لم تنبسط ولم ينفتق بعضها من بعض إلا بعده، فقضاهن سبع سموات، أي: الغيوب السبعة المذكورة من القوى والنفس والقلب والسر والروح والخفاء، والحق الذي أدرج هويته في هوية الشخص الموجود وتنزل بإيجاده في هذه المراتب واحتجب بها وإن جعلت السبعة من المخلوقات حتى تخرج الهوية من جملتها فإحداها وهي الرابعة بين القلب، والسر العقل، وهي السماء الدنيا باعتبار دنوها من القلب الذي به الإنسان إنسانا في يومين في شهرين آخرين، فتم مدة الحمل ستة أشهر أو مدة خلق الإنسان، ولهذا إذا ولد بعد تمام الستة على رأس الشهر السابع عاش مستوي الخلق أو في طورين مجردة وغير مجردة أو حادثين روح وجسد والله أعلم. { وأوحى في كل سماء } من الطبقات المذكورة { أمرها } وشأنها المخصوص بها من الأعمال والإدراكات والمكاشفات والمشاهدات والمواصلات والمناغيات والتجليات. { وزينا السماء الدنيا } أي العقل بمصابيح الحجج والبراهين { وحفظناها } من استراق شياطين الوهم والخيال، كلام الملأ الأعلى من الروحانيات بالترقي إلى الأفق العقلي واستفادة الصور القياسية لترويج أكاذيبها وتخيلاتها بها.
[41.19-29]
{ حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } أي: غيرت صور أعضائهم وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها، وبدلت جلودهم وأبشارهم، فتنطق بلسان الحال، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون. ولنطقها بهذا اللسان قالت: { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } إذ لا يخلو شيء ما من النطق، ولكن الغافلين لا يفهمون { وقضينا لهم قرناء } أي: قدرنا لهم أخدانا وأقرانا من شياطين الإنس والجن من الوهم والتخيل لتباعدهم من الملأ الأعلى، ومخالفتهم بالذات للنفوس القدسية والأنوار الملكوتية بانغماسهم في المواد الهيولانية، واحتجابهم بالصفات النفسانية، وانجذابهم إلى الأهواء البدنية والشهوات الطبيعية، فناسبوا النفوس الأرضية الخبيثة، والكدرة المظلمة، وخالفوا الجواهر القدسية والذاوت المجردة، فجعلت الشياطين أقرانهم وحجبوا عن نور الملكوت { فزينوا لهم ما بين أيديهم } ما بحضرتهم من اللذات البهيمية والسبعية والشهوات الطبيعية { وما خلفهم } من الآمال والأماني التي لا يدركونها { وحق عليهم القول } في القضاء الإلهي بالشقاء الأبدي كائنين { في أمم قد خلت من قبلهم من } المكذبين بالأنبياء والمحجوبين عن الحق من الباطنيين والظاهريين { إنهم كانوا خاسرين } لخسرانهم نور الاستعداد الأصلي، وربح الكمال الكسبي، ووقوعهم في الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي.
{ ربنا أرنا الذين أضلانا } أي: حنق المحجوبين واغتاظوا على من أضلهم من الفريقين عند وقوع العذاب وتمنوا أن يكونوا في أشد من عذابهم وأسفل من دركاتهم لما لقوا من الهوان وألم النيران وعذاب الحرمان والخسران بسببهم وأرادوا أن يشفوا صدورهم برؤيتهم في أسوأ أحوالهم وأنزل مراتبهم، كما ترى من وقع في البلية بسبب رفيق أشار إليه بما أوقعه فيها يتجرد عليه ويتغيظ ويكاد أن يقع فيه مع غيبته ويتحرق.
[41.30-32]
{ إن الذين قالوا ربنا الله } أي: وحدوه بنفي غيره وعرفوه بالإيقان حق معرفته { ثم استقاموا } إليه بالسلوك في طريقه والثابت على صراطه مخلصين لأعمالهم عاملين لوجهه، غير ملتفتين بها إلى غيره { تتنزل عليهم الملائكة } للمناسبة الحقيقية بينهم في التوحيد الحقيقي والإيمان اليقيني والعمل الثابت على منهاج الحق والاستقامة في الطريقة إليه، غير ناكثين في عزيمة ولا منحرفين عن وجهه ولا زائغين في عمل كما ناسبت نفوس المحجوبين من أهل الرذائل الشياطين بالجواهر المظلمة والأعمال الخبيثة لتنزلت عليهم { ألا تخافوا } من العقاب لتنور ذواتكم بالأنوار وتجردها عن غواسق الهيئات { ولا تحزنوا } بفوات كمالاتكم التي اقتضاها استعدادكم { وأبشروا } بجنة الصفات { التي كنتم توعدون } حال الإيمان بالغيب أو قالوا: { ربنا الله } بالفناء فيه ثم استقاموا به بالبقاء بعد الفناء عند التمكين { تتنزل عليهم الملائكة } للتعظيم عند الرجوع إلى التفصيل، إذ في حال الفناء لا وجود للملائكة ولا لغيرهم، { ألا تخافوا } من التلوين { ولا تحزنوا } على الاستغراق في التوحيد، فإن أهل الوحدة إذا ردوا إلى التفصيل ورؤية الكثرة غلب عليهم الحزن والوجد في أول الوهلة لفوات الشهود الذاتي في عين الجمع والاحتجاب بالتفصيل حتى يتمكنوا في التحقق بالحق حال البقاء وانشراح الصدر بنور الحق فلا تحجبهم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة، شاهدين في تفاصيل الصفات عين الذات بالذات، كما قال تعالى لنبيه عليه السلام في هذه الحال:
ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك
[الشرح، الآيات:1 - 3] وأبشروا بجنة الذات الشاملة لجميع مراتب الجنان التي كنتم توعدونها في مقام تجليات الصفات.
{ نحن أولياؤكم } وأحباؤكم في الدارين للمناسبة الوصفية والجنسية الأصلية بيننا وبينكم، كما أن الشياطين أولياء المحجوبين لما بينهم من الجنسية والمشاركة في الظلمة والكدورة { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } من المشاهدات والتجليات والروح والريحان والنعيم المقيم أي: إذا بلغتم الكمال الذي هو مقتضى استعدادكم فلا شوق لكم إلى ما غاب عنكم، بل كل ما تشتهون وتتمنون فهو مع الاشتهاء والتمني حاضر لكم في الجنان الثلاث { نزلا } معدا لكم { من غفور } ستر لكم بنوره ذنوب آثاركم وأفعالكم وصفاتكم وذواتكم { رحيم } رحمكم بتجليات أفعاله وصفاته وذاته وإبدالكم بها إياها.
[41.33-35]
{ ومن أحسن قولا } أي: حالا إذ كثيرا ما يستعمل القول بمعنى الفعل والحال ومنه، قالوا: { ربنا الله } أي: جعلوا دينهم التوحيد، ومنه الحديث:
" هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا... "
أي: اعطى. { ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } أي: ممن أسلم وجهه إلى الله في التوحيد وعمل بالاستقامة والتمكين، ودعا الخلق إلى الحق للتكميل، فقدم الدعوة إلى الحق والتكميل لكونه أشرف المراتب ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي، وإلا لما صحت الدعوة وإن صحت ما كانت إلى الله، أي: إلى ذاته الموصوفة بجميع الصفات، فإن العالم الغير العامل إن دعا كانت دعوته إلى العليم، والعامل الغير العالم إلى الغفور الرحيم، والعالم العامل والعارف الكامل صحت دعوته إلى الله.
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } لكون الأولى من مقام القلب تجر صاحبها إلى الجنة ومصاحبة الملائكة، والثانية من مقام النفس تجر صاحبها إلى النار ومقارنة الشياطين { ادفع بالتي هي أحسن } إذا أمكنك دفع السيئة من عدوك بالحسنة التي هي أحسن، فلا تدفعها بالحسنة التي دونها، فكيف بالسيئة؟!، فإن السيئة لا تندفع بالسيئة بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب، فإن قابلتها بمثلها كنت منحطا إلى مقام النفس، متبعا للشيطان، سالكا طريق النار، ملقيا لصاحبك في الأوزار وجاعلا له ولنفسك من جملة الأشرار، متسببا لازدياد الشر معرضا عن الخير. وإن دفعتها بالحسنة سكنت شرارته وأزلت عداوته وتثبت في مقام القلب على الخير، وهديت إلى الجنة وطردت الشيطان، وأرضيت الرحمن وانخرطت في سلك الملكوت ومحوت ذنب صاحبك بالندامة. وإن دفعتها بالتي هي أحسن ناسبت الحضرة الرحيمية بالرحموت وصرت باتصافك بصفاته تعالى من أهل الجبروت وأفضت من ذاتك فيض الرحمة على صاحبك فصار { كأنه ولي حميم } ولأمر ما قال النبي عليه السلام:
" لو جاز أن يظهر البارىء لظهر بصورة الحلم "
، ولا يلقي هذه الخصلة الشريفة والفضيلة العظيمة { إلا الذين صبروا } مع الله، فلم يتغيروا بزلة الأعداء لرؤيتهم منه تعالى وتوكلهم عليه واتصافهم بحلمه أو طاعتهم لأمره { وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } من الله بالتخلق بأخلاقه.
[41.36-41]
{ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } ينخسنك نخس بالمقابلة بالسيئة وداعية بالانتقام وهيجان من غضبك { فاستعذ بالله } بالرجوع إلى جنابه واللجوء إلى حضرته من شره ووسوسته ونزغه بالبراءة عن أفعالك وصفاتك والفناء فيه عن حولك وقوتك { إنه هو السميع } لما هجس ببالك من أحاديث نفسك وأقوالك { العليم } بنياتك وما بطن من أحوالك. { ومن آياته } ليل ظلمة النفس بظهور صفاتها الساترة للنور لتقعوا في السيئات وتستعدوا لقبول الوساوس الشيطانية ونهار نور الروح بإشراق أشعتها من القلب إلى النفس، فتباشروا الحسنات وتدفعوا السيئات بها وتمتنعوا عن قبول الوساوس وتتعرضوا للنفحات وشمس الروح وقمر القلب { لا تسجدوا للشمس } بالفناء فيه والوقوف معه والاحتجاب به عن الحق { ولا للقمر } بالوقوف مع الفضائل والكمالات والنبو إلى جنة الصفات { واسجدوا لله الذي خلقهن } بالفناء في الذات { إن كنتم } موحدين، مخصصين العبودية به دون غيره لا مشركين ولا محجوبين { فإن استكبروا } عن الفناء فيه بظهور الأنائية والطغيان والاستعلاء بصفات النفس والعدوان { فالذين عند ربك } من السابقين الفانين فيه { يسبحون له } بالتجريد والتنزيه عن حجب ذواتهم وصفاتهم دائما بليل الاستتار في مقام التفصيل ونهار التجلي في مقام الجمع { لا يسأمون } لكونهم قائمين بالله ذاكرين بالمحبة الذاتية.
{ إن الذين يلحدون في آياتنا } أي: يميلون ويزيغون فيها من طريق الحق إلى الباطل فينسبونها إلى غير الحق لاحتجابهم عنه ويتلونها بأنفسهم فيفهمون منها ما يناسب صفاتهم { لا يخفون علينآ } وإن خفينا عنهم { وإنه لكتاب عزيز } منيع محمي عن أن يمسه وتفهمه النفوس الخبيثة المحجوبة فتغيره ويطلع عليه المبطلة فتبطله لبعده عن مبالغ عقولهم.
[41.42-54]
وما اعتقدوه من باطلهم إذ { لا يأتيه الباطل من } جهة من الجهات لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشد إحكاما في كونه حقا وصدقا ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله ويغيرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق، كما قال تعالى:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
[الحجر، الآية:9].
{ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } أي: هو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق وتبصرهم بالمعرفة وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل كالنفاق والشك أي: تبصرهم بطريق النظر والعمل فتعلمهم وتزكيهم { والذين لا يؤمنون } من المحجوبين لا يسمعونه ولا يفهمونه بل يشتبه عليهم ويلتبس لاستيلاء الغفلة عليهم وسد الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية طرق أسماع قلوبهم وأبصارهم فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا كالذي ينادي من مكان بعيد لبعدهم عن منبع النور الذي يدرك به الحق ويرى، وانهماكهم في ظلمات الهيولى.
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } أي: نوفقهم للنظر في تصاريفنا للممكنات وأحوالها { حتى يتبين لهم } بطريق الاستدلال واليقين البرهاني { أنه الحق أو لم يكف بربك } للذين شاهدوه من أهل العيان { أنه على كل شيء شهيد } حاضر مطلع، أي: لم يكف شهوده على مظاهر الأشياء في معرفته وكونه الحق الثابت دون غيره حتى تحتاج إلى الاستدلال بأفعاله أو التوسل بتجليات صفاته وهذا هو حال المحبوب المكاشف بالجذب قبل السلوك، والأول حال المحب السالك المجاهد لطلب الوصول.
{ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم } لاحتجابهم بالكون عن المكون والمخلوق عن الخالق { ألا إنه بكل شيء محيط } لا يخرج عن إحاطته شيء وإلا لم يوجد، إذ حقيقة كل شيء عين علمه تعالى ووجوده به، وعلمه عين ذاته وذاته عين وجوده، فلا يخرج شيء عن إحاطته إذ لا وجود لغيره ولا عين ولا ذات
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص، الآية:88] كما قال تعالى:
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن، الآيات:26 - 27].
[42 - سورة الشورى]
[42.1-8]
{ حم * عسق } أي: الحق ظهر بمحمد ظهورعلمه بسلامة قلبه، فالحق محمد ظاهرا وباطنا، والعلم سلامة قلبه عن النقص والآفة أي: كماله وبروزه عن الحجاب إذ تجرد القلب ظهور العلم { كذلك } مثل ذلك الظهور على مظهرك وظهور علمه على قلبك { يوحي إليك وإلى الذين من قبلك } من الأنبياء { الله } الموصوف بجميع صفاته { العزيز } المتمنع بسرادقات جلاله وستور صفاته { الحكيم } الذي يظهر كماله بحسب الاستعدادات ويهدي بالوسايط والمظاهر جميع العباد على وفق قبول الاستعداد.
{ له ما في السموات وما في الأرض } كلها مظاهر صفاته وصور مملكته ومحال أفعاله { وهو العلي } عن التقيد بصورها والتعين بأعيانها { العظيم } الذي تضاءلت وتصغرت في سلطانه وتلاشت وتفانت في عظمته { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } لتأثرهن من تجليات عظمته ويتلاشين من علو قهره وسلطنته { والملائكة } من العقول المجردة والنفوس المدبرة { يسبحون } ذاته بتجرد ذواتهم حامدين له بكمالات صفاتهم { ويستغفرون لمن في الأرض } بإفاضة الأنوار على أعيانهم ووجوداتهم بعد استفاضتهم إياها من الحضرة الأحدية { ألا إن الله هو الغفور } بستر ظلمات ذوات الكل من الملائكة والناس بنور ذاته { الرحيم } بإفاضة الكمالات بتجليات صفاته على وجوداتهم لا غيره.
{ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } كلهم على الفطرة موحدين بناء على القدرة ولكن بنى أمره على الحكمة فجعل بعضهم موحدين عادلين وبعضهم مشركين ظالمين كما قال:
ولا يزالون مختلفين
[هود، الآية:118] لتتميز المراتب وتتحقق السعادة والشقاوة وتمتلىء الدنيا والآخرة والجنة والنار ويحصل لكل أهل ويستتب النظام ويحدث الانتظام.
[42.9-14]
{ أم اتخذوا من دونه أولياء } لا ولاية لهم في الحقيقة إذ لا قدرة ولا قوة ولا وجود { فالله هو الولي } دون غيره لتوليه كل شيء وسلطانه وحكمه { وهو } المحيي القادر، فكيف تستقيم ولاية غيره { عليه توكلت } بفناء الأفعال، فلا أقابل أفعالكم بفعلي { وإليه أنيب } بفناء صفاتي، فلا أظهر بصفة من صفاتي في مقابلة صفات نفوسكم.
{ ليس كمثله شيء } أي: كل الأشياء فانية فيه هالكة، فلا شيء يماثله في الشيئية والوجود { وهو السميع } الذي يسمع به كل من يسمع { البصير } الذي يبصر به كل من يبصر جمعا وتفصيلا يفني الكل بذاته ويبدئهم بصفاته، بيده مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت، يبسط ويقدر بمقتضى علمه على من يشاء من خلقه بحسب مصالحهم في الغنى والفقر.
{ شرع لكم من الدين } المطلق الذي وصى جميع الأنبياء بإقامته واجتماعهم عليه وعدم تفرقهم فيه، وهو أصل الدين، أي: التوحيد والعدل وعلم المعاد المعبر عنه بالإيمان بالله واليوم الآخر دون فروع الشرائع التي اختلفوا فيها بحسب المصالح كأوضاع الطاعات والعبادات والمعاملات، كما قال تعالى:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
[المائدة، الآية:48]، فالدين القيم هو المتعلق بما لا يتغير من العلوم والأعمال، والشريعة هي المتعلقة بما يتغير من القواعد والأوضاع { كبر على المشركين } المحجوبين عن الحق بالغير { ما تدعوهم إليه } من التوحيد لكونهم أهل المقت ومظاهر الغضب والقهر، وليسوا من المحبوبين الذين اجتباهم الله بمحض عنايته ومجرد مشيئته ولا من المحبين الذين وفقهم الله للإنابة إليه بالسلوك والاجتهاد والسير فيه بالشوق والافتقار، فهداهم إليه بنور وجهه وجمال ذاته، فجذب المحبوبين إليه قبل السلوك والرياضة بسابقة الاجتباء، وخص المحبين بعد التوفيق بالسلوك فيه والرياضة بالاصطفاء وطرد المحجوبين عن بابه وأبعدهم عن جنابه بسابقة كلمة القضاء عليهم بالشقاء.
[42.15-19]
{ فلذلك } التفرق في الدين { فادع } إلى التوحيد { واستقم } في التحقق بالله والتعبد حق العبودية وأنت على التمكين ولا تظهر نفسك بصفة عند إنكارهم واستمالتهم إياك في موافقتهم { ولا تتبع أهواءهم } المتفرقة بالتلوين { فيضلوك } عن التوحيد.
{ وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي: اطلعت على كمالات جميع الأنبياء وجمعت في علومهم ومقاماتهم وصفاتهم وأخلاقهم، فكمل توحيدي وصرت حبيبا لكمال محبتي، ورسخت في نفسي، فتمت عدالتي وهذا معنى قوله: { وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم } هو التثبيت في مقام التوحيد والتحقيق { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } صورة الاستقامة والتمكين في العدالة { لا حجة بيننا وبينكم } كمال المحبة والصفاء لاقتضاء مقام التوحيد النظر إليهم بالسواء { الله يجمع بيننا } في القيامة الكبرى والفناء { وإليه المصير } في العاقبة للجزاء.
{ والذين يحاجون في الله } لاحتجابهم بنفوسهم { من بعد ما استجيب له } بالاستسلام والانقياد لدينه وقبول التوحيد بسلامة الفطرة { حجتهم داحضة } لكونها ناشئة من عند أنفسهم فلا أصل لها عند الله { وعليهم غضب } لاستحقاقهم لذلك بظهور غضبهم { ولهم عذاب شديد } لحرمانهم.
{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق } أي: العلم التوحيدي بالمحبة التي اقتضت استحقاقه لذلك فكان حقا له { والميزان } أي: العدل، وإذا حصل العلم والتوحيد في الروح والمحبة في القلب والعدل في النفس قرب الفناء في الله ووقوع القيامة الكبرى.
{ الله لطيف بعباده } يلطف بهم في تدبير إيصال كمالاتهم إليه وتهيئة أسبابها وتوفيقهم للأعمال المقربة لهم إليها { يرزق من يشاء } العلم الوافر بحسب عنايته به في هيئة استعداده له، { وهو القوي } القاهر { العزيز } الغالب، يمنع من يشاء بمقتضى عدله وحكمته ولكل أحد نصيب من اللطف والقهر لا يخلو أحد منهما وإنما تتفاوت الأنصباء بحسب الاستعدادات والأسباب والأعمال والأحوال.
[42.20-23]
{ من كان يريد حرث الآخرة } بقوة إرادته وشدة طلبه لزيادة نصيب اللطف وتوجهه وإقباله إلى الحق لحيازة القرب { نزد له } في نصيبه، فنصلح حال آخرته ودنياه لأن الدنيا تحت الآخرة وظلها ومثالها وصورتها تتبعها { ومن كان يريد حرث الدنيا } وأقبل بهواه إلى جهة السفل وتعلق همه بزيادة نصيب القهر وبعد عن الحق { نؤته منها } ما هو نصيبه وما قسم له وقدر لا مزيد عليه { وما له في الآخرة من نصيب } لإعراضه عنها وعقد همه بالأدون ووقوفه معه وجعله حجابا للأشرف وإدباره عن النصيب الأوفر، فلا يتهيأ لقبوله ولا يستعد لحصوله إذ الأصل لا يتبع الفرع .
{ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } استثناء منقطع وفي القربى متعلق بمقدر أي: المودة الكائنة في القربى. ومعناه: نفي الأجر أصلا لأن ثمرة مودة أهل قرابته عائدة إليهم لكونها سبب نجاتهم، إذ المودة تقتضي المناسبة الروحانية المستلزمة لاجتماعهم في الحشر، كما قال عليه الصلاة والسلام:
" المرء يحشر مع من أحب "
فلا تصلح أن تكون أجرا له ولا يمكن من تكدرت روحه وبعدت عنهم مرتبته محبتهم بالحقيقة، ولا يمكن من تنورت روحه وعرف الله وأحبه من أهل التوحيد أن لا يحبهم لكونهم أهل بيت النبوة ومعادن الولاية والفتوة محبوبين في العناية الأولى، مربوبين للمحل الأعلى فلا يحبهم إلا من يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ولو لم يكونوا محبوبين من الله في البداية لما أحبهم رسول الله إذ محبته عين محبته تعالى في صورة التفصيل بعد كونه في عين الجمع وهم الأربعة المذكورون في الحديث الآتي بعد، ألا ترى أن له أولادا آخرين وذوي قرابات في مراتبهم كثيرين لم يذكرهم ولم يحرض الأمة على محبتهم تحريضهم على محبة هؤلاء وخص هؤلاء بالذكر.
روي أنها لما نزلت قيل:
" يا رسول الله! من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: " علي وفاطمة والحسن والحسين وأبناؤهما "
ثم لما كانت القرابة تقتضي المناسبة المزاجية المقتضية للجنسية الروحانية كان أولادهم السالكون لسبيلهم، التابعون لهديهم في حكمهم، ولهذا حرض على الإحسان إليهم ومحبتهم مطلقا ونهى عن ظلمهم وإيذائهم ووعد على الأول ونهى عن الثاني. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة "
وقال عليه السلام:
" من مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات شهيدا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب محمد وآل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة ".
{ ومن يقترف حسنة } بمحبة آل الرسول { نزد له فيها حسنا } بمتابعته لهم في طريقتهم لأن تلك المحبة لا تكون إلا لصفاء الاستعداد وبقاء الفطرة، وذلك يوجب التوفيق لحسن المتابعة وقبول الهداية إلى مقام المشاهدة، فيصير صاحبها من أهل الولاية ويحشر معهم في القيامة { إن الله غفور } بتنويره ظلمة صفات من أحب أهله { شكور } لسعي من ناسبهم فيحبهم بتضعيف جزاء حسناته وإفاضة كمالاته بتجليات صفاته ليوافقهم.
[42.24-50]
{ فإن يشأ الله يختم على قلبك } أي: لا يفتري على الله إلا من هو مختوم القلب مثلهم { ويمح الله الباطل } كلام مبتدأ، ومن عادة الله أن يمحو الباطل { ويحق الحق بكلماته } وقضائه إن كان افتراء يمحه ويثبت نقيضه وإن كان الافتراء ما يقولون فكذلك { وما عند الله خير وأبقى } لكونه أشرف وأدوم { للذين آمنوا } الإيمان اليقيني ولا يتوكلون إلا على ربهم بفناء الأفعال أي الذين علمهم اليقين وعملهم التوكل بالانسلاخ عن أفعالهم.
{ والذين يجتنبون كبائر الإثم } التي هي وجوداتهم وهو أخس صفات نفوسهم التي تظهر بأفعالها في مقام المحو { وإذا ما غضبوا } في تلويناتهم { هم يغفرون } أي: الأخصاء بالمغفرة دون غيرهم { والذين استجابوا لربهم } بلسان الفطرة الصافية إذا دعاهم إلى التوحيد بتجلي نور الوحدة { وأقاموا } صلاة المشاهدة ولم يحتجبوا بآرائهم وعقولهم بل { أمرهم شورى بينهم } لعلمهم أن لله مع كل أحد شأنا وإليه نظرا وفيه سرا ليس لغيره ذلك الشأن والنظر والسر { ومما رزقناهم ينفقون } بالتكميل { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } بالعدالة احترازا عن الذلة والانظلام لكونهم في مقام الاستقامة، قائمين بالحق والعدل الذي ظله في نفوسهم.
[42.51-53]
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } أي: إلا بثلاثة أوجه، إما بوصوله إلى مقام الوحدة والفناء فيه ثم التحقق بوجوده في مقام البقاء فيوحي إليه بلا واسطة كما قال الله تعالى:
ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم، الآيات:8 - 10]. { أو من وراء حجاب } بكونه في حجاب القلب ومقام تجليات الصفات فيكلمه على سبيل المناجاة والمكالمة والمكاشفة والمحادثة دون الرؤية لاحتجابه بحجاب الصفات كما كان حال موسى عليه السلام { أو يرسل رسولا } من الملائكة فيوحي إليه على سبيل الإلقاء والنفث في الروع والإلهام أو الهتاف أو المنام كما قال عليه السلام: " إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها " ، { إنه علي } من أن يواجه ويخاطب، بل يفنى ويتلاشى من يواجهه لعلوه من أن يبقى معه غيره ويحتمل شيء حضوره { حكيم } يدبر بالحكمة وجوه التكليم ليظهر علمه في تفاصيل المظاهر ويكمل به عباده ويهتدوا إليه ويعرفوه.
ومثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة: { أوحينا إليك روحا } تحيا به القلوب الميتة { من } عالم { أمرنا } المنزه عن الزمان المقدس عن المكان { ما كنت تدري ما الكتاب } أي العقل الفرقاني الذي هو كمالك الخاص بك { ولا الإيمان } أي: الخفي الذي حصل لك عند البقاء بعد الفناء حال كونك محجوبا باغواشي نشأتك وحال وصولك لفنائك وتلاشي وجودك { ولكن جعلناه نورا } عند استقامتك { نهدي به من نشاء من عبادنا } المخصوصين بالعناية الأزلية، إما المحبوبين وإما المحبين { وإنك } أيها الحبيب { لتهدي } بنا من تشاء { إلى صراط مستقيم } لا يبلغ كنهه ولا يدرى وصفه.
{ صراط الله } المخصوص به، أي: طريق التوحيدي الذاتي الشامل للتوحيد الصفاتي والأفعالي المسمى توحيد الملك، أعني سير الذات الأحدية مع جميع الصفات الظاهرة، والباطنة بمالكية سموات الأرواح وأرض الجسم المطلق { ألا إلى الله تصير الأمور } بالفناء فيه، فينادي بذاته:
لمن الملك اليوم
[غافر، الآية:16] ويجيب هو نفسه بقوله:
لله الواحد القهار
[غافر، الآية:16]، والله تعالى أعلم.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-4]
أقسم بأول الوجود وهو الحق وآخره وهو محمد وما أجل قسما بما هو أصل الكل وكماله، ولهذا كانت الشهادة بهما أساس الإسلام وعماد الإيمان والجمع بينهما هو المذهب الحق والملة القويمة. فإن أحدية الوجود والتأثير هو الجبر وإثبات التفصيل في الوجود والتأثير هو القدر، والجمع بينهما بقولنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هو الصراط المستقيم، والدين المتين. أو بما يناسب الكتاب وهو اللوح والقلم لقوله تعالى:
ن والقلم وما يسطرون
[القلم، الآية:1] وقد يكنى عن الكلمة بآخرها كما يكنى عنها بأولها. فعلى الوجه الأول يمكن أن يؤول الكتاب بنفس محمد لكونه مبينا للحق جمعا وتفصيلا وكونه منزلا من عند الله { قرآنا } أي: جامعا لجميع تفاصيل الوجود، حاصرا للصفات الإلهية والمراتب الوجودية والكمالية { عربيا لعلكم تعقلون } ما نخاطبكم به.
{ وإنه في أم الكتاب } أي: أصل الوجود في الرتبة الأولى وأول نقطة الوجود الإضافي الممتاز بالتعين الأول عن الوجود المطلق التالي للهوية المحضة المشار إليه بقوله: { لدينا لعلي } رفيع القدر بحيث لا رفعة وراءها { حكيم } ذو الحكمة إذ به ظهرت صور الأشياء وحقائقها أعيانها وصفاتها وترتيب الموجودات ونظامها على ما هي عليه. وأما على الوجه الثاني فلا يستقيم هذا التأويل، بل هو القرآن المبين للتوحيد والتفصيل الدال عليهما، المقسم به إجمالا { وإنه في أم الكتاب } أي: الروح الأعظم المشتمل على كل العلوم بل كل الأشياء لدينا قريبا منا أقرب من سائر العلوم الحاصلة في مراتب التنزلات. فإن العلم اللدني هو الذي أنتقش في الروح الذي هو أول الأرواح قبل تنزله في المراتب، وكون القرآن ذا الحكمة كونه مشتملا على الحكمة النظرية المفيدة للاعتقادات الحقة من التوحيد والنبوة وبيان أحوال المعاد وأمثالها، فالحكمة العملية من بيان أحكام أفعال المكلفين كالشرائع وكيفية السلوك في المراتب وأحوال المكاسب والمواهب.
[43.5-19]
{ أفنضرب عنكم الذكر } أي: أنهملكم ونصرف الذكر عنكم لإسرافكم وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط، ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة. قال الله تعالى:
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين
[البقرة، الآية:213].
{ وجعلوا له من عباده جزء } أي: اعترفوا بأنه خالق السموات والأرض ومبدعهما وفاطرهما وقد جسموه وجزؤوه بإثبات الولد له الذي هو بعض من الوالد مماثل له في النوع لكونهم ظاهريين جسمانيين لا يتجاوزون عن رتبة الحس والخيال ولا يتجردون عن ملابس الجسمانيات، فيدركون الحقائق المجردة والذوات المقدسة فضلا عن ذوات الله تعالى، فكل ما تصوروا وتخيلوا كان شيئا جسمانيا ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة والبعث والنشور وكل ما يتعلق بالمعاد، إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا وعقولهم المحجوبة عن نور الهداية أمور المعاش فلا مناسبة أصلا بين ذواتهم وذوات الأنبياء إلا في ظاهر البشرية، فلا حاجة إلى ما وراءها. ولما سمعوا من أسلافهم قول الأوائل من الحكماء في إثبات النفوس الملكية وتأنيثهم إياها إما باعتبار اللفظ، وإما باعتبار تأثرها وانفعالها عن الأرواح المقدسة العقلية مع وصفهم إياها بالقرب من الحضرة الإلهية توهموا أنوثتها في الحقيقة التي هي بإزاء الذكورة في الحيوان مع اختصاصها بالله فجعلوها بنات، وقلما يعتقدها العامي إلا صور إنسية لطيفة في غاية الحسن.
[43.20-36]
{ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشيءا بمشيئة الله تعالى افترضوه وجعلوه ذريعة في الإنكار، وقالوا ذلك لا عن علم وإيقان بل على سبيل العناد والإفحام، ولهذا ردهم الله تعالى بقوله: { ما لهم بذلك من علم } إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين لا ينسبون التأثير إلا إلى الله فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره إذ لا يرون حينئذ لغيره نفعا ولا ضرا { إن هم إلا يخرصون } لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل حين عظموهم وخافوهم وخوفوا أنبياءهم من بطشهم كما قال قوم هود:
إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء
[هود، الآية:54]، ولما خوفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم أجاب بقوله:
ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشآء ربي شيئا
[الأعراف، الآية:80] إلى قوله:
وكيف أخاف مآ أشركتم
[الأعراف، الآية:81].
{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن } إلى آخره، لما لم يكونوا أهل معنى ولا حظ لهم إلا من الصورة لم يتصوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعظمونه به إذ لا مال له ولا حشمة ولا جاه عندهم، وعظم في أعينهم الوليد بن المغيرة وأضرابه كأبي مسعود الثقفي وغيره لمكان حشمتهم ومالهم وخدمهم، فاستخفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا يناسب حاله اصفطاء الله إياه وكرامته عنده، ولو كان هذا القرآن من عند الله لاختار له رجلا عظيما كالوليد وأبي مسعود فأنزل عليه لتناسب حاله عظمة الله، فردهم الله لأنهم ليسوا بقاسمي رحمة الدين والهداية التي لا حظ لهم منها ولا معرفة لهم بها، بل ليسوا بقاسمي ما هم يعرفونه ويتصرفون فيه من المعيشة والحطام الدنيوي الذي يتهالكون على كسبه ولا يقصدون إلا إياه، فكيف بما لم يشموا عرفه ولم يعرفوا حاله.
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا } قرىء: يعش بضم الشين وفتحها، والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العشي لعارض أو متعمدا من غير آفة في بصره، وعشي إذا أيف بصره. فعلى الأول معناه: ومن كان له استعداد صاف وفطرة سليمة لإدراك ذكر الرحمن أي: القرآن النازل من عنده وفهم معناه وعلم كونه حقا فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغى وحسد أو لم يفهمه ولم يعلم حقيقته لاحتجابه بالغواشي الطبيعية واشتغاله باللذات الحسية عنه، أو لاغتراره بدينه وما هو عليه من اعتقاده ومذهبه الباطل نقيض له شيطانا جنيا فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات وحرص عليه من الزخارف أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه، أو إنسيا يغويه ويشاركه في أمره ويجانسه في طريقه ويبعده عن الحق. وعلى الثاني معناه: ومن أيف استعداده في الأصل وشقي في الازل بعمى القلب عن إدراك حقائق الذكر وقصر عن فهم معناه نقيض له شيطانا من نفسه أو من جنسه يقارنه في ضلالته وغوايته.
[43.37-60]
{ وإنهم ليصدونهم } وإن الشياطين يصدون قرناءهم عن طريق الوحدة وسبيل الحق { ويحسبون } الهداية فيما هم عليه { حتى إذا جاءنا } أي: حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله والعذاب المستحق لمذهبه ودينه تمنى غاية البعد بينه وبين شيطانه الذي أضله عن الحق وزين له ما وقع بسببه في العذاب واستوحش من قرينه واستذمه لعدم الوصلة الطبيعية أو انقطاع الأسباب بينهما بفساد الآلات البدنية.
{ ولن ينفعكم } التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب إذ ثبت وصح ظلمكم لاشتراككم في سببه، أو: ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته وإيلامه.
[43.61-65]
{ وإنه لعلم للساعة } أي: أن عيسى عليه السلام مما يعلم به القيامة الكبرى وذلك أن نزوله من أشراط الساعة. قيل في الحديث:
" ينزل على ثنية من الأرض المقدسة اسمها أفيق وبيده حربة يقتل بها الدجال ويكسر الصليب ويهدم البيع والكنائس ويدخل بيت المقدس والناس في صلاة الصبح، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه على دين محمد صلى الله عليه وسلم "
فالثنية المسماة أفيق إشارة إلى مظهره الذي يتجسد فيه، والأرض المقدسة إلى المادة الطاهرة التي يتكون منها جسده، والحربة إشارة إلى صورة القدرة والشوكة التي تظهر فيها. وقتل الدجال بها إشارة إلى غلبته على المتغلب المضل الذي يخرج هو في زمانه. وكسر الصليب وهدم البيع والكنائس إشارة إلى رفعه للأديان المختلفة. ودخوله بيت المقدس إشارة إلى وصوله إلى مقام الولاية الذاتية في الحضرة الإلهية الذي هو مقام القطب. وكون الناس في صلاة الصبح إشارة إلى اتفاق المحمديين على الاستقامة في التوحيد عند طلوع صبح يوم القيامة الكبرى بظهور نور شمس الوحدة. وتأخر الإمام إشارة إلى شعور القائم بالدين المحمدي في وقته بتقدمه على الكل في الرتبة لمكان قطبيته وتقديم عيسى عليه السلام إياه واقتداؤه به على الشريعة المحمدية إشارة إلى متابعته للملة المصطفوية وعدم تغييره للشرائع وإن كان يعلمهم التوحيد العياني ويعرفهم أحوال القيامة اللكبرى وطلوع الوجه الباقي، هذا إذا كان المهدي عيسى ابن مريم على ما روي في الحديث:
" لا مهدي إلا عيسى ابن مريم "
، وإن كان المهدي غيره فدخوله بيت المقدس: وصوله إلى محل المشاهدة دون مقام القطب والإمام الذي يتأخر هو المهدي، وإنما يتأخر مع كونه قطب الوقت مراعاة لأدب صاحب الولاية مع صاحب النبوة، وتقديم عيسى عليه السلام إياه لعلمه بتقدمه في نفس الأمر لمكان قطبيته وصلاته خلفه على الشريعة المحمدية اقتداؤه به تحقيقا للاستفاضة منه ظاهرا وباطنا والله أعلم.
وإنما قال: { واتبعون هذا صراط مستقيم } لأن الطريقة المحمدية هي صراط الله لكونه باقيا به بعد الفناء فدينه دين الله وصراطه صراط الله واتباعه اتباع الله، فلا فرق بين قوله: { واتبعون } ، وقوله: واتبعوا رسولي، ولهذا كان متابعته تورث محبة الله إذ طريقه هي طريق الوحدة الحقيقية التي لا استقامة إلا لها ولهذا لم يسع عيسى إلا اتباعه عند الوصول إلى الوحدة وارتفاع الاثنينية يوجب المحبة الحقيقية.
[43.66-71]
{ هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم } أي: ظهور المهدي دفعة وهم غافلون عنه { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } الخلة، إما أن تكون خيرية أو لا، والخيرية إما أن تكون في الله أو لله، والغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقلي. والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل لقربها من الحضرة الأحدية وتساويها في الحضرة الواحدية التي قال فيها: فما تعارف منها ائتلف، فهم إذا برزوا في هذه النشأة واشتاقوا إلى أوطانهم في القرب وتوجهوا إلى الحق وتجردوا عن ملابس الحس ومواد الرجس، فلما تلاقوا تعارفوا وإذا تعارفوا تحابوا لتجانسهم الأصلي وتماثلهم الوضعي وتوافقهم في الوجه والطريقة، وتشابههم في السيرة والغريزة وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية التي هي سبب العداوة، وانتفع كل منهم بالآخر في سلوكه وعرفانه وتذكره لأوطانه والتذ بلقائه وتصفى بصفائه وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبدا كمحبة الأولياء والأنبياء والأصفياء والشهداء. والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف والأخلاق والسير الفاضلة، ونشأته في الاعتقادات والأعمال الصالحة كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم ومحبة العرفاء والأولياء إياهم، ومحبة الأنبياء العامة أممهم. والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية والأغراض الجزئية كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة ومحبة الفجار والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات واجتلاب الأموال. والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش وتيسير المصالح الدنيوية كمحبة التجار والصناع ومحبة المحسن إليه للمحسن، فكل ما استند إلى غرض فان وسبب زائل زال بزواله وانقلب عند فقدانه عداوة لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه من اللذة المعهودة والنفع المألوف مع عدمه وامتناعه لزوال سببه، ولما كان الغالب على أهل العلم أحد القسمين الأخيرين أطلق الكلام وقال: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } لانقطاع أسباب الوصلة بينهم وانتفاء الآلات البدنية عنهم وامتناع حصول اللذة الحسية والنفع الجسماني وانقلابهما حسرات وآلاما وضررا وخسرانا قد زالت اللذات والشهوات وبقيت العقوبات والتبعات، فكل يمحق صاحبه ويبغضه لأنه يرى ما به من العذاب منه وبسببه. ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم كما قال:
وقليل ما هم
[ص، الآية:24]،
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ، الآية:13].
ولعمري إن القسم الأول أعز من الكبريت الأحمر وهم الكاملون في التقوى البالغون إلى نهايتها، الفائزون بجميع مراتبها، اجتنبوا أولا المعاصي ثم الفضول ثم الأفعال ثم الصفات ثم الذوات، فما بقيت منهم بقايا حتى يتنافسوا فيها ويضنوا بها عن حبيبهم فيفسد محبتهم، بل ما بقي منهم إلا نفس الحب. وأما الفريق الثاني فاقتصروا على الرتبة الأولى وقنعوا بظاهر التقوى فرضوا من الآخرة بما أوتوا من النعيم وتسلوا عن الدنيا وما فيها بالفضل الجسيم فأبقى محباتهم فيما بينهم لبقاء أسبابها وهي الصفات المتماثلة والهيئات المتشابهة في ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه واجتناب سخط الله وعقابه، فهم العباد المرتضون أي كلا القسمين لاشتراكهما في طلب الرضا فلذلك نسبهم إلى نفسه بقوله: يا عباد لا خوف على الفريقين لأمنهم من العقاب ولا هم يحزنون على فوات لذات الدنيا لكونهم على ألذ منها وأبهج وأحسن حالا وأجمل، وإن تفاوت حالهم في اللذة والسرور والروح والحبور بما لا يتناهى، وشتان بين محمد ومحمد.
[43.72-80]
والجنة التي أمروا بدخولها هي جنة النفس لاشتراك الفريقين فيها دون جنتي الصفات والذات المخصوصتين بالسابقين بدليل قوله بعده: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعلمون } وإنما الجنة التي هي ثواب الأعمال جنة النفس لقوله: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين }.
{ ونادوا يا مالك } سمي خازن النار مالكا لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها لقوله تعالى:
فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى
[النازعات، الآيات:37 - 39] كما سمى خازن الجنة رضوانا لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه. وقيل: الرضا بالقضاء باب الله الأعظم وهو الطبيعة الجسمانية الموكلة بأجساد العالم والهيولى الظلمانية أو النفس الحيوانية الكلية الموكلة بالتأثير في الأجساد الحيوانية المستعلية على النفوس الناطقة المحبوسة في قيود اللذات الحسية والمطالب السفلية، وإنما لا يتعذب بالنار لكونه من جوهر تلك النار فهي له جنة، وللجهنميين نار لتنافي جواهرهم وجوهرها وتباينهما. واختصاص ندائهم بمالك دون الله تعالى لاحتجابهم وبعدهم عن الله بالكلية وتعبدهم لمالك بالنية والأمنية، وما ذلك النداء إلا توجههم إليه وطلب المراد منه ودعوتهم بقولهم: { ليقض علينا ربك } إشارة إلى تمني زوال بقية الاستعداد بالكلية وإماتة الغريزة الفطرية لئلا يتأذوا بالهيئات المؤذية والنيران المردية، أو تمني تعطل الحواس وعدم الإحساس لشدة التألم بالعذاب الجسماني و { قال إنكم ماكثون } إشارة إلى المكث المقدر بحسب رسوخ الهيئات وارتكام الذنوب والآثام إن كانت الاستعدادات باقية والاعتقادات صحيحة أو الخلود فيها إن لم تكن، فإن المكث أعم من المتناهي وغيره. وكذا المجرم أعم من الشقي الأصلي وغيره، وعلى هذا حمل الخلود في قوله:
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون
[الزخرف، الآية:74] على المكث الطويل الأعم من المتناهي وغيره، فإنه قد يستعمل في العرف بمعناه كثيرا مجازا، وإنما جعلنا المجرم شاملا للقسمين المذكورين من الأشقياء لمقابلته للمتقي الشامل للقسمين المذكورين من السعداء وإن خصصناه بالشقي المردود المطرود في الأزل كان المكث في قوله: { إنكم ماكثون } عبارة عن الأبد.
{ بلى ورسلنا لديهم يكتبون } كل ما خطر فينا بالبال من الأشرار ينتقش في النفوس الفلكية كما ينتقش في الإنسانية لاتصالها بها وانتقاشها كما هي، إما في القوى الخيالية إن كانت جزئية وإما في القوى العاقلة إن كانت كلية، وكلاهما يظهر على النفس عند ذهولها عن الحس ورجوعها إلى ذاتها وما كانت تنساها تنعكس إليها من النفوس الفلكية عند المفارقة فتذكرها دفعة وذلك معنى قوله:
أحصاه الله ونسوه
[المجادلة، الآية:6] فالرسل الكاتبون هم النفوس الفلكية المناسبة لكل واحد واحد من الأشخاص البشرية بحسب الوضع المقارن لاتصال النفس بالبدن.
[43.81-89]
{ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } أي: لذلك الولد، وهو إما أن يدل على نفي الولد عن الله بالبرهان وإما ان يدل على نفي الشرك عن الرسول بالمفهوم، أما دلالته على الأول فلما دل قوله: { سبحان رب السموات } إلى قوله: { عما يصفون } على نفي التالي وهو عبادة الولد أي: أو حده وأنزهه تعالى عما يصفونه من كونه مماثلا لشيء ربا خالقا للأجسام كلها فلا يكون من جنسها، فيفيد انتقاء الولد على الطريق البرهاني. وأما دلالته على الثاني: فإذا جعل قوله: { سبحان رب السموات } إلى آخره، من كلام الله تعالى لا من كلام الرسول، أي: نزه رب السموات عما يصفونه فيكون نفيا للمقدم ويكون تعليق عبادة الرسول من باب التعليق بالمحال والمعلق بالشرط عند عدمه فحوى بدلالة المفهوم أبلغ عند علماء البيان من دلالة المنطوق، كما قال في استبعاد الرؤية:
فإن استقر مكانه فسوف تراني
[الأعراف، الآية:143] والله تعالى أعلم.
[44 - سورة الدخان]
[44.1-12]
{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة } الليلة المباركة هي بنية رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونها حادثة مظلمة ساترة لنور شمس الروح، ووصفها بالمباركة لظهور الرحمة والبركة من الهداية والعدالة في العالم بسببها وازدياد رتبته وكماله بها. كما سماها ليلة القدر لأن قدره عليه السلام معرفته بنفسه وكماله إنما يظهر بها، ألا ترى أن معراجه إنما كان بجسده؟، إذ لو لم يكن جسده لم يكن ترقيه في المراتب إلى التوحيد وإنزال الكتب فيها إشارة إلى إنزال العقل القرآني الجامع للحقائق كلها، والفرقاني المفصل لمراتب الوجود، المبين لتفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها، المميز لمعاني الأسماء وأحكام الأفعال فيها وهو معنى قوله فيها: { فيها يفرق كل أمر حكيم } أو إلى إنزال الروح المحمدي الذي هو الكتاب المبين حقيقة في صورتها أو القرآن { إنا كنا منذرين } لأهل العالم بوجوده.
{ أمرا من عندنا } خص الأمر الحكمي بكونه من عنده لأن كل أمر يبتني على حكمة وصواب كما ينبغي من الشرائع والأحكام الفقهية إنما يكون من عنده مخصوصا به مطلقا لما في نفس الأمر وإلا كان أمرا مبنيا على الهوى والتشهي { إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك } تامة كاملة على العالمين بإنزاله لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية وصلاح معاشهم ومعادهم وظهور الخير والكمال والبركة والرشاد فيهم بسببه أو مرسلين إياك لرحمة كاملة شاملة عليهم { إنه هو السميع } لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم { العليم } بعقائدهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وأمورهم المخيلة ومعايشهم الغير المنتظمة، فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا. المرشد إلى الصواب فيهما بتوضيح الصراط المستقيم وتحقيق التوحيد بالبرهان وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام.
{ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } أي: وقت ظهور آيات القيامة الصغرى أو الكبرى فإن الدخان من أشراطها. فاعلم أن الدخان هو من الأجزاء الأرضية اللطيفة المتصاعدة عن مركزها لتلطفها بالحرارة، فإن فسرنا القيامة بالصغرى فالدخان هو السكرة والغشية والانقباضية العارضة لسماء الروح عند النزع بسبب هيئة التعلق البدني والفترة المرتكبة على وجهها من مباشرة الأمور السفلية والميل إلى اللذات الحسية ولهذا قال عليه السلام في وصفه:
" أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره "
فإن المؤمن لقلة تعلقه بالأمور البدنية وضعف تلك الهيئة المستفادة من مباشرة الأمور السفلية يقل انفعاله منها ويسهل زواله وخصوصا إذا اكتسب ملكة الاتصال بعالم الأنوار. وأما الكافر فلشدة تعلقه وقوة محبته للجسمانيات وركونه إلى السفليات تغشاه تلك الهيئة فتحيره وتشمله حتى عمت مشاعره الظاهرة والباطنة ومخارجه العلوية والسفلية فلا يهتدي إلى طريق لا إلى العالم العلوي ولا إلى العالم السفلي { هذا عذاب أليم } ولما كان الغالب عليه التمني والتندم فيتمنى ما كان فيه من الحياة والصحة ويتندم على ما كان عليه من الفسوق والعصيان والفجور والطغيان، قال بلسان الحال: { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أو بلسان المقال على ما ترى عليه حال بعض من وقع في النزع من العصاة من التوبة وموعدة الرجوع إلى الطاعة.
[44.13-16]
{ أنى لهم الذكرى } أي: الاتعاظ والإيمان بمجرد انكشاف العذاب { وقد جاءهم } ما هو أبلغ منه من الرسول المبين طريق الحق بالمعجز والبرهان ودعاهم إلى سبيله بالطرق الثلاثة من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن { ثم } أعرضوا ونسبوه إلى الجنون والتعليم المتنافيين لفرط احتجابهم وعنادهم { إنا كاشفوا العذاب قليلا } بتعطيل الحواس والإدراكات { إنكم عائدون } إليه.
{ يوم نبطش البطشة الكبرى } أي: وقت تمام الفراغ إلى إدراك العذاب المؤلم بتلك الهيئات وتحقق الخلود { إنا منتقمون } معذبون بالحقيقة أو بالرد إلى الصحة والحياة البدنية، إنكم عائدون إلى الكفر لرسوخه فيكم { يوم نبطش البطشة الكبرى } بزوال الاستعداد وانطفاء نور الفطرة بالرين الحاصل من ارتكاب الذنوب والاحتجاب الكلي الموجب للعذاب الأبدي كما قال:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين، الآيات:14 - 15] ننتقم منهم بالحقيقة بالحرمان الكلي والحجاب الأبدي والعذاب السرمدي. وإن فسرنا القيامة بالكبرى: فالدخان هو حجاب الأنية الذي يغشى الناس عند ظهور نور الوحدة بطغيان النفس لانتحال صفات الربوبية وغلبة سكرة يوم الجمع المورثة للإباحة إذ هو من بقية النفس الأرضية اللطيفة بنور الوحدة المرتقبة إلى محل الشهود التي تأتي بها سماء الروح لتأثيره فيها بالتنوير إذ لم تحترق بالكلية بنار العشق بل صفت وتلطفت وتصعدت. فأما المؤمن بالإيمان الحقيقي الموحد التام الاستعداد، المحب الغالب المحبة، فيصيبه كهيئة الزكمة، أي: السكرة التي قال فيها أبو زيد قدس الله روحه: سبحاني ما أعظم شأني. والحسين بن منصور رحمه الله: أنا الحق. ثم يرتفع عنه سريعا لمزيد العناية الإلهية وقوة الاستعداد الفطرية وشدة المحبة الحقيقية، فيتنبه لذلك ويتعذب به غاية التعذب ويشتاق إلى الانطماس في عين الجمع غاية الشوق، فيقول: هذا عذاب أليم، ويطلب الفناء الصرف، كما قال الحلاج قدس الله روحه:
بيني وبينك أني ينازعني فارفع بفضلك أني من البين.
ويدعو بلسان التضرع والافتقار:
ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون
[الدخان، الآية:12] بالإيمان العيني عند كشف الحجاب الآني، { أنى لهم الذكرى } من أين لهم ذكر الذات والإيمان العيني في مقام حجاب الأنائية، { وقد جاءهم رسول مبين } أي: رسول العقل المبين لوجوداتهم وصفاتهم، أي: إنما احتجبوا بحجاب الأنية لظهور العقل وإثباته لوجوداتهم، فكيف ذكرهم للذات تعجب من تذكرهم مع كونهم عقلاء ثم بين كونهم عشاقا مشتاقين بقوله: { ثم تولوا عنه } لقوة المحبة وفرط العشق { وقالوا معلم } أي: من عند الله بإفاضة العلم عليه { مجنون } مستور الإدراك، محجوب عن نور الذات، كما قال جبريل عليه السلام: " لو دنوت أنملة لاحترقت ". { إنا كاشفوا العذاب } أي:عذاب الحجاب والحرمان لإعراضهم بقوة العشق عن الرسول قليلا بطلوع نور الوجه الباقي وإشراق سبحاته وإحراقها ما انتهى إليه بصره من خلقه { إنكم عائدون } بالتلوين إلى الحجاب بعد تجلي نور الذات لبقية الآثار إلى وقت التمكين { يوم نبطش البطشة الكبرى } أي: وقت الفناء الكلي والانطماس الحقيقي بحيث لا عين ولا أثر { إنا منتقمون } أي: ننتقم بالقهر الأحدي والإفناء الكلي من وجوداتهم وبقاياهم فيطهرون عن الشرك الخفي بالوجود الأحدي.
وأما الكافر، أي: المحجوب عن نور الذات، الممنو بحجب الصفات، المحروم عن الطمس عن عين الجمع بتوهم الكمال فيبقى في مقام الأنائية ويتفرعن وراء حجاب الأنائية كما قال اللعين:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات، الآية:24 }
ما علمت لكم من إله غيري
[القصص، الآية:38]، فيخلع عن عنقه ربقة الشريعة ويسير بسيرة الإباحة ويتجسر على المخالفات ويتزندق بارتكاب المعاصي وتركه الطاعات، فيكون من شرار الناس الذين قال فيهم:
" شر الناس من قامت القيامة عليه وهو حي "
فهو في عدم التمييز والرجوع إلى التفصيل والانهماك في الدواعي الطبيعية والتعمق في الجاهلية كالسكران غلب الهوى على عقله وأحاط به الحجاب من جميع جهاته وظهر أثر الغي من مشاعره، هذا عذاب أليم لكنه لا يشعر به لشدة انهماكه في تفرعنه وقوة شكيمته في تشيطنه، كلما دعاه الموحد القائم بالحق المهدي إلى نور الذات بالفناء المطلق المنصور من عند الله بالوجود الموهوب المتحقق ونبهه على ما به من الاحتجاب أبى واستكبر وطغى وتجبر لاستغنائه بنفسه وثباته في غيه حتى إذا وقع في الارتياب وتفطن بالحجاب عند ارتتاج الباب بتعيين المآب وتيقن العقاب قال:
ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون
[الدخان، الآية:12] كما قال فرعون حين أدركه الغرق:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل
[يونس، الآية:90]، { أنى لهم الذكرى } أي: الاتعاظ والإيمان الحقيقي وقد عاندوا الحق وأعرضوا عن القائم بالحق، فلعنوا وطردوا. { إنا كاشفو العذاب } ريثما تحققوا ما هم فيه من الوقوف مع النفس وتبينوا التفريط في جنب الحق { إنكم عائدون } لفرط تمكن الهوى من أنفسكم وتشرب قلبوكم بمحبة نفوسكم واستيلاء صفاتها عليكم وقوة الشيطنة فيكم. { يوم نبطش البطشة الكبرى } بالقهر الحقيقي والإذلال الكلي والطرد والإبعاد ننتقم منهم لمكان شركهم وعبادتهم لأنفسهم ومبارزتهم علينا بالظهور في مقابلتنا ومنازعتهم رداء الكبرياء منا، كما قلنا:
" العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار "
وأما حكاية قوم فرعون فاشتهيت تطبيقها على حالك فافهم منها.
[44.17-42]
{ ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون } النفس الأمارة من قبط القوى الحيوانية { وجاءهم رسول كريم } هو موسى القلب الشريف المجرد { أن أدوا إلي عباد الله } المخصوصين به من القوى الروحانية المأسورين في قيود طاعتكم، المستضعفين باستيلائكم، المستعبدين لقضاء حوائجكم وتحصيل مراداتكم من اللذات الحسية والشهوات البدنية { إني لكم رسول أمين } بحصول علم اليقين المأمون من تغيره.
{ وأن لا تعلو على الله } بعصيانه وترك ما أدعوكم إليه واستكباركم { إني آتيكم } بحجة واضحة من الحجج العقلية { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } بأحجار الهيولى السفلية والأهواء النفسية والدواعي الطبيعية فتجعلوني بحيث لا حراك في طلب الكمالات الروحانية والأنوار الرحمانية وتهلكوني.
{ وإن لم تؤمنوا لي } بطاعتي ومشايعتي في التوجه إلى ربي وطلب كمالي والتنور بأنواري { فاعتزلون } بعدم ممانعتي وترك محاجزتي ومعاوقتي في سيري وسلوكي { فدعا ربه } بلسان التضرع والافتقار { أن هؤلاء قوم مجرمون } في اكتساب المطالب الجرمية واللذات الحسية، منهمكون فيها، لا يرفعون منها رأسا.
{ فأسر } أي: فقال الله: أسر { بعبادي } الروحانيين من القوى العقلية والفكرية والحدسية والقدسية وصفاتك المخلصة إلى حضرة القدس وراء بحر الهيولى { ليلا } وقت نعاس القوى الحسية وتعطل القوى البدنية { إنكم متبعون } بمطالبتهم إياكم بكمالات الحس ومجاذبتهم لكم عن جناب القدس { واترك } بحر الهيولى والمواد الجسمانية ساكنة على قرارها ساجية عن أمواجها غير مزاحمة إياكم باضطراب أحوالها وانحراف مزاجها، ومتسعة طرقها منفرجة لنفوذ تلك القوى وسريانها وتصرفها فيها { إنهم جند مغرقون } هالكون يتموج البحر وطمسه إياهم عند خراب البدن.
[44.43-54]
{ إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } شجرة الزقوم هي النفس المستعلية على القلب في تعبد الشهوة وتعود اللذات، سميت زقوما لملازمتها اللذة، إذ الزقم والتزقم عندهم أكل الزبد والتمر، ولكونه لذيذا نسبت تبعة اللذة إليه واشتق لها اسم منه، ولا يطعم منها ويستمد من قواها وشهواتها إلا المنغمس في الإثم المنهمك في الهوى { كالمهل } أي: دردي الزيت لثقلها وترسبها وسرعة نفوذها في المسام للطافتها وحرارتها اللازمة لطلبها ما يهواها، أو النحاس الذائب في ميلها إلى الجهة السفلية وإيذائها القلب بشدة الداعية ولهج الحرص ولهب نار الشوق مع الحرمان { يغلي في البطون } تضطرب وتقلق في البواطن من شدة حر التعب في الطلب فتقلق القلوب وتحرقها بنار الهوى ومنافاة ظلمتها لنوريتها وتسري فيها بالأذى لاستيلاء هيئتها عليها ولطف هواها الذي هو روح النفس ورسوخ محبتها فيها، ولهذا قيل: ذواق السلاطين محرقة الشفتين، { كغلي الحميم } الساري بحره في المسام للطافته وقوله في البطون كقوله:
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة، الآيات:6 - 7].
{ ذق إنك أنت العزيز الكريم } إشارة إلى انعكاس أحوالها لانتكاس فطرتها، فإن اللذة والعزة الجسمانية و الكرامة النفسانية موجبة للألم والهوان والذلة الروحانية { إن هذا ما كنتم به تمترون } لحسبانكم انحصار اللذات والآلام في الحسية واحتجابكم بها عن العقلية.
{ إن المتقين } الكاملين في التقوى باجتناب البقايا { في جنات } عالية من الجنان الثلاث { وعيون } من علوم الأحوال والمعارف وغيرها من المنافع الحقيقية { يلبسون من سندس } لطائف الأحوال والمواهب لاتصافهم بها كالمحبة والمعرفة والفناء والبقاء { وإستبرق } فضائل الأخلاق كالصبر والقناعة والحلم والسخاوة { متقابلين } على رتب متساوية في الصف الأول من صفوف الأرواح لا حجاب بينهم لتجرد ذواتهم وبروزهم إلى الله عن صفاتهم { كذلك وزوجناهم بحور عين } أي: قرناهم بما فيه قرة أعينهم واستئناس قلوبهم لوصولهم بمحبوبهم وحصولهم على كمال مرادهم.
[44.55-59]
{ يدعون فيها بكل فاكهة } أي: كل ما يتلذذ به من لذائذ الجنان الثلاث { آمنين } من الفناء والحرمان عن تلك النعماء { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } أي: الطبيعة الجسمانية لا الفناء من الأفعال والصفات والذات فإن كل فناء منها وإن كان موتا إراديا لكنه حياة أصفى وألذ وأشهى وأبهج مما قبلها وكل منها في جنة { ووقاهم عذاب الجحيم } أي: جحيم الحرمان بوجود البقية فضلا عن الخذلان في جحيم الطبيعة { فضلا من ربك } موهبة محضة وعطاء صرفا من ربك بالوجود الحقاني عند تلاشي الآلات النفسانية { ذلك هو الفوز العظيم } والله أعلم.
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-4]
{ حم } جواب القسم محذوف لدلالة { تنزيل الكتاب } عليه، أي: أقسم بحقيقة الهوية، أي: الوجود المطلق الذي هو أصل الكل وعين الجمع، وبمحمد أي: الوجود الإضافي الذي هو كمال الكل وصورة التفصيل لأنزلن الكتاب المبين لهما أو يجعل { حم } مبتدأ و { تنزيل الكتاب } خبره على تقدير حذف مضاف أي: ظهور حقيقة الحق المفصلة، { تنزيل الكتاب } أي: إرسال الوجود المحمدي أو إنزال القرآن المبين الكاشف عن معنى الجمع والتفصيل في غير موضع كما جمع في قوله:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران، الآية:18] ثم فصل بقوله:
والملائكة وأولوا العلم
[آل عمران، الآية:18]. { من الله } من عين الجمع { العزيز الحكيم } في صورة تفاصيل القهر واللطف اللذين هما. أما الأسماء ومنشؤها الكثرة في الصفات إذ لا صفة إلا وهي من باب القهر أو اللطف.
{ إن في السموات والأرض } أي: في الكل { لآيات للمؤمنين } بذاته لأن الكل مظهر وجوده الذي هو عين ذاته { وفي خلقكم } إلى آخره، { آيات لقوم يوقنون } بصفاته لأنكم وجميع الحيوانات مظاهر صفاته من كونه حيا عالما مريدا قادرا متكلما سميعا بصيرا، لأنكم بهذه الصفات شاهدون بصفاته.
[45.5-8]
{ و } في { اختلاف الليل والنهار } إلى آخره، { آيات لقوم يعقلون } أفعاله، فإن هذه التصرفات أفعاله، وإنما فرق بين الفواصل الثلاث بالإيمان والإيقان والعقل لأن شهود الذات أوضح وإن خفي لغاية وضوحه والوجود أظهر والمصدقون به أكثر لكونه من الضروريات ومشاهدة الصفات أدق وألطف من القسمين الباقيين فعبر عنها بالإيقان، فكل موقن مؤمن بوجوده ولا ينعكس وقد يوجد الإيقان بدون الإيمان بالذات لذهول المؤمن بالوجد الموقن بالصفات عن شهود الذات لاحتجابه بالكثرة عن الوحدة. وأما الأفعال فمعرفتها استدلال بالعقل إذ التغير في الأشياء لا بد له من تغيير مغير عند العقل لاستحالة التأثر بدون التأثير عقلا. والأول فطري روحي، والثاني علمي قلبي، أي: كشفي ذوقي، والثالث عقلي. فالمحبوب الباقي على الفطرة يؤمن أولا بالذات ثم يوقن بالصفات ثم يعقل الأفعال. وأما المحب المحتجب عن الفطرة بالنشأة والمادة فهو في مقام النفس يعقل أولا أفعاله ثم يوقن بصفاته التي هي مبادىء أفعاله، ثم يؤمن بذاته ولهذا
" لما سئل حبيب الله صلى الله عليه وسلم: بم عرفت الله؟ قال: " عرفت الأشياء بالله ".
{ تلك } أي: آيات سموات الأرواح وأرض الجسم المطلق، أي الكل وآيات الأحياء من الموجودات وآيات سائر الحوادث من الكائنات { آيات الله } أي: آيات ذاته وصفاته وأفعاله { فبأي حديث بعد الله } وآيات صفاته وأفعاله { يؤمنون } إذ لا موجود بعدها إلا حديث بلا معنى واسم بلا مسمى، كما قال:
إن هي إلا أسمآء سميتموهآ
[النجم، الآية: 23] أي: بلا مسميات { ويل لكل أفاك } منغمس في إفك الوجود المزخرف الباطل الموهوم ، وإثم الشرك بنسبة الأفعال لذلك الوجود { يسمع آيات الله } من كل موجود قائل بلسان الحال أو القال { تتلى عليه } على لسان كل شيء إلا على لسان النبي وحده { ثم يصر مستكبرا } في نسبتها إلى الغير لاحتجابه بوجوده واستكباره وأنائيته لفرط تفرعنه أو لغرته وغفلته { كأن لم يسمعها } لعدم تأثره بها { فبشره بعذاب } الحجاب المؤلم والحرمان الموبق.
[45.9-22]
{ وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا } بنسبتها إلى من لا وجود له أصلا { أولئك لهم عذاب مهين } في ذل الإمكان { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } أي: في تسخير ما في السموات وما في الأرض لكم دلائل لمن يتفكر في نفسه من هو؟ ولماذا سخر له هذه الأشياء؟ حتى الملكوت والجبروت منه من جهته فيرجع إلى ذاته ويعرف حقيقته وسر وجوده وخاصيته التي بها شرف وفضل عليها وأهل لتسخيرها له فيأنف عن التأخر عن رتبة أشرفها فضلا عن أخسها ويترقى إلى غايته التي يندب إليها.
{ ثم جعلناك على شريعة } طريقة من أمر الحق هي طريقة التوحيد { فاتبعها } بسلوكها على بينة وبصيرة { ولا تتبع } جهالات أهل التقليد { الذين لا يعلمون } علم التوحيد { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا } أي: لن يدفعوا عنك ضرا بأفعالهم لعدم تأثيرهم ولا جهالة وحجابا بأوصافهم لعدم قواهم وقدرهم وعلومهم، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ولا وحشة بحضورهم إذ لا مناسبة بينك وبينهم فتستأنس بهم بل لا أنس لك إلا بالحق وهم لا شيء محض في شهودك فلا موالاة بينك وبينهم بوجه وإنما موالاة الظالمين ليست إلا مع الظالمين لما بينهم من الجنسية والمناسبة في الاحتجاب { والله ولي المتقين } أي: متولي أمور من اتقى أفعاله بالتوكل عليه في شهود توحيد الأفعال أو ناصر من اتقى صفاته في مقام الرضا بمشاهدة تجليات الصفات أو حبيب من اتقى ذاته في شهود توحيد الذات إذ الولي يستعمل بالمعاني الثلاثة لغة.
{ هذا } أي: هذا البيان { بصائر } أي: بينات لقلوب الذين طالعوا بهجة الصفات، يطالعون بكل بصيرة تجلي طلعة صفته { وهدى } لأرواحهم إلى محل شهود الذات { ورحمة } لنفوسهم من عذاب حجاب الأفعال { لقوم يوقنون } هذه البيانات.
[45.23-27]
{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } الإله المعبود ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلها، إذ كل ما يعبد الإنسان بمحبته وطاعته فهو إلهه ولو كان حجرا { وأضله الله } عالما بحاله من زوال استعداده وانقلاب وجهه إلى الجهة السفلية أو مع كون ذلك العابد للهوى عالما بعلم ما يجب عليه فعله في الدين على تقدير أن يكون على علم حالا من الضمير المفعول في { أضله الله } لا من الفاعل وحينئذ يكون الإضلال لمخالفته علمه بالعمل وتخلف القدم عن النظر لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى كحال بلعام بن باعورا وأضرابه كما قال عليه السلام:
" كم من عالم ضل ومعه علمه لا ينفعه "
أو على علم منه غير نافع، لكونه من باب الفضول لا تعلق له بالسلوك { وختم على سمعه وقلبه } بالطرد عن باب الهدى والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه لمكان الرين وغلظ الحجاب { وجعل على بصره غشاوة } عن رؤية جماله وشهود لقائه { فمن يهديه من بعد الله } إذ لا موجود سواه يقوم بهدايته { أفلا تذكرون } أيها الموحدون { ما هي إلا حياتنا الدنيا } أي: الحسية { نموت } بالموت البدني الطبيعي { ونحيى } الحياة الجسمانية الحسية لا موت ولا حياة غيرهما ولا ينسبون ذلك إلا إلى الدهر لاحتجابهم عن المؤثر الحقيقي القابض للأرواح والمفيض للحياة على الأبدان.
{ قل الله يحييكم ثم يميتكم } لا الدهر { ثم يجمعكم } إليه بالحياة الثانية عند البعث، أو الله يحييكم لا الدهر بالحياة الأبدية القلبية بعد الحياة النفسانية ثم يميتكم بالفناء فيه ثم يجمعكم إليه بالبقاء بعد الفناء والوجود الموهوب لتكونوا به معه.
{ ولله ملك السموات والأرض } لا مالك غيره في نظرالشهود { ويوم تقوم } القيامة الكبرى { يخسر } الذين يثبتون الغير إذ كل ما سواه باطل ومن أثبته واحتجب به عنه مبطل.
[45.28-37]
{ وترى } يا موحد { كل أمة جاثية } لا حراك بها إذ هي بنفسها ميتة غير قادرة كما قال:
إنك ميت وإنهم ميتون
[الزمر، الآية:30] أو تراها جاثية في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء على حالها في النشأة الأولى عند الاجتنان وفيه سر.
{ كل أمة تدعى إلى كتابها } أي: اللوح الذي أثبت فيه أعمالها وتجسدت صورها وانتقشت فيه على هيئة جسدانية فإن كتابة الأعمال إنما تكون في أربعة ألواح أحدها: اللوح السفلي الذي يدعى إليه كل أمة ويعطى بيمين من كان سعيدا وشمال من كان شقيا، والثلاثة الأخرى سماوية علوية أشير إليها فيما قبل. وإنما قلنا هذا الكتاب هو اللوح السفلي لأن الكلام ههنا في جزاء الأعمال لقوله: { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } وقوله: { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } والناسخون هم الملكوت السماوية والأرضية جميعا { فأما الذين آمنوا } الإيمان الغيبي التقليدي أو اليقيني العلمي { وعملوا } ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني من أبواب البر { فيدخلهم ربهم في } رحمة ثواب الأعمال في جنة الأفعال { وأما الذين كفروا } احتجبوا عن الحق بالكفر الأصلي والانغماس في الهيئات الجرمانية المظلمة بالإجرام بدليل قوله: { اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } أي: نترككم في العذاب كما تركتم العمل للقائي في يومكم هذا لعدم اعترافكم، أو نعجلكم كالشيء المنسي المتروك بالخذلان في العذاب كما نسيتم لقاء يومكم هذا بنسيان العهد الأزلي.
{ فلله الحمد } الكمال المطلق الحاصل للكل ببلوغ الأشياء إلى غاياتها وحصولها على أجل ما يمكن من كمالاتها { رب السموات } مكمل الأرواح ومدبرها { ورب الأرض } مدبر الأجساد ومالكها ومصرفها { رب العالمين } موجه العالمين إلى كمالاتهم بربوبيته إياهم { وله الكبرياء } أي: استعلاء ونهاية الترفع والكبر على كل شيء وغاية العلو والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه، فكل يحمده بإظهار كماله وجميع صفاته بلسان حاله ويكبره بتغيره وإمكانه وانخراطه في سلك المخلوقات المحتاجة إليه الفانية بالذات القاصرة عن سائر الكمالات غير ما اختص به { وهو العزيز } القوي القاهر لكل شيء بتأثيره فيه وإجباره على ما هو عليه { الحكيم } المرتب لاستعداد كل شيء بلطف تدبيره، المهيىء لقبوله لما أراد منه من صفاته بدقيق صنعته وخفي حكمته.
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-12]
{ ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } أي: بالوجود المطلق الثابت الأحدي الصمدي الذي يتقوم به كل شيء، أو بالعدل الذي هو ظل الوحدة المنتظم به كل كثرة، كما قال: بالعدل قامت السماوات والأرض. { و } بتقدير { أجل مسمى } أي: كمال معين ينتهي به كمال الوجود وهو القيامة الكبرى بظهور المهدي وبروز الواحد القهار بالوجود الأحدي الذي يفنى عنده كل شيء كما كان في الأزل { والذين كفروا } بالاحتجاب عن الحق { عما أنذروا } من أمر هذه القيامة { معرضون }.
{ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله } تسمونه وتثبتون له وجودا وتأثير أي شيء كان { أروني } ما تأثيره في شيء أرضي بالاستقلال أو شيء سماوي بالشركة { ائتوني } على ذلك بدليل نقلي من كتاب سابق أو عقلي من علم متقن { إن كنتم صادقين } ، { ومن أضل ممن يدعو من دون الله } أي شيء كدعاء الموالي للسادة مثلا إذ لا يستجيب له أحد إلا الله. { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء } لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم لا تكون إلا لغرض نفساني وكذا استعباد الموالي لخدمهم فإذا ارتفعت الأغراض وزالت العلل والأسباب كانوا لهم أعداء وأنكروا عبادتهم يقولون: ما خدمتمونا ولكن خدمتم أنفسكم، كما قيل في تفسير قوله تعالى:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو
[الزخرف، الآية: 67].
[46.13-15]
{ إن الذين قالوا ربنا الله } أي: تجردوا عن العلائق ورفضوا العوائق وانقطعوا إلى الله عن كل ما سواه ورحموا البصر عن طغواه فصدقا { قالوا }: ربنا الله، إذ لو بقيت منهم بقايا ولم يأمنوا التلوينات في عرصة الفناء لم يقولوا صادقين: { ربنا الله } { ثم استقاموا } بالتحقق به في العمل والتحفظ به في مراعاة آداب الحضرة عن الزلل والخطل، بحيث لم ينبض منهم عرق ولم يتحرك منهم شعرة إلا بالله ولله { فلا خوف عليهم } إذ لا حجاب ولا عقاب { ولا هم يحزنون } إذ لا مرغوب إلا وهو حاصل لهم فلم يفت منهم شيء ولا يفوت كما قيل: إن في الله عزاء لكل مصيبة ودركا عن كل ما فات.
{ أولئك أصحاب الجنة } المطلقة الشاملة للجنان كلها { خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون } في حال السلوك حتى الوصول { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } لما كانت النفس ممنوة بتدبير البدن لتوقف استكمالها عليه مشغولة عن كمالها به في أول النشأة لم تنفتح بصيرتها ولم يصف إدراكها ولم يتبين رشدها إلا وقت بلوغ النكاح كما قال في اليتامى:
حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم
[النساء، الآية:6] وذلك هو الأشد الصوري. ألا ترى أن الطبيعة من وقت الطفولة إلى هذا الحد لا تتفرغ إلى تحصيل مادة النوع عن إيرادها ما يزيد في الأقطار من الغذاء زائدا على بدل المتحلل من البدن لضعف الأعضاء وشدة الاحتياج إلى النمو والتصلب، فالنفس حينئذ منغمسة في البدن، مستعملة للطبيعة في ذلك العمل، ذاهلة عن كمالها إلى هذا الأجل، فلما قربت الآلات من حد كمالها ووصلت إلى ما يصلح لاستعمالها في تصرفاتها وانتقص الاحتياج إلى ما يزيد في أقطارها تفرغت الطبيعة إلى ذخيرة مادة النوع من الشخص لاستغنائها بكمال الشخص عن مادته فتفرغت النفس إلى تحصيل كمالها، فانفتحت بصيرة عقلها وظهرت أنوار فطرتها واستعدادها وتنبهت عن نومها في مهدها، وتيقظت عن سنة غفلتها وتفطنت لقدس جوهرها وطلبت مركزها وغايتها لأمرين: صلاحية الآلات للاستعمال في الاستكمال وفراغها عن تخصيص البدن بالإقبال لقلة الإشغال، لكنها ما دامت سن النمو باقية وزيادة الآلاف في القوة والشدة ممكنة ما توجهت بالكلية إلى الجهة العلوية وما تجردت لتحصيل الكمالات العقلية والمطالب القدسية للاشتغال المذكور وإن قل وذلك إلى منتهى الثلثين من السن كما تبين في علم الطب، فلما جاوزتها وأخذت في سن الوقوف أقبلت إلى عالمها وأشرقت أنوار فطرتها فاشتدت في طلب كمالها لوقوع الفراغ لها إليها، فأخذ كافل الأيتام الحقيقية الذي هو روح القدس أن آنس رشدها في دفع أموالها التي هي الحقائق والمعارف والعلوم والحكم إليها، لبلوغها نكاح الغواني من المفارقات القدسية والنورانيات الجبروتية وذلك وقت سيرها في صفات الله إلى ذات الله حتى الفناء التام بالاستغراق في عين الجمع لإمكان السير في أفعاله من وقت الأشد الصوري إلى أشد هذا الأشد المعنوي الذي نهايته الأربعون تقريبا.
ولهذا قيل: الصوفي بعد الأربعين أبذ، إذ لم يستعد بالتوجه والطلب والسير في الأفعال بالتزكية لقبول تلك الأموال والتصرف فيها فلم يأنس روح القدس منه الرشد فلم يدفع إليه، وإذا تم سيره في الله عند ذلك الأشد بالفناء فيه كان وقت البقاء بعد الفناء وأوان الاستقامة في العمل.
وأشار إليها بقوله: { رب أوزعني } ولهذا لم يبعث نبي قط إلا بعد الأربعين سوى عيسى ويحيى ومع ذلك وقفا في بعض السموات. ولما كانت النعم أوابد يجب تقييدها بالشكر استوزع الشكر على نعمة الكمال الحاصل المسبوق بالنعم الغير المتناهية لمحافظتها لئلا يحتجب برؤية الفناء فيترك الطاعة تبرما لحاله واتكالا على كماله، فإن آفة مقام الفناء رؤية الفناء والمبتلى بها يقع في التلوين ويحرم نعمة التمكين، ولهذا قال عليه السلام:
" أفلا أكون عبدا شكورا "
فطلب محافظة نعمة الهداية والكمال عليه بإيقافه على الطاعات التي هي شكر نعمته التي أنعم بها عليه وعلى والديه اللذين هما السبب القريب لوجوده إذ لو لم يكن فيهما خير وخلق حسن وسر صالح لم يظهر عليه ذلك الكمال لأنه سرهما ولهذا وجب الإحسان والدعاء بالوالدين ولهما { وأن أعمل صالحا } بتكميل المستعدين فإن الواجب على الكامل أولا محافظة كماله ثم تكميل المستكملين، إذ العمل إنما هو من الأمور النسبية فربما كان صالحا بالنسبة إلى أحد سيئا بالنسبة إلى غيره، كما قال:
" حسنات الأبرار سيئات المقربين "
ولهذا قال: { وأصلح لي في ذريتي } أي: أولادي الحقيقية سواء كانوا صلبية أو لا لأن علمه الصالح الذي هو التكميل وتربية المريدين لا ينجع إلا بعد تهيىء استعدادهم والصلاح في أعمالهم وأحوالهم وذلك من فيضه الأقدس، ولو لم يكن هذا الصلاح والقبول التام الذي لا يكون إلا من عند الله لما كان للإصلاح والتكميل والإرشاد أثر كما قال:
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص، الآية:56] وهما، أي: محافظة الكمال بالشكر بالقيام بحق الملهم بالطاعات والتكميل بالإرشاد ملاك العمل في الاستقامة ووظيفة المتحقق بالوجود الحقاني في مقام البقاء { إني تبت إليك } من ذنب رؤية الفناء وهذه التوبة هي التي تاب بها موسى عليه السلام عند الإفاقة كما قال تعالى:
فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك
[الأعراف، الآية:143] { وإني من المسلمين } المنقادين المستسلمين في سلك العباد لمكان الاستقامة.
[46.16-18]
{ أولئك } الموصوفون بتلك التوبة والاستقامة هم { الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } بظهور آثار تربيتهم وحسن هدايتهم في مريديهم لأن التكميل أحسن أعمالهم، ألا ترى أن كل من لم يثبت على طريق المتابعة ولم يتشدد في حفظ السنة من الكمل لم يكن له أتباع ولم يقم منه كامل للخله في الاستقامة واتكاله على حاله من الكرامة وذلك علامة عدم قبول عمله الصالح. وهؤلاء لما قاموا بشكر نعمة الكمال قبل عملهم { ونتجاوز عن سيئاتهم } التي هي بقايا صفاتهم وذواتهم بالمحو الكلي والطمس الحقيقي في مقام التمكين فلا يقعون في ذنب رؤية الفناء ولا تلوين ظهور الأنية والأنائية { في أصحاب الجنة } المطلقة { وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } حيث قال:
ألحقنا بهم ذريتهم ومآ ألتناهم من عملهم من شيء
[الطور، الآية:21].
[46.19-28]
{ ولكل درجات } لما ذكر السابقين وعقبهم بذكر من يقابلهم من المطرودين الذين حق عليهم القول وبين أن الفريق الأول في عداد السعداء والفريق الثاني من جملة الأشقياء. تناول الكلام الأصناف السبعة المذكورة في أول الكتاب للتصريح بذكر الصنفين اللذين هما الأصل في الإيمان والكفر، والتعريض بذكر الخمسة الباقية فقال: { ولكل درجات مما عملوا } أي: ولكل صنف من أصناف الناس درجات من جزاء أعمالهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، وغلب الدرجات على الدركات بل لكل أحد من كل صنف رتبة ومقام وموقع قدم من إحدى الجنان أو طبقات النيران.
{ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } أنكر عليهم إذهاب جميع الحظوظ في لذات الدنيا لأن لكل أحد بحسب استعداده الأول كمالا ونقصا يقابله، وبحسب وقت تكونه في هذا العالم سعادة عاجلة وشقاوة تقابلها فله بحسب كل واحدة من النشأتين طيبات وحظوظ تناسب كلا كماليه، فمن أقبل بوجهه على طيبات الدنيا وحظوظها والاستمتاع بها وأعرض بقلبه عن طيبات الأخرى ولذاتها حرم الثانية أصلا لانغماسه في الأمور الظلمانية واحتجاجه عن المطالب النورانية، كما قال تعالى:
ربنآ آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق
[البقرة، الآية:200]، وذلك معنى قوله: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } لأن حظوظ الأخروية التي تقتضيها هويته ذهب في هذه، فكان ما زاد في النهار نقص من الليل. وأما من أقبل بوجهه إلى الأخرى وتنزه عن هذه بالزهد والتقوى ورغب في المعارف الحقيقية والحقائق الإلهية واللذات العلوية والأنوار القدسية التي هي الطيبات بالحقيقة فقد أوتي منها حظه ولم ينقص من حظوظه العاجلة على قياس الأول بل وفر منها نصيبه كما قال:
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى، الآية:20] وذلك لأن الاستغراق في عالم القدس والتوجه إلى جناب الحق يورث النفس قوة وقدرة تؤثر بها في عالم الحس، فكيف إذا اتصلت بمنبع القوى والقدر. أما ترى أن عالم الملكوت مؤثر في عالم الملك متصرف فيه، قاهر له بإذن الله تعالى؟، وتسخيره والانهماك في عالم الحس يخمد قوة الفطرة ويطفىء نور القلب فلا تبقى له قدرة ولا قوة ولا تأثير في شيء، وكيف وقد تأثرت عما من شأنه التأثر المحض وتسخرت لما من شأنه التسخر الصرف والانفعال المطلق؟، ولهذا قيل: الدنيا كالظل تتبع من أعرض عنها وتفوت من أقبل إليها. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: " من أقبل إليها فاتته ومن أعرض عنها أتته ".
{ فاليوم تجزون عذاب الهون } أي: الذلة والصغار لملازمتكم بالطبع للجهة السفلية وتوجهكم بالعشق إلى المطالب الدنية، فأنتم اخترتم الدناءة والانقهار بالتجبر والاستكبار وذلك معنى قوله: { بما كنتم تستكبرون } أي: في مقام النفس باستيلاء القوة الغضبية التي شأنها الاستكبار { في الأرض بغير الحق } إذ لو تجردوا عن الهيئات الغضبية والشهوية، وترفعوا عن الصفات النفسية ونضوا جلابيب الأنية والأنائية لاستكبروا بالحق في السماء والأرض ولكان تكبرهم كبرياء الله كما قال الصادق عليه السلام لمن قال له: فيك كل فضيلة وكمال إلا أنك متكبر، فقال: " لا والله، بل انخلعت عن كبري فخلع علي كبرياء الله " أو ما هذا معناه، فهذا هو التكبر بالحق { وبما كنتم تفسقون } باستيلاء القوة الشهوانية التي خاصيتها الفسق والفساد.
[46.29]
{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر سماها حكماء الفرس الصور المعلقة، ولكونها أرضية متجسدة في أبدان عنصرية ومشاركتها الإنس في ذلك سميا ثقلين، وكما أمكن الناس التهدي بالقرآن أمكنهم. وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع وأوضح من أن يقبل التأويل، وإن شئت التطبيق فاسمع. وإذ صرفنا إليك نفرا من جن القوى الروحانية من العقل والفكر والمتخيلة والوهم حال القراءة في الصلاة، أي: أملناهم نحوك واتبعناهم سرك بالإقبال بهم إليك وصرفهم عن جانب النفس والطبيعة بتطويقهم إياك وتسخيرهم لك حتى يجتمع همك ولا يتوزع قلبك ولا يتشوش بالك بحركاتهم في وقت حضورك عند طلوع فجر نور القدس { يستمعون القرآن } الوارد إليك من العالم القدسي { فلما حضروه } أي: حضروا العقل القرآني الجامع للكمالات عند ظهور النور الفرقاني عليك { قالوا أنصتوا } أي: سكنوا وسكت بعضهم بعضا عن كلامهم الخاص بهم مثل الأحاديث النفسانية والتصورات والهواجس والوساوس والخواطر والحركات الفكرية والانتقالات التخيلية. والقول ههنا حالي كما ذكر غير مرة إذ لو لم يسكنوا وينصتوا مستمعين لما يفيض عليهم من الواردات القدسية لم يبق من الوارد أثر، بل لم يكن بتلقي الغيب ولا ورود المعنى القدسي ولا تلاوة الكلام الإلهي كما ينبغي، ولهذا قال:
إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا
[المزمل، الآية:6] ولأمر ما كان مبدأ الوحي منامات صادقة وذلك كون هذه القوى ساكنة متعطلة عند النوم حتى قوي على عزلها عن أشغالها وتعطيلها في اليقظة { فلما قضي } أي: الوارد المعنوي والنازل القدسي الكشفي { ولو إلى قومهم } القوى النفسانية والطبيعية ينذرونهم عقاب الطغيان والعدوان على القلب بالتأثير فيهم بالملكات الفاضلة وإفاضات الهيئات النورية المستفادة من المعنى القدسي النازل ويمنعونهم الاستيلاء على القلب بالتسخير والارتياض.
[46.30-35]
{ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } أي: ما تأثرنا بمثل هذا التأثر النوري في الوجود المحمدي إلا في زمن موسى ومن بعده إلى هذا الزمان ما تلقينا هذا المعنى لان عيسى عليه السلام ما تم معراجه وما بلغ حاله حال النبيين المذكورين، موسى ومحمد، في الانخراط في سلك القدس في حياته ومشايعة جميع قواه لسره وما كمل فناؤه ليتحقق جميع قواه بالوجود الحقاني ولذلك بقي في السماء الرابعة واحتجب فيها بخلافهما وسيتبع الملة المحمدية بعد النزول ليتم حاله { مصدقا لما بين يديه } لكونه مطابقا له في الهداية إلى التوحيد والاستقامة كما أشير إليه بقوله: { يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم }.
{ يا قومنا أجيبوا داعي الله } بمطاوعة القلب في التوجه إلى الله والتأدب بآدابه والاستسلام لأحكامه والانقياد لأوامره ونواهيه في طاعته { وآمنوا به } بالتنور بنوره والانخراط في سلك عبادته { يغفر لكم من ذنوبكم } الهيئات الرذائل والميل إلى الجهات السفلية بمتابعة الهوى وحجب الصفات النفسانية دون التعلقات البدنية والشواغل الطبيعية لامتناع تجريدها عن المادة، ولهذا المعنى أورد من التبعيضية { ويجركم من عذاب أليم } بسبب النزوع والانجذاب إلى اللذات والشهوات مع الحرمان لفقدان الآلات وما قال بعض المفسرين: إن الجن لا ثواب لهم وإنما إسلامهم يدفع عقابهم، في تفسير الآية إن ثبت إشارة إلى أن هذه القوى البدنية لا حظ لها من المعاني الكلية العقلية والهيئات النورية واللذات القدسية لكن انقيادها ومطاوعتها للسر يدفع آلامها الحسية والنزوعية والله أعلم.
[47 - سورة محمد]
[47.1-14]
تطبيق { الذين كفروا } على القوى النفسانية المانعة عن السلوك في سبيل الله و { الذين آمنوا } على الروحانية المعاونة إلى آخر الكلام ظاهر مما سبق فلا نكرر.
[47.15-18]
{ مثل الجنة } أي: صفة الجنة المطلقة المتناولة للجنان كلها { التي وعد المتقون } من الأصناف الخمسة المذكورة غير مرة { فيها أنهار من ماء غير آسن } أي: أصناف من العلوم والمعارف الحقيقية التي تحيا بها القلوب وتروى بها الغرائز كما تحيا بالماء الأرض وتروي الأحياء. { غير آسن } غير متغير بشوائب الوهميات والتشكيكات واختلاف الاعتقادات الفاسدة والعادات وهي للمتقين المجتبين من الصفات النفسانية الواصلين إلى مقام القلب { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } أي: من علوم نافعة متعلقة بالأفعال والأخلاق مخصوصة بالناقصين المستعدين الصالحين للرياضة والسلوك في منازل النفس قبل الوصول إلى مقام القلب الاتقاء عن المعاصي والرذائل كعلوم الشرائع والحكمة العملية التي هي بمثابة اللبن المخصوص بالأطفال الناقصين، { لم يتغير طعمه } بشوب الأهواء والبدع واختلافات أهل المذاهب وتعصبات أهل الملل والنحل { وأنهار من خمر } أي: أصناف من محبة الصفات والذات { لذة } أي: لذيذة { للشاربين } الكاملين البالغين إلى مقام مشاهدة حسن تجليات الصفات وشهود جمال الذات، العاشقين المشتاقين إلى الجمال المطلق في مقام الروح والاستغراق في عين الجمع من المتقين عن صفاتهم وذواتهم { وأنهار من عسل } أي: حلاوات الواردات القدسية والبوارق النورية واللذات الوجدانية في الأحوال والمقامات للسالكين الواجدين للأذواق والمريدين المتوجهين إلى الكمال قبل الوصول إلى مقام المحبة من الذين اتقوا الفضول، فإن الآكلين للعسل أكثر من الشاربين للخمر، وليس كل من ذاق حلاوة العسل ذاق لذة الخمر دون العكس { ولهم فيها من كل الثمرات } أي: أنواع اللذات من تجليات الأفعال والصفات والذات بأسرها كما قال الشاعر:
وكل لذيذة قد نلت منه
سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
لأن شهود المعذب وتجلي صفات القهر له لذة خاصة بمن ذاقها يعرفها من يعرفها وينكرها من ينكرها { ومغفرة من ربهم } بستر هيئات المعاصي وتكفير سيئات الرذائل لأصحاب الألبان ثم بستر الأفعال أيضا لأصحاب المياه، ثم بمحو الصفات لأصحاب العسل وبعض أصحاب الخمر، ثم بطمس ذنوب الأحوال والمقامات وإفناء البقيات وإخفاء ظهورها بالأنوار والتجليات لأهل الفواكه والثمرات ثم بإفناء الذات بالاستغراق في جمع الأحدية والاستهلاك في عين الهوية لشراب الخمور الصرفة وكلهم أصناف المتقين { كمن هو خالد } كمن هو في مقابلتهم في دركات جحيم الطبيعة وشرب حميم الهوى.
[47.19-26]
{ فاعلم أنه لا إله إلا الله } أي: حصل علم اليقين في التوحيد ثم اسلك طريقه إذ الاستغفار الذي هو صورة السلوك مسبوق بالإيمان العلمي دون الظني لأن من لم يرزق ثبات الإيمان لم يمكنه السلوك، والثبات لا يكون إلا باليقين إذ الاعتقاد التقليدي يمكن تغيره وكل حجاب ذنب سواء كان بالهيئات البدنية أو الصفات النفسانية أو القلبية أو الأنية كما قيل:
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
فالأمر بالعلم ها هنا هو الحث على شهود الوحدة وبالاستغفار لذنبه هو التحريض على التنصل عن ذات ظهور البقية والأنائية { وللمؤمنين } بتكميلهم وإرشادهم ودعوتهم إلى الحق وهدايتهم إلى سلوك طريق التوحيد، وهذا وأمثاله مما يدل على أن أكثر سلوكه في الله إنما كان بعد البعثة والنبوة { والله يعلم متقلبكم } انتقالاتكم في السلوك من رتبة إلى رتبة ومن حال إلى حال { ومثواكم } ومقامكم الذي أنتم فيه فيفيض عليكم الأنوار وينزل الأمداد على حسبها.
[47.27-30]
{ فكيف إذا توفتهم الملائكة } توفي الملائكة مخصوص بالقاطنين في مقام النفس المنخرطين في سلك الملكوت الأرضية أي: ما حيلتهم أو كيف يعملون إذ توفتهم الملائكة الأرضية بقبض أرواحهم على الصفة المؤلمة المؤذية من جهتهم بالحجب عن الأنوار القدسية من وجوههم والمنع عما يميلون إليه من اللذات الحسية من أدبارهم إذ وجه النفس هو الجهة التي تلي القلب والضرب فيه هو الإيلام من جهته بالحجب عن أنواره وما فيه قرة العين من تجليات الصفات والدبر هو الجهة التي تلي البدن والضرب فيه هو التعذيب من جهته بالحجز عن الجهة السفلية واللذات الحسية التي انجذبت إليها بالميل الطبيعي والهوى والحجب عنها بأخذ الآلات الموصلة إليها منهم { ذلك } أي: ذلك الضرب والإيلام من الجهتين { ب } سبب { أنهم اتبعوا ما أسخط الله } من الانهماك في المعاصي والشهوات البدنية المبعدة عن جنابه، فاستحقوا الضرب في الأدبار { وكرهوا رضوانه } الذي هو الانسلاخ عن صفاتهم للاتصاف بصفاته والتوجه إلى جنابه الموجب لمقام الرضا والقرب، فاستحقوا الضرب في الوجوه.
{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض } لما كانت سراية هيئات النفس إلى البدن أسرع من تعدي هيئات البدن إلى النفس لكونها من الملكوت التي من شأنها التأثير وكون البدن من عالم الملك الذي من شأنه الانفعال لم يمكن إخفاء الأحوال النفسانية كما ترى من ظهور هيئات الغضب والمساءة والمسرة على وجوه أصحابها لكن الجهل الذي هو من أصعب أمراض القلوب يغر صاحبه ويعميه فيحسب أن ما في قلبه من الغل والحقد والحسد يخفيه والله يظهرها على صفحات وجهه وفي فلتات لسانه كما قال النبي عليه السلام:
" ما أضمر أحد شيئا إلا وأظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه "
وذلك معنى قوله: { فلعرفتهم بسيماهم } { ولتعرفنهم في لحن القول } ولهذا قيل: لو بات أحد على معصية أو طاعة في مطمورة وراء سبعين بابا مغلقة لأصبح الناس يتقاولون بها لظهورها في سيماه وحركاته وسكناته وشهادة ملكاته بها.
[47.31-38]
{ ولنبلونكم حتى نعلم } علم الله تعالى قسمان: سابق على معلوماته إجمالا في لوح القضاء، وتفصيلا في لوح القدر، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية والنفوس السماوية الجزئية، فمعنى { حتى نعلم } حتى يظهر علمنا التفصيلي في المظاهر الملكوتية والإنسية التي يثبت بها الجزاء، والله أعلم.
[48 - سورة الفتح]
[48.1-3]
{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا } فتوح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: أولها: الفتح القريب المشار إليه بقوله:
فجعل من دون ذلك فتحا قريبا
[الفتح، الآية:27] وهو فتح باب القلب بالترقي عن مقام النفس وذلك بالمكاشفات الغيبية والأنوار اليقينية، وقد شاركه في ذلك أكثر المؤمنين كما أشار إليه بقوله:
وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب
[الصف، الآية:13]، وقوله:
فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا
[الفتح، الآية:18] ويلزمه البشارة بالأنوار الملكوتية والتجليات الصفاتية كما قال:
وبشر المؤمنين
[الأحزاب، الآية:47]. وحصول المعارف اليقينية وكشوف الحقائق القدسية المشار إليها بقوله:
ومغانم كثيرة يأخذونها
[الفتح، الآية:19]. وثانيها: الفتح المبين بظهور أنوار الروح وترقي القلب إلى مقامه وحينئذ تترقى النفس إلى مقام القلب فتستتر صفاتها اللازمة إياها السابقة على فتح القلب من الهيئات المظلمة بالأنوار القلبية وتنتفي بالكلية، وذلك معنى قوله: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } وكذا الحادثة المتأخرة عنه من الهيئات النورانية المكتسبة بالتنور بالأنوار القلبية التي تظهر بها في التلونات وتخفي حالها وهي الذنوب المشار إليها بقوله: { وما تأخر } ولا تنتفي هذه بالفتح القريب وإن انتفت الأولى به لأن مقام القلب لا يتم ولا يكمل إلا بعد الترقي إلى مقام الروح واستيلاء أنواره على القلب فيظهر تلوين القلب حينئذ وينتفي تلوين النفس الذي كان في مقام القلب بالكلية وتنقطع مادته ويحصل في هذا الفتح مغانم المشاهدات الروحية والمسامرات السرية. وثالثها: الفتح المطلق المشار إليه بقوله:
إذا جآء نصر الله والفتح
[النصر، الآية:1] وهو فتح باب الوحدة بالفناء المطلق والاستغراق في عين الجمع بالشهود الذاتي وظهور النور الأحدي، فهذا الفتح المذكور ها هنا هو المتوسط يترتب عليه أمور أربعة: المغفرة المذكورة وإتمام النعمة الصفاتية والمشاهدات الجمالية والجلالية بكمال مقام القلب كما ذكر، والهداية إلى طريق الوحدة الذاتية بالسلوك في الصفات وانخراق حجبها النورية وانكشاف غيومها الرقيقة حتى الوصول إلى فناء الأنية والنصرة العزيزة بالوجود الموهوب وتأييد الحقاني الموروث بعد الفناء.
[48.4-5]
{ هو الذي انزل السكينة } السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن وهو من مبادىء عين اليقين بعد علم اليقين كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور { ليزدادوا إيمانا } وجدانيا ذوقيا عينيا { مع إيمانهم } العلمي { ولله جنود السماوات } من الأنوار القدسية والأمداد الروحانية { والأرض } من الصفات النفسانية والملكوت الأرضية كالقوى البشرية وغيرها، يغلب بعضها على بعض بمقتضى مشيئته كما غلب الملكوت السماوية الروحية على الأرضية النفسية في قلوبهم بإنزال السكينة، وغلب الأرضية على السماوية في قلوب أعدائهم فوقعوا في الشك والريبة { وكان الله عليما } بسرائرهم ومقتضيات استعداداتهم وصفات فطرة الفريق الأول وكدورة نفوس الفريق الثاني { حكيما } بما يفعل من التغليب على مقتضى الحكمة والصواب { ليدخل المؤمنين والمؤمنات } بإنزال السكينة { جنات } الصفات الجارية من تحتها أنهار علوم التوكل والرضا والمعرفة وأمثالها من علوم الأحوال والمقامات والحقائق والمعارف { ويكفر عنهم سيئاتهم } من صفات النفوس { وكان ذلك عند الله فوزا } بنيل درجات المقربين { عظيما } بالنسبة إلى جنات الأفعال.
[48.6-17]
{ ويعذب المنافقين والمنافقات } المبطلين لاستعداداتهم، المكدرين لصفائها بأفعالهم وملكاتهم { والمشركين والمشركات } المردودين المطرودين عن جناب الحق من الأشقياء الذين لا يمكنهم موافقة المؤمنين ظاهرا لما بينهم من التضاد الحقيقي والتباغض الذاتي الأصلي بحسب الفطرة { الظانين بالله ظن السوء } لمكان الشك والارتياب وظلمة نفوسهم بالاحتجاب { عليهم دائرة السوء } بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع كالقتل والإماتة والإذلال { وغضب الله عليهم } بالقهر والحجب { ولعنهم } بالطرد والإبعاد في الآخرة { وأعد لهم } أنواع العذاب { ولله جنود السماوات } كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين بعكس ما فعل بالمؤمنين، وبدل عليما بقوله: عزيز، ليفيد معنى القهر والقمع لأن العلم من باب اللطف والعزة من باب القهر.
{ إن الذين يبايعونك } هذه المبايعة هي نتيجة العهد السابق المأخوذ ميثاقه على العباد في بدء الفطرة وإنما كانت مبايعته مبايعة الله لأن النبي قد يفنى عن وجوده ويحقق الله في ذاته وصفاته وأفعاله فكل ما صدر عنه ونسب إليه فقد صدر عن الله ونسب إليه، فمبايعته مبايعة الله تعالى، وإنما قلنا إنها نتيجة ميثاق الفطرة إذ لو لم تكن جنسية ومناسبة أصلية بينهم وبينه لما وجدت هذه البيعة لانتفاء الإلفة والمحبة المقتضية لها بانتفاء الجنسية، فهي دليل سلامة فطرتهم وبقائها على صفائها الأصلي { يد الله } الظاهرة في مظهر رسوله الذي هو اسمه الأعظم { فوق أيديهم } أي: قدرته البارزة في يد الرسول فوق قدرتهم البارزة في صورة أيديهم فيضرهم عند النكث وينفعهم عند الوفاء { فمن نكث } العهد بتكدير صفاء فطرته والاحتجاب بهيئات نشأته وتغليب ظلمة صفات نفسه على نور قلبه الموجب لمخالفة العهد { فإنما ينكث على نفسه } أي: يعود ضرر نكثه عليه دون غيره لسقوطه عن الفطرة الأصلية واحتجابه في الظلمات البدنية وحرمانه على اللذات الروحانية وتعذبه بالآلام النفسانية، وهذا هو النفاق الحقيقي { ومن أوفى } بالمحافظة على نور فطرته { فسيؤتيه أجرا عظيما } بأنوار تجليات الصفات ولذات المشاهدات ولهذا سميت هذه البيعة بيعة الرضوان، إذ الرضا هو فناء الإرادة في إرادته تعالى وهو كمال فناء الصفات.
[48.18-29]
ولتحقيق هذا الثواب لاطلاع الله تعالى على صفاء فطرتهم قال: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم } من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد وحفظ النور المذكور { فأنزل السكينة عليهم } بتلألؤ نور التجلي الصفاتي الذي هو نور كمالي على نور ذاتي فحصل لهم اليقين { وأثابهم } الفتح المذكور، فحصلوا على مقام الرضا ورضوا عنه بما أعطاهم من الثواب، ولو لم يسبق رضا الله عنهم لما رضوا { ومغانم كثيرة } من علوم الصفات والأسماء { يأخذونها وكان الله عزيزا } حيث كانت قدرته فوق قدرتهم { حكيما } حيث خبأ في صورة هذا القهر الجلي معنى هذا اللطف الخفي، إذ ظاهر قوله: { يد الله فوق أيديهم } قهر ووعيد حصل منه معنى قوله: { لقد رضي الله عن المؤمنين } الذي هو لطف محض.
{ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } من علوم توحيد الذات { فعجل لكم هذه وكف أيدي } ناس صفاتكم عنكم { ولتكون آية } دالة، شاهدة { للمؤمنين } على توحيد الذات { ويهديكم } سلوك صراطه بعد العلم به { وأخرى } من علومه تعالى التي هي عين ذاته بعد فنائكم فيه وتحققكم به حال البقاء بعد الفناء { لم تقدروا عليها } إذ لا تكون إلا له { قد أحاط الله بها } دون من سواه { وكان الله على كل شيء } من معلوماته { قديرا } والله أعلم.
[49 - سورة الحجرات]
[49.1-5]
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } طلب الجمع بين أدبي الظاهر والباطن من أهل الحضور ونهى عن التقدمة المطلقة في الحضرة الإلهية والحضرة النبوية المتناولة للتقدم في الأقوال والأفعال وحديث النفس والظهور بالصفات والذات، ولحضرة كل اسم من أسماء الله تعالى أدب يجب مراعاته على من تجلى الله له به ولكل مقام وحال أدب يجب على صاحبه محافظته. فالتقدمة بين يدي الله في مقام الفناء هي الظهور بالأنائية في حضرة الذات، وفي مقام المحو الظهور بصفة تقابل الصفة التي تشاهد تجليها في حضرة الأسماء كالظهور بإرادته في مقام الرضا، ومشاهدة الإرادة في حضرة تجلي اسم المريد، والظهور بعلمه بالاعتراض في مقام التسليم بحضرة العليم وبالتجلد في مقام العجز، ومشاهدة القادر وتحديث النفس في مقام المراقبة وشهود المتكلم، وبالفعل في مقام التوكل والانسلاخ عن الأفعال في حضرة الفعال، وهذه كلها إخلال بأدب الباطن مع الله تعالى. وأما الإخلال بأدب الظاهر معه، ف: كترك العزائم إلى الرخص والإقدام على الفضول المباحة من الأقوال والأفعال وأمثالها. وأما التقدمة بين يدي الرسول بإخلال أدب الظاهر فهو: كالتقدم عليه في الكلام، والمشي، ورفع الصوت، والنداء من وراء الحجرات، والجلوس معه واللبث عنده للاستئناس بالحديث، والدخول عليه والانصراف عنه بغير الاستئذان وأمثاله. وأما إخلال أدب الباطن معه ف: كالطمع في أن يطيعه الرسول في أمر، وظن السوء في حقه وأمثال ذلك. وأما المخالفات التي تتعلق بالأوامر والنواهي والإقدام على الشيء قبل معرفة حكم الله تعالى وحكم الرسول فيه فهي من سوء أدب أهل الغيبة لا الحضور الذي نحن فيه.
{ واتقوا الله } في هذه التقدمات كلها فإن من اتقى الله حق تقاته لا يصدر عنه أمثال هذه التقدمات في المواقع المذكورة { إن الله سميع } للتقدمات القولية في باب أدب الظاهر، ولأحاديث النفس في باب أدب الباطن { عليم } بالفعليات والوصفيات وبظهور البقيات.
[49.6-8]
{ واعلموا أن فيكم رسول الله } الآية، لما كان تمني المؤمنين طاعة الرسول إياه معربا عن ظهور نفسه بصفاته، محتجبا عن فضل الرسول وكماله، وذلك لا يكون إلا لضعف الإيمان وكدورة القلب بهوى النفس، واستيلاء النفس على القلب بالميل إلى الشهوات واللذات لغلبة الهوى عليها، أورد لفظة { ولكن } بين قوله: { لو يطيعكم } وبين قوله: { الله حبب إليكم الإيمان } لصفاء الروح وبقاء الفطرة على النور الأصلي { وزينه في قلوبكم } بإشراق أنوار الروح على القلب وتنويرها إياه واستعدادها للإلهامات الملكية المفيدة للاستسلام والانقياد لأحكامه { وكره إليكم الكفر } أي: الاحتجاب عن الدين { والفسوق } أي: الميل إلى اتباع الشهوات بالهوى ومتابعة الشيطان بالعصيان لتنور النفس بنور القلب وانقيادها له واستفادتها ملكة العصمة بالاستسلام لأمره، والعصمة هيئة نورية في النفس يمتنع معها الإقدام على المعاصي كل ذلك لقوة الروح واستيلائه على القلب والنفس بنوره الفطري كما أن أضداد ذلك في الذين تمنوا طاعة الرسول إياهم لقوة النفس واستيلائها على القلب وحجبها إياه عن نور الروح { أولئك } الموصوفون بمحبة الإيمان وتزيينه في قلوبهم وكراهتهم المعاصي { هم الراشدون } الثابتون على الصراط المستقيم دون من يخالفهم { فضلا من الله } بعنايته بهم في الأزل المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد { ونعمة } بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية { والله عليم } بأحوال استعداداتهم، { حكيم } يفيض عليها ما يليق بها ويناسبها بحكمته.
[49.9-12]
{ وإن طائفتان من المؤمنين } إلى آخره، الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا والركون إلى الهوى و الانجذاب إلى الجهة السفلية والتوجه إلى المطالب الجزئية، والإصلاح إنما يكون من لوازم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة التي هي ظل الوحدة، فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما حتى ترجع لكون الباغية مضادة للحق دافعة له كما خرج عمار رضي الله عنه مع كبره وشيخوخته في قتال أصحاب معاوية ليعلم بذلك أنهم الفئة الباغية. وقيد الإصلاح في القسم الثاني وهو أن الباغية إحداهما بالعدل لأن بغي الطرفين يوغر الصدور ويهيج النفوس على الظلم فنهاهم عن ذلك إذ الإصلاح إنما يكون فضيلة معتبرة إذ لم يكن بالنفس بل بالقلب على مقتضى العدالة المحضة لإزالة الجور لا لغرض آخر كالحماية والحمية ورعاية المصلحة الدنيوية وغير ذلك، ولذلك قال: { إن الله يحب المقسطين } أي: المحبة الإلهية إنما تترتب على العدالة، فالإصلاح إذا لم يكن عن عدالة لم يكن عن محبة، وإذا لم يكن عن محبة فلا يحبهم الله لوجوب اقتضاء محبة الله إياهم محبتهم له، واقتضاء محبتهم له العدالة ومحبة المؤمنين فلو أحبهم لأحبوه كما قال:
يحبهم ويحبونه
[المائدة، الآية:54] ولو أحبوه لأحبوا المؤمنين ولزموا العدالة. ثم بين أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين للمناسبة الأصلية والقرابة الفطرية التي تزيد على القرابة الصورية والنسبة الولادية بما لا يقاس لاقتضائه المحبة القلبية اللازمة للاتصال الروحاني في عين جمع الوحدة لا المحبة النفسانية المسببة عن التناسب في اللحمة فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة وإحدى خصالها إذ لو لم يعدوا عن الفطرة ولم يتكدروا بغواشي النشأة لم يتقاتلوا ولم يتخالفوا فوجب على أهل الصفاء بمقتضى الرحمة والرأفة والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى الصفاء.
{ واتقوا الله } في تكدر الفطرة والبعد عن النور الأصلي بمقتضيات النشأة والرضا بالمفسدة وترك الإصلاح لضعف المحبة الدال على الاحتجاب عن الوحدة { لعلكم ترحمون } بأفاضة نور الكمال المناسب لصفاء الاستعداد والمناهي المذكورة بعدها إلى قوله: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } كلها من باب الظلم المقابل للعدالة اللازمة للإيمان التوحيدي.
[49.13-14]
قوله: { إن أكرمكم عند الله تقاكم } معناه: لا كرامة بالنسب لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب لا للتفاخر فإنه من الرذائل، و الكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى. ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة كان صاحبها أكرم عند الله وأجل قدرا. فالمتقي عن المناهي الشرعية التي هي الذنوب في عرف ظاهر الشرع أكرم من الفاجر وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها وعن نسبة التأثير والفعل إلى الغير بالتوكل، ومشاهدة أفعال الحق أكرم من الفاضل المتدرب بالفضائل الخلقية المعتد بتأثير الغير، المحجوب برؤية أفعال الحق عن تجليات أفعال الحق وعن الحجب الصفاتية بالانسلاخ عنها في مقام الرضا ومحو الصفات أكرم من المتوكل في مقام توحيد الأفعال المحجوب بالصفات عن تجليات صفات الحق وعن وجوده المخصوص أي: أنيته التي هي أصل الذنوب بالفناء أكرم الجميع { إن الله عليم } بمراتب تقواكم { خبير } بتفاضلكم.
[49.15-18]
{ إنما المؤمنون } إلى آخره، لما فرق بين الإيمان والإسلام وبين أن الإيمان باطني قلبي والإسلام ظاهري بدني. أشار إلى الإيمان المعتبر الحقيقي وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه لا الذي يكون على سبيل الخطرات، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم ونورتها بأنوارها فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثر بها الجوارح فلم يمكنها إلا الجري بحكمها والتسخر لهيئتها وذلك معنى قوله: { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } بعد نفي الارتياب عنهم لان بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ وأثره في الظاهر { أولئك هم الصادقون } في الإيمان لظهور أثر الصدق على جوارحهم وتصديق أفعالهم وأقوالهم بخلاف المدعين المذكورين.
[50 - سورة ق]
[50.1-14]
{ ق } إشارة إلى القلب المحمدي الذي هو العرش الإلهي المحيط بالكل كما ان (ص) إشارة إلى صورته على ما رمز إليه ابن عباس في قوله: (ص) جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل ولا نهار، ولكونه عرش الرحمن، قال:
" قلب المؤمن عرش الله "
، وقال:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن ".
قيل: { ق } جبل محيط بالعالم وراءه العنقاء لإحاطته بالكل وكونه حجاب الرب لا يعرفه من لم يصل إلى مقام القلب وإنما يطلع عليه من طلع هذا الجبل. أقسم به وبالقرآن المجيد أي: العقل القرآن الكامل فيه الذي هو الاستعداد الأولي الجامع لتفاصيل الوجود كله، فإذا برز وصار إلى الفعل كان عقلا فرقانيا ولا يخفى مجده وشرفه بهذا المعنى، أو القرآن المجيد النازل عليه الذي هو بعينه الفرقان البارز الذي أشرنا إليه جمعهما في القسم لتناسبهما وجواب القسم محذوف كما في { ص } وغيرها من السور، وهو: إنه لحق أو إنه لمعجز مدلول عليه بقوله: { بل عجبوا } الخ.
[50.15-16]
وبقوله: { أفعيينا بالخلق الأول } أي: إما اهتدينا إلى إبداع الحقائق وإيجاد الأشياء الأولية كالأرواح والسموات وأمثالها، بل اعترفوا بذلك إنما هم في شبهة والتباس من خلق حادث يتجدد كل وقت، لبس عليهم الشيطان حتى قالوا:
وما يهلكنآ إلا الدهر
[الجاثية، الآية:24] ونسبوا التأثير إلى الزمان واحتجبوا عن معنى قوله:
كل يوم هو في شأن
[الرحمن، الآية:29]، ولو عرفوا الله حق معرفته وكان اعترافهم بإيجاده للخلق الأول عن علم ويقين لشاهدوا الخلق الجديد في كل آن فلم ينكروا البعث وكانوا عبادا مخلصين ليس للشيطان عليهم سلطان.
{ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه، لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والإثنينية الرافعة للاتحاد الحقيقي ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود من حيث هو وجود ولولاه لكان عدما صرفا ولا شيئا محضا. فحبل غاية القرب الصوري أي: الاتصال بالجزئية الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام مع كونه سبب حياة الشخص، هذا أتم منه لبقائه. ثم بين أقربيته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " هو مع كل شيء " ، لا بمقارنة إذ الشيء به ذلك الشيء وبدونه ليس شيئا حتى يقارنه.
[50.17-19]
{ إذ يتلقى المتلقيان } أي: يعلم حديث نفسه الذي يوسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين مع كونه أقرب إليه منهما، وإنما تلقيهما للحجة عليه وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية للجزاء، والمتلقي القاعد عن اليمين هو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة، وإنما قعد عن يمينه لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة وهي جهة النفس التي تلي الحق، والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرة البهيمية والسبعية والآراء الشيطانية الوهمية والأقوال الخبيثة الفاسدة. وإنما قعد عن الشمال لأن الشمال وهي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة وهي التي تلي البدن، ولأن الفطرة الإنسانية خيرة بالذات لكونها من عالم الأنوار مقتضية بذاتها وغريزتها الخيرات والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال وإن صدرت منه سيئة منع صاحب الشمال عن كتابتها في الحال انتظارا للتسبيح أي: التنزيه عن الغواشي البدنية والهيئات الطبيعية بالرجوع إلى مقره الأصل وسنخه الحقيقي وحاله الغريزي لينمحي أثر ذلك الأمر العارضي بالنور الأصلي والاستغفار، أي: التنور بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية لنمحي أثر تلك الظلمة العرضية بالنور الوارد كما قال عليه الصلاة والسلام:
" كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر "
{ وجاءت سكرة الموت } أي: شدته المحيرة الشاغلة للحواس المذهلة للعقل { بالحق } بحقيقة الأمر الذي غفل عنه من أحوال الآخرة والثواب والعقاب، أي: أحضرت السكرة التي منعت المحتضر عن الإدراكات الخارجية أحواله الباطنة وأظهرت عليه { ذلك ما كنت } أيها المحتضر { منه تحيد } أي: تميل إلى الأمور الظاهر وتذهل عنها.
[50.20-26]
{ ونفخ في الصور } للأحياء، أي: أحيى كل منهم في صورة تناسبه في الآخرة { ذلك } النفخ وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدم من الأعمال وما أخر.
{ وجاءت كل نفس معها سائق } من علمه { وشهيد } من عمله لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره وما اختاره بعلمه، والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء وحكمه بملائمته له سواء كان أمرا سفليا جسمانيا بعثه عليه هواه وأغراه عليه وهمه وقواه، أو أمرا علويا روحانيا بعثه عليه عقله ومحبته الروحانية وحرضه عليه قلبه وفطرته الأصلية. فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه، وشاهده بالميل الغالب عليه والحب الراسخ فيه والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه وينطق عليه كتابه بالحق وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله.
{ لقد كنت في غفلة من هذا } لاحتجابك بالحس والمحسوسات وذهولك عنه لاشتغالك بالظاهر عن الباطن { فكشفنا عنك } بالموت { غطاءك } المادي الجسماني الذي احتجبت به { فبصرك اليوم حديد } أي: إدراكك لما ذهلت عنه ولم تصدق بوجوده يقينا قوي تعاينه { وقال قرينه } من شيطان الوهم الذي غره بالظواهر وحجبه عن البواطن { هذا ما لدي } مهيأ لجهنم، أي: ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية وإنه ملكه واستعبده في طلب اللذات البدنية حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة.
{ ألقيا في جهنم } الخطاب للسائق والشهيد اللذين يوبقانه ويلقيانه ويهلكانه في أسفل غياهب مهواة الهيولى الجسمانية وغيابة جب الطبيعة الظلمانية في نيران الحرمان أو لمالك. والمراد بتثنية الفاعل تكرار الفعل كأنما قال: ألق، لاستيلائه عليهم في الإبعاد والإلقاء إلى الجهة السفلية، ويقوي الأول أنه عدد الرذائل الموبقة التي أوجبت استحقاقهم لعذاب جهنم ووقوعهم في نيران الجحيم وبين أنها من باب العلم والعمل والكفران ومنع الخير كلاهما من إفراط القوة البهيمية الشهوانية لانهماكها في لذاتها واستعمالها نعم الله تعالى في غير مواضعها من المعاصي والاحتجاب عن المنعم بها ومن حقها أن تذكره وتبعث على شكره وشدة حرصها ومكالبتها عليها لفرط ولوعها بها فتمنعها عن مستحقيها. وذكرهما على بناء المبالغة ليدل على رسوخ الرذيلتين فيه وغلبتهما عليه وتعمقه فيهما الموجب للسقوط عن رتبة الفطرة في قعر بئر الطبيعة، والعتود والاعتداء كلاهما من إفراط القوة الغضبية واستيلائها لفرط الشيطنة والخروج عن حد العدالة، والأربعة من باب فساد العمل والريب والشرك كلاهما من نقصان القوة النطقية وسقوطها عن الفطرة بتفريطها في جنب الله وقصورها عن حدة القوة العاقلة وذلك من باب فساد العلم.
[50.27-30]
{ قال قرينه ربنا ما أطغيته } هذه المقاولات كلها معنوية مثلت على سبيل التخييل والتصوير لاستحكام المعنى في القلب عند ارتسام مثاله في الخيال، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه الوهمية والعقلية، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه كالغضبية والشهوية مثلا، ولهذا قال: { لا تختصموا }. ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية كان أصل التخاصم بينهما وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر لتوقع نفع أو لذة يتوافقان ما دام مطلوبهما حاصلا، فإذا حرما أو وقعا بسعيهما في خسران وعذاب، تدارءا أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى الآخر لاحتجابهما عن التوحيد وتبرىء كل منهما عن ذنبه لمحبة نفسه، ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: " ورأيت أهل لنار يتعاورون ". وصوب عليه السلام قوله وقول الشيطان: { ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد } ، كقوله:
إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم
[ق، الآية:22] لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية لم يقبل وسوسة الشيطان وقبل إلهام الملك، فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب عن نور الفطرة وكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة، والنهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاؤهما بل عدم فائدته والاستماع إليه كأنه قال: لا اختصام مسموع عندي.
وقد ثبت وصح تقديم الوعيد حيث أمكن انتفاعكم به لسلامة الآلات وبقاء الاستعداد، فلم تنتفعوا به ولم ترفعوا لذلك رأسا حتى ترسخت الهيئات المظلمةفي نفوسكم ورانت على قلوبكم وتحقق الحجاب وحق القول بالعذاب، ف { ما يبدل القول لدي } حينئذ لوجوب العذاب حال وقوعه { وما أنا بظلام } حيث وهبت الاستعداد وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكستابه، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة واستبدال ما يفنى بما يبقى.
{ يوم نقول لجهنم هل امتلأت } أي: يوم يتكثر أهل النار حتى تستبعد الزيادة عليهم ولا تنتقص سعتها بهم ولا يسكن كلبها. وفي الحديث:
" لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟! حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط بعزتك وكرمك "
، أي: لا يزال الخلق يميلون إلى الطبيعة بالشهوة والحرص والطبيعة باقية على حالها، جاذبة لما يناسبها، قابلة لصورها الملاءمة لها، ملقية لما قبلت إلى أسفل الدركات إلى ما لا يتناهى حتى يصل إليها أثر نور الكمال الوارد على القلب فتنور به وتنتهي عن فعلها. وعبر عن تشعشع النور الإلهي من القلب على النفس بقدم رب العزة القوي على قهرها ومنعها عن فعلها وإجبارها على موافقة القلب، فتقول: قطني، قطني.
[50.31-36]
{ وأزلفت الجنة } أي: جنة الصفات للذين اتقوا صفات النفس بدليل قوله: { من خشي الرحمن بالغيب } لأن الخشية تختص بتجلي العظمة ولقوله: { غير بعيد } أي: مكانا غير بعيد لكون جنة الصفات أقرب من جنة الذات في الرتبة دون الظهور، إذ الذات أقرب في الظهور لأن في عالم الأنوار كل ما كان أبعد في العلو والمرتبة من الشيء كان أقرب إليه في الظهور لشدة نوريته ولقوله: { هذا ما توعدون لكل أواب } أي: رجاع إلى الله بفناء الصفات { حفيظ } أي: محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي كي لا يتكدر بظلمة النفس من اتصف بالخشية وصارت الخشية مقامه عند تجلي الحق في صفة الرحمة الرحمانية إذ هي أعظم صفاته لدلالتها على إفضاة جميع الخيرات والكمالات الظاهرة على الكل وهي جلائل النعم وعظمائها { بالغيب } أي: في حالة كونه غائبا عن شهود الذات، إذ المحتجب بتجلي الصفات غائب عن جمال الذات { وجاء بقلب منيب } إلى الله عن ذنوب صفات النفس في معارج صفات الحق دون الساكن في مقام الخشية الذي لا يقصد التوقي.
{ أدخلوها } بسلامة عن عيوب صفات النفس آمنين عن تلوينها { لهم ما يشاؤون فيها } من نعم التجليات الصفاتية وأنوارها بحسب الإرادة { ولدينا مزيد } من نور تجلي الذات الذي لا يخطر على قلوبهم.
{ وكم أهلكنا } قبل هؤلاء المتقين بالإفناء والإحراق بسبحات تجلي الذات { من قرن هم أشد منهم بطشا } أي: أولياء أقوى منهم في صفات نفوسهم لأن الاستعداد كلما كان أقوى كانت صفات النفس في البداية أقوى { فنقبوا في البلاد } أي: مفاوز الصفات ومقاماتها { هل من محيص } عن الفناء بالاحتجاب ببعضها والتواري بها عند إشراق أنوار سبحات الوجه الباقي، وكيف المحيص ولا تبقى صفة هناك فضلا عن تواريه بها.
[50.37-42]
{ إن في ذلك } المعنى المذكور لتذكيرا { لمن كان له قلب } كامل بالغ في الترقي إلى حد كماله { أو ألقى السمع } في مقام النفس إلى القلب لفهم المعاني والمكاشفات للترقي، وهو حاضر بقلبه، متوجه إليه، مفيض لنوره، مترق إلى مقامه.
{ ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام } أي: ست جهات إن فسرنا السموات والأرض على الظاهر وإن أولنا السموات بالأرواح والأرض بالجسم، فهي صور الممكنات الست من الجبروت والملكوت والملك التي هي مجموع الجواهر والإضافيات والكميات والكيفيات التي هي مجموع الأعراض، فهذه الستة تحصر المخلوقات بأسرها، والستة الآلاف المذكورة التي هي مدة دور الخفاء على ما ذكر في (الأعراف).
{ فاصبر على ما يقولون } بالنظر إليهم بالفناء وعدم تأثير أقوالهم بالانسلاخ عن الأفعال وحبس النفس عن الظهور بأفعالها إن لم تحبسها عن الظهور بصفاتها { وسبح بحمد ربك } بالتجريد عن صفات النفس حامدا لربك بالاتصاف بصفاته وإبراز كمالاته المكتوبة فيك في مقام القلب { قبل طلوع } شمس الروح ومقام المشاهدة { وقبل الغروب } غروبها بالفناء في أحدية الذات { ومن الليل } أي: في بعض أوقات ظلمة التلوين فنزهه عن صفات المخلوقين بالتجرد عن الصفة الظاهرة بالتلوين { وأدبار السجود } وفي أعقاب كل فناء، فإن عقيب فناء الأفعال يجب الاحتراز عن تلوين النفس وعقيب الفناء عن الصفات يجب التنزه عن تلوين القلب، وعقيب فناء الذات يجب التقدس عن ظهور الأنائية.
{ واستمع يوم ينادي } الله بنفسه من أقرب الأماكن إليك كما نادى موسى من شجرة نفسه، يوم يسمع أهل القيامة الكبرى صيحة القهر والإفناء بالحق من الحق { ذلك يوم الخروج } من وجوداتهم.
[50.43-45]
{ إنا نحن نحيي ونميت } أي: شأننا الإحياء والإماتة نحيي أولا بالنفس ثم نميت عنها ثم نحيي بالقلب ثم نميت عنه ثم نحيي بالروح ثم نميت عنه بالفناء { وإلينا المصير } بالبقاء بعد الفناء بل في كل فناء إذ لا غير يصيرون إليه.
{ يوم تشقق } أرض البدن { عنهم سراعا } إلى ما يجانسهم من الخلق { ذلك حشر علينا يسير } نحشرهم مع من يتولونه بالمحبة بانجذابهم إليه دفعة بلا كلفة من أحد { نحن أعلم بما يقولون } لإحاطة علمنا بهم وتقدمه عليهم وعلى أقوالهم { وما أنت عليهم بجبار } تجبرهم على خلاف ما اقتضى استعدادهم وحالهم التي هم عليها،
إنمآ أنت مذكر
[الغاشية، الآية:21] فاصبر بشهود ذلك مني واحبس النفس عن الظهور بالتلوين وذكر بالقرآن بما نزل عليك من العقل الجامع بجميع المراتب { من } يتأثر بالتذكير ف { يخاف وعيد } لكونه قابلا للوعظ مجانسا لك في الاستعداد قريبا مني دون المردودين الذين لا يتأثرون به والله تعالى أعلم.
[51 - سورة الذاريات]
[51.1-14]
{ والذاريات ذروا } أي: النفحات الإلهية والنسائم القدسية التي تذرو غبار الهيئات الظلمانية وتراب الصفات النفسانية { ذروا } { فالحاملات } أي: الواردات النورانية التي تحمل أوقار الحقائق اليقينية والعلوم الكشفية الحقيقية التي لها ثقل في الميزان لبقائها دون التي تخف من الأمور الفانية إلى قلوب أهل العرفان والنفوس القابلة المستعدة الحاملة لتلك الحقائق والمعاني { فالجاريات يسرا } أي: النفوس التي تجري في ميادين المعاملات ومنازل القربات بواسطة تلك النفحات والواردات يسرا بلا كلفة كما للمحرومين عن ذلك أو القلوب التي تجري في أبحر الصفات بتلك النفحات يسرا.
{ فالمقسمات أمرا } أي: الملائكة المقربين من أهل الجبروت والملكوت التي تقسم بكل واحدة قسطا من السعادة والرزق الحقيقي على حسب الاستعدادات { إنما توعدون } من حال القيامة الكبرى وحصول الكمال المطلق { لصادق * وإن الدين } أي: الجزاء الذي هو الفيض الوارد بحسب السعي في السلوك والعمل المعد للقبول أو الحرمان والتعذب بالحجاب والتأذي بالهيئات المؤذية المظلمة بسبب الركون إلى الطبيعة { لواقع } كما قال:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت، الآية:69]، وقال:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم
[المطففين، الآيات:14 - 16]. أقسم بالمعدات والقوابل والمفيضات على أن مقتضى اجتماعها واجب الوقوع.
{ والسماء } أي: الروح { ذات } الطرائق من الصفات، فإن من كل صفة طريقا إلى سماء الروح يصل إليها من يسلكها وكل مقام وحال بابا إليها { إنكم لفي قول مختلف } من حديث النفس وشجونه المتنوعة المانعة عن اتحاد الوجهة في السلوك أو الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الباطلة المانعة عن الكمال من أنواع الجهل المركب { يؤفك عنه } أي: بسبب ذلك القول المختلف الذي هو حديث النفس أو الاعتقاد الفاسد { من أفك } أي: المحجوب المحكوم عليه في القضاء السابق بسوء الخاتمة دون غيره أو يصرف عما توعدون من الكمال من صرف بالشقاوة الأزلية في علم الله.
{ قتل الخراصون } أي: لعن الكذابون بالأقوال المختلفة { الذين هم في غمرة } أي: جهل يغمرهم، غافلون عن الكمال والجزاء { يسألون أيان يوم الدين } لبعدهم عن ذلك المعنى واستبعادهم لذلك وتعجبهم منه لمكان الاحتجاب، أي: متى وقوع هذا الأمر المستبعد { يوم هم } أي: يقع يوم هم يعذبون على نار الحرمان في ظلمات الهيئات بفساد الأبدان والوقوع في الهلاك والخسران مقولا لهم.
{ ذوقوا فتنتكم } أي: عذابكم { الذي كنتم به تستعجلون } بالانهماك في اللذات البدنية واستئثار الحظوظ العاجلة والكمالات البهيمية والسبعية.
[51.15-49]
{ إن المتقين } الذين تجردوا عن هيئات الطبيعة وصفات النفس في جنات الصفات وعلومها { آخذين } أي: قابلين { ما آتاهم ربهم } من أنوار تجليات الصفات راضين بها { إنهم كانوا قبل ذلك } أي: قبل الوصول إلى مقام تجليات الصفات { محسنين } بشهود الأفعال في مقام العبادات والمعاملات كما قال عليه السلام:
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ".
{ كانوا قليلا } من ليل الاحتجاب في مقام النفس ما يغفلون عن السلوك { وبالأسحار } أي: أوقات طلوع أنوار التجليات وانقشاع ظلمة صفات النفس { هم يستغفرون } يطلبون التنور بالأنوار وتستر صفات النفس وهيئات السوء بها ومحوها { وفي أموالهم } أي: علومهم الحقيقية والنافعة { حق للسائل } أي: المستعد الطالب { والمحروم } القاصر الاستعداد، أو المحجوب عن نور فطرته بالغواشي البدنية والرسوم العادية بإفاضة العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية على الأول، والعلوم النافعة الباعثة على الرياضة والمجاهدة على الثاني { وفي الأرض } أي: ظاهر البدن { آيات } من ظاهر الأسماء والصفات الإلهية { للموقنين } الذين يشاهدون صفات الله في مظاهرها { وفي أنفسكم } من أنوار تجلياتها. { أفلا تبصرون } وفي سماء الروح { رزقكم } المعنوي من العلوم كما في سماء العالم رزقكم الصوري { وما توعدون } من الأنوار وأحوال القيامة الكبرى { إنه لحق } أي: ما ذكر من آيات الأرض والأنفس ووجوه الرزق وما وعد في السماء حق { مثل } نطقكم فإنه صفة من صفات المتكلم الحقيقي ظهر على لسانكم وفي أرض أبدانكم وتجلى بها المتكلم الحقيقي على قلوبكم إن حضرتم وشهدتم ونزل بها الرزق المعنوي الذي يندرج في صورة الألفاظ من سماء روحكم عليكم إن كان نطقا حقيقيا لا صوتا كأصوات الحيوانات، فإنه لا يسمى نطقا إلا مجازا، وحصل به كمالكم وأشرق نوره عليكم لتهتدوا به إلى أحوال الآخرة. وأما حديث ضيف إبراهيم وما نزلوا به فقد مر تحقيقه في سورة (هود).
[51.50-60]
{ ففروا إلى الله } أي: انقطعوا إليه واستضيئوا بنوره واستمدوا من فيضه في محاربة النفس والشيطان، وتخلصوا إليه من عدوانهما وطغيانهما ولا تلتفتوا إلى غيره ولا تثبتوا لما سواه وجودا وتأثيرا فيستولي عليكم الشيطان ويسول عليكم طاعته وعبادته ولا تجعلوا معه بهوى النفس معبودا كالنفس وما تهواه فتشركوا وتحتجبوا به عنه فتهلكوا.
{ وما خلقت } جن النفوس وإنس الأبدان أو الثقلين المشهورين { إلا } ليظهر عليهم صفاتي وكمالاتي فيعرفوني ثم يعبدوني إذ العبادة بقدر المعرفة ومن لم يعرف لم يعبد، كما قال العارف المحقق عليه السلام: " لا أعبد ربا لم أره " ، أي: لم أخلقهم ليحتجبوا بوجوداتهم وصفاتهم عني فيجعلوا أنفسهم آلهة معبودة غيري أو يحتجبوا بخلقي وما تهوى أنفسهم فيجعلوه إلها غيري ويعبدوه.
{ وما أريد منهم من رزق } أي: خلقتهم بأن احتجبت بهم بذاتي وصفاتي ليظهروا فيتخلقوا بخلقي فيحتجبوا بي ويستتروا بفناء الأفعال والصفات ولا ينسبوا الرزق والإطعام والتأثير إلى أنفسهم لظهورها بالأفعال والصفات وانتحال أفعالي وصفاتي لها بالكذب والطغيان { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } أي: ذاته الموصوفة بجميع الصفات هي مصدر الأفعال اللطيفة كالرزق والقهرية كالتأثير في الأشياء دون غيره.
{ فإن للذين ظلموا } بنسة الفعل والتأثير إلى الغير من مخلوقاته سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيرهم نصيبا وافرا من عذاب الله { مثل } نصيب نظرائهم من المحجوبين بالصفات { فلا يستعجلون } في الاستمتاع بأفعالهم.
{ فويل للذين كفروا } أي: حجبوا عن الحق في أي مرتبة كانت بأي شيء كان { من يومهم الذي يوعدون } في القيامة الصغرى، والله أعلم.
[52 - سورة الطور]
[52.1-10]
{ والطور } الطور هو الجبل الذي كلم عليه موسى، وهو الدماغ الإنساني الذي هو مظهر العقل والنطق أقسم به لشرفه وكرامته ولكون الفلك الأعظم الذي هو محدد الجهات بالنسبة إلى العالم بمثابة الدماغ بالنسبة إلى الإنسان، يمكن أن يكون إشارة إليه، وأقسم به لشرفه وكونه مظهر الأمر الإلهي ومحل القضاء الأزلي.
والكتاب المسطور هو صورة الكل على ما هو عليه من النظام المعلوم المنتقش في لوح القضاء الذي هو الروح الأعظم المشار إليه ها هنا بالرق المنشور وتنكيرهما للتعظيم.
{ والبيت المعمور } هو قلب العالم أي: النفس الناطقة الكلية، وهو لوح القدر، وعمرانه كثرة إطافة الملكوت به { والسقف المرفوع } هو السماء الدنيا التي تنزل الصور والأحكام من لوح القدر الذي هو اللوح المحفوظ إليه ثم تظهر في عالم الشهادة بحلولها في المواد وهو لوح المحو والإثبات بمثابة محل الخيال في الإنسان { والبحر المسجور } هو الهيولى المملوءة بالصور التي يظهر عليها جميع ما أثبت من الألواح المذكورة.
{ إن عذاب ربك لواقع } بظهور القيامة الصغرى. وعلى التأويل الأول وهو تأويل الطور بالدماغ يكون الكتاب المسطور إشارة إلى المعلومات المركوزة في الروح الإنساني المسماة بالعقل القرآني، والروح هو الرق المنشور ونشوره ظهوره وانبثاثه في البدن والبيت المعمور هو القلب الإنساني والسقف المرفوع هو مصعد الخيال المنتقش بالصور الجزئية والبحر المسجور هو مادة البدن المملوءة بالصور والله أعلم.
{ يوم تمور السماء مورا } أي: تضطرب الروح وتجيء وتذهب عند السكرات ومفارقة البدن { وتسير الجبال } أي: تذهب العظام وترم وتصير هباء منبثا.
[52.11-23]
{ فويل يومئذ للمكذبين } الذين احتجبوا بالدنيا عن الآخرة فكذبوا بالجزاء { الذين } يخوضون في باطل الذات الحسية والاعتقادات الفاسدة والأقوال المزخرفة ويتعمقون في اللعب الذي هو الحياة الدنيا وزينتها السريعة الزوال.
{ يوم يدعون } أي: يجرون ويسحبون بالعنف { إلى نار } الحرمان والآلام في قعر بئر الطبيعة الفاسقة المنحوسة في سلاسل التعلقات وأغلال الهيئات الجرمانية.
{ إن المتقين } الذين اتقوا الرذائل وصفات النفوس { في جنات } من جنات الصفات ولذة وذوق وتنعم فيها { فاكهين } متلذذين { بما آتاهم ربهم } من أنوار التجليات ومعارف الوجدانيات والكشفيات { ووقاهم ربهم عذاب } جحيم الطبيعيات والاحتجاب بالبهيميات والسبعيات من الهيئات.
{ كلوا } من أرزاق الحكم والعلوم الحقيقية التي هي قوت القلوب { واشربوا } من مياه العلوم النافعة وخمور العشق والمحبة أكلا هنيئا وشربا { هنيئا } سائغا غير ذي غصة { بما كنتم تعملون } بسبب أعمالكم في الزهد والعبادة والمجاهدة والرياضة. { متكئين على سرر } أي : مراتب ومقامات { مصفوفة } مترتبة كالتسليم والتوكل والرضا أو متقابلة تتساوى في مقاماتهم كقوله:
إخوانا على سرر متقابلين
[الحجر، الآية:47].
{ وزوجناهم بحور عين } أي: قرناهم بما في درجاتهم من الصور المقدسة والجواهر المجردة من الروحانيات التي لا حسن وراء حسنها { وأمددناهم بفاكهة } من الواردات اللذيذة والمواجيد الذوقية والإشراقات البهيجة { ولحم } من العلوم المقوية للقلوب والحكم المحيية لها { مما يشتهون } أي: يشتاقون إليه بمقتضى استعداداتهم وأحوالهم { يتنازعون } يتعاطون ويتعاورون في مباحثاتهم ومحاوراتهم ومذكراتهم { كأسا } خمرا لذيذا من المعارف والعشقيات والذوقيات { لا لغو فيها } بسقط الحديث والهذيان والكلام بما لا طائل تحته { ولا تأثيم } ولا قول يأثم به صاحبه وينسب إلى الإثم كالغيبة والفواحش والشتم والأكاذيب.
[52.24-49]
{ ويطوف عليهم غلمان لهم } من الملكوت الروحانية أي: تخدمهم الروحانيات أو أهل الإرادة وصفاء الاستعداد من الأحداث الطالبين { كأنهم } لفرط صفائهم ونوريتهم { لؤلؤ مكنون } محفوظ من تغيرات هوى النفس وغبار الطبائع مخزون من ملامسة ذوي العقائد الرديئة والعادات المذمومة.
{ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } عن بداياتهم وأحوال رياضاتهم في عالم النفس ومأوى الحس الذي هو الدنيا { قالوا إنا كنا قبل } أي: قبل الوصول إلى فضاء القلب وروح الروح في الآخرة { في أهلنا } من القوى البدنية وصفات النفس { مشفقين } وجلين من ذكر الله خائفين من العقاب { فمن الله علينا } بتجليات الصفات ونعم المكاشفات { ووقانا عذاب } سموم هوى النفس وجحيم الطبيعة { إنا كنا من } قبل هذا المقام { ندعوه } نذكره ونعبده { إنه هو البر } المحسن بمن دعاه بإفاضة العلم والتحقيق { الرحيم } لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.
{ واصبر } بمنع النفس عن الظهور بالاعتراض على الحكم { فإنك بأعيننا } فإنا نراك ونرقبك فاحترز عن ذنب ظهور النفس بحضورنا { وسبح } نزه الله بالتجرد عن ملابس صفات النفس حامدا لربك بإظهار كمالاتك التي هي صفاته { حين تقوم } في القيامة الوسطى عن نوم غفلة مقام النفس بالرجوع إلى الفطرة { ومن الليل } ومن بعض أوقات الظلمة عند التلوين بظهور صفة من صفاتها { فسبحه } بالتجرد عنها والتنور بنور الروح { وإدبار } نجوم الصفات وغيبتها بظهور نور شمس الذات وطلوع فجر بداية المشاهدة، والله تعالى أعلم.
[53 - سورة النجم]
[53.1-9]
{ والنجم إذا هوى } أقسم بالنفس المحمدية إذا فنيت وغربت عن محل الظهور وسقطت عن درجة الاعتبار في الظهور والحضور { ما ضل صاحبكم } بالوقوف مع النفس والانحراف عن المقصد الأقصى بالميل لها { وما غوى } بالاحتجاب بالصفات والوقوف معها في مقام القلب { وما ينطق عن الهوى } بظهور صفة النفس في التلوين { إن هو إلا وحي يوحى } إليه من وقت وصوله إلى أفق القلب الذي هو سماء الروح إلى انتهائه إلى الأفق الأعلى الذي هو نهاية مقام الروح المبين { علمه } روح القدس الذي هو { شديد القوى } قاهر لما تحته من المراتب مؤثر فيها تأثيرا قويا { ذو مرة } ذو متانة وإحكام في علمه لا يمكن تغيره ونسيانه { فاستوى } فاستقام على صورته الذاتية والنبي بالأفق الأعلى لأنه حين كون النبي بالأفق المبين لا ينزل على صورته لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبي وكان من أحسن الناس صورة وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لو لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر لم يفهم القلب كلامه ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي عليه السلام إلا مرتين عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام الأول عند سدرة المنتهى في التدلي.
{ ثم دنا } رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله وترقى عن مقام جبريل بالفناء في الوحدة والترقي عن مقام الروح، وفي هذا المقام قال جبريل عليه السلام: " لو دنوت أنملة لاحترقت " ، إذ وراء مقامه ليس إلا الفناء في الذات والاحتراق بالسبحات { فتدلى } أي: مال إلى الجهة الإنسية بالرجوع من الحق إلى الخلق حال البقاء بعد الفناء والوجود الموهوب الحقاني { فكان قاب قوسين } أي: كان عليه السلام مقدار دائرة الوجود الشاملة للكل المنقسمة بخط موهوم إلى قوسين باعتبار الحق والخلق، والاعتبار هو الخط الموهوم القاسم للدائرة إلى نصفين. فباعتبار البداية والتداني يكون الخلق هو القوس الأول الحاجب للهوية في أعيان المخلوقات وصورها والحق هو النصف الأخير الذي يقرب منه شيئا فشيئا وينمحي ويفنى فيه، وباعتبار النهاية والتدلي فالحق هو القوس الأول الثابت على حاله أزلا وأبدا والخلق هو القوس الأخير الذي يحدث بعد الفناء بالوجود الجديد الذي وهب له { أو أدنى } من مقدار القوسين بارتفاع الإثنينية الفاصلة الموهمة لاتصال أحد القوسين بالآخرة وتحقق الوحدة الحقيقية في عين الكثرة بحيث تضمحل الكثرة فيها وتبقى الدائرة غير منقسمه بالحقيقة أحدية الذات والصفات.
[53.10-15]
{ فأوحى إلى عبده } في مقام الوحدة بلا واسطة جبريل عليه السلام { ما أوحى } من الأسرار الإلهية التي لا يجوز كشفها لصاحب النبوة { ما كذب الفؤاد ما رأى } في مقام الجمع والفؤاد هو القلب المترقي إلى مقام الروح في الشهود المشاهد للذات مع جميع الصفات الموجود بالوجود الحقاني، وهذا الجمع هو جمع الوجود لا جمع الوحدة الذي لا فؤاد فيه ولا عبد لفناء الكل فيها المسمى باصطلاحهم: عين جمع الذات، وأما هذا الجمع فيسمى الوجه الباقي أي: الذات الموجودة مع جميع الصفات.
{ أفتمارونه } أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا مكنكم معرفته وتصوره فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات فحيث لا تصور فلا مخاصمة حقيقية.
{ ولقد رآه } أي: جبريل في صورته الحقيقية { نزلة أخرى } عند الرجوع عن الحق والنزول إلى مقام الروح { عند سدرة المنتهى } قيل: هي شجرة في السماء السابعة ينتهي إليها علم الملائكة ولا يعلم أحد ما وراءها وهي نهاية مراتب الجنة يأوي إليها أرواح الشهداء فهي الروح الأعظم الذي لا تعين وراءها ولا مرتبة ولا شيء فوقها إلا الهوية المحضة، فلهذا نزل عندها وقت الرجوع عن الفناء المحض إلى البقاء ورأى عندها جبريل عليه السلام على صورته التي جبل عليها { عندها جنة المأوى } التي يأوي إليها أرواح المقربين.
[53.16-32]
{ إذ يغشى السدرة } من جلال الله وعظمته { ما يغشى } لأنه صلى الله عليه وسلم كان يراها عند تحققه بالوجود الحقاني بعين الله فرأى الحق متجليا في صورتها، فقد غشي السدرة من التجلي الإلهي ما سترها وأفناها فرآها بعين الفناء لم يحتجب بها وبصورتها ولا بجبريل وحقيقته عن الحق، ولهذا قال: { ما زاغ البصر } بالالتفات إلى الغير ورؤيته { وما طغى } بالنظر إلى نفسه واحتجابه بالأنائية. { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } أي: الصفة الرحمانية الذي يندرج فيها جميع الصفات بتجليه تعالى فيها بل حضرة الاسم الأعظم الذي هو الذات مع جميع الصفات المعبر عنه بلفظة الله في عين جمع الوجود، بحيث لم يحتجب عن الذات بالصفات ولا بالصفات عن الذات.
{ وكم من ملك في السموات } إلى آخر الآية، الشفاعة من الملائكة: هي إفاضة الأنوار والإمداد على المستشفع عند استفاضته بالتوسل بالشفيع الذي هو الوسيلة والواسطة المناسبة بينهما واتصال فعلي، هذا شفاعتهم في حق النفوس البشرية لا تكون إلا إذا كانت مستعدة في الأصل، قابلة لفيض الملكوت. ثم تزكوا عن الهيئات البشرية والغواشي الطبيعية بالتوجه إلى جناب القدس والتجرد عن ملابس الحس ومواد الرجس فتستفيض من نورها وتستمد من فيضها وتتصل بها وتنخرط في سلكها، فتتقرب إلى الله بواسطتها. فالاستعداد القابل الأصلي هو الإذن في الشفاعة والرضا بها هو الزكاء والصفاء الحاصل بالسعي والاجتهاد، فإذا اجتمعا حصلت الشفاعة وإن لم يكن الاستعداد في الأصل أو كان وقد تغير بالعلائق والغواشي ولم تبق على صفائها فلم يكن إذن ولا رضا من الله فلا شفاعة، فقوله: { لا تغني شفاعتهم شيئا } معناه: عدم الشفاعة لا وجودها، وعدم إغنائها لاستحالة ذلك في عالم الملكوت فهو كقوله:
ولا ترى الضب بها ينحجر
[53.33-62]
{ وإبراهيم الذي وفى } حق الله عليه بتسليم الوجود إليه حال الفناء في التوحيد بالقيام بأمر العبودية وتبليغ الرسالة والنبوة في مقام الاستقامة أو أتم الكلمات التي ابتلاه الله بها وهي ما ذكر من الصفات. وقرىء: { وفى } ، مخففا، أي: بعهده المأخوذ ميثاقه عليه في أول الفطرة بأن ثبت عليه حتى بلغ مقام التوحيد المشار إليه بقوله:
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
[الأنعام، الآية:79].
{ ألا تزر وازرة وزر أخرى } لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب وكذلك الثواب إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل، كما قال تعالى: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } بخلاف الحظوظ العاجلة المقسومة المقدرة وإن كانت تلك أيضا مستندة إلى قضاء من الله وقدر، لكن المعتبر هو السبب القريب الموجب لكل منهما. النشأة الأخرى تقع على أمور ثلاثة:
الأول: إعادة الأرواح إلى الأجساد للحساب والجزاء المرتب على أعمال الخير والشر بالمصير إلى النار أو جنة الأفعال.
والثاني: هو العوده إلى الفطرة الأولى والرجوع إلى مقام القلب.
والثالث: هو العود إلى الوجود الموهوب الحقاني بعد الفناء التام.
والأول لا بد لكل أحد منه سواء كانت الأجساد نورانية أو ظلمانية دون الباقيين.
{ أزفت الأزفة } إن حملت على القيامة الصغرى فقربها ظاهر، والكاشفة إما المبينة لوقتها أو الدافعة وإن حملت على الكبرى فقربها من وجهين: أحدهما القرب المعنوي لأنها أقرب شيء إلى كل أحد لكونه في عين الوحدة وإن كان هو بعيدا عنها لغفلته وعدم شعوره بها، والثاني: أن وجود محمد وبعثته عليه السلام مقدمة دور الظهور وأحد أشراطه، ولهذا قال:
" بعثت أنا والساعة كهاتين "
وجمع بين السبابة والوسطى، وتظهر بوجود المهدي عليه السلام { ليس لها من دون الله كاشفة } أي: نفس مبينة لامتناع وجود غيره وعلمه عندها { فاسجدوا لله } بالفناء { واعبدوا } بالبقاء بعده، والله أعلم.
[54 - سورة القمر]
[54.1-7]
{ اقتربت الساعة وانشق القمر } إنما كان انشقاق القمر آية قرب القيامة الكبرى، لأن القمر إشارة إلى القلب لكونه ذا وجهين: وجه مظلم يلي النفس، وآخر منور يلي الروح، ولاستفادته النور من الروح كاستفادة القمر النور من الشمس وانفلاقه بتأثير نور الروح فيه وظهور شمسه من مغربها أي: بروزها من حجاب القلب بعد كونها فيه علامة قرب الفناء في الوحدة لكونه مقام المشاهدة المؤدية إلى الشهود الذاتي وإن حملت على دور الظهور الذي هو زمان المهدي المبعوث في نسمها. فانشقاق القمر انفلاقه عن ظهور محمد عليه السلام لظهوره في دور القمر وإن حملت على الصغرى فالقمر هو البدن لاستفادته نور الشعور والحياة من شمس الروح وظلمته في نفسه ويقويه قوله: { يوم يدع الداع } أي: يظهر مقتضى الموت ويدعو موجبه إلى شيء منكر فظيع تكرهه النفوس.
{ خشعا أبصارهم } من الذلة والعجز والمسكنة والحرمان { يخرجون } من أجداث الأبدان { كأنهم جراد منتشر } شبهها بالجراد لكثرة النفوس المفارقة وذلتها وضعفها وحرصها وتهالكها على حضرة الذات الحسية والشهوات الطبيعية وميلها إلى الجهة السفلية كما شبهها بالفراش لتهالكها إلى نور الحياة. وعلى الأول يوم يدعو داعي الروح والقلب النفوس إلى شيء منكر عندها من ترك الحظوظ العاجلة واللذات البدنية والحسية الذي هو الموت الإرادي بالرياضة ومشايعة السر في التوجه إلى جناب الحق { خشعا أبصارهم } ، ذليلة منكسرة لقهر الداعي لها واستيلائه عليها يخرجون من أجداث الأبدان بالتجرد والانخلاع عنها كأنهم جراد لضعفها وطيرانها في شعاع نور شمس الروح.
[54.8-22]
{ مهطعين إلى الداع } على كلا التأويلين لانقيادها طوعا وكرها { يقول الكافرون } أي: المحجبون عن الدين أو الحق { هذا يوم عسر } لنزوعهم إلى اللذات والشهوات الحسية وشوقهم إليها وضراوتهم بها، فأما غير المحجوب فأيسر شيء عليه الموت الطبيعي والإرادي جميعا.
{ ففتحنا أبواب } سماء العقل بعلم منصب إلى العالم السفلي بقوة، أي: نكسنا عقولهم بالميل إلى الدنيا والاشتغال بتدابير الأمور الجزئية وترتيب اللذات الحسية والانهماك في أمر المعاش وصرف عملها فيه ووقوفها معها واحتجابها بها عن الأمور الأخروية المؤدي إلى هلاكهم، فهو كقوله:
وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها
[الإسراء، الآية:16].
{ وفجرنا } أرض النفس { عيونا } علوما جزئية حسية متعلقة بكسب الحطام وجمعه والتلذذ به والترفه فيه كأن نفوسهم كلها ذلك التدبير لشدة انجذابها إليها وحرصها فيها { فالتقى } العلمان في طلب الدنيا وجذبها { على أمر } قد قدره الله تعالى وهو: إهلاكهم بسبب التورط في الشهوات بالجهل. وحملنا نوحا على شريعة ذات أعمال وعلوم ترتبط بها الأعمال أو أحكام ومعاقد تستند إليها الأحكام { تجري بأعيننا } أي: تنفذ على حفظ منا في لجة جهلهم الغالب الغامر إياهم، فلا يغلبها جهلهم فيبطلها { جزاء } لنوح عليه السلام الذي كان نعمة مكفورة من قومه بأن لم يعرفوه فيطيعوه ويعظموه فينجوا به، بل أنكروه فعصوه فهلكوا بسببه.
{ ولقد تركناها } أي: آثار تلك الشريعة والدعوة إلى يومنا هذا { آية } بينة لمن يعتبر بها { فهل من } متعظ، فإن طريق الحق واحد والأنبياء كلهم متوافقون في أصول الشرائع.
[54.23-48]
{ فكيف كان عذابي } لقومه بإهلاكهم في ورطة الجهل وحرمان الحياة الحقيقية واللذة السرمدية وإنذاري على لسان نوح عليه السلام.
ووجه آخر وهو: تأول فتح السماء بإنزال الرحمة والوحي على نوح، أي: فتحنا أبواب سماء روح نوح بعلم كلي منصب بقوة شاملة لجميع الجزئيات وفجرنا أرض نفسه عيونا، أي: علوما جزئية، كأن نفسه كلها علوم، فالتقى العلمان بانضمامها فصارت قياسات وآراء صحيحة بنى عليها شريعته المؤسسة على العمليات والنظريات، فحملناه عليها بالعمل بها والاستقامة فيها فنجا فيها وبقي قومه في ورطة الجهل، فغرقوا في تيار بحر الهيولى وأموال الجهالات وهلكوا.
{ إنا مرسلو } ناقة نفسه ابتلاء { لهم } ليتميز المستعد القابل السعيد، من الجاهل المنكر الشقي { فارتقبهم } لتنظر نجاة الأول وهلاك الثاني { واصطبر } على دعوتهم { ونبئهم أن } ماء العلم { قسمة بينهم } لها علم الروح الفائض عليها ولهم علم النفس، أي: لها المعقولات ولهم المحسوسات { كل شرب محتضر } هي تحضر شربها بالتوجه إلى الروح وقبول العلوم الحقيقية والنافعة منها وهم يحضرون شربهم بالأوي إلى منبع الخيال والوهم، وتلقي الوهميات والخياليات منه.
{ بل الساعة موعدهم } أي: القيامة الصغرى ووقعوهم في العذاب الأبدي بزوال الاستعداد وقلب الوجود إلى أسفل، وهي أشد وأمر من عذاب القتل والهزيمة.
{ إن المجرمين } الذين أجرموا بكسب الهيئات المظلمة الرديئة الجسمانية { في ضلال } عن طريق الحق لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم { وسعر } أي: جنون ووله لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم وحيرتها في الباطل.
{ يوم يسحبون في النار على وجوههم } بحشرها في صور وجوهها إلى الأرض وتسخيرها في قهر الملكوت الأرضية فيقهرها في أنواع العذاب ويعذبها بنيران الحرمان يقال لهم: { ذوقوا مس سقر }.
[54.49-55]
{ وما أمرنا إلا } كلمة { واحدة } أي: تعلق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معين على وجه معلوم ثابت في لوح القدرية المسمى في الشرع: كن، فيجب وجوده في ذلك الزمان على ذلك الوجه دفعه { في الزبر } أي: ألواح النفوس.
{ إن المتقين } على الإطلاق { في جنات } من مراتب الجنان الثلاث عالية رفيعة { ونهر } علوم مرتبة بحسب مراتب الجنان المذكورة { في مقعد صدق } أي: خير وأي خير هو مقام الوحدة { عند مليك } في حضرة الأسماء حال البقاء بعد الفناء ومقام الفرق بين الذات والصفات كائنين بالذات { في مقعد صدق } وبالصفات { عند مليك } مدبر مملكة الوجود على حسب الحكمة ومقتضى العناية على أحسن وجه وأتم نظام { مقتدر } يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1-9]
{ الرحمن } اسم خاص من أسماء الله تعالى باعتبار إفاضة أصول النعم كلها من الأعيان وكمالاتها الأولية بحسب البداية، وإنما أورد ها هنا لعموم وصفيته الشاملة للأوصاف التي تحت معناه في المبدئية ليسند إليه الأصول المختلفة الواردة بعده.
{ علم القرآن } أي: الاستعداد الكامل الإنساني المسمى بالعقل القرآني الجامع للأشياء كلها، حقائقها وأوصافها وأحكامها إلى غير ذلك مما يمكن وجوده ويمتنع بإبداعه في الفطرة الإنسانية وركزه فيها ولأن ظهوره وبروزه إلى الفعل بتفصيل ما جمع فيه. وصيرورته فرقانا إنما تكون بحسب النهاية ما ذكر الفرقان كما ذكره في قوله: { تبارك الذي نزل الفرقان } [الفرقان، الآية:1] لأنه من باب الرحمة الرحيمية لا الرحمانية.
{ خلق الإنسان } أي: لما أبدع فطرته وأودع العقل القرآني فيها أبرزه في هذه النشأة بخلقه في هذه الصورة العجيبة { علمه البيان } أي: النطق المميز إياه عن جميع ما سواه من المخلوقات ليخبر به عما في باطنه من العقل القرآني.
{ الشمس والقمر } أي: الروح والقلب يجريان فيه ويسيران بحساب، أي: قدر معلوم من منازلهما ومراتبهما مضبوط لا يجاوز أحدهما قدره ومرتبته التي عينت له، فلكل منهما كمالات ومراتب محدودة القدر معلومة الغاية تنتهي إليها { والنجم } أي : النفس الحيوانية النورانية بالشعور الحسي في ليل الجسم { والشجر } أي: النفس النباتية المنمية له. { يسجدان } بتوجههما إلى أرض الجسد ووضع جبهتهما عليها بالميل والإقبال الكلي نحوها لتربيتها وإنمائه وتكميلها.
{ والسماء } أي: سماء العقل { رفعها } إلى محل شمس الروح وثمر القلب { ووضع } أي: خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن. فإن العدالة هيئة نفسانية لولاها لما حصلت الفضيلة الإنسانية ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن لما وجد ولم يبق ولما استقام أمر الدين والدنيا بالعدل، واستتب كمال النفس والبدن به بحيث لولاه لفسدا. أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها لشدة العناية به وفرط الاهتمام بأمره، فوسط بينه وبين قوله:
والأرض وضعها للأنام
[الرحمن، الآية:10].
قوله: { ألا تطغوا في الميزان } بالإفراط عن حد الفضيلة والاعتدال، فيلزم الجور الموجب للفساد { وأقيموا الوزن بالقسط } بالاستقامة في الطريقة، وملازمة حد الفضيلة ونقطة الاعتدال في جميع الأمور وكل القوى { ولا تخسروا الميزان } بالتفريط عن حد الفضيلة. قال بعض الحكماء: العدل ميزان الله تعالى، وضعه للخلق ونصبه للحق.
[55.10-18]
{ والأرض } أي: أرض البدن { وضعها } لهذه المخلوقات المذكورة { فيها فاكهة } أي: ما تفيد اللذات الحسية من إدراكات الحواس والمحسوسات { والنخل } أي: القوى المثمرة للذات الخيالية والوهمية الباسقة من أرض الجسد في هوى النفس { ذات الأكمام } أي: غلف اللواحق المادية { والحب } أي: القوة الغاذية التي منها لذة الذوق والأكل والشرب { ذوالعصف } أي: الشعب والأوراق الكثيرة المنبسطة على أرض البدن من الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والمغيرة والمصورة الملازمة للبدن، المقتضية لخواصها وأفعالها وما تعدها وتهيئها وتصلحها لحفظ القوة والإنماء مما يصير بدل ما يتحلل ويزيد في الأقطار { والريحان } أي: المولدة، الموجبة لذة الوقاع التي هي أطيب اللذات الجسمانية وأسلاف البذر بتوليد مادة النوع.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } من هذه النعم المعدودة أيها الظاهريون والباطنيون من الثقلين أبالنعم الظاهرة أم الباطنة: { خلق الإنسان } أي: ظاهره وجسده الذي يؤنس، أي: يبصر { من صلصال } من أكثف جواهر العناصر المختلطة الذي تغلب عليه الأرضية واليبس { كالفخار } الصلب الذي يناسب جوهر العظم الذي هو أساس البدن ودعامته { وخلق الجان } أي: باطنه وروحه الحيواني الذي هو مستور عن الحس وهو أبو الجن، أي: أصل القوى الحيوانية التي أقواها وأشرفها الوهم أي: الشيطان المسمى إبليس الذي هو من ذريته { من مارج } من لهب لطيف صاف { من نار } أي: من ألطف جواهر العناصر المختلطة الذي يغلب عليه الجوهر الناري والحر، والمارج هو اللهب الذي فيه اضطراب، وهذه الروح دائمة الاضطراب والتحرك.
{ رب المشرقين ورب المغربين } أي: مشرقي الظاهر والباطن ومغربيهما بإشراق نور الوجود المطلق على ماهيات الأجساد الظاهرة وغروبه فيها باحتجابه بماهياتها وتعينها به فله في ربوبيته لكل موجود شروق بإيجاده بنور الوجود وظهوره به وغروب باختفائه فيه وتستره به يربه بهما.
[55.19-32]
{ مرج البحرين } بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأجاج وبحر الروح المجرد الذي هو العذاب الفرات { يلتقيان } في الوجود الإنساني { بينهما برزخ } هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الأرواح المجردة ولطافتها ولا في كدورة الأجساد الهيولانية وكثافتها { لا يبغيان } لا يتجاوز حدهما حده فيغلب على الآخر بخاصيته فلا الروح يجرد البدن ويمزج به ويجعله من جنسه ولا البدن يجمد الروح ويجعله ماديا، سبحان خالق الخلق القادر على ما يشاء.
{ يخرج منهما } بتركيبهما والتقائهما لؤلؤ العلوم الكلية ومرجان العلوم الجزئية، أي: لؤلؤ الحقائق والمعارف ومرجان العلوم النافعة كالأخلاق والشرائع.
{ وله الجوار } أي: أوضاع الشريعة ومقامات الطريقة التي يركبها السالكون، السائرون إلى الله في لجة هذا البحر المريح، فينجون ويعبرون إلى المقصد. وتشبيهها بالأعلام إشارة إلى شهرتها وكونه معروفة كما تسمى شعائر الله ومعالم الدين. { المنشآت } أي: المرفوعات الشرع وشرعها الأشواق والإرادات التي تجري عند ارتفاعها وتعلقها بالعالم العلوي بقوة رياح النفحات الإلهية سفينة الشريعة والطريقة براكبها إلى مقصد الكمال الحقيقي الذي هو الفناء في الله، ولهذا قال عقيبه: { كل من عليها فان } أي: كل من على الجواري السائرة واصل إلى الحق بالفناء فيه، أو كل من على أرض الجسد من الأعيان المفصلة كالروح والعقل والقلب والنفس ومنازلها ومقاماتها ومراتبها، فان عند الوصول إلى المقصود { ويبقى وجه ربك } الباقي بعد فناء الخلق، أي: ذاته مع جميع صفاته { ذو الجلال } أي: العظمة والعلو بالاحتجاب بالحجب النورانية والظلمانية والظهور بصفة القهر والسلطنة { والإكرام } بالقرب والدنو في صور تجليات الصفات وعند ظهورالذات بصفة اللطف والرحمة.
{ يسأله من في السموات } من أهل الملكوت والجبروت { ومن في الأرض } من الجن والإنس، والمراد: يسأله كل شيء فغلب العقلاء وأتى بلفظ من أي كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائما.
{ كل يوم هو في شأن } بإفاضة ما يناسب كل استعداد ويستحقه فله كل وقت في كل خلق شأن بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده، فمن استعد بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار يفيضها عليه مع حصول الاستعداد، ومن استعد بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل ولوث العقائد الفاسدة، والخبائث للشرور والمكاره وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. وهذا معنى قوله: { سنفرغ لكم أيه الثقلان } لأنه تهديد وزجر عن الأمور التي بها يستحق العقاب، وسميا ثقلين لكونهما سفليين مائلين إلى أرض الجسم.
[55.33-40]
{ يا معشر الجن والإنس } أي: الباطنيين و الظاهريين { إن استطعتم ان تنفذوا من أقطار السموات والأرض } بالتجرد عن الهيئات الجسمانية والتعلقات البدنية { فانفذوا } لتنخرطوا في سلك النفوس الملكية والأرواح الجبروتية، وتصلوا إلى الحضرة الإلهية { لا تنفذون إلا بسلطان } بحجة بينة هي التوحيد والتجريد والتفريد بالعلم والعمل والفناء في الله.
{ يرسل عليكما شواظ من نار } أي: يمنعكما عن النفوذ من أقطارهما والترقي من أطوارهما لهب صاف عن ممازجة الدخان، أي: سلطان الوهم وأحكامه ومدركاته بإرساله الوهميات إلى حيز العقل والقلب وممانعته إياهما عن الترقي دائما { ونحاس } دخان، أي: هيئة ظلمانية ترسلها النفس الحيوانية بالميل إلى الهوى والشهوات، فالشواظ مانع من جهة العلم والنحاس من جهة العمل { فلا تنتصران } فلا تمتنعان عنهما وتغلبان عليهما فتنفذان إلا بتوفيق الله وسلطان التوحيد.
{ فإذا انشقت السماء } أي: السماء الدنيا وهي النفس الحيوانية، وانشقاقها انفلاقها عن الروح عند زهوقه إذ الروح الإنساني نسبته إلى النفس الحيوانية كنسبته إلى البدن. فكما أن حياة البدن بالنفس فحياتها بالروح فتنشق عنه عند زهوقه بمفارقة البدن { فكانت وردة } أي: حمراء لأن لونها متوسط بين لون الروح المجرد وبين لون البدن، ولون الروح أبيض لنوريته وإدراكه اللذات ولون البدن أسود لظلمته وعدم شعوره باللذات، والمتوسط بين الأبيض والأسود هو الأحمر، وإنما وصفها في سورة (البقرة) بالصفرة وها هنا بالحمرة لأن هناك وقت الحياة والصفاء وغلبة النورية عليها وطراوة الاستعداد وها هنا وقت الممات والتكدر وغلبة الظلمة عليها وزوال الاستعداد { كالدهان } كدهن الزيت في لونه ولطافته وذوبانه لصيرورتها إلى الفناء والزوال.
{ فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس } من الظاهريين { ولا جان } من الباطنيين لانجذاب كل إلى مقره ومركزه وموطنه الذي يقتضيه حاله وما هو الغالب عليه باستعداده الأصلي أو العارضي الراسخ الغالب. وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله:
وقفوهم إنهم مسئولون
[الصافات، الآية:24] ونظائره، ففي مواطن أخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة وهو في حال عدم غلبة إحدى الجهتين واستيلاء أحد الأمرين، ففي زمان غلبة النور الأصلي وبقاء الاستعداد الفطري أو حصول الكمال والترقي في الصفات، وفي وقت استيلاء الهيئات الظلمانية وترسخ الغواشي الجسمانية وزوال الاستعداد الأصلي بحصول الرين لا يسئلون، وفي وقت عدم رسوخ تلك الهيئات إلى حد الرين وبقائها في القلب مانعة، حاجزة إياها عن الرجوع إلى مقرها، يوقفون ويسئلون حتى يعذبوا بحسب سيئاتهم على قدر رسوخها، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم على الأمر الأكثر كما ذكر وقد يكون بعده، وذلك عند حبط الأعمال وغلبة الأمر العارضي و استيلائه على الذاتي إلى حد إبطال الاستعداد بالكلية فيدافعه الاستعداد الأصلي قليلا قليلا ويتجلى بصور التعذبات والبليات شيئا فشيئا، حتى يتساوى الأمران كتبرد الماء المسخن حين بلوغه إلى كونه فاترا، فهذا الشخص مطرود في أول الأمر عند قرب الاستعداد إلى الزوال ثم قد يوقف ويسئل عند قرب رجوع الاستعداد إلى الحالة الأولى وإمكان اتصاله بالملكوت. وأما الأشقياء المردودون، المخلدون في العذاب، والسعداء المقربون الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فلا يسئلون قط ولا يوقفون للسؤال. فقوله:
وقفوهم إنهم مسئولون
[الصافات، الآية: 24] ونظائره مخصوص ببعض المعذبين، وهم الأشقياء الذين عاقبتهم النجاة من العذاب.
[55.41-49]
{ يعرف المجرمون } الذين غلبت عليهم الهيئات الجرمانية باكتساب الرذائل ورسوخها { بسيماهم } أي: بعلامات تلك الهيئات الظاهرة الغالبة عليهم { فيؤخذ بالنواصي } فيعذبون من فوق ويحجبون ويحبسون مقيدين أسراء من جهة رذيلة الجهل المركب ورسوخ الاعتقادات الفاسدة { والأقدام } أي: يعذبون من أسفل، ويجرون ويسحبون على وجوههم، ويردون إلى قعر جهنم كما قيل: يهوي أحدهم فيها سبعين خريفا لرسوخ الهيئات البدنية والرذائل العملية من إفراط الحرص والشره والبخل والطمع وارتكاب الفواحش والآثام من قبيل الشهوة والغضب.
{ هذه جهنم } قعر بئر أسفل سافلين من الطبيعة الجسمانية { يطوفون بينهما وبين حميم } قد انتهى حره وإحراقه من الجهل المركب ولهذا قيل: يصب من فوق رؤوسهم الحميم، لأن العذاب المستحق من جهة العمل هو نار جهنم من تحت والمستحق من جهة العلم هو الحميم من فوق.
{ ولمن خاف مقام ربه } أي: خاف قيامه على نفسه بكونه رقيبا، حافظا، مهيمنا عليه كما قال:
أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت
[الرعد، الآية:33] أو خاف ربه كما يقال: خدمت حضرة فلان أي: نفسه { جنتان } إحداهما جنة النفس، والثانية جنة القلب لأن الخوف من صفات النفس ومنازلها عند تنورها بنور القلب { ذواتا أفنان } لتفنن شعبهما من القوى والصفات المورقة للأعمال والأخلاق المثمرة للعلوم والأحوال، فإن الأفنان هي المغصنات التي تشعبت عن فروع الشجر عليها الأوراق والثمار.
[55.50-59]
{ فيهما عينان } من الإدراكات الجزئية والكلية { تجريان } إليهما من جنة الروح تنبتان فيهما ثمرات المدركات وتجليات الصفات.
{ فيهما من كل فاكهة } من مدركاتها اللذيذة { زوجان } أي: صنفان، صنف جزئي معروف مألوف وصنف كلي غريب لأن كل ما يدركه القلب من المعاني الكلية فله صورة جزئية في النفس وبالعكس { متكئين على فرش } هي مراتب كمالاتها ومقاماتها { بطائنها من إستبرق } أي: جهتها التي تلي السفل، أعني: النفس من هيئات الأعمال الصالحة من فضائل الأخلاق ومكارم الصفات ومحاسن الملكات، وظهائرها التي تلي الروح من سندس تجليات الأنوار ولطائف المواهب والأحوال الحاصلة من مكاشفات العلوم والمعارف كما هو في سورة (الدخان).
{ وجنى الجنتين } ثمراتها ومدركاتها { دان } قريب، كلما شاؤوا حيث كانوا على أي وضع كانوا قياما أو قعودا أو على جنوبهم أدركوها واجتنوها ونبت في الحال مكانها أخرى من جنسها كما ذكر في وصفها { فيهن قاصرات الطرف } مما يتصلون بها من النفوس الملكوتية التي في مراتبها وما تحتها سماوية كانت أو أرضية، مزكاة صافية مطهرة لا يجاوز نظرها مراتبهم ولا تطلب كمالا وراء كمالاتهم لكون استعداداتها مساوية لاستعدادهم أو أنقص منها، وإلا جاوزت جناتهم وارتفعت عن درجاتهم، فلم تكن قاصرات الطرف ولم تقنع بوصالهم ولذات معاشراتهم ومباشراتهم { لم يطمثهن إنس قبلهم } من النفوس البشرية لاختصاصها بهم في النشأة ولتقدس ذواتها وامتناع اتصال النفوس المنغمسة في الأبدان بها { ولا جان } من القوى الوهمية والنفوس الأرضية المحجوبة بالهيئات السفلية.
{ كأنهن الياقوت والمرجان } شبهت اللواتي في جنة النفس من الحور بالياقوت لكون الياقوت مع حسنه وصفائه ورونقه وبهائه ذا لون أحمر يناسب لون النفس، واللواتي في جنة القلب بالمرجان لغاية بياضه ونوريته، وقيل: صغار الدر أصفى وأبيض من كبارها.
[55.60-75]
{ هل جزاء الإحسان } في العمل وهو العبادة مع الحضور { إلا الإحسان } في الثواب بحصول الكمال والوصول إلى الجنتين المذكورتين.
{ ومن دونهما } أي: من ورائهما من مكان قريب منهما كما تقول: دونك الأسد، لا من دونهما بالنسبة إلى أصحابهما فيكون بمعنى قدامهما بل بمعنى بعدهما أو من غيرهما، كقوله:
إنكم وما تعبدون من دون الله
[الأنبياء، الآية:98].
{ جنتان } للمقربين السابقين، جنة الروح وجنة الذات في عين الجمع عند الشهود الذاتي بعد المشاهدة في مقام الروح { مدهامتان } أي: في غاية البهجة والحسن والنضارة.
{ فيهما عينان نضاختان } أي: علم توحيد الذات وتوحيد الصفات أعني علم الفناء وعلم المشاهدة فإنهما ينبعان فيهما، بل العلمان المذكوران الجاريان في الجنتين المذكورتين منبعهما من هاتين الجنتين ينبعان منهما ويجريان إلى تينك.
{ فيهما فاكهة } وأي فاكهة؟! فاكهة لا يعلم كنهها ولا يعرف قدرها من أنواع المشاهدات والأنوار والتجليات والسبحات { ونخل } أي: ما فيه طعام وتفكه، وهو مشاهدة الأنوار وتجليات الجمال والجلال في مقام الروح وجنته مع بقاء نوى الأنية المتقوتة منها المتلذذة بها { ورمان } أي ما فيه تفكه ودواء في مقام الجمع وجنة الذات أي: الشهود الذاتي بالفناء المحض الذي لا أنية فيه فتطعم بل اللذة الصرفة ودواء مرض ظهور البقية بالتلوين، فإن في الرمان صورة الجمع مكنونة في قشر الصورة الإنسانية.
{ فيهن خيرات حسان } أي: أنوار محضة وسبحات صرفة لا شائبة للشر والإمكان، فيها حسان من تجليات الجمال والجلال ومحاسن الصفات.
{ حور مقصورات في الخيام أي: مخدرات في حضرات الأسماء بل حضرة الوحدة والأحدية لا تبرز منها بالانكشاف لمن دونها وليس وراءها حد ومرتبة ترتقي إليها وتنظر إلى ما فوقها فهي مقصورة فيها.
[55.76-78]
{ متكئين على رفرف خضر } الرفرف نوع من الثياب عريض، لطيف في غاية اللطافة، والمراد: نور الذات الذي هو في غاية البهجة واللطافة أو نور الصفات حال البقاء بعد الفناء والاستناد إلى صمدية الوجود المطلق والتحقق به { وعبقري حسان } العبقري في اللغة: ثوب غريب منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجن، أي: الوجود الموهوب الحقاني الغريب الموصوف بصفاته المتجلية في غاية الحسن الذي هو منسوب إلى عالم الغيب بل غيب الغيب الذي لا يعلم أحد أين هو.
{ تبارك } أي: تعالى وتعاظم { اسم ربك } أي: الاسم الأعظم الذي به تزيد وترتقي مرتبة السالكين من البداية إلى النهاية حتى الوصول إليه والفوز به { ذو الجلال والإكرام } أي: الجلال في صورة الجمال والجمال في صورة الجلال اللذان لا يحجب أحدهما عن الآخر عند البقاء بعد الفناء للمحبوبين المحبين السابقين إلى غاية الدرجات بخلاف الجلال والإكرام المذكورين قبل،فإنهما هناك يحجب أحدهما عن الآخر لعدم تحقق الفاني بالوجود الحقاني والرجوع إلى تفاصيل الصفات وشهودها في عين الجمع.
[56 - سورة الواقعة]
[56.1-14]
{ إذا وقعت الواقعة } أي: القيامة الصغرى { ليس لوقعتها } نفس تكذب على الله أن البعث وأحوال الآخرة لا تكون، لأن كل نفس تشاهد أحوالها من السعادة والشقاوة { خافضة رافعة } تخفض الأشقياء إلى الدركات وترفع السعداء إلى الدرجات.
{ إذا رجت } أي: حركت وزلزلت أرض البدن بمفارقة الروح تحريكا يخرج به جميع ما فيها وينهدم معه جميع أعضائه { وبست } أي: فتتت جبال العظام بصيرورتها رميما ورفاتا أو سيقت وأذهبت حتى صارت { هباء منبثا * وكنتم أزواجا ثلاثة } السعداء الذين هم الأبرار والصلحاء من الناس، والأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس.
وإنما سمى الأولون أصحاب الميمنة لكونهم أهل اليمن والبركة أو لكونهم متوجهين إلى أفضل الجهتين وأقواهما التي هي الجهة العليا وعالم القدس، وسمى الآخرون أصحاب المشأمة لكونهم أهل الشؤم والنحوسة أو لكونهم متوجهين إلى أرذل الجهتين وأضعفهما التي هي الجهة السفلى وعالم الحس.
{ والسابقون } الموحدون الذين سبقوا الفريقين وجاوزوا العالمين بالفناء في الله { السابقون } أي: الذين لا يمكن مدحهم والزيادة على أوصافهم { أولئك المقربون } حال التحقق بالوجود الحقاني بعد الفناء { في جنات النعيم } من جميع مراتب الجنان { ثلة } أي: جماعة كثيرة { من الأولين } أي: المحبوبين الذي هم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح، أهل العناية الأولى في الأزل { وقليل من الآخرين } أي: المحبين الذين تتأخر مرتبتهم عن مرتبة المحبوبين أهل الصف الثاني، ووصفوا بالقليل لأن المحب قلما يدركه شأو المحبوب ويبلغ غايته في الكمال بل أكثرهم في جنات الصفات واقفين في درجات السعداء، والمحبوبون كلهم في جنة الذات بالغين أقصى الغايات، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الثنتان جميعا من أمتي "
، أي: ليس الأولون من أمم المتقدمين والآخرون من أمته عليه السلام، بل العكس أولى أو ثلة من أوائل هذه الأمة الذين شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأدركوا طراوة الوحي في زمانه أو قاربوا زمانه وشاهدوا من صحبه من التابعين، والآخرون هم الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم في آخر دور الدعوة وقرب زمان خروج المهدي عليه السلام لا الذين هم في زمانه، فإن السابقين في زمانه أكثر لكونهم أصحاب القيامة الكبرى وأهل الكشف والظهور.
[56.15-24]
{ على سرر موضونة } أي: متواصلة متراصفة من الوجودات الموهوبة الحقانية المخصوصة بكل أحد منهم، كقوله عليه السلام: " على منابر من نور " أو على مراتب الصفات { متكئين عليها } متظاهرين فيها لكونها من مقاماتهم { متقابلين } متساوين في الرتب لا حجاب بينهم أصلا في عين الوحدة لتحققهم بالذات وتخيرهم في الظهور بأي صفة من الصفات شاؤوا بجمعهم المحبة الذاتية لا يحتجبون بالصفات عن الذات ولا بالذات عن الصفات. { يطوف عليهم ولدان مخلدون } تخدمهم قواهم الروحانية الدائمة بدولة ذواتهم أو الأحداث المستعدون من أهل الإرادة المتصلون بهم بفرط الإرادة، كما قال:
بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم
[الطور، الآية:21] أو الملكوت السماوية.
{ بأكواب وأباريق } من خمور الإرادة والمعرفة والمحبة والعشق والذوق ومياه الحكم والعلوم { لا يصدعون عنها } أي: كلها لذة لا ألم معها ولا خمار لكونهم واصلين واجدين لذة برد اليقين، شاربين الشراب الكافوري. فإن محبة الوصول خالصة عن ألم الشوق وخوف الفقدان { ولا ينزفون } لا يذهب تمييزهم وعقلهم بالسكر ولا يطفحون لكونهم أهل الصحو غير محجوبين بالذات عن الصفات فيلحقهم السكر ويغلب عليهم الحال { وفاكهة } من مواجيدهم وكشفياتهم الذوقية { مما يتخيرون } يأخذون خيره لأنهم واجدون جميعا فيختارون أصفاها وأبهاها وأشرفها وأسناها { ولحم طير مما يشتهون } من لطائف الحكم ودقائق المعاني المقوية لهم { وحور عين } من تجليات الصفات ومجردات الجبروت وما في مراتبهم من الأرواح المجردة { كأمثال اللؤلؤ } الرطب في صفائها ونوريتها { المكنون } في الأصداف أو المخزون لكونها في بطنان الغيب وخزائنه مستورة عن الأغيار من أهل الظاهر { جزاء بما كانوا يعملون } في حال الاستقامة من الأعمال الإلهية المقصودة لذاتها المقارنة لجزائها، أو بما كانوا يعملون في حال السلوك من أعمال التزكية والتصفية.
[56.25-40]
{ لا يسمعون فيها لغوا } هذيانا وكلاما غير مفيد لمعنى لكونهم أهل التحقيق متأدبين بين يدي الله بآداب الروحانيين { ولا تأثيما } من الفواحش التي يؤثم بها صاحبها كالغيبة والكذب وأمثالهما { إلا قليلا سلاما سلاما } أي: قولا هو سلام في نفسه منزه عن النقائص مبرأ عن الفضول والزوائد، وقولا يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص ويوجب سروره وكرامته ويبين كماله وبهجته لكون كلامهم كله معارف وحقائق وتحابا ولطائف على اختلاف وجهي الإعراب.
{ وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } أي: هم شرفاء عظماء كرماء يتعجب من أوصافهم في السعادة { في سدر مخضود } أي: في جنة النفس المخضود عن شوك تضاد القوى والطبائع وتنازع الأهواء والدواعي لتجردها عن هيئات صفاتها بنور الروح والقلب أو موقورة بثمار الحسنات والهيئات الصالحات على اختلاف التفسيرين { وطلح منضود } أي: في جنة القلب لأن الطلح شجرة الموز وثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها كمدركات القلب ومعانيه المجردة عن المواد والهيئات الجرمية بخلاف السدر التي هي شجرة النبق الكثيرة النوى كمدركات النفس الجزئية المقرونة باللواحق المادية والهيئات الجرمية منضود نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه لا ساق بارزة لها لكثرة تكون مدركاته غير متناهية الكثرة { وظل ممدود } من نور الروح المروح { وماء مسكوب } أي: علم يرشح عليهم ويسكب من عالم الروح، وإنما سكب سكبا ولم يجر جريانا لقلة علوم السعداء بالنسبة إلى أعمالهم، إذ ثقل علومهم الروحانية من المواجيد والمعارف والتوحيدات والذوقيات وإن كثرت علومهم النافعة { وفاكهة كثيرة } من المدركات الجزئية والكلية اللذيذة كالمحسوسات والمخيلات والموهومات والمعاني الكلية القلبية { لا مقطوعة } لكونها غير متناهية { ولا ممنوعة } لكونها اختيارية كلما شاؤوا أين شاؤوا وجدوها { وفرش مرفوعة } من فضائل الأخلاق والهيئات النورانية النفسية المكتسبة من الأعمال الحسنة، رفعت عن مرتبة الهيئات البدنية والجهة السفلية إلى حيز الصدر الذي هو الجهة العليا من النفس المتصلة بالقلب، أو حور من النسوان أي: الملكوت المتصلة بهم السماوية في المرتبة على اختلاف التفسيرين.
{ إنا أنشأناهن إنشاء } عجيبا نورانيا مجردة عن المواد، مطهرة عن أدناس الطبائع وألواث العناصر { فجعلناهن أبكارا } أي: لم تتأثر بملامسة الأمور الطبيعية ومباشرة الطبيعيين الظاهرين من أهل العادة والمخالطين للمادة من النفوس { عربا } متحببة إليهم محبوبة لصفائها وحسن جوهرها ودوام اتصالها بهم { أترابا } لكونها في درجة واحدة متساوية المراتب أزلية الجواهر { ثلة من الأولين } لأن المحبوبين يدخلون على أصحاب اليمين جناتهم عند التداني والترقي في الدرجات وعند التدلي والرجوع إلى الصفات فيختلطون بهم وينخرطون في سلكهم { وثلة من الآخرين } لأن المحبين أكثرهم أصحاب اليمين واقفون مع الصفات دون محبة الذات وإن فسرنا الأولين والآخرين بأوائل الأمة المحمدية وأواخرها فظاهر لكثرة أصحاب اليمين في أواخرهم أيضا دون السابقين.
[56.41-72]
{ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } أي: هم الذين يتعجب من أحوالهم وصفاتهم في الشقاوة والنحوسة والهوان والخساسة { في سموم } من الأهواء المردية والهيئات الفاسقة المؤذية { وحميم } من العلوم الباطلة والعقائد الفاسدة { وظل من يحموم } من هيئات النفوس المسودة بالصفات المظلمة والهيئات السود الرديئة لأن اليحموم دخان أسود بهيم { لا بارد ولا كريم } أي: ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح والنفع من يأوي إليه بالراحة بل له إيذاء وإيلام وضر بإيصال التعب واللهب والكرب { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة والتبعات المهلكة { وكانوا يصرون على الحنث العظيم } من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة التي استحقوا بها العذاب المخلد والعقاب المؤبد { وكانوا يقولون } أي: من جملة عقائدهم إنكار البعث { الضالون المكذبون } أي: الجاهلون المصرون على جهالاتهم وإنكار ما يخالف عقائدهم الباطلة من الحق { لآكلوا من شجر من زقوم } أي: من نفس متعبدة اللذات والشهوات، منغمسة فيها، منجذبة إلى السفليات من الطبيعيات لتعودكم بها وبفوائدها { فمالئون منها } ومن ثمراتها الوبية البشعة المحرقة التي هي الهيئات المنافية للكمال الموجبة للوبال { البطون } لشدة حرصكم ونهمكم وضراوتكم بها لشرهكم وسقمكم { فشاربون عليه من الحميم } من الوهميات الباطلة والشبهات الكاذبة التي هي من باب الجهل المورط في المهالك والمعاطب، المسيغ لتلك الأعمال الشيطانية والأعمال البهيمية الظلمانية { فشاربون شرب الهيم } أي: التي بها الهيام من الإبل وهو داء لا ري معه لشدة شغفكم وكلبكم بها.
{ نحن خلقناكم } بإظهاركم بوجودنا وظهورنا في صوركم { فلولا تصدقون * أفرأيتم ما تمنون * أنتم تخلقونه } بإفاضة الصورة الإنسانية عليه { أم نحن الخالقون * أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه } بإنزال الصور النوعية عليه { أم نحن الزارعون * أفرأيتم } ماء العلم الذي تشربونه بتعطش استعدادكم { أأنتم أنزلتموه } من مزن العقل الهيولاني { أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا } بصرفه في تدابير المعاش وترتيب الحياة الدنيا { فلولا تشكرون * أفرأيتم } نار المعاني القدسية { التي تورون } بقدح زناد الفكر { أأنتم أنشأتم شجرتها } أي: القوة الفكرية { أم نحن المنشئون }.
[56.73-87]
{ نحن جعلناها تذكرة } تذكيرا للعهد الأزلي في العالم القدسي { ومتاعا } للذين لا زاد لهم في السلوك من العلم والعمل.
{ فلا أقسم بمواقع النجوم } أي: أوقات اتصال النفس المحمدية المقدسة بروح القدس وهي أوقات وقوع نجوم القرآن إليه، فيا لها أوقاتا شريفة واتصالات نورية، أو مساقط النجوم وهي أوقات غيبته عن الحواس وأفول حواسه في مغرب الجسد عند تعطيلها بانغماس سره في الغيب وانخراطه في سلك القدس بل غيبته في الحق واستغراقه في الوحدة { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } وأنى يعلمون، وأين هم وعلم ذلك؟!.
{ إنه لقرآن كريم } أي: علم مجموع له كرم وشرف قديم وقدر رفيع { في كتاب مكنون } هو قلبه المكنون في الغيب عن الحواس وما عدا المقربين من الملائكة المطهرين لأن العقل القرآني مودع فيه كما قال عيسى عليه السلام: " لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحار من يعبر ويأتي به، بل العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي الله بآداب الروحانيين يظهر عليكم " ، أو الروح الأول الذي هو محل القضاء ومأوى الروح المحمدي، بل هو هو { لا يمسه إلا المطهرون } من الأرواح المجردة المطهرة عن دنس الطبائع ولوث تعلق المواد { تنزيل من رب العالمين } لأن علمه ظهر على المظهر المحمدي فهو منزل منه على مدرجته منجما: { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } متهاونون ولا تبالون به ولا تتصلبون في القيام بحقه وفهم معناه كمن يلين جانبه ويداهن في الأمر تساهلا وتهاونا به { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } أي: قوتكم القلبي ورزقكم الحقيقي تكذيبه لاحتجابكم بعلومكم وإنكاركم ما ليس من جنسه كإنكار رجل جاهل ما يخالف اعتقاده كأن علمه نفس تكذيبه، أو رزقكم الصوري أي: لمداومتكم على التكذيب كأنكم تجعلون التكذيب غذاءكم كما تقول للمواظب على الكذب: الكذب غذاؤه .
{ فولا إذا بلغت الحلقوم } أي: فلولا ترجعون الروح عند بلوغها الحلقوم { إن كنتم صادقين } في أنكم غير مسوسين مربوبين مقهورين يعني أنكم مجبرون عاجزون تحت قهر الربوبية وإلا لأمكنكم دفع ما تكرهون أشد الكراهية وهو الموت.
[56.88-96]
{ فأما إن كان من المقربين } من جملة الأصناف الثلاثة فله روح الوصول إلى جنة الذات وريحان جنة الصفات وتجلياتها البهيجة المبهجة وجنة نعيم الأفعال ولذاتها { وأما إن كان } من السعداء والأبرار فله السرور والحبور بلقاء أصحاب اليمين وتحيتهم إياه بسلامة الفطرة والنجاة من العذاب والبراءة عن نقائص صفات النفوس في جنة الصفات { وأما إن كان } من الأشقياء والمعاندين للسابقين المنكرين لكمالاتهم المحجوبين بالجهل المركب فلهم عذاب هيئات الاعتقادات الفاسدة وظلمات الجهالات الموحشة من فوق المشار إليه بقوله: { فنزل من حميم } وعذاب الهيئات البدنية وتبعات سيئاتهم العملية من تحت المشار إليه بقوله: { وتصلية جحيم * إن هذا } المذكور من أحوال الفرق الثلاث وعواقبهم { لهو } حقية الأمر وجلية الحال من معاينة أهل القيامة الكبرى المتحققين بالحق في يقينهم وعيانهم، والله تعالى أعلم.
[57 - سورة الحديد]
[57.1-3]
{ سبح لله ما في السموات والأرض } أظهر كل موجود تنزيهه عن الإمكان وقبول الفناء بوجوده الإضافي وثباته { وهو العزيز } القوي الذي يقهرها ويجبرها { الحكيم } الذي يرتب كمالاتها وعن العجز بحدوثه وتغيره وعن جميع النقائص بإظهار كمالات كل موجود ونظامها على ترتيب حكمي.
{ هو الأول } الذي يبتدىء منه الوجود الإضافي باعتبار إظهاره { والآخر } الذي ينتهي إليه باعتبار إمكانه وانتهاء احتياجه إليه فكل شيء به يوجد وفيه يفنى، فهو أوله وآخره في حالة واحدة باعتبارين { والظاهر } في مظاهر الأكوان بصفاته وأفعاله { والباطن } باحتجابه بماهياته وبذاته { وهو بكل شيء عليم } لأن عين ماهيته صورة من صور معلوماته إذ صور الأشياء كلها في اللوح المحفوظ وهو يعلم اللوح مع تلك الصور بعين ماهية اللوح المنقش بتلك الصور فعلمه بها عين علمه بذاته.
[57.4-6]
{ خلق السموات والأرض في ستة أيام } من الأيام الإلهية أي: الآلات الستة التي هي من زمان آدم إلى زمان محمد عليهما السلام جميع مدة دور الخفاء، أي: احتجب بها فظهر الخلق دونه إذ الخلق احتجاب الحق بالأشياء وهذا الزمان زمان الاحتجاب كما ذكر في (الأعراف).
{ ثم استوى } على عرش القلب المحمدي بالظهور في جميع الصفات غير محتجب بعضها ببعض ولا الذات بالصفات ولا الصفات بالذات، بل استوت كلها في الظهور في اليوم السابع أو في صور المراتب الست من الجواهر والأعراض المذكورة في (ق)، ثم استوى على عرش الروح الأعظم بالتأثير في جميع الأشياء في الصورة الرحمانية بالسوية والظهور باسم الرحمن { يعلم ما يلج في } أرض العالم الجسماني من الصور النوعية لأنها صورة معلوماته { وما يخرج منها } من الأرواح التي تفارقها والصور التي تزايلها عند الفناء والفساد وهي التي تنزل من السماء وتعرج فيها، أو ما ينزل من سماء الروح من العلوم والأنوار الفائضة على القلب وما يعرج فيها من الكليات المنتزعة من الجزئيات المحسوسة وهيئات الأعمال المزكية { وهو معكم أينما كنتم } لوجودكم به وظهوره في مظاهركم { والله بما تعملون بصير } لسبق علمه به وكونه منقوشا في أربعة ألواح في عالم ملكوته بحضرته { يولج } ليل الغفلة في نهار الحضور { ويولج } نهار الحضور في ليل الغفلة، ويستر الجمال بالجلال ويحجب الجلال بالجمال { وهو عليم } بما أودع الصدور من أسراره ودقائق الغفلة والحضور وحكمتها ولطائف التستر والتجلي وفائدتهما لا يعلمها إلا هو.
[57.7-12]
{ آمنوا بالله } الإيمان اليقيني بتوحيد الأفعال { ورسوله } أي: لا تحتجبوا بأفعال الحق في إيمانكم بتوحيد الأفعال عن أفعال الخلق فتقعوا في الجبر وحرمان الأجر، بل شاهدوا أفعال الحق بالإيمان به جمعا في مظاهر التفاصيل بحكم الشرع ليحصل لكم التوكل ويسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي هو في أيديكم وجعلكم مستخلفين فيه بتمكينكم وإقداركم على التصرف فيه بحكم الشرع إذ الأموال كلها لله واختصاص نسبة التصرف إنما هو بحكمه في شريعته، { فالذين آمنوا منكم } بشهود الأفعال { وأنفقوا } عن مقام التوكل { لهم أجر كبير } في جنة الأفعال.
{ وما لكم لا تؤمنون بالله } وقد اعتضد السببان الداخلي والخارجي الموجب اجتماعهما للإيمان إيجابا ذاتيا. أما الخارجي فدعوة الرسول الذي هو السبب الفاعلي، وأما الداخل فأخذ الميثاق الأزلي وهو الاستعداد الفطري الذي هو السبب القابلي وقوة الاستدلال { إن كنتم مؤمنين } بالقوة، أي: إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم.
{ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات } من بيان تجليات الأفعال والصفات والذات { ليخرجكم } من ظلمات صفات النفس والهيئات البدنية المستفادة من الحس إلى تنور القلب ومن ظلمات صفات القلب إلى نور الروح ومن ظلمات وجوداتكم وإنباتكم إلى نور الدين، وهي الظلمات المشار إليها بقوله:
ظلمات بعضها فوق بعض
[النور، الآية:40] { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } يدفع آفة النقصان عنكم بهبة الاستعداد وتوفيق الهداية إلى إزالة الحجب ببعث الرسول وتعليمه إياكم، رحيم بإفاضة الكمالات مع حصول القبول بتزكية النفوس وتصفية الاستعدادات.
{ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أي: بذلوا أموالهم وأنفسهم قبل الفتح المطلق الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعراج التام والوصول إلى حضرة الوحدة { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد } لقوة استعدادهم وشدة أنوار باطنهم الأصلية عرفوه وألفوه بتسام الروح وظهرت عليهم كمالاتهم من غير واسطة تأثيره فيهم وهم الذين غلبت عليهم القوة القدسية التي
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار
[النور، الآية:35]، وأما { الذين أنفقوا من بعد } فلضعف استعداداتهم وقلة نوريتها احتاجوا إلى قوة تأثيره فيهم وإخراج كمالاتهم إلى الفعل { وكلا وعد الله } المثوبة { الحسنى } لحصول اليقين وظهور الكمال كيف كان مع تفاوت الدرجات بما لا تحصى، إذ الآخرون هم الذين حازوا الكمال الخلقي في مقام النفس الذين أقرضوا الله أموالهم رغبة في الإضعاف من الثواب وكرامة الأجر، والأولون هم السابقون الذين تجردوا عنها ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم في طريق الحق فهم المؤمنون الذين { يسعى نورهم بين أيديهم } لكونهم على الصراط المستقيم متوجهين إلى وجه الله بتوحيد الذات، والمتأخرون هم الذين يسعى نورهم بإيمانهم لكونهم أصحاب اليمين من المؤمنين والمؤمنات الكائنين في مقام القلب واليقين { بشراكم اليوم } خطاب لكلا الفريقين مع تغليب السابقين لذكر الجنات الثلاث، ووصف الفوز بالعظم إذ عظم الفوز إنما هو للفرقة الثالثة، وأما فوز من دونهم من أصحاب الجنتين فموصوف بالكبير والكريم.
[57.13-17]
{ يوم يقول المنافقون والمنافقات } أي: المستعدون الأقوياء الاستعداد والضعفاء المحجوبون بصفات النفوس وهيئات الأبدان، المنغمسون في ظلمات الطبائع وغسق الآثام الذين قد بقي فيهم مسكة من نور الفطرة ولم تنظف بالكلية يشتاقون به إلى نور الكمال الحاصل لفريق المؤمنين ويلتمسونه ويطلبونه في حسرات وزفرات عند بروزهم عن حجاب البدن بالموت وظهور الحرمان محبوسين واقفين في حضيض النقصان، متندمين عند تبين الخسران والمؤمنون يمرون كالبرق الخاطف لا يلفتون إليهم.
{ انظرونا نقتبس من نوركم } بجنسية الاستعداد وظاهر الإسلام { قيل ارجعوا وراءكم } إلى الدنيا ومحل الكسب، فإن النور إنما يكتسب بالآلات البدنية والقوى الجسمانية من الحواس الظاهرة والباطنة بالأعمال الحسنة والعلوم الحقة { فضرب بينهم بسور } هو البرزخ الهيولاني الذي يحتجبون به على حسب اقتضاء هيئاتهم الظلمانية { له باب } هو القلب، إذ لا يطلع من عالم القدس على عالم الرجس إلا من طريق القلب { باطنه } وهو عالم القدس { فيه الرحمة } أي: النور والروح والريحان وجنة النعيم من المراتب المذكورة { وظاهره } الذي يلي النفس وهو عالم الرجس ومقر تلك النفوس المظلمة من الأشقياء { من قبله } أي: من جهته { العذاب } الذي يستحقونه بحسب هيئاتهم وتنوعها وهذا الباب لا مفتح له من جهة ظاهره الذي إلى الأشقياء بل هو مسدود مغلق لا ينفتح أبدا. وأما من جهة باطنه فكلما شاء أهل الجنة من السابقين انفتح لهم فاطلعوا على أهل النار وتعذباتهم ويدخلون عليهم فينطفىء لهب النار من نورهم بل يحرق نورهم النار بالنسبة إليهم دون الجهنميين فتقول جهنم: جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي.
{ ألم نكن معكم } في الفطرة الأولى وعين جمع الصفات { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } ابتليتموها باللذات الحسية والشهوات البدنية والصفات البهيمية والسبعية { وتربصتم } باستيلاء التخيلات من الآمال والأماني الغالبة بدواعي الحسد والطمع { وارتبتم } باستيلاء الوهميات على المعقولات وغلبة الأوهام على العقول { وغرتكم الأماني } بدواعي الوهم ومقتضى التخيل { حتى جاء أمر الله من الموت وحصول العقاب. { اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها } تمثيل لتأثير الذكر في القلوب وإحيائها.
[57.18-20]
{ إن المصدقين والمصدقات } من المؤمنين بالغيب في مقام النفس لقوله: { ولهم أجر كريم * والذين آمنوا بالله ورسله } من أهل الإيقان في مقام القلب لقوله: { لهم أجرهم } أي: من جنة النفس ونورهم من جنة القلب بتجلي الصفات { أولئك هم الصديقون } بقوة اليقين { والشهداء } أهل الحضور والمراقبة والذين حجبوا عن الذات والصفات في مقابلتهم، أي: ليسوا من أهل الإيمان بالغيب ولا من أهل الإيقان { أولئك أصحاب } جحيم الطبيعة.
[57.21-24]
{ سابقوا إلى مغفرة من ربكم } لما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية وصورها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء دعاهم إلى الحياة العقلية القلبية الباقية فقال: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } أي: تستر صفات النفس بنور القلب { وجنة عرضها } العالم الجسماني بأسره لإحاطة القلب به وبصوره أو نفرهم عن الحياة البشرية ودعاهم إلى الحياة الإلهية أي: سابقوا إلى مغفرة تستر ذواتكم ووجوداتكم التي هي أصل الذنب العظيم بنور ذاته وجنة عرضها سموات الأرواح وأرض الأجساد بأسرها، أي: الوجود المطلق كله الشامل للوجودات الإضافية بأجمعها { أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله } الإيمان العلمي اليقيني على الأول والإيمان العيني والحقي على الثاني.
{ ما أصاب من مصيبة } من الحوادث الخارجية والبدنية والنفسانية { إلا في كتاب } هو القلب الكلي المسمى باللوح المحفوظ. لتعلموا علما يقينا أنه ليس من لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم مدخل وتأثير، ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلة حيلتكم وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل، فلا تحزنوا على فوات خير ونزول شر ولا تفرحوا بوصول خير وزوال شر إذ كلها مقدرة { إن الله لا يحب كل مختال } أي: متبختر من شدة الفرح بما آتاه { فخور } به لعدم يقينه وبعده عن الحق بحب الدنيا وانجذابه إلى الجهة السفلية بمنافاته للحضرة الإلهية واحتجابه بالظلمات عن النور.
{ الذين يبخلون } لشدة محبة المال { ويأمرون الناس بالبخل } لاستيلاء الرذيلة عليهم { ومن يتول } أي: يعرض عن الله بالتوجه إلى العالم السفلي والجوهر الغاسق الظلماني { فإن الله هو الغني } عنه لاستغنائه بذاته { الحميد } لاستقلاله بكماله، أي: يخذله ويمهله.
[57.25-27]
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالمعارف والحكم { وأنزلنا معهم الكتاب } أي: الكتابة { والميزان } أي: العدل لأنه آلته { وأنزلنا الحديد } أي: السيف لأنه مادته وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي وينضبط النظام الكلي المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول هو العلم والحكمة، والأصل المعول عليه في العمل والاستقامة في طريق الكمال هو العدل، ثم لا ينضبط النظام ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذان يتم بهما أمر السياسة، فالأربعة هي أركان كمال النوع وصلاح الجمهور ويجوز أن تكون البينات إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية، والكتاب إشارة إلى الشريعة والحكم العملية، والميزان إلى العمل بالعدل والسوية، والحديد إلى القهر ودفع شرور البرية. وقيل: البينات العلوم الحقيقية والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية، أي: الشرع والدينار المعدل للأشياء في المعاواضات والملك وأيا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصي والنوعي في الدارين إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم. أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الإنسان مدني بالطبع محتاج إلى التعامل والتعاون لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع، والنفوس إما خيرة أحرار بالطبع منقادة للشرع وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع. فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال، والعمل بالعدالة اللطف وسياسة الشرع. والثانية لا بد لها من القهر وسياسة الملك.
[57.28-29]
{ يا أيها الذين آمنوا } الإيمان اليقيني { اتقوا الله } بالتجرد عن صفاتكم والتنزه عن ذواتكم { وآمنوا برسوله } بالاستقامة في أعمالكم وأحوالكم على طريق المتابعة { يؤتكم كفلين من رحمته } في جنة النفس { ويجعل لكم نورا } من أنوار الروح وتجليات الصفات في مقام القلب { تمشون به } تسيرون به في الصفات { ويغفر لكم } ذنوب ذواتكم { والله غفور } بإفناء البقيات { رحيم } بهبة الوجودات الحقانية بعد فناء الأنيات { لئلا يعلم أهل الكتاب } أي: المحجوبون بالرين عن الحق أو بطريق الضلالة ودين الباطل عن الصراط المستقيم ودين الحق { ألا يقدرون على شيء من فضل الله } لأنه موهوب لا يمكن اكتسابه { وأن الفضل بيد الله } أي: في تصرفه وتحت ملكه وقدرته { يؤتيه من يشاء } موهبة لا كسبا منه { والله ذو الفضل العظيم } الذي هو نهاية الكمال، والله تعالى أعلم.
[58 - سورة المجادلة]
[58.1-7]
{ يوم يبعثهم الله } بإقامتهم عن مراقد الأبدان { فينبئهم بما عملوا } لانتقاش صور أعمالهم في ألواح نفوسهم { أحصاه الله } بإثباته في الكتب الأربعة المذكورة { ونسوه } لذهولهم عنه باشتغالهم باللذات الحسية وانهماكهم في الشواغل البدنية { والله على كل شيء شهيد } حاضر معه رقيب { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } لا بالعدد والمقارنة بل بامتيازهم عنه بتعيناتهم واحتجابهم عنه بماهياتهم وأنياتهم وافتراقهم منه بالإمكان اللازم لماهياتهم وهوياتهم وتحققهم بوجوبه اللازم لذاته واتصاله بهم بهويته المندرجة في هوياتهم وظهوره في مظاهرهم وتستره بماهياتهم ووجوداتهم المشخصة وإقامتها بعين وجوده وإيجابهم بوجوبه، فبهذه الاعتبارات هو رابع معهم، ولو اعتبرت الحقيقة لكان عينهم ولهذا قيل: لولا الاعتبارات لارتفعت الحكمة. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: " العلم نقطة كثرها الجاهلون ".
[58.8-11]
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } إنما نهوا لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما لا يشاركهما فيه ثالث، وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد وتظاهر يتقوى ويتأيد بعضها بالبعض فيما هو سبب الاجتماع لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد فإذا كانت شريرة يتناجون في الشر ويزداد فيهم الشر ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع، ولهذا ورد بعد النهي: { ويتناجون بالإثم } الذي هو رذيلة القوى البهيمية { والعدوان } الذي هو رذيلة القوى الغضبية { ومعصية الرسول } التي هي رذيلة القوة النطقية بالجهل وغلبة الشيطنة. الا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة وأمرهم بالتناجي بالخيرات ليتقووا بالهيئة الاجتماعية ويزدادوا فيها فقال: { وتناجوا بالبر } أي: الفضائل التي هي أضداد تلك الرذائل من الصالحات والحسنات المخصوصة بكل واحدة من القوى الثلاث { والتقوى } أي: الاجتناب عن أجناس الرذائل المذكورة { واتقوا الله } في صفات نفوسكم { الذي إليه تحشرون } بالقرب منه عند التجرد منها { فافسحوا يفسح الله لكم } أي : افسحوا من ضيق التنافس في الجاه والنخوة فإنه من الهيئات النفسانية واستيلاء القوة السبعية وركود النفس في ظلمة الأنية واحتجابها عن الأنوار القلبية والروحية، فتنزهوا عنها { يفسح الله لكم } بالتجريد عن الهيئات البدنية والإمداد بالأنوار فتنشرح صدوركم وتنفسح ويتسع مكانكم في فضاء عالم القدس { يرفع الله الذين آمنوا منكم } الإيمان اليقيني { والذين أوتوا العلم } أي: علم آفات النفس ودقائق الهوى وعلم التنزه منها بالتجريد { درجات } من الصفات القلبية والمراتب الملكوتية والجبروتية في عالم الأنوار { والله بما تعملون خبير } فيجازيكم ويعاقبكم بتلك الهيئات.
[58.12-13]
{ إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } لأن الاتصال بالرسول في أمر خاص لا يكون إلا لقرب روحاني او مناسبة قلبية أو جنسية نفسانية وأيا ما كان وجبت الصدقة. أما الأول والثاني فيجب فيهما تقديم الانسلاخ عن الأفعال والصفات والتجرد عن الخارجيات من الأسباب والأموال وقطع التعلقات المسمى بالترك ثم محو الآثار والهيئات الباقية منها في النفس المسمى بالتجريد عندهم ثم قطع النظر عن أفعاله وصفاته والترقي إلى مقام الروح في الأول وإلى مقام القلب في الثاني حتى يصفو له مقام التناجي الروحي مع النبي في الأسرار الإلهية والمسارة القلبية في الأمور الكشفية. ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنه: " كان لعلي عليه السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى ". وأما الثالث فيجب فيه تقديم الخيرات ببذل الأموال شكرا لتلك النعمة حتى تبقى وتزيد.
{ فإن لم تجدوا } في الأولين للتخلف عن المقامين بالوقوف مع النفس، وفي الثالث لشح النفس والفقر { فإن الله غفور } للصفات النفسانية بأنوار صفاته { رحيم } بإفاضة أنوار التجليات والمشاهدات والمعارف والمكاشفات الموجبة لوجدان تلك الصدقة في الأولين أو { غفور } لرذيلة الشح وكربة الفقر، { رحيم } بالتوفيق لاكتساب الفضيلة وتيسيرها وإعطاء المال في الثالث وكذا الإشفاق والتوبة إنما يكونان لما ذكر. ثم أمر بما يزيل التخلف المذكور ورذيلة الشح وشدة الفقر إذ بصلاة الحضور والمراقبة في مقام القلب يحصل الاول، وبزكاة الترك والتجريد يحصل الثاني، وبطاعة الله ورسوله في الأعمال الخيرية يحصل الثالث لأن الخير عادة، وببركة الطاعة ينتفي الفقر لحصول الاستغناء بالله قال الله تعالى:
" من أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه ".
[58.14-22]
{ ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم } لأن الموالاة لا تكون ثابتة حقيقة إلا مع الجنسية والمناسبة، فإن كانت وجب إزالتها وإلا وجب الاحتراز من سرايتها بالصحبة والموالاة وإنما تمكن المولاة مع عدمها إذا كانت بسبب خارجي من نفع أو لذة زالت بزواله وإلا لما أمكنت، ولهذا نفى الموالاة الحقيقية بينهم بنفي موجبها فقال: { ما هم منكم } إنما هي محض النفاق. { استحوذ عليهم الشيطان } أي: الوهم { فأنساهم ذكر الله } بتسويل اللذات الحسية والشهوات البدنية لهم وتزيين الدنيا وزبرجها في أعينهم.
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر } الإيمان اليقيني { يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم } إلى آخره، لأن المحبة أمر روحاني فإذا أيقنوا وعرفوا الحق وأهله غلبت قلوبهم وأرواحهم نفوسهم وأشباحهم فمسخت المحبة الروحانية. والمناسب الحقيقية بينهم وبين الحق وأهله المحبة الطبيعية المستندة إلى القرابة واتصال اللحمة لأن الاتصال الروحاني أشد وأقوى وألذ وأصفى من الطبيعي { كتب في قلوبهم الإيمان } بالكشف واليقين المذكر للعهد الأول الكاشف عنه { وأيدهم بروح منه } لاتصالهم بعالم القدس أو بنور تجلي الذات { ويدخلهم جنات } من الجنان الثلاث { تجري من تحتها } أنهار علوم التوحيد والتشريع { رضي الله عنهم } بمحو صفاتهم بصفاته بنور التجلي { ورضوا عنه } بالاتصال بصفاته { أولئك حزب الله } السابقون الذين لا يلتفتون إلى غيره ولا يثبتونه { هم المفلحون } الفائزون بالكمال المطلق.
[59 - سورة الحشر]
[59.1-6]
{ وقذف في قلوبهم الرعب } أي: نظر بنظر القهر إليهم فتأثروا به لاستحقاقهم لذلك ومخالفة الحبيب ومشاقته ومضادته ولوجود الشك في قلوبهم وكونهم على غير بصيرة من أمرهم وبينة من ربهم إذ لو كانوا أهل يقين ما وقع الرعب في قلوبهم ولعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور اليقين وآمنوا به فلم يخالفوه.
[59.7-9]
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } لأنه متحقق بالله فكل ما أمر به فهو أمر الله وما نهى عنه نهي الله لقوله:
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
[النجم، الآيات:3 - 4] { للفقراء المهاجرين } أي: التاركين المجردين المهاجرين عن مقام النفس { الذين أخرجوا } أي: أخرجهم الله، إذ لو خرجوا بنفوسهم لاحتجبوا بها وبرؤية الترك والتجريد فوقعوا في مقام النفس مع حجاب العجب الذي هو أشد من الذنب { من ديارهم وأموالهم } من مواطنهم ومألوفاتهم أي: صفات نفوسهم ومعلوماتهم { يبتغون فضلا من الله } من العلوم والفضائل الخلقية { ورضوانا } من الأحوال والمواهب السنية من أنوار تجليات الصفات { وينصرون الله ورسوله } ببذل النفوس لقوة اليقين { أولئك هم الصادقون } في الإيمان اليقيني لتصديق أعمالهم دعواهم، إذ علامة وجدان اليقين ظهور أثره على الجوارح بحيث لا تمكن حركاتها إلا على مقتضى شاهدهم من العلم { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } أي: المقر الأصلي الذي هو الفطرة الأولى والعهد الأول الذي هو محل الإيمان وموطنه ولهذا قرنه به، فإن النفس موطن الغربة { من قبلهم } أي: من قبل هجرة المهاجرين من دار الغربة التي هي النفس إليها لأن هذه الدار هي الدار الأصلية المتقدمة على ديارهم، ولهذا قال عليه السلام:
" حب الوطن من الإيمان "
فهم الذين لم يسقطوا عن الفطرة ولم يحتجبوا بحجاب النفس في النشأة وبقوا على صفائها بخلاف الأولين الذين تكدروا وتغيروا ثم رجعوا إلى الصفاء بالسير والسلوك { يحبون من هاجر إليهم } لوجود الجنسية في الصفاء وتحقق المناسبة الأصلية والقرابة الحقيقية بالوفاء وتذكر العهد السابق بالموافقة في الدين والإخاء { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما } أوتي المهاجرون من الحظوظ لسلامة قلوبهم عن آفات النفوس وطهارتها عن دواعي الحرص وتنزهها عن محبة الحظوظ وتيقنها بالاقسام.
{ ويؤثرون على أنفسهم } لتجردهم وتوجههم إلى جناب القدس وترفهم عن مواد الرجس وكون الفضيلة لهم أمرا ذاتيا باقتضاء الفطرة وفرط محبة الإخوان بالحقيقة والأعوان في الطريقة { ولو كان بهم خصاصة } فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم لمكان الفتوة وكمال المروءة ولقوة التوحيد والاحتراز عن حظ النفس وخوف الرجوع إلى المطالب الجزئية بعد وجدان الذوق من المطالب الكلية.
{ ومن يوق شح نفسه } بعصمة الله وكلاءته، فإن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخلق دنيء، والشح من غرائزها المعجونة في طينتها لملازمتها الجهة السفلية ومحبتها الحظوظ الجزئية فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله { فأولئك هم المفلحون } بالكمالات القلبية.
[59.10-15]
{ والذين جاؤوا من } بعد الذين هاجروا إلى الفطرة، أي: اخذوا في السلوك وقطع منازل النفس متضرعين قائلين بلسان الافتقار: { ربنا اغفر لنا } هيئات الرذائل وصفات النفوس بأنوار القلوب { ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ذنوب التلوينات بظهور تلك الصفات والضلالة بعد الهدى { ولا تجعل في قلوبنا غلا } بالاحتجاب بالهيئات السبعية والشيطانية ورسوخها في قلوبنا { ربنا إنك غفور } تستر تلك الهيئات بأنوار الصفات { رحيم } بإفاضة الكمالات وإراءة التجليات.
{ لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } لاحتجابهم بالخلق عن الحق بسبب جهلهم بالله وعدم معرفتهم له إذ لو عرفوه لعلموا أن لا مؤثر غيره وشعروا بعظمته وقدرته فلم يبق عظم الخلق ولا أثرهم وقدرهم عندهم، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " عظم الخالق عندك يصغر المخلوق في عينك ".
{ بأسهم بينهم شديد } لكونهم غير مقهورين هناك بقهر الله ولا واقعا ظل قهر الرسول وهيبته وعكس نور تأييده وتنور نفسه بالاتصال بعالم القدس عليهم { تحسبهم جميعا } لاتفاقهم في الظاهر { وقلوبهم شتى } لانتفاء الجمعية الحقيقية بنور التوحيد عنها وتجاذب دواعيها لتفنن تعلقاتها بالأمور السفلية وتفرقها عن الحق بالباطل لاحتجابها بالكثرة عن الوحدة { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } فيختارون طريق التوحيد العلمي ويتنحون عن السبل المتفرقة الوهمية، فإن طريق العقل واحد وطرق شيطان الوهم متفرقة، وتشتت القلوب يوهن العزائم ويضعف القوى.
[59.16-18]
{ كمثل الشيطان } أي: مثل إخوانهم المنافقين في إغوائهم كمثل الشيطان، أي: الوهم الإنساني، إذ زين للإنسان حال كونه على الفطرة اللذات الحسية والشهوات البدنية وحرضه على مخالفة العقل بالهوى والاحتجاب بالطبيعة ليقع في الردى فلما احتجب بها عن الحق وانغمس في ظلمة النفس تبرأ منه بإدراك المعاني دونه، والتقرب إلى جناب الحق بالترقي إلى الأفق العقلي والاطلاع على بعض الصفات الإلهية واستشعار الخوف بإدراك آثار العظمة والقدرة وأنوار الربوبية { فكان عاقبتهما أنهما في النار } لكونهما جسمانيين ملازمين للطبيعة ونيرانها المتفننة وآلامها المتنوعة { وذلك جزاء الظالمين } الذين وضعوا العبادة غير موضعها فعبدوا صنم الهوى وطاغوت البدن، واتخذوا آلهتهم أهواءهم.
{ يا أيها الذين آمنوا } الإيمان الغيبي التقليدي { اتقوا الله } في اجتناب المعاصي والسيئات والرذائل واكتساب الحسنات والطاعات والفضائل { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } لما بعد الموت من الصالحات { واتقوا الله } في الاحتجاب بالأعراض والأغراض وتوسيط الحق للمشتهيات { إن الله خبير } بأعمالكم ونياتكم فيجازيكم بحسبها، كما قال عليه السلام:
" لكل امرىء ما نوى "
أو آمنوا الإيمان التحقيقي واتقوا الله في الاحتجاب عنه بأفعالكم وصفاتكم { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } من محقرات الأعمال والصفات، فإنها حجب حاجزة ووسائل مردودة مذمومة، واتقوا الله في البقيات والتلوينات فإن الله خبير بما تعملون بنفوسكم وما تعملون به لا بنفوسكم.
[59.19-21]
{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله } بالاحتجاب بالشهوات الجسمانية والاشتغال باللذات النفسانية { فأنساهم أنفسهم } حتى حسبوها البدن وتركيبه ومزاجه فذهلوا عن الجوهرة القدسية والفطرية النورية { أولئك هم الفاسقون } الذين خرجوا عن الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها وخانوا وغدروا وجاسوا ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.
{ لا يستوي } الناسون الغادرون الذين هم { أصحاب النار و } المؤمنون المتحققون المتقون الموفون بعهدهم الذين هم { أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } والخاسرون لفرط غفلتهم وذهاب تمييزهم كأنهم لا يفرقون بين الجنة والنار وإلا لعلموا بمقتضى تمييزهم { على جبل } أي: قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه حتى لو فرض إنزاله على جبل تأثر منه بالخشوع والانصداع.
[59.22-24]
{ هو الله الذي لا إله إلا هو } لما كان الإسلام مبنيا على الجمع والتفصيل كثر تكرارهما في المثاني، أي: لا إله في الوجود إلا هو، فجمع ثم فصل بقوله: { عالم الغيب والشهادة } والعلم مبدأ التفصيل إذ عالميته هي تميز الحقائق وأعيان الماهيات في عين الجمع أي: صور الماهيات في عالم الغيب عن عالميته ووجوداتها في عالم الشهادة هي بعينها ظهرت في مظاهر محسوسة لا بمعنى الانتقال بل بمعنى الظهور والبطون كظهور الصورة المعلومة على القرطاس بالكتابة، فكل ما ظهر فعن علمه السابق ظهر.
{ الرحمن } بإفاضة وجودات الماهيات وصورها النوعية على المظاهر باعتبار البداية { الرحيم } بإفاضة كمالاتها في النهاية. ثم كرر التوحيد الذاتي باعتبار الجمع لينبه على أن هذه الكثرة المعتبرة باعتبار تفاصيل الصفات لا تنافي وحدته الذاتية كالإضافيات والسلبيات المعدودة بعده { الملك } أي: الغني المطلق الذي يحتاج إليه كل شيء المدبر للكل في ترتيب النظام، الحكمي الذي لا يمكن كون أتم وأكمل منه { القدوس } المجرد عن المادة وشوائب الإمكان في جميع صفاته فلا يكون شيء من صفاته بالقوة وفي وقت دون وقت { السلام } أي: المبرأ عن النقائص كالعجز { المؤمن } لأهل اليقين بإنزال السكينة { المهيمن } الحافظ لمن أمنه على حالة الأمن من كل مخوف { العزيز } القوي الذي يغلب ولا يغلب { الجبار } الذي يجبر كل أحد على ما أراد { المتكبر } المتعالي عن أن يصل إليه غيره ويقارنه في الوجود { سبحان الله عما يشركون } بإثبات الغير { الخالق } المقدر للمظاهر على حسب ما أراد ظهوره من أسمائه وصفاته { البارىء } المفصل المميز بعضها عن بعض بالهيئات المتميزة في عين ذاته { المصور } لصورة تفاصيل مظاهر صفاته { له } هذه { الأسماء الحسنى } الظاهرة في صور المخلوقات المصورة الباطنة في صور المبدعات المغيبة ليسبح ذاته على لسان أسمائه وصفاته والله أعلم.
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1-2]
عدو الله هو الذي خالف عهده وأعرض بقلبه عن جنابه، فبالضرورة يكون مشركا بمحبة الغير وعدوا لكل موحد ينفي الغير لكون كل منهما في عدوة حينئذ ولهذا قال: { عدوي وعدوكم } وأشار إلى كون الموالاة بينهما عرضيا لا ذاتيا بقوله: { تلقون إليهم بالمودة } ثم بين امتناع كونه ذاتيا ببيان المنافاة الذاتية بينهما وعدم المناسبة والجنسية من جميع الوجوه بقوله: { وقد كفروا } إلى آخره، ثم أشار إلى أن وقوعها لا يكون إلا عند الجنسية وحدوث الميل إلى الشرك، فإن وقعت فلا بد منهما بقوله: { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } أي: طريق الوحدة.
[60.3-6]
ثم أشار إلى أن العرضية لا يجوز أن يختارها أهل التحقيق لأن السبب الموجب لها أمور فانية لا يبقى نفعها إلا في الدنيا والعاقل يجب أن يختار الأمور الباقية دون الفانية بقوله: { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } أي: لا نفع لمن اخترتم موالاة العدو الحقيقي لأجله لأن القيامة الصغرى مفرقة بينكم تفريقا أبديا لعدم الاتصال الحقيقي الباقي بعد الموت بينكم، وهذا معنى قوله: { يوم القيامة يفصل بينكم } أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم، كما قال:
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه
[عبس، الآيات:34 - 36]. ثم علمهم طريق التوحيد بالتأسي بالموحد الحقيقي السابق إبراهيم النبي عليه السلام وأصحابه { لأستغفرن لك } أي: لأطلبن لك الغفران بمحو صفاتك وسيئات أعمالك بالنور الإلهي { وما أملك } إلا الطلب. وأما وجود ذلك فأمر متعلق بمشيئة الله وعنايته كما قال:
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء
[القصص، الآية:56].
{ ربنا عليك توكلنا } بالخروج عن أفعالنا بشهود أفعالك { وإليك أنبنا } بمحو صفاتنا بمطالعة صفاتك { وإليك المصير } بفناء ذواتنا ووجوداتنا في ذاتك وهو التوحيد التام.
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } أي: إنا لا نخافهم ولا نرى لهم تأثيرا ولا وجودا ولكنا نعوذ بعفوك من عقابك حتى لا تعاقبنا بهم ولا تبلينا بأيديهم بسبب ما فرط منا من السيئات والظهور بالصفات { واغفر لنا } ذنوب تفريطاتنا بالعفو لا بالعقوبة { إنك أنت العزيز } القوي على عقابنا بهم وعلى دفعهم عنا وقمعهم وقهرهم { الحكيم } لا يفعل أحد الأمرين ولا يختاره إلا بمقتضى الحكمة ثم كرر وجوب التأسي بإبراهيم وأصحابه وأثبته لمن كان في بداية التوحيد في مقام الرجاء وتوقع الكمال.
[60.7-13]
{ عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } برفع موجب العداوة الذي هو الكفر، إذ الاحتجاب ليس أمرا فطريا بل الإيمان بمقتضى الفطرة الأصلية والتحاب وإنما حدث الكفر عند الاحتجاب بالنشأة والانغمار في الغواشي الطبيعية.
{ والله } قادر على رفعها، وإذا ارتفعت ظهرت المودة الحقيقية بنور الوحدة الذاتية ومقتضى الأخوة الإيمانية { والله غفور } يستر تلك الهيئات المظلمة الحاجبة بنور صفاته { رحيم } يرحم أهل النقصان فيجبره بإفاضة كمالاته { إن الله يحب المقسطين } لأن العدالة هي ظل المحبة والمحبة ظل الوحدة فما ظهرت العدالة في مظهر إلا وقد تعلقت محبة الله به أولا إذ لا ظل بغير الذات والله تعالى أعلم.
[61 - سورة الصف]
[61.1-3]
{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } من لوازم الإيمان الحقيقي الصدق وثبات العزيمة، إذ خلوص الفطرة عن شوائب النشأة يقتضيهما، وقوله: { لم تقولون ما لا تفعلوا } يحتمل الكذب وخلف الوعد، فمن ادعى الإيمان وجب عليه الاجتناب عنهما بحكم الإيمان وإلا فلا حقيقة لإيمانه، ولهذا قال: { كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون } لأن الكذب ينافي المروءة التي هي من مبادىء الإيمان فضلا عن كماله إذ الإيمان الأصلي هو الرجوع إلى الفطرة الأولى والدين القيم وهي تستلزم أجناس الفضائل بجميع أنواعها التي أقل درجاتها العفة المقتضية للمروءة، والكاذب لا مروءة له فلا إيمان له حقيقة. وإنما قلنا: لا مروءة له لأن النطق هو الإخبار المفيد للغير المعنى المدلول عليه باللفظ والإنسان خاصته التي تميزه عن غيره هي النطق فإذا لم يطابق الإخبار لم تحصل فائدة النطق، فخرج صاحبه عن الإنسانية وقد أفاد ما لم يطابق من اعتقاد وقوع غير الواقع فدخل في حد الشيطنة فاستحق المقت الكبير عند الله بإضاعة استعداده واكتساب ما ينافيه من أضداده. وكذا الخلف لأنه قريب من الكذب ولأن صدق العزم وثباته من لوازم الشجاعة التي هي إحدى الفضائل اللازمة لسلامة الفطرة وأول درجاتها، فإذا انتفت انتفى الإيمان الأصلي بانتفاء ملزومه فثبت المقت من الله.
[61.4-9]
{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله إذ المرء إنما يحب كل ما يحب من دون الله لنفسه، فأصل الشرك ومحبة الأنداد محبة النفس فإذا سمح بالنفس كان غير محب لنفسه وإذا لم يحب نفسه فبالضرورة لم يحب شيئا من الدنيا وإذا كان بذله للنفس في الله وفي سبيله لا للنفس كما قال: " ترك الدنيا للدنيا " ، كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شيء فكان من الذين قال فيهم:
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة، الآية:56]، وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم لقوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة، الآية:54].
وبالحقيقة لا تكون محبة الله إلا منه.
{ فلما زاغوا } عن مقتضى علمهم لفرط الهوى وحب الدنيا { أزاغ الله قلوبهم } عن طريق الهدى وحجبهم عن نور الكمال لإقبالهم على الجهة السفلية وميلهم عن مقتضى الفطرة الأصلية { والله لا يهدي القوم الفاسقين } الخارجين عن مقتضى الفطرة التي هي الدين القيم إلى نور الكمال لزوال الاستعداد وعدم القابل.
{ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب } إذ وضع نوره في الظلمة وصرف بضاعة البقاء، أي: الاستعداد الفطري في متاع الفناء مع وجود الداعي الخارجي الذي هو النبي إلى الإسلام الذي هو مقتضى ذلك النور الأصلي { والله لا يهدي } الموصوفين بهذه الصفة إلى النور الكمالي أي: نور ذاته وسبحات وجهه لما ذكر في الفاسقين.
[61.10-13]
{ يا أيها الذين آمنوا } الإيمان التقليدي لأن التجارة المنجية من العذاب الأليم التي دعاهم إليها إنما تكون للمحتجبين عن نور الله بصفات النفوس وهيئاتها { تؤمنون بالله ورسوله } تحقيقا ويقينا استدلاليا { و } بعد صحة الاستدلال وقوة اليقين { تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } لأن بذل المال والنفس في سبيل الله لا يكون إلا عن يقين { ذلكم خير لكم } لأنهما ستصيران إلى الفناء فإذا بعتموهما بالباقيات من اللذات المستعلية عليهما كان خيرا لكم { إن كنتم تعلمون } علما يقينيا.
{ يغفر لكم } ذنوب سيئات أعمالكم وهيئات نفوسكم المظلمة { ويدخلكم جنات } من جنات النفوس لأنهم كانوا تاجرين باذلين الأنفس والأموال للأعواض، عاملين بقوله:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة، الآية:111] { تجري من تحتها } أنهار علوم التوكل وتوحيد الأفعال وعلوم الشرائع والاخلاق { ومساكن طيبة } كمقام التوكل وسائر منازل النفوس ومقاماتها { ذلك الفوز العظيم } بالسنبة إلى من ليس له هذه المقامات في تلك الجنات لا العظيم المطلق.
{ وأخرى تحبونها } وتجارة أخرى أربح منها وأجل محبوبة إليكم هي { نصر من الله } بالتأييد الملكوتي والكشف النوري { وفتح قريب } بالوصول إلى مقام القلب ومطالعة تجليات الصفات وحصول مقام الرضا، وإنما قال { تحبونها } ، لأن المحبة الحقيقية لا تكون إلا بعد الوصول إلى مقام القلب وإنما سماها تجارة لاستبدالهم صفات الله تعالى مكان صفاتهم.
[61.14]
الحواريون هم الذين خلصوا عن ظلمة النفوس وسواد الهيئات الطبيعية بالوصول إلى مقام القلب وتنوروا بنور الفطرة الأصلية، فابيضت وجوههم الحقيقية بالتصفية { من أنصاري إلى الله } أي: من معي متوجها إلى نصرة الله بالسلوك في صفاته { قال الحواريون } الصافون { نحن أنصار الله } ننصره بإظهار كمالات صفاته في مظاهرنا فسلكوا في صفاته وأظهروا أنوارها حتى بلغوا الكمال القلبي والتكميل بالتأثير { فآمنت طائفة } بهم وبتأثير صحبتهم لقبول استعداداتهم { وكفرت طائفة } لاحتجابهم بصفاتهم { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم } بالتأييد النوري { فأصبحوا ظاهرين } غالبين عليهم بالحجج النيرة والبراهين الواضحة، والله تعالى أعلم.
[62 - سورة الجمعة]
[62.1-9]
{ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } كل وضع لا تطلع العقول البشرية على سببه فهو من طور وراء العقل المشوب بالوهم لامتناع وقوع التخصيص من غير مخصص كوضع حروف التهجي وأيام الأسابيع، بل وضع اللغات كلها، فإن في كل بقعة من بقاع الأرض لغة لا شك في أن أول التكلم بها أمر توقيفي اقتضاه استعداد خاص باجتماع أمور سفلية وعلوية لا يمكننا ضبطها، ولو قلنا بالاصطلاح لكان لا يخلو أيضا من سبب يوجب الاصطلاح على ذلك الوضع المخصوص، فأيام الأسبوع وضعت بإزاء الأيام الإلهية التي هي مدة الدنيا وقد اشتهر فيما بين الناس في جميع الأعصار أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة على عدد الكواكب السبعة، فكل ألف سنة يوم من أيام الله لقوله:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج، الآية:47]. وتفيد مدة الدنيا بالسبعة هو أن جميع مدة دور الخفاء المطلق ستة آلاف سنة ويبتدىء الظهور في السابع مع ظهور محمد عليه السلام كما قال:
" بعثت أنا والساعة كهاتين "
، وجمع بين السبابة والوسطى. ويزداد إلى تمام سبعة آلاف سنة من لدن آدم عليه السلام أول الأنبياء إلى زمان المهدي عليه السلام، وينقضي الخفاء بالظهور التام لقيام الساعة ووقوع القيامة الكبرى وعند ذلك يظهر فناء الخلق والبعث والنشور والحساب ويتميز أهل النار وأهل الجنة ويرى عرش الله بارزا كما حكى حارثة رضي الله عنه عن شهوده وهي في الآخرة.
فالستة منها هي التي خلق فيها السموات والأرض لأن الخلق حجاب الحق، فمعنى خلق اختفى بهما فأظهرهما وبطن، واليوم السابع هو يوم الجمع وزمان الاستواء على العرش بالظهور في جميع الصفات، وابتداء يوم القيامة الذي طلع فجره ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه و على آله، فالمحمديون أهل الجمعة ومحمد صاحبها وخاتم النبيين، وإنما سمي يوم الجمع لأنه وقت الظهور في صورة الاسم الأعظم لجميع الصفات ووقت استوائه في الظهور بجميعها بحيث لا يختلف بالظهور والخفاء. ولهذا السر ندبت الصلاة يوم الجمعة وقت الاستواء وكرهت في سائر الأيام، ويسمى هذا الظهور عين الجمع لاجتماع الكل فيه ولهذا المعنى سميت الجمعة جمعة. واتفق أهل الملل كلها من اليهود وغيرهم أن الله فرغ من خلق السموات والأرض في اليوم السابع، إلا أن اليهود قالوا: إنه السبت، وابتداء الخلق من الأحد. وعلى ما أولنا يكون هو يوم الجمعة. وكون الأحد ابتداء الخلق مؤول بان أحدية الذات منشأ الكثرة وإن جعلنا الأحد أول الأيام ووقت ابتداء الخلق كان دور النبوة دور الخفاء. وفي السادس ابتداء الظهور وازداد في الخواص حتى ينتهي إلى تمام الظهور وارتفاع الخفاء في آخره عند خروج المهدي، ويعم الظهور في السابع الذي هو السبت.
ولما كان هذا اليوم - أي يوم الجمعة - موضوعا بإزاء هذا المعنى، ندب الناس فيه إلى الفراغ من الأشغال الدنيوية التي هي حجب كلها والحضور والاجتماع في الصلاة وأوجب السعي إلى ذكر الله فيه وترك البيع لكي تتظاهر النفوس بهيئة الاجتماع في صلاة الحضور المعد للوصول إلى حضرة الجمع عسى أن يتذكر أحدهم بالفراغ عن الأشغال الدنيوية التجرد عن الحجب الخلقية، وبالسعي إلى ذكر الله، السلوك في طريقه، والصلاة مع الاجتماع: الوصول إلى حضرة الجمع، فيفلح. { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } سر ذلك وحقيقته.
[62.10-11]
{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } الأمر بالانتشار { في الأرض } وابتغاء الفضل بعد انقضاء الصلاة إشارة إلى الرجوع إلى التفصيل بعد الفناء في الجمع بالصلاة الحقيقية، فإن الوقوف مع الجمع حجاب الحق عن الخلق وبالذات عن الصفات. فالانتشار هو التقلب في الصفات حال البقاء بعد الفناء بالوجود الحقاني والسير بالله في الخلق وابتغاء فضل الله هو طلب حظوظ تجليات الأسماء والصفات والرجوع إلى مقام أرض النفس وتوفية حظوظها بالحق { واذكروا الله كثيرا } أي: احضروا الوحدة الجمعية الذاتية في صورة الكثرة الصفاتية بحيث لم تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة فتضلوا بعد الهداية ولازموا طريق الاستقامة في توفية حقوق الحق والخلق معا ومراعاة الجمع والتفصيل جميعا { لعلكم تفلحون } بالفلاح الأعظم الذي هو حكمة وضع الجمعية { وإذا رأوا تجارة أو لهوا } إلى آخره، أي: أين هم وهذا المعنى؟ وأنى لهم هذه المعاملة؟ لقد بعدوا فذهلوا واحتجبوا فلهوا { قل ما عند الله خير } أي: إن لم تربأ فطرتكم بهمتكم إلى هذا المعنى فاعملوا للأعواض الباقية عند الله فإنها خير من الأمور الفانية التي عندكم وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل فإن الله هو { خير الرزاقين } والله تعالى أعلم.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1-2]
{ المنافقون } هم المتذبذبون الذين يجذبهم الاستعداد الأصلي إلى نور الإيمان والاستعداد العارضي الذي حدث برسوخ الهيئات الطبيعية والعادات الرديئة إلى الكفر، وإنما هم كاذبون في شهادة الرسالة لأن حقيقة معنى الرسالة لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم الذي يعرفون الله ويعرفون بمعرفته رسول الله، فإن معرفة الرسول لا تمكن إلا بعد معرفة الله وبقدر العلم بالله يعرف الرسول فلا يعلمه حقيقة إلا من انسلخ عن علمه وصار عالما بعلم الله وهم محجوبون عن الله بحجب ذواتهم وصفاتهم وقد أطفؤوا نور استعداداتهم بالغواشي البدنية والهيئات الظلمانية فأنى يعرفون رسول الله حتى يشهدوا برسالته.
[63.3-8]
{ ذلك ب } سبب { أنهم آمنوا } بالله بحسب بقية نور الفطرة والاستعداد { ثم كفروا } أي: ستروا ذلك النور بحجب الرذائل وصفات نفوسهم { فطبع على قلوبهم } برسوخ تلك الهيئات وحصول الرين من المكسوبات فحجبوا عن ربهم بالكلية { فهم لا يفقهون } معنى الرسالة ولا علم التوحيد والدين.
{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } لأن التناسب في أشكالهم وحسن مناظرهم وروائهم وكمال صباحتهم ووسامتهم دل على استعدادهم من جهة الفراسة ونم بنور فطرهم، ولهذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولهم: واستمع إلى كلامهم: فإن الصباحة وحسن المنظر لا يكون إلا من صفاء الفطرة في الأصل. ولما رأى غلبة الرين على قلوبهم وانطفاء نور استعدادهم وإبطال الهيئات البدنية العارضية خواصهم الأصلية آيس منهم وتعجب من حالهم بقوله: { أنى يؤفكون } أي: يصرفون عن النور إلى الظلمة وعن الحق إلى الباطل. وروي عن بعض الحكماء أنه رأى غلاما حسنا وجهه، فاستنطقه لظنه ذكاءه وفطنته فما وجد عنده معنى فقال: ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن، وهذا معنى قوله: { كأنهم خشب مسندة } أي: أجرام خالية عن الأرواح لا نفع فيها ولا ثمر كالأخشاب المسندة إلى الجدران عند الجفاف وزوال الروح النامية عنها، فهم في زوال استعداد الحياة الحقيقية والروح الإنساني بمثابتها { يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو } لأن الشجاعة إنام تكون من اليقين، واليقين من نور الفطرة وصفاء القلب، وهم منغمسون في ظلمات صفات النفوس محتجبون باللذات والشهوات أهل الشك والارتياب، فلذلك غلبهم الجبن والخور فاحذرهم فقد بطل استعدادهم فلا يهتدون بنورك ولا تؤثر فيهم صحبتك { لووا رؤوسهم } لضراوتهم بالأمور الظلمانية واعتيادهم بالكمالات البهيمية والسبعية فلا يألفون النور ولا يشتاقون إليه ولا إلى الكمالات الإنسانية لمسخ الصورة الذاتية { ورأيتهم يصدون } يعرضون لانجذابهم إلى الجهة السفلية والزخارف الدنيوية فلا ميل في طباعهم إلى الجهة العلوية والمعاني الأخروية { وهم مستكبرون } لغلبة الشيطنة واستيلاء القوة الوهمية واحتجابهم بالأنائية وقصور الخيرية { لن يغفر الله لهم } لرسوخ الهيئات الظلمانية فيهم وزوال قبول استعداداتهم للهداية لفسقهم وخروجهم عن دين الفطرة القيم.
{ يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } لاحتجابهم بأفعالهم عن رؤية فعل الله وبما في أيديهم عما في خزائن الله فيتوهمون الإنفاق منهم لجهلهم وكذا توهموا العزة والقدرة ولأنفسهم لاحتجابهم بصفاتهم عن صفات الله فقالوا: { ليخرجن الأعز منها الأذل } ولم يشعروا أن العزة والقوة والقدرة كلها أنوار ذات الله تعالى وصفاته اللازمة لذاته فبقدر القرب منه والفناء فيه والمحو في صفاته تظهر على المظاهر الإنسية ولا أقرب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم المؤمنين المحققين الموقينين فلا أعز منه عليه السلام من جميع الخلق ثم الذين يلونه من المؤمنين { ولكن المنافقين لا يعلمون } لمكان احتجابهم وشدة ارتيابهم. ولقد قيض من نفس من تكلم بهذا الكلام من أخرجه وحبسه ولم يدعه يدخل المدينة حتى أقر بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. روي أن القائل لذلك هو عبد الله بن ابي، فلما رجعوا إلى المدينة سل ابنه السيف ومنع أباه من الدخول، فلم يزل حبيسا في يده حتى أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد هو بعزة الله ورسوله والمؤمنين.
[63.9-11]
{ لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } إن صدقتم في الإيمان، فإن قضية الإيمان غلبة حب الله على محبة كل شيء فلا تكن محبتهم ومحبة الدنيا من شدة التعلق بهم وبالأموال غالبة في قلوبكم على محبة الله فتحتجبوا بهم عنه فتصيروا إلى النار فتخسروا نور الاستعداد الفطري بإضاعته فيما يفنى سريعا، وتجردوا عن الأمور بإنفاقها وقت الصحة والاحتياج إليها ليكون فضيلة في أنفسكم وهيئة نورية لها، فإن الإنفاق إنما ينفع إذا كان عن ملكة السخاء وهيئة التجرد في النفس. فأما عند حضور الموت فالمال للوارث لا له فلا ينفعه إنفاقه وليس له إلا التحسر والتندم وتمنى التأخير في الأجل بالجهل فإنه لو كان صادقا في دعوى الإيمان وموقنا بالآخرة لتيقن أن الموت ضروري وأنه مقدر في وقت معين قدره الله فيه بحكمته فلا يمكن تأخره { والله خبير } بأعمالكم ونياتكم فلا ينفع الإنفاق في ذلك الوقت ولا تمني التأخير في الأجل، ووعد التصدق والصلاح لعلمه بأنه ليس عن ملكة السخاء ولا عن التجرد والزكاء بل من غاية البخل وحب المال كأنه يحسب أنه يذهب به معه وبأن ذلك التمني والوعد محض الكذب ومحبة العاجلة لوجود الهيئة المنافية للتصدق والصلاح في النفس والميل إلى الدنيا، كما قال الله تعالى:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون
[الأنعام، الآية:28]، والله أعلم.
[64 - سورة التغابن]
[64.1-8]
{ فقالوا أبشر يهدوننا } لما حجبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل عليهم بما لا يقاس ولم يجدوا منه إلا البشرية أنكروا هدايته، فإن كل عارف لا يعرف معروفه إلا بالمعنى الذي فيه فلا يوجد النور الكمالي إلا بالنور الفطري ولا يعرف الكمال إلا الكامل، ولهذا قيل: لا يعرف الله غير الله. وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما دالا لما أمكن به التوجه نحوه، وكذا كل مصدق بشيء فإنه واجد للمعنى المصدق به بما في نفسه من ذلك المعنى، فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري أصلا لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه ولم يعرفوا من الحق شيئا فيحدث فيهم طلب فيحتاجوا إلى الهداية فأنكروا الهداية { فكفروا } مطلقا أي: حجبوا عن الحق والدين والرسول وأعرضوا بالتوجه إلى ما وجدوا من المحسوسات عن المعقول { و } قد { استغنى الله } بكماله لأنه واجد كماله مشاهد لذاته عرفوا أو لم يعرفوا { والله غني } بذاته عن إيمانهم لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم ولا على معرفتهم له { حميد } كامل في نفسه بكمالاته الظاهرة في مظاهر ذرات الوجود خصوصا على أوليائه وإن لم يظهر عليهم، أي: إن لم يبصروه وإن لم يحمدوه بتلك الكمالات لاحتجابهم عنها فهو حميد من كل موجود بكماله المخصوص به.
[64.9-13]
{ ذلك يوم التغابن } أي: ليس التغابن في الأمور الدنيوية فإنها أمور فانية سريعة الزوال، ضرورية الفناء، لا يبقى شيء منها لأحد، فإن فات شيء من ذلك أو أفاته أحد ولو كان حياته فإنما فات أو أفيت ما لزم فوته ضرورة فلا غبن ولا حيف حقيقة وإنما الغبن والتغابن في إفاتة شيء لو لم يفته لبقي دائما وانتفع به صاحبه سرمدا وهو النور الكمالي والاستعدادي فتظهر الحسرة والتغابن هناك في إضاعة الربح ورأس المال في تجارة الفوز والنجاة كما قال:
فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
[البقرة، الآية:16] فمن أضاع استعداده ونور فطرته كان مغبونا مطلقا كمن أخذ نوره وبقي في الظلمة، ومن بقي نور فطرته ولم يكتسب الكمال اللائق به الذي يقتضيه استعداده أو اكتسب منه شيئا ولم يبلغ غايته كان مغبونا بانسبة إلى الكامل التام فكأنما ظفر ذلك الكامل بمقامه ومرامه وبقي هذا متحيرا في نقصانه { ومن يؤمن بالله } بحسب نور استعداده { ويعمل صالحا } بمقتضى إيمانه فإن العمل إنما يكون بقدر النظر { يكفر عنه سيئاته } التي اتقى الله فيها بعمله { ويدخله جنات } على حسب درجات أعماله، فإن آمن تقليدا واجتنب المعاصي وعمل بالطاعات يكفر عنه سيئات ذنوبه ويدخله جنات النفس على حسب درجات عمله وتقواه، وإن آمن تحقيقا واجتنب صفاته وعمل بالسلوك في صفات الله ومرضاته يكفر عنه سيئات صفات نفسه ويدخله جنات القلب على قدر مراتبه في الأعمال والمقامات، وإن آمن إيمانا عينيا وعمل بالمشاهدة واتقى الله في وجوده يدخل جنات الروح بتكفير سيئات وجود قلبه وصفاته، وإن آمن إيمانا حقيقيا واتقى في آنيته ورؤية فنائه يكفر عنه سيئات بقيته وتلوينه بظهور أنائيته ويدخله جنات الذات.
{ والذين كفروا } حجبوا في مقابلة المؤمنين ومراتبهم { أولئك أصحاب } نار الطبقة التي حجبوا بها معذبين.
{ ما أصاب من مصيبة } من هذه المصائب الحاجبة وغيرها { إلا بإذن الله } أي: بتقديره ومشيئته على مقتضى حكمته { ومن يؤمن بالله } أحد الإيمانات المذكورة { يهد قلبه } إلى العمل بمقتضى إيمانه حتى يجد كمال مطلوبه الذي آمن به ويصل إلى محل نظره { والله بكل شيء عليم } فيعلم مراتب إيمانكم وسرائر قلوبكم وأحوال أعمالكم وآفاتها وخلوصها من الآفات.
{ واطيبعوا الله وأطيعوا الرسول } على حسب معرفتكم بالله وبالرسول فإن أكثر التخلف من الكمال والوقوع في الخسران والنقصان إنما يقع من التقصير في العمل وخور القدم لا من عدم النظر.
[64.14-18]
{ إن من أزواجكم وأولادكم } أي: بعضهم لاحتجابكم بهم ووقوفكم معهم بالمحبة وشدة العلاقة فتشركونهم بالله في المحبة بالتساوي في المحبتين وتعبدونهم من دون الله بإيثارهم عليه { فاحذروهم } أي: احفظوا أنفسكم عن محبتهم وشدة التعلق بهم والاحتجاب، وعاقبوهم عند التماسهم ذلك، أي: إيثار حقوقهم على حقوق الله في كل شيء من المحبة وغيرها { وإن تعفوا } بالمداراة { وتصفحوا } عن جرائمهم بالحلم { وتغفروا } جناياتهم بالرحمة، فلا ذنب ولا حرج إنما الذنب في الاحتجاب بهم وإفراط المحبة وشدة التعلق لا في مراعاة العدالة والفضيلة ومعاشرتهم بحسن الخلق فإنه مندوب بل اتصاف بصفات الله { فإن الله غفور رحيم } فعليكم التخلق بأخلاقه.
{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة } ابتلاء وامتحان من الله إياكم { والله عنده أجر عظيم } لمن صبر في مقام الابتلاء وراعى حق الله فيه وتدارك ما قصر مما يجب لهم عليه فأساء الخلق وخالف أمر الله بما أمسك من المال وجمع ومنع حق الله فارتكب رذيلة البخل والعصيان، وما أفرط في محبتهم ومراعاتهم فأضاع حق الله واحتجب بهم وكذا في مبحة المال فوضع في المقت والخسران وما أسرف فيه وأنفقه في المعاصي فكفر بنعمة الله، وقعد عن القيام بشكرها، وإن أصاب مالا وولدا موافقا شكر وما بطر من شدة الفرح وما استغنى فطغى وإن فاته شيء من ذلك صبر وما جزع من شدة الحزن فهلك وغوى.
{ فاتقوا الله } في هذه المخالفات والآفات في مواضع البليات { ما استطعتم } بحسب مقامكم ووسعكم على قدر حالكم ومرتبتكم { واسمعوا وأطيعوا } أي: افهموا هذه الأوامر واعملوا بها { وأنفقوا } أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه وأتوا خيرا لكم أي: اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم { ومن يوق } بعصمة الله هذ الرذيلة المعجونة في طينة النفس { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بمقام القلب وثواب الفضيلة.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1-4]
{ ومن يتق الله } بحسب مقتضى مقامه واجتنب ذنب حاله { يجعل له مخرجا } من ضيق المقام والمكاسب إلى سعة روح الحال والمواهب فمن يتقيه في معاصيه يجعل له مخرجا من مضايق الهيئات المظلمة وعقوبات نيران الطبيعة { ويرزقه } ثواب جنة النفس وأنوار الفضائل من عالم الغيب { من حيث لا يحتسب } لعدم وقوفه منها ومن يتقيه في أفعال نفسه يجعل له مخرجا إلى مقام التوكل ويرزقه تجليات الأفعال من حيث لا يحتسب، ومن يتقيه في صفات نفسه يجعل له مخرجا إلى مقام الرضا ويرزقه روح اليقين وثمرات تجليات الصفات الإلهية في جنة القلب من حيث لا يحتسب لعدم شعوره بها، ومن يتقيه في وجوده والتنزه عنه يجعل له مخرجا من ضيق أنائيته إلى فسحة الوجود المطلق ويرزقه الوجود الموهوب من حيث لا يحتسب ولا يخطر بباله { ومن يتوكل على الله } بقطع النظر عن الوسائل والانقطاع إليه من الوسايط { فهو حسبه } كافيه يوصل إليه ما قدر له ويسوق إليه ما قسم لأجله من أنصبة الدنيا والآخرة { إن الله بالغ أمره } أي: يبلغ ما أراد من أمره لا مانع له ولا عائق، فمن تيقن ذلك ما خاف أحدا ولا رجاء، وفوض أمره إليه ونجا { قد جعل الله لكل شيء قدرا } أي: عين لكل أمر حدا معينا ووقتا معينا في الأزل لا يزيد بسعي ساع ولا ينقص بمنع مانع وتقصير مقصر ولا يتأخر عن وقته ولا يتقدم عليه، والمتيقن لهذا الشاهد له متوكل بالحقيقة.
{ ومن يتق الله } في مراعاة وقته والاجتناب عن ذنب حاله { يجعل له } من أمر سلوكه { يسرا } أي: متى راع آداب مقامه واجتنب ذنوب حاله في المواطن تيسر له الترقي منه إلى أعلى.
[65.5-12]
{ ذلك } اليسر المرتب على التقوى في كل مرتبة.
{ أمر الله } وشأنه المخصوص به وهو التوفيق على حسب الاستعداد والفيض بقدر القبول { أنزله إليكم } ثم كرر للمبالغة تفصيل ما أجمل فقال: { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته } أي: موانعه وهيئات نفسه الحاجبة عن الفيض، المانعة للمزيد { ويعظم له أجرا } بإفاضة ما يناسب حاله بحسب القبول والاستعداد الجديد من الكمال { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي: اعتبروا بحال الأمم الماضين من المنكرين المعاندين وما نزل به من العذاب والوبال فاتقوا الله في أوامره ونواهيه إن خلصت عقولكم من شوب الوهم، فإن اللب هو العقل الخالص من شوائب الوهم وذلك بخلوص القلب من شوائب صفات النفس والرجوع إلى الفطرة، وإذا خلص العقل من الوهم والقلب من النفس كان الإيمان يقينيا فلذلك وصفهم: ب { الذين آمنوا } أي: الإيمان التحقيقي.
{ قد أنزل الله إليكم ذكرا } أي: فرقانا مشتملا على ذكر الذات والصفات والأسماء والأفعال والمعاد { رسولا } أي: روح القدس الذي أنزله به فأبدل منه بدل الاشتمال لأن إنزال الذكر هو إنزاله بالاتصال بالروح النبوي وإلقاء المعاني في القلب { يتلوا عليكم آيات الله } أي: يجلي عليكم صفاته ويكشف لكم توحيدها { مبينات } متجليات أو مجليات لأنوار الذات { ليخرج الذين آمنوا } الإيمان اليقيني من ظلمات صفات القلب إلى نور الروح ومقام المشاهدة { ومن يؤمن بالله } الإيمان العيني بالمشاهدة { ويعمل صالحا } بالسير في الله بالله { يدخله جنات } من مشاهدات تجليات صفاته ومطالعات أنوارها { تجري من تحتها } أنهار علوم توحيد الأفعال والصفات والذات { قد أحسن الله له رزقا } من تلك العلوم.
{ الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } إن أخذنا السماوات بمعناها الظاهر، فالأراضي السبعة هي طبقات العناصر المشهورة فإنها قوابل بالنسبة إلى المؤثرات فهي أرضها التي تنزل عليها منها الصور الكائنة وهي النار الصرفة والطبقة الممتزجة من النار والهواء المسماة كرة الأثير التي تتولد فيها الشهب وذوات الأذناب والذوائب وغيرها، وطبقة الزمهرير وطبقة النسيم وطبقة الصعيد والماء المشمولة للنسيم الشاملة للطبقة الطينية التي هي السادسة وطبقة الأرض الصرفة عند المركز وإن حملناها على مراتب الغيوب السبعة المذكورة من غيب القوى والنفس والعقل والسر والروح والخفاء وغيب الغيوب أي: عين جمع الذات، فالأرضون هي الأعضاء السبعة المشهورة { يتنزل } أمر الله بالإيجاد والتكوين وترتيب النظام والتكميل { بينهن } والله تعالى أعلم.
[66 - سورة التحريم]
[66.1-7]
{ قوا أنفسكم وأهليكم نارا } الأهل بالحقيقة هو الذي بينه وبين الرجل تعلق روحاني واتصال عشقي سواء اتصل به اتصالا جسمانيا أو لا، وكل ما تعلق به تعلقا عشقيا فبالضرورة يكون معه في الدنيا والآخرة فوجب عليه وقايته وحفظه من النار كوقاية نفسه فإنه زكى نفسه عن الهيئات الظلمانية وفيه ميل ومحبة لبعض النفوس المنغمسة فيها لم يزكها بالحقيقة لأنه بتلك المحبة تنجذب إليها فيكون معها في الهاوية محجوبا بها سواء هي قواها الطبيعية الداخلة في تركيبه أو نفوس إنسانية منتكسة في عالم الطبيعة خارجة عن ذاته ولهذا يجب على الصادق محبة الأصفياء والأولياء ليحشر معهم فإن المرء يحشر مع من أحب. { نارا وقودها الناس والحجارة } أي: نارا مخصوصة من بين النيران بأن لا تتقد إلا بالناس والحجارة لكونها نارا روحانية من صفات قهر الله تعالى مستولية على النفوس المرتبطة بالأمور السفلية المقترنة بالأجرام الجاسية الأرضية سلسلة المحبة الروحانية، فلما قرنت تلك النفوس أنفسها بها حبا وهوى حشرت معها في الهاوية { عليها } أي: يلي أمرها { ملائكة غلاظ } أعزاء جافية غلاظ الأجرام وهي القوى السماوية والملكوت الفعالة في الأمور الأرضية التي هي روحانيات الكواكب السبعة والبروج الاثنا عشر المشار إليها بالزبانية التسعة عشر غير مالك الذي هو الطبيعية الجسمانية الموكلة بالعالم السفلي وجميع القوى والملكوت المؤثرة في الأجسام التي لو تجردت هذه النفوس الإنسانية ترقت من مراتبها واتصلت بعالم الجبروت وصارت مؤثرة في هذه القوى الملكوتية ولكنها لما انغمست في الأمور البدنية وقرنت أنفسها بالأجرام الهيولانية المعبر عنها بالحجارة صارت متأثرة منها محبوسة في أسرها معذبة بأيديها { شداد } أي: أقوياء لا لين ولا رأفة ولا رحمة فيهم لأنهم مجبولون على القهر لا لذة لهم إلا فيه { لا يعصون الله ما أمرهم } لتسخرهم وانقيادهم لأمره وطاعتهم وإذعانهم له لأنهم وإن كانوا قهارين مؤثرين بالنسبة إلى ما تحتهم من أجرام هذا العالم وقواها فإنهم مقهورون ومتأثرون بالنسبة إلى الحضرة الإلهية، ولو لم يكن انقيادهم للأمر الإلهي طبعا لما كان لهم تأثير في هذا العالم { ويفعلون ما يؤمرون } لدوام تأثيرهم وعدم تناهي قواهم وقدرهم.
{ لا تعتذروا اليوم } إذ ليس بعد خراب البدن ورسوخ الهيئات إلا الجزاء على الأعمال لامتناع الاستكمال ثمة.
[66.8-9]
{ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله } بالرجوع إليه في كل حال من أحوالكم فإن مراتب التوبة كمراتب التقوى فكما أن أول مراتب التقوى هو الاجتناب عن المنهيات الشرعية وآخرها الاتقاء عن الأنائية والبقية فكذلك التوبة أولها الرجوع عن المعاصي وآخراه الرجوع عن ذنب الوجود الذي هو من أمهات الكبائر عند أهل التحقيق { توبة نصوحا } أي: توبة ترقع الخروق وترتق الفتوق وتصلح الفاسد وتسد الخلل، فإن خلل كل مقام وفساده ونقصانه لا ينسد ولا ينصلح ولا ينجبر إلا عند التوبة عنه بالترقي إلى ما هو فوقه فإذا تاب عنه بالترقي وبرز عن حجاب رؤية ذلك المقام انجبر نقصه وتم. وهو من النصح بمعنى الخياطة أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى المقام الذي تاب عنه والنظر إليه بعدم الالتفات وقطع النظر عنه من النصوح بمعنى الخلوص { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم } من ذنوب المقام الذي تبتم إليه عنه وحجبه وآفاته والنظر إليه أو الاعتداد به والميل إليه ورؤيته أو التلوين الذي يحدث بعد الترقي عنه كالتلوين بظهور النفس في مقام القلب وبظهور القلب في مقام الروح وبظهور الأنائية في مقام الوحدة { ويدخلكم جنات } مترتبة على مراتب التوبة { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } بظهور الحجاب في مقام القرب { نورهم يسعى بين أيديهم } أي: الذي لهم بحسب النظر والكمال العلمي { وبأيمانهم } أي: الذي لهم بحسب العمل وكماله إذ النور العلمي من منبع الوحدة والعملي من جانب القلب الذي هو يمين النفس أو نور السابقين منهم يسعى بين أيديهم ونور الأبرار منهم يسعى بأيمانهم { يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } أي: يعوذون به ويلوذون إلى جنابه من ظهور البقية، فإنها ظلمة في شهودهم فيطلبون إدامة النور بالفناء المحض، أو: أدم علينا هذا الكمال بوجودك ودوام إشراق سبحات وجهك. يقولون ذلك عن فرط الاشتياق مع الشهود كقوله:
ويبكي إن دنوا خوف الفراق
أو يقول بعضهم، وهم الذين لم يصلوا إلى الشهود الذاتي { واغفر لنا } ظهور البقايا بعد الفناء أو وجود الإثبات قبله.
{ جاهد الكفار والمنافقين } للمضادة الحقيقية بينك وبينهم { واغلظ عليهم } لقوتك بالله منبع القوى والقدر ومعدن القهر والعزة، عسى أن تنكسر صلابتهم وتلين شكيمتهم وعريكتهم فتنقهر نفوسهم وتذل وتخضع فتنفعل عن النور القهري وتهتدي فتكون صورة القهر عين اللطف { ومأواهم جهنم وبئس المصير } ما دام هم هم، أي: ما داموا على صفتهم أو دائما أبدا لزوال استعدادهم أو عدمه.
[66.10-12]
ثم بين أن الوصل الطبيعية والاتصالات الصورة يغير معتبرة في الأمور الأخروية بل المحبة الحقيقية والاتصالات الروحانية هي المؤثرة فحسب، والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت ولا تكون إلا في الدنيا بالتمثيلين المذكورين، وإن المعتبر في استحقاق الكرامة عند الله هو العمل الصالح والاعتقاد الحق كإحصان مريم وتصديقها بكلمات ربها وطاعتها المعدة إياها لقبول نفخ روح الله فيها. وقد يلوح بينهما أن النفس الخائنة التي لا تفي بطاعة الروح والقلب ولا بحسن معاشرتهما ولا تطيعهما بامتثال أوامرهما ونواهيهما ولا تحفظ أسرارهما وتبيح مخالفتهما وتسير بسير الإباحة باستراق كلمة التوحيد والطغيان بانتحال الكمال داخله في نار الحرمان وجحيم الهجران مع المحجوبين ولا تغني هداية الروح أو القلب عنها شيئا من الإغناء في باب العذاب وإن أغنت عنها في باب الخلود، وإن القلب المقهور تحت استيلاء النفس الأمارة الفرعونية الطالب للخلاص بالالتجاء إلى الحق الذي قويت قوة محبة الله لصفائه وضعفت قوة قهره للنفس والشيطان لعجزه وضعفه لا يبقى في العذاب مخلدا ويخلص إلى النجاة ويبقى في النعيم سرمدا، وإن تعذب مجاورتها حينا وتألم بأفعالها برهة. وان النفس المتزينة بفضيلة العفة المشار إليها بإحصان الفرج هي القابلة لفيض روح القدس، الحاملة بعيسى القلب، المتنورة بنور الروح، المصدقة بكلمات الرب من العقائد الحكمية والشرائع الإلهية المطيعة لله مطلقا علما وعملا وسرا وجهرا، المنخرطة في سلك التوحيد جمعا وتفصيلا باطنا وظاهرا والله تعالى أعلم.
[67 - سورة الملك]
[67.1-2]
{ تبارك الذي بيده الملك } الملك عالم الأجسام كما أن الملكوت عالم النفوس، ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك بحسب مشيئته بالتبارك الذي هو غاية العظمة ونهاية الازدياد في العلو والبركة، وباعتبار تسخيره عالم الملكوت بمقتضى إرادته بالتسبيح الذي هو التنزيه كقوله:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء
[يس، الآية:83] كلا بما يناسبه، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام، والتنزه يناسب المجردات عن المادة. فمعنى تبارك: تعالى وتعاظم الذي يتصرف في عالم الملك بيد قدرته، لا يتصرف فيه غيره، فبيده كل ما وجد من الأجسام لا بيد غيره يصرفها كما يشاء { وهو } القادر على كل ما عدم من الممكنات يوجدها على ما يشاء، فإن قرينة القدرة تخص الشيء بالممكن إذ تعلل القدرة به فيقال: إنه مقدوره لأنه ممكن.
{ الذي خلق الموت والحياة } الموت والحياة من باب العدم والملكة، فإن الحياة هي الإحساس والحركة الإرادية ولو اضطرارية كالتنفس والموت عدم ذلك عما من شأنه ان يكون له وعدم الملكة ليس عدما محضا بل فيه شائبة الوجود وإلا لم يعتبر فيه المحل القابل للأمر الوجودي فلذلك صح تعلق الخلق به كتعلقه بالحياة وجعل الغرض من خلقهما بلاء الإنسان في حسن العمل وقبحه، أي: العلم التابع للمعلوم الذي يترتب عليه الجزاء وهو العلم الذي يظهر على المظاهر الإنسانية بعد وقوع المعلوم، فإنه ليس إلا علم الله الكامن في الغيب الظاهر بظهور المعلوم لأن الحياة هي التي يتمكن بها على الأعمال والموت هو الداعي إلى حسن العمل الباعث عليه وبه يظهر آثار الأعمال كما أن الحياة يظهر بها أصولها وبهما تتفاضل النفوس في الدرجات وتتفاوت في الهلاك والنجاة. وقدم الموت على الحياة لأن الموت في عالم الملك ذاتي والحياة عرضية.
{ وهو العزيز } الغالب الذي يقهر من أساء العمل { الغفور } الذي يستر بنور صفاته من أحسن.
[67.3-5]
{ الذي خلق سبع سماوات طباقا } نهاية كمال عالم الملك في خلق السموات لا ترى أحكم خلقا وأحسن نظاما وطباقا منها. وأضاف خلقها إلى الرحمن لأنها من أصول النعم الظاهرة ومبادىء سائر النعم الدنيوية، وسلب التفاوت عنها لبساطتها واستدارتها ومطابقة بعضها بعضا وحسن انتظامها وتناسبها، ونفي الفطور لامتناع خرقها والتئامها وإنما قال: { ثم ارجع البصر كرتين } لأن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقق الحقائق وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفسد إلا الخسوء والحسور تحقق الامتناع، وما أتعب من طلب وجود الممتنع.
{ ولقد زينا السماء الدنيا } من السموات المعنوية، أي: العقل الإنساني { بمصابيح } الحجج والبينات { وجعلناها رجوما } لشياطين الوهم والخيال { وأعتدنا لهم عذاب } سعير الاحتجاب في قعر الطبيعة والهوي في هاوية العالم الجسماني والبرزخ الغاسق الظلماني أو السماء المحسوسة التي هي أقرب إلينا من السماء العقلية بمصابيح الكواكب، { وجعلناها } بحيث ترجم بها النفوس البعيدة عن عالم النور لظلمة جواهرها بملازمة الغواسق الجسمانية المخالفة بجواهرها الخبيثة عن الجواهر المقدسة التي غلب عليها ظلمة الكون وشدة الرين وتكدرت بمباشرة الشهوات الطبيعية وتلوثت بألواث التعلقات الجسمانية وامتزجت بها فترسخت فيها الهيئات المظلمة وتغيرت عن طباعها فتأثرت بتأثيرات الأجرام العلوية كلما اشتاقت بسنخها إلى عالمها، رجمتها روحانيات الكواكب وطردتها إلى جحيم العالم السفلي وألزمتها مجاورة الهياكل المناسبة لهيئاتها وملازمة البرازخ المشاكلة لطباعها وألقتها في عذاب تضاد الطبائع وسعير استيلاء طبائع تلك الغواسق.
[67.6-14]
{ وللذين } حجبوا عن ربهم عامة سواء الشياطين الذين هم في غاية البعد والمنافاة وقوة الشر وغيرهم من الضعفاء المحجوبين الذي ليسوا في غاية الشرارة { عذاب جهنم } أي: العالم السفلي الغاسق المضاد بطبعه لعالم النور { وبئس المصير } ذلك المهوى المظلم المهين المحرق { إذا ألقوا فيها سمعوا } لأهلها الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسي والروحانيين أو لأنفسهم فإنهم يصطرخون فيها بأصوات الحيوانات القبيحة المنظرة المنكرة الصوت { وهي تفور } تغلي عليهم وتستولي وتعلو.
{ تكاد تميز من الغيظ } أي: تتفارق أجزاؤها من شدة غلبة التضاد عليها وشدة مضادتها لجواهر النفوس. ولعمري إن شدة منافرة الطباع بعضها بعضا تستلزم شدة العداوة والبغض المقتضية لشدة الغيظ والحنق، فتلك المهواة لشدة منافاتها بالطبع لعالم النور والجوهر المجرد وأصل فطرة النفس يشتد غيظها عليها وتحرقها بنار غضبها أعاذنا الله من ذلك.
والخزنة هم النفوس الأرضية والسماوية الموكلة بعالم الطبيعة السفلية وسؤالهم اعتراضهم ومنعهم إياها عن النفوذ من الجحيم بحجة تكذيب الرسل ومنافاة عقائدها لما جاءت به ومعاندتها إياهم وعدم معرفتها بالله وكلامه وصممها عن الحق وانتفاء سماعها وعدم عقلها عن الله معارفه وآياته ودلائل توحيده وبيناته فإنهم لو سمعوا وعقلوا لعرفوا الحق وأطاعوا فنجوا وخلصوا إلى عالم النور وجوار الحق فما كانوا في أصحاب السعير.
{ إن الذين يخشون ربهم } بتصور عظمته غائبين عن الشهود الصفاتي في مقام النفس بتصديق الاعتقاد { لهم مغفرة } من صفات النفس { وأجر كبير } من أنوار القلب وجنة الصفات أو الذين يخشون ربهم بمطالعة صفات العظمة في مقام القلب غائبين عن الشهود الذاتي لهم مغفرة من صفات القلب وأجر كبير من أنوار الروح وجنة الذات { إنه عليم بذات الصدور } لكون تلك السرائر عين علمه، فكيف لا يعلم ضمائرها من خلقها وسواها وجعلها مرائي أسراره { وهو اللطيف } الباطن علمه فيها، النافذ في غيوبها { الخبير } بما ظهر من أحولها، أي: المحيط ببواطن ما خلق وظواهره بل هو هو بالحقيقة باطنا وظاهرا لا فرق إلا بالوجوب والإمكان والإطلاق والتقييد واحتجاب الهوية بالهذية والحقيقة بالشخصية.
[67.15-19]
{ هو الذي جعل لكم } أرض النفس { ذلولا فامشوا } بأقدام الفطرة في أعالي صفاتها وأعز أطرافها وجهاتها وأقهروها مذللة { وكلوا من رزقه } الذي ينال من جهتها أي: العلم المأخوذ من الحس وهو الأكل من تحت الأرجل المشار إليه بقوله:
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة، الآية:66] { وإليه النشور } بالعروج إلى مقام الولاية وحضرة الجمع.
{ أأمنتم } الذي قهر سلطانه سماء الروح وبهر نوره شمس العقل بالتأثير والتنوير { أن يخسف بكم } أرض النفس بأن يحركها ويقلبها عليكم فتقهركم وتستولي عليكم فتذهب بنوركم وتهلككم وتجعلكم أسفل سافلين { فإذا هي } تضطرب عالية طياشة لا قرار لها ولا طمأنينة بالسكينة لما في طباعها من الطيش والاضطراب { أم أمنتم } ذلك العالي القهار { أن يرسل عليكم } حاصب صفات النفس ولذاتها وشهواتها المستعلية بريح الهوى على القلب في جو الأماني والآمال فيهلككم هلاك المكذبين الذين تحركت نفوسهم بقهر من الله فاحتجبوا بظلماتها عن نور هداية الرسل فخسفوا ومسخوا وكان من حالهم ما يتعجب منه، وعاينوا ما أنذروا به من المنكر الفظيع .
{ أو لم يروا إلى } طير المعارف والحقائق والإشراقات النورية والمعاني القدسية { فوقهم } في سماء الروح { صافات } أنفسهن مترتبة متناسق فيها { ويقبضن } عن النزول إلى القلب { ما يمسكهن إلا الرحمن } المسوي للاستعداد، المهيىء لقبولها، المودع إياها فيها، المرتب لها بسعة رحمته الواسعة الشاملة لكل ما خلق وقدر، المعطية كل شيء خلقه. وما يرسلهن إلا الرحيم المفيض لكل ما قدر من الكمال بحسب الاستعداد المظهر لكل ما دبر في الغيب من المعاني والصفات { إنه بكل شيء بصير } في مكمن غيبه فيعطيه ما يليق به ويسويه بحسب مشيئته ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته ثم يهديه إليه بتوفيقه.
[67.20-30]
{ أمن هذا الذي هو جند لكم } أي: من يشار إليه ممن يستعان به من الأغيار حتى الجوارح والآلات والقوى وكل ما ينسب إليه التأثير والمعونة من الوسايط فيقال: { هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن } فيرسل ما أمسك من النعم الباطنة والظاهرة أو يمسك ما أرسل من النعم المعنوية والصورية أو يحصل لكم ما منع ولم يقدر لكم أو يمنع ما أصابكم به وقدر عليكم { إن } المحجوبون الذين ستروا نور فطرتهم { إلا في غرور } بالوسايط.
{ أمن } يشار إليه منها فيقال: { هذا الذي يرزقكم إن أمسك } الرحمن { رزقه } المعنوي أو الصوري { بل لجوا في عتو } أي: عناد وطغيان لمضادتهم الحق بالباطل الذي أقاموا عليه ومنافاتهم النور بظلمة نفوسهم { ونفور } أي: شراد لبعد طباعهم ونبوها عنه.
{ أفمن يمشي مكبا على وجهه } متنكسا بالتوجه إلى الجهة السفلية ومحبته للملاذ الحسية وانجذابه إلى الأمور الطبيعية { أهدى أمن يمشي سويا } منتصبا على صراط التوحيد الموصوف بالاستقامة التامة التي لا يبلغ كنهها ولا يقدر قدرها ولما فرق بين الفريقين الضالين والمهتدين الموحدين. أشار إلى توحيد الأفعال بقوله: { قل هو الذي أنشأكم } وذكر من أفعاله الإبداء والإعادة وبين أن المحجوبين مع اعترافهم بالإبداء منكرون للإعادة فلا جرم يسوء وجوههم رؤية ما ينكرونه، ويعلوها الكآبة ويأتيهم من العذاب الأليم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يجيرهم منه ما احتجبوا به من الحق ونسبوا التأثير إليه لعجزه وانتفاء قدرته ولا الرحمن لأنهم لم يتكلوا عليه برؤية جميع الأفعال منه ونفي التأثير عن الغير فلم يؤمنوا به الإيمان الحقيقي ولذلك عرض بكفرهم وشركهم بقوله: { هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا } أي: لم نتوكل على غيره لأنا شاهدنا الحضرة الرحمانية التي تصدر عنها الأشياء كلها فمنعنا ذلك الإيمان الحقيقي نسبة الفعل إلى الغير فهو يجيرنا دونكم، والله أعلم.
[68 - سورة القلم]
[68.1-4]
{ ن } هو النفس الكلية { والقلم } هو العقل الكلي والأول من باب الكناية بالاكتفاء من الكلمة بأول حروفها، والثاني من باب التشبيه إذ تنتقش في النفس صور الموجودات بتأثير العقل كما تنتقش الصور في اللوح بالقلم { وما يسطرون } من صور الأشياء وماهياتها وأحوالها المقدرة على ما يقع عليها، وفاعل ما يسطرون الكتبة من العقول المتوسطة والأرواح القدسة وإن كان الكاتب في الحقيقة هو الله تعالى، لكن لما كان في حضرة الأسماء نسب إليها مجازا، أقسم بهما وبما يصدر عنهما من مبادىء الوجود وصور التقدير الإلهي ومبدأ أمره ومخزن غيبه لشرفهما وكونهما مشتملين على كل الوجود في أول مرتبة التأثير والتأثر ومناسبتهما للمقسم عليه.
{ ما أنت بنعمة ربك بمجنون } أي: ما أنت بمستور العقل مختل الإدراك في حالة كونك منعما عليك بنعمة الاطلاع على هذا المسطور بهما فإنه لا أعقل ممن اطلع على سر القدر وأحاط بحقائق الأشياء في نفس الأمر.
{ وإن لك لأجرا } من أنوار المشاهدات والمكاشفات من هذين العالمين { غير } مقطوع لكونه سرمديا غير مادي فلا يتناهى وهم ماديون محجوبون عنه، متضادون إياك في الحال والوجة، فلهذا ينسبونك إلى الجنون لانحصار عقولهم وأفكارهم في الماديات.
{ وإنك لعلى خلق عظيم } لكونك متخلقا بأخلاق الله متأيدا بالتأييد القدسي فلا تتأثر بمفترياتهم ولا تتأذى بمؤذياتهم إذ بالله تصبر لا بنفسك كما قال:
وما صبرك إلا بالله
[النحل، الآية:127].
[68.5-42]
{ فستبصر ويبصرون } عند كشف الغطاء بالموت أيكم المجنون بالحقيقة، أأنت الذي كوشفت بأسرار القدر وأوتيت بجوامع الكلم أم هم الذين حجبوا عما في أنفسهم من آيات الله والعبر وفتنوا بعبادة الصنم .
{ إن ربك هو أعلم بمن } جن في الحقيقة ف { ضل عن سبيله } واحتجب عن الدين وبمن عقل فاهتدى إليه، أي: لا يعلم أحد كنه جنونهم وضلالهم إلا الله لكونه في الغاية وكذا كنه اهتدائك واهتداء من اهتدى بهداك فلا توافقهم في الظاهر كما لا توافقهم في الباطن. فإن موافقة الظاهر أثر موافقة الباطن وكذا المخالفة وإلا كان نفاقا سريع الزوال ومصانعة وشيكة الانقضاء، وأما هم فلانهماكهم في الرذائل وتعمقهم في التلوين والاختلاف لتشعب أهوائهم وتفرق أمانيهم وميول قواهم وجهات نفوسهم يصانعون ويضمون تلك الرذيلة إلى رذائلهم طمعا في مداهنتك معهم ومصانعتك إياهم، فلا يفتننك كثرة أموال من كان أغناهم وكثرة قومه وتبعه فتطيعه وتصانعه مع كثرة رذائله، ودم على توافق الظاهر والباطن مستغنيا بالله مستظهرا به مصادقا لمن صدقك مصافيا لمن وافقك مصاحبا لصعاليك المؤمنين الزاهدين في الدنيا.
{ سنسمه على الخرطوم } أي: نغير وجهه في القيامة الصغرى ونجعل آلة حرصه مشاكلا لهيئة نفسه كخرطوم الفيل مثلا، ونبدل أعز أعضائه بما فيه علامة غاية الذل لخسة نفسه المنجذبة إلى ما في جهة السفل الجاذبة لمواد الرجس.
{ يوم يكشف عن ساق } أي: اذكر يوم يشتد الأمر وتتفاقم شدته بحيث لا يمكن وصفها بمفارقة المألوفات البدنية والملاذ الحسية وظهور الأهوال والآلام النفسية بالهيئات الموحشة والصور المؤذية { ويدعون } على لسان الملكوت للجنسية الأصلية والمناسبة الفطرية { إلى } سجود الإذعان والانقياد لقبول الأنوار الإلهية والإشراقات السبوحية { فلا يستطيعون } الانقياد والإذعان لقبولها لزوال استعدادهم الأصلي بالهيئات المظلمة واحتجابهم بالغواشي الجسمانية والملابس الهيولانية.
[68.43-52]
{ خاشعة أبصارهم } ذليلة متحيرة لذهاب قوتها النورية وعدم قدرتها على النظر إلى عالم النور وبعدها عن إدراك الشعاع مفيد السرور { ترهقهم ذلة } الركون إلى السفليات والركود إلى خساسة الانفعاليات وملازمة الطبيعيات { وقد كانوا يدعون } عند بقاء الاستعداد ووجود الآلات { إلى } سجود الانقياد بتهيئة الاستعداد لقبول الإمداد من عالم الأنوار { وهم سالمون } الاستعداد متمكنون على إحراز السعادة في المعاد.
{ فاصبر لحكم ربك } بسعادة من سعد وشقاوة من شقي ونجاة من نجا وهلاك من هلك وهداية من اهتدى وضلال من ضل { ولا تكن كصاحب الحوت } في استيلاء صفات النفس عليه وغلبة الطيش والغضب والاحتجاب عن حكم الرب حتى رد عن جناب القدس إلى مقر الطبع { فالتقمه } حوت الطبيعة السفلية في مقام النفس وابتلي بالاجتنان في بطن حوت الرحم { إذ نادى } ربه لقهر قومه وإهلاكهم لفرط الغضب عن مقام النفس لا بإذن الحق { وهو } ممتلىء غيظا { لولا أن تداركه نعمة } كاملة { من ربه } بالهداية إلى الكمال لبقاء سلامة الاستعداد وعدم رسوخ الهيئة الغضبية والتوبة عن فرطات النفس والتنصل عن صفاتها { لنبذ بالعراء } أي: بظاهر عالم الحس وطرد من جناب القدس بالكلية وترك في وادي النفس { وهو مذموم } موصوف بالرذائل مستحق للإذلال والخذلان، محجوب عن الحق، مبتلى بالحرمان، ولكنه اجتباه { ربه } برحمته لمكان سلامة فطرته وبقاء نوره الأصلي فقربه إليه وجمعه إلى ذاته بإلقاء كلمة التوحيد إليه وإيصاله إلى مقام الجمع { وجعله من الصالحين } لمقام النبوة بالاستقامة حال البقاء بعد الفناء في عين الجمع، والله تعالى أعلم.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-8]
{ الحاقة } هي الساعة الواجبة الوقوع التي لا ريب فيها إن أريد بها القيامة الصغرى او التي تحق فيها الأمور، أي: تعرف، وتحقق إن أريد بها الكبرى. والمعنى: أن الساعة ما هي وما أعلمك أي شيء هي، أي: لا يعرف شدتها وهولها وما يظهر فيها من الأحوال على المعنى الأول، أو لا يعرف حقيقتها وارتفاع شأنها وإنارة برهانها وما يبدو فيها أحد إلا الله. وكلتا القيامتين تقرع الناس وتهلكهم وتفنيهم وتستأصلهم بالشدة والقهر، وأما تكذيبهم بالأولى فلإقبالهم من الدنيا وترك العمل لها وغفلتهم وغرورهم بالحياة الحسية. وأما بالثانية فلعدم وقوفهم عليها وإنكارهم لها واحجابهم عنها، وقد يطابق مثل المكذبين بمثل المفرطين أي: المقصرين والغالين بأن يقال: { فأما ثمود } وهم أهل الماء القليل أي: أهل العلم الظاهر المحجوبون عن العلوم الحقيقية { فأهلكوا بالطاغية } أي: الحالة الكاشفة عن الباطن وعالم التجرد التي تطغى على علومهم فتفنيها وهي خراب البدن.
{ وأما عاد } الغالون المجاوزون حد الشرائع بالتزندق والإباحة في التوحيد { فأهلكوا بريح } هوى النفس البادرة بجمود الطبيعة وعدم حرارة الشوق والعشق العاتية أي: الشديدة الغالبة عليه الذاهبة بهم في أودية الهلاك.
{ سخرها } الله { عليهم } في مراتب الغيوب السبعة التي هي لياليهم لاحتجابهم عنها. والصفات الثمانية الظاهرة لهم كالأيام وهي الوجود والحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والتكلم، أي: على ما ظهر منهم وما بطن تقطعهم وتستأصلهم { فترى القوم فيها صرعى } موتى لا حياة حقيقية لهم لأنهم قائمون بالنفس لا بالله كما قال:
كأنهم خشب مسندة
[المنافقون، الآية:4]، { كأنهم أعجاز نخل } أي: أقوياء بحسب الصورة لا معنى فيهم ولا حياة، ساقطون عن درجة الاعتبار والوجود الحقيقي إذ لا يقومون بالله { فهل ترى لهم من باقية } أي: بقاء أو نفس باقية لأنهم فانون من أسرهم.
[69.9-15]
{ وجاء فرعون } النفس الأمارة { ومن قبله } من قواها وأعوانها { والمؤتفكات } من القوى الروحانية المنقلبة عن طباعها الميل إلى الظاهر والانقلاب عن المعقول إلى المحسوس { بالخاطئة } بالخصلة التي هي خطأ وهي المجاوزة عن البواطن إلى الظاهر.
{ فعصوا رسول ربهم } أي: العقل الهادي إلى الحق { فأخذهم } بالغرق في بحر الهيولى ورجفة اضطراب مزاج البدن وخرابه { أخذة } زائدة في الشدة.
{ إنا لما طغى } ماء طوفان الهيولى { حملناكم } في جارية الشريعة المركبة من الكمال العلمي والعملي { لنجعلها لكم تذكرة } لعالم القدس وحضرة الحق التي هي مقركم الأصلي ومأواكم الحقيقي { وتعيها أذن واعية } أي: تحفظها أذن حافظة لما سمعت من الله في بدء الفطرة باقية على حالها الفطرية غير ناسية لعهده وتوحيده، وما أودعها من أسراره بسماع اللغو في هذه النشأة وحفظ الباطل من الشيطان والإعراض عن جناب الرحمن، ولهذا لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام:
" سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي "
، إذ هو الحافظ لتلك الأسرار كما قال: " ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة ".
{ فإذا نفخ في الصور } هي النفخة الأولى التي للإماتة في القيامة الصغرى إذ يمنع حمله على الكبرى قوله:
فأما من أوتي كتابه بيمينه
[الحاقة، الآية:19] وما بعده من التفصيل. وهذا النفخ عبارة عن تأثير الروح القدسي بتوسط الروح الإسرافيلي الذي هو موكل بالحياة في الصورة الإنسانية عند الموت لإزهاق الروح فيقبضه الروح العزرائيلي وهو تأثير في آن واحد، فلذلك وصفها بالوحدة.
{ وحملت } أرض البدن وجبال الأعضاء { فدكتا دكة واحدة } وجعلتا أجزاء عنصرية متفرقة.
[69.16-24]
{ وانشقت } سماء النفس الحيوانية وانقشعت لزهوق الروح بانفلاقها عنه { فهي يومئذ واهية } لا تقدر على الفعل ولا تقوى على التحريك والإدراك حالة الموت.
{ والملك } أي: القوى التي تمدها وتأوي إليها وتعتمد عليها في الإدراك وتجتمع مدركاتها عندها أو تدرك بواسطتها أو تظهر بها مدركاتها { على أرجائها } أي: جوانبها من الروح والقلب والعقل والجسم، فافترقت عنها وتشعبت إلى جهاتها الناشئة منها أولا { ويحمل عرش ربك } أي: القلب الإنساني { فوقهم يومئذ ثمانية } منهم هي الأنوار القاهرة أرباب الأصنام العنصرية من الصور النوعية تحمله بالاجتماع من الطرفين العلوي والسفلي الفاعل والحامل عند البعث والنشور من كل طرف أربعة. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
" هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية "
، ولكن تلك الأملاك مختلفة الحقائق بحسب اختلاف أصنافها العنصرية قال بعضهم: إنها مختلفة الصور ولكونها مستولية مستعلية على تلك الأجرام شبهت بالأوعال، وقيل: هم على صور الأوعال تشبيها لأجرامها بالجبال ولكونها شاملة لتلك الأجرام بالغة إلى أقصاها حيث ما بلغت. قال بعضهم: ثمانية أملاك أرجهلم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسبحون والله أعلم بحقائق الأمور.
{ يومئذ تعرضون } على الله بما في أنفسكم من هيئات الأعمال وصورالأفعال { لا تخفى منكم خافية فأما من أوتي كتابه } أي: اللوح البدني الذي فيه صور أعماله { بيمينه } أي: جانبه الأقوى الإلهي الذي هو العقل فيفرح به ويحب الاطلاع على أحواله من الهيئات الحسنة وآثار السعادة وهو معنى قوله: { هاؤهم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت } إني تيقنت { أني ملاق حسابيه } لإيماني بالبعث والنشور والحساب والجزاء { فهو في عيشة راضية } أي: حياة حقيقية أبدية سرمدية { في جنة } من جنان القلب والروح { عالية قطوفها } من مدركات القلب والروح من المعاني والحقائق { دانية } كلما شاؤوا نالوها.
[69.25-52]
{ وأما من أوتي كتابه بشماله } أي: جانبه الأضعف النفساني الحيواني، فيتحسر ويتندم ويتوحش من تلك الصور والهيئات السمجة والقبائح التي نسيها وأحصاها الله ويتنفر منها ويتمنى الموت عندها ويتيقن أن الذي صرف عمره فيه وأكب بوجهه عليه من المال والسلطنة والجاه ما كان ينفعه بل يضره، وهو معنى قوله: { يا ليتني لم أوت كتابيه } إلى آخره، وينادى على لسان العزة والقهر الملكوت الموكل بعالم الكون والفساد من النفوس السماوية والأرضية أن { خذوه فغلوه } أي: قيدوه بما يناسب هيئات نفسه من الصور واحبسوه في سجين الطبيعة بما يمنع الحركات على وفق الإرادة من الأجرام { ثم } جحيم الحرمان ونيران الآلام { صلوه * ثم في سلسلة } الحوادث الغير المتناهية { فاسلكوه } ليتعذب بأنواع التعذيبات. والسبعون في العرف عبارة عن الكثرة الغير المحصورة لا العدد المعين { إنه كان لا يؤمن بالله } أي: كل ذلك بسبب كفره واحتجابه عن الله وعظمته وشحه لمحبة المال { فليس له اليوم ها هنا حميم } لاستيحاشه عن نفسه فكيف لا يستوحش غيره عنه وهو متنفر عن كل أحد حتى عن نفسه؟، { ولا طعام إلا من } غسالات أهل النار وصديدهم وقد شاهدناهم يأكلونها عيانا.
{ فلا أقسم } بالظاهر والباطن من العالم الجسماني والروحاني، الوجود كله ظاهرا وباطنا { وإنه لحق اليقين } أي: محض اليقين وهو الكلام الوارد من عين الجمع، إذ لو نشأ من مقام القلب لكان علم اليقين، ولو نشأ من مقام الروح لكان عين اليقين. فلما صدر من مقام الوحدة كان حق اليقين، أي: يقينا حقا صرفا لا شوب له بالباطل الذي هو غيره. نسب القول أولا إلى الرسول ثم إلى الحق ليفيد التوحيد الذاتي، ثم قال: { فسبح باسم ربك العظيم } أي: نزه الله وجرده عن شوب الغير بذاتك الذي هو اسمه الأعظم الحاوي للأسماء كلها لأن لا يظهر في شهودك تلوين من النفس أو القلب فتحتجب برؤية الاثنينية أو الأنائية وإلا كنت مشبها لا مسبحا، والله تعالى أعلم.
[70 - سورة المعارج]
[70.1-14]
{ ذي المعارج } أي: المصاعد وهي مراتب الترقي من مقام الطبائع إلى مقام المعادن بالاعتدال، ثم إلى مقام النبات، ثم إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان في مدارج الانتقالات المترتبة بعضها فوق بعض، ثم في منازل السلوك كالانتباه واليقظة والتوبة والإنابة إلى آخر ما أشار إليه أهل السلوك من منازل النفس ومناهل القلب، ثم في مراتب الفناء في الأفعال والصفات إلى الفناء في الذات مما لا يحصى كثرة. فإن له تعالى بإزاء كل صفة مصعدا بعد المصاعد المتقدمة على مقام الفناء في الصفات.
{ تعرج الملائكة } من القوى الأرضية والسماوية في وجود الإنسان { والروح } الإنساني إلى حضرته الذاتية الجامعة في القيامة الكبرى { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } أي: في الأدوار المتطاولة والدهورالمتمادية من الأزل إلى الأبد لا المقدار المعين. ألا ترى إلى قوله في مثل هذا المقام في عروج الأمر:
ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون
[السجدة، الآية:5].
{ فاصبر صبرا جميلا } فإن العذاب يقع في هذه المدة المتطاولة يوم { يرونه } لاحتجابهم عنه { بعيدا * ونراه قريبا } حاضرا واقعا يتوهمه المحجوبون متأخرا إلى زمان منتظر لغيبتهم عنه ونحن نراه حاضرا.
{ يوم تكون } سماء النفس الحيوانية متذائبة متفانية { كالمهل } على ما مر في قوله:
وردة كالدهان
[الرحمن، الآية:37] { وتكون } جبال الأعضاء هباء منبثا على اختلاف ألوانها { كالعهن * ولا يسئل حميم حميما } لشدة الأمر وتفاقم الخطب وتشاغل كل أحد بما ابتلي به من هيئات نفسه وأهوال ما وقع فيه مع ترائيهم.
[70.15-25]
{ كلا } ردع عن تمني الافتداء والإنجاء فإنه بهيئة أجرامه استحق عذابه وبمناسبة نفسه للجحيم انجر إليها.
ألا ترى إلى قوله: { تدعو من أدبر وتولى } فإن لظى نار الطبيعة السفلية ما استدعت إلا المدبر عن الحق المعرض عن جناب القدس وعالم النور المقبل بوجهه إلى معدن الظلمة المؤثر بمحبته الجواهر الفاسقة السفلية المظلمة فانجذب بطبعه إلى مواد النيران الطبيعية واستدعته وجذبته إلى نفسها للجنسية فاحترق بنارها الروحانية المستولية على الأفئدة، فكيف يمكن الإنجاء منها وقد طلبها بداعي الطبع ودعاها بلسان الاستعداد.
{ إن الإنسان خلق هلوعا } أي: النفس بطبعها معدن الشر ومأوى الرجس لكونها من عالم الظلمات، فمن مال إليها بقلبه واستولى عليه مقتضى جبلته وخلقته ناسب الأمور السفلية واتصف بالرذائل التي أردؤها الجبن والبخل المشار إليهما بقوله: { إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا } لمحبته البدن وما يلائمه وتسببه لشهواته ولذاته وإنما كانت أردأ لجذبهما القلب إلى أسفل مراتب الوجود، قال النبي عليه الصلاة والسلام:
" شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع ".
{ إلا المصلين } أي: الإنسان بمقتضى خلقته وطبيعة نفسه معدن الرذائل إلا الذين جاهدوا في الله حق جهاده وتجردوا عن ملابس النفس وتنزهوا عن صفاتها من الواصلين الذين هم أهل الشهود الذاتي { الذين هم على صلاتهم دائمون } فإن المشاهدة صلاة الروح، غابوا في دوام مشاهدتهم عن النفس وصفاتها وعن كل ما سوى مشهودهم.
والمجردين الذي تجردوا عن أموالهم الصورية والمعنوية من العلوم النافعة والحقيقية وفرقوها على المستحق المستعد الطالب وعلى القاصر الممنو بالشواغل عن الطلب.
[70.26-44]
{ والذين يصدقون } من أهل اليقين البرهاني والاعتقاد الإيماني بأحوال الآخرة والمعاد وهم أرباب القلوب المتوسطون.
{ والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } أي: أهل الخوف من المبتدئين في مقام النفس السائرين عنه بنور القلب لا الواقفين معه أو المشفقين من عذاب الحرمان والحجاب في مقام القلب من السالكين أو في مقام المشاهدة من التلوين فإنه لا يؤمن الاحتجاب ما بقيت بقيته كما قال: { إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون } من أهل العفة وأرباب الفتوة.
{ والذين هم لأماناتهم } التي استودعوها بحسب الفطرة من المعارف العقلية { عهدهم } الذي هو أخذ الله ميثاقه منهم في الأزل { راعون } أي: الذين سلمت فطرتهم ولم يدنسوها بالغواشي الطبيعية والأهواء النفسانية { والذين هم بشهاداتهم قائمون } أي: يعملون بمقتضى شاهدهم من العلم فكل ما شهدوه قاموا بحكمه وصدروا عن حكم شاهدهم لا غير { والذين هم على صلاتهم } أي: صلاة القلب وهي المراقبة { يحافظون } أو صلاة النفس على الظاهر { أولئك في جنات مكرمون } على اختلاف طبقاتهم، الفرقة الأولى في جنات من الجنان الثلاث، والمتوسطون من أرباب القلوب في جنات من جنتين منها والباقون في جنات النفوس دون الباقيتين.
{ فلا أقسم برب المشارق والمغارب } من الموجودات التي أوجدها بشروق نوره عليها وغروبه فيها بتعينه بها أو أعدمها بشروق نوره منها وأوجدها بغروبه فيها { إنا لقادرون * على أن } نطلع نورنا منهم فنهلكهم ونجعله غاربا في آخرين { خيرا منهم } فنوجدهم { يوم يخرجون } من أجداث الأبدان { سراعا } إلى مقار ما يناسب هيئاتهم من الصور، والله تعالى أعلم.
[71 - سورة نوح]
[71.1-14]
{ أن اعبدوا الله } بالمجاهدة والرياضة في سبيله { واتقوه } بالتجرد عما سواه حتى صفاتكم وذواتكم { وأطيعون } بالاستقامة { يغفر لكم } ذنوب آثار أفعالكم وصفاتكم وذواتكم { ويؤخركم إلى أجل } معين لا أجل بعده، وهو الفناء في التوحيد { إن أجل الله } الذي هو توفيه إياكم بذاته { إذا جاء لا يؤخر } بوجود غيره بل يفنى كل ما عداه { لو كنتم تعلمون } { قال رب إني دعوت قومي } في مقام الجمع بين الظلمة والنور إلى التوحيد { فلم يزدهم دعائي إلا فرارا } لأنهم كانوا بدنيين ظاهريين لا يرون النور إلا للضوء الجسماني ولا الوجود إلا للجواهر الجسمانية الغاسقة، فينفروا عن إثبات نور مجرد أنوارهم بالنسبة إليه ظلمات.
{ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } وتسترهم بنورك تصاموا عنه لعدم فهمهم وقصور استعدادهم أو زواله { واستغشوا ثيابهم } وتستروا بأبدانهم والتحفوا بها لشدة ميلهم إليها وتعلقهم بها واحتجابهم { وأصروا } على ذلك ولم يعزموا التجرد { واستكبروا } لاستيلاء صفات نفوسهم واستعلاء غضبهم { ثم إني دعوتهم جهارا } نزلت عن مقام التوحيد ودعوتهم إلى مقام العقل وعالم النور { ثم إني أعلنت لهم } بالمعقولات الظاهرة { وأسررت لهم } في مقام القلب بالأسرار الباطنة ليتوصلوا إليها بالمعقولات.
{ فقلت استغفروا ربكم } أي: اطلبوا أن يستركم ربكم بنوره فتتنور قلوبكم وتكاشفوا بالحقائق الإلهية والأسرار الغيبية { يرسل } سماء الروح { عليكم مدرارا } بأمطار المواهب والأحوال { ويمددكم بأموال } المكاسب والمقامات { وبنين } التأييدات القدسية من عالم الملكوت { ويجعل لكم جنات } الصفات في مقام القلب وأنهار العلوم.
{ ما لكم لا ترجون لله وقارا } أي: تعظيما يوقركم بالترقي في الدرجات إلى عالم الأنوار { وقد خلقكم أطوارا } كل طور أشرف مما قبله وكان حالكم فيه أحسن وشرفكم أزيد مما تقدمكم، فما بالكم لا تقيسوا الغيب على الشهادة والمعقول على المحسوس والمستقبل على الماضي فترتقون إلى سماء الروح بسلم الشريعة والعلم والعمل كما ارتقيتم بسلم الطبيعة والحكمة والقدرة في أطوار الخلقة.
[71.15-24]
{ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا } من مراتب الغيوب السبعة المذكورة ذات طباق بعضها فوق بعض { وجعل } قمر القلب { فيهن نورا } زائدا نوره على نور النفس ونجوم القوى { وجعل } شمس الروح { سراجا } باهرا نوره.
{ والله أنبتكم } من أرض البدن { نباتا * ثم يعيدكم فيها } بميلكم إليها وتلبسكم بشهواتها ولذاتها وبهيئات نفوسكم الجسمانية وغواشيكم الهيولانية { ويخرجكم } بالبعث منه في مقام القلب عند الموت الإرادي { والله جعل لكم } تلك { الأرض بساطا * لتسلكوا منها } سبل الحواس { فجاجا } خروقا واسعة أو من جهتها سبل سماء الروح إلى التوحيد، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض " ، أراد الطرق الموصلة إلى الكمال من المقامات والأحوال كالزهد والعبادة والتوكل والرضا وأمثال ذلك، ولهذا كان معراج النبي صلى الله عليه وسلم بالبدن.
{ واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا } من رؤسائهم المتبوعين أهل المال والجاه المحجوبين عن الحق الهالكين الذين خسروا نور استعدادهم بالاحتجاب بهما وبالأولاد والأتباع أو المحجوبين بأموال العلوم الحاصلة بالعقل الشيطاني المشوب بالوهم ونتائج فكرهم المقتضية لمحبة البدن والمال { لا تذرن آلهتكم } أي:معبوداتكم التي عكفتم بهواكم عليها من ود البدن الذي عبدتموه بشهواتكم وأحببتموه وسواع النفس ويغوث الأهل ويعوق المال ونسر الحرص.
[71.25-28]
{ مما خطيئاتهم } أي: من أجل أعمالهم المخالفة للصواب { أغرقوا } في بحر الهيولى، { فأدخلوا } نار الطبيعة.
{ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } مل عن دعوة قومه وضجر واستولى عليه الغضب ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة وتتربى بهيئتها المظلمة لا تقبل إلا نفسا مثلها، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه. وغفل أن الولد سر أبيه، أي: حاله الغالبة على الباطن فربما كان الكافر باقي الاستعداد، صافي الفطرة، نقي الأصل بحسب الاستعداد الفطري وقد استولى على ظاهره العادة ودين آبائه وقومه الذين نشأ هو بينهم فدان بدينهم ظاهرا وقد سلم باطنه فيلد المؤمن على حاله النورية كولادة أبي إبراهيم إياه فلا جرم تولد من تلك الهيئة الغضبية الظلمانية التي غلبت على باطنه وحجبته في تلك الحالة عما قال مادة ابنه كنعان، فكان عقوبة لذنب حاله.
{ رب اغفر لي } أي: استرني بنورك بالفناء في التوحيد ولروحي ونفسي اللذين هما أبوا القلب { ولمن دخل بيتي } أي: مقامي في حضرة القدس { مؤمنا } بالتوحيد العلمي ولأزواج الذين آمنوا بي، أي: ونفوسهم فبلغهم إلى مقام الفناء في التوحيد { ولا تزد الظالمين } الذين نقصوا حظهم بالاحتجاب بظلمة نفوسهم عن عالم النور { إلا تبارا } هلاكا بالغرق في بحر الهيولى وشدة الاحتجاب، والله تعالى أعلم.
[72 - سورة الجن]
[72.1-2]
قد مر أن في الوجود نفوسا أرضية قوية لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي وتتجرد أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها. سماها بعض الحكماء: الصور المعلقة، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا. ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة أي: النفوس المجردة، ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت بتأثير تلك القوى فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها وإدراك مداها من العلوم، ولا تنكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان الصادقون من الأنبياء والأولياء خصوصا أكملهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن شئت التطبيق، فاعلم: أن القلب إذا استعد لتلقي الوحي وكلام الغيب استمع إليه القوى النفسانية من المتخيلة والوهم والفكر والعاقلة النظرية والعملية وجميع المدركات الباطنة التي هي جن الوجود الإنساني، ولما لم يكن الكلام الإلهي الوارد على القلب بواسطة روح القدس من جنس الكلام المصنوع المتلقف بالفكر والتخيل أو المستنتج من القياسات العقلية والمقدمات الوهمية والتخيلية، قالوا: { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد } أي: الصواب وذلك هو تأثرها بنور الروح وانتعاشها بمعاني الوحي وتنورها بنوره وتأثيرها في سائر القوى من الغضبية والشهوية وجميع القوى البدنية { فآمنا به } تنورنا بنوره واهتدينا إلى جناب القدس { ولن نشرك بربنا أحدا } أي: لن تمثله بمثال من جنس مدركاتنا فنشبه به غيره، بل نشايع السر في التوجه إلى جناب الوحدة، ولن ننزوي إلى عالم الكثرة لنعبد الشهوات بهوى النفس وتحصيل مطالبها من عالم الرجس فنعبد غيره.
[72.3-8]
{ وأنه تعالى } عظمة { ربنا } من أن نتصوره مدركة فتكيفه فيدخل تحت جنس فيتخذ { صاحبة } من صنف تحته أو { ولدا } من نوع يماثله { وأنه كان يقول سفيهنا } الذي هو الوهم { على الله شططا } بأن كان يتوهمه في جهة ويجعله من جنس الموجودات المحفوفة باللواحق المادية فيماثل المخلوقات صنفا أو نوعا { وأن ظننا أن لن تقول } إنس الحواس الظاهرة ولا جن القوى الباطنة { على الله كذبا } فيما أدركوا منه فتوهمنا أن البصر يدرك شكله ولونه والأذن تسمع صوته والوهم والخيال يتوهمه ويتخيله حقا مطابقا لما هو عليه قبل الاهتداء والتنور، فعلمنا من طريق الوحي أن ليست في شيء من إدراكه بل هو يدركها ويدرك ما تدركه ولا تدركه.
{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون } أي: تستند القوى الظاهرة إلى القوى الباطنة وتتقوى بها { فزادوهم } غشيان المحارم وإتيان المناهي بالدواعي الوهمية والنوازع الشهوية والغضبية والخواطر النفسانية.
{ وأنهم ظنوا كما ظننتم } قبل التنور بنور الهدى { أن لن يبعث الله } عليهم العقل المنور بنور الشرع فيهذبهم ويزكيهم ويؤدبهم بالآداب الحسنة فيأتون ما يشتهون بمقتضى طباعهم ويعملون على حسب غرائزهم وأهوائهم ويتركون سدى بلا رياضة ويهملون هملا بلا مجاهدة.
{ وأنا لمسنا } أي: طلبنا سماء العقل لنستفيد من مدركاته ما نتوصل به إلى لذاتنا ونسترق من مدركاته ما يعين في تحصيل مآربنا كما كان قبل التأدب بالشرائع { فوجدناها ملئت حرسا شديدا } معاني حاجزة عن بلوغنا مقاصدنا وحكما مانعة لنا عن مشتهياتنا قوية { وشهبا } وأنوارا قدسية وإشراقات نورية تمنعنا من إدراك المعاني التي صفت عن شوب الوهم والوصول إلى طور العقل المنور بنور القدس، فإن العقل قبل الهداية كان مشوبا بالوهم، قريبا من أفق الخيال والفكر، مقصورا على تحصيل المعاش مناسبا للنفس وقواها.
[72.9-13]
فلما تنور بنور القدس بعد عن منازل القوى ومبالغ علمها وإدراكها. وهذا معنى قوله: { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } أي: نورا ملكوتيا وحجة عقلية تطردنا عن الأفق العقلي وتحفظ العقل عن أن يميل إلى النفس فتختلط بنا وتنزل إلى ما ارتقينا إليه من المقاعد فنكتسب منه الآراء القياسية المؤدية إلى موافقات البدن وأمان النفس.
{ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض } أرض البدن من القوى فتبقى في المجاهدة والرياضة، ممنوعة من لذاتها، محجوبة عن مشتهياتها وما تهواها { أم أراد بهم ربهم } بالأحكام الشرعية والمناهي الدينية والأوامر التكليفية { رشدا } استقامة وصوابا وما يوجب صلاحها، فإن مقصد الشرع وكمال النفس أمر وراء مبالغ إدراك هذه القوى.
{ وإنا منا الصالحون } كالقوى المدبرة لنظام المعاش وصلاح البدن { ومنا دون ذلك } من المفسدات كالوهم والغضب والشهوة العاملة بمقتضى هوى النفس والمتوسطات كالقوى النباتية الطبيعية { كنا } ذوي مذاهب مختلفة لكل طريقة ووجهة مما عينه الله ووكله به { وأنا ظننا } أي: تيقنا أن الله غالب علينا لن نعجزه، كائنين في أرض البدن ولا هاربين إلى سماء الروح لعجز كل أحد منا عن فعل الآخر، فكيف عن فعل مبدأ القوى والقدر { الهدى } أي: القرآن تنورنا { به } وصدقناه بامتثالنا أوامره ونواهيه كما قال عليه السلام:
" لكل أحد شيطان، إلا أن شيطاني أسلم علي يدي "
{ فلا يخاف } بخس حق من حقوقه وكمالاته التي أمكنت له وحظوظه أيضا، فإن النفس وإن اطمأنت وتنورت قواها بحث لا تزاحم السر ولا تعلو القلب لم تمنع من الحظوظ بل وفرت عليها لتتقوى بها هي وقواها على الطاعة وتنشط على الأفعال الإلهية حالة الاستقامة كتمتيع نفسه عليه السلام بنكاح تسع نسوة وغيره من التمتعات، ولا رهقة ذلة وقهر بالرياضة أو بخس كمال ورهق رذيلة من الرذائل أو لحوق هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد.
[72.14-21]
{ منا المسلمون } المذعنون لطاعة القلب وأمر الرب بالطبع كالعاقلة { ومنا القاسطون } الجائرون عن طريق الصواب كالوهم { فمن } انقاد وأذعن { فأولئك } قصدوا الصواب والاستقامة { وأما } الجائرون { فكانوا } حطبا لجهنم الطبيعة الجسمانية { وأن لو استقاموا } من جملة الموحى لا من كلام الجن، أي: لو استقام الجن كلهم على طريق التوجه إلى الحق والسلوك في متابعة السر السائر إلى التوحيد { لأسقيناهم ماء غدقا } أي: لرزقناهم علما جما كما ذكر في إنباء آدم للملائكة.
{ لنفتنهم فيه } لنمتحنهم هل يشكرون بالعمل به وصرفه فيما ينبغي من مراضي الله أم لا؟ كما قال:
وبلوناهم بالحسنات
[الأعراف، الآية:168] { ومن يعرض عن ذكر ربه } فيبخل بنعمته أو يصرفها فيما لا ينبغي من الأعمال وينسى حق نعمته { يسلكه عذابا صعدا } بالرياضة الصعبة والحرمان عن الحظ حتى يتوب ويستقيم أو بالهيئة المنافية المؤلمة ليتعذب عذابا شديدا شاقا غالبا عليه.
{ وأن المساجد } أي: مقام كمال كل قوة هو هيئة إذعانها وانقيادها للقلب الذي هو سجودها أو كمال كل شيء حتى القلب والروح { لله } أي: حق الله على ذلك الشيء بل صفة الله الظاهرة على مظهر ذلك الشيء { فلا تدعو مع الله أحدا } بتحصيل أغراض النفس وعبادة الهوى وطلب اللذات والشهوات بمقتضى طباعكم، فتشركوا بالله وعبادته.
{ وأنه لما قام عبد الله } أي: القلب المتوجه إلى الحق الخاشع المطيع { يدعوه } بالإقبال إليه وطلب النور من جنابه ويعظمه ويبجله { كادوا يكونون عليه لبدا } يزدحمون عليه بالاستيلاء ويحجبونه بالظهور والغلبة. { قل إنما أدعو ربي } أوحده ولا ألتفت إلى ما سواه فأكون مشركا.
{ قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } أي: غيا وهدى، إنما الغواية والهداية من الله إن سلطني عليكم تهتدوا بنوري وإلا بقيتم في الضلال ليس في قوتي أن أقسركم على الهداية.
[72.22-28]
{ قل إني لن يجيرني } اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة والقدرة عليهم، أي: لن يجيرني أيضا { من الله أحد } إن أرادني الله بضر أو غواية فيسلطكم أو غيركم علي { ولن أجد من دونه ملتحدا } ملجأ وملاذا ومهربا ومحيصا إن أهلكني أو عذبني على أيديكم أو غيركم، وإذ لا أملك النفع والضر والهداية والغواية لنفسي فكيف أملك لكم شيئا منها؟.
{ إلا بلاغا } أي: أن أبلغكم بلاغا صادرا من الله { و } أبلغكم { رسالاته } من معاني الوحي وأحكام الحق، أي: لا أملك إلا التبليغ والرسالات فهو استثناء من معمول أملك. وقوله: { ومن يعص الله ورسوله } منكم فلم يقبل نوره ولم يسمع ما يبلغه رسول العقل { فإن له نار } الطبيعة المحرقة باستيلائها عليه أبدا { حتى إذا رأوا } أي: يكونون عليه لبدا يستولون عليه بالازدحام حتى إذا رأوا { ما يوعدون } في الرسالات من وقوع القيامة الصغرى بالموت أو الوسطى بظهور نور الفطرة واستيلاء القلب عليها، أو الكبرى بظهور نور الوحدة فسيظهر ضعفهم وقلة عددهم وخمود نارهم وانطفاؤها وكلالة حدهم وشوكتهم بإحدى الأحوال الثلاث ولا ينصر بعضهم بعضا لانقهارهم وعجزهم وفنائهم فيعلمون { أنهم أضعف ناصرا } من القلب { وأقل عددا } وإن كادوا أن يقهروه بالكثرة واستقلوه بالنسبة إلى عددهم فإن الواحد المؤيد من عند الله أقوى وأكثر
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون
[الصافات، الآيات:171 - 172]،
إن ينصركم الله فلا غالب لكم
[آل عمران، الآية:160].
{ قل إن أدري أقريب ما توعدون } في القيامة الصغرى من الفناء والدخول في نار الطبيعة عند البعث لعدم الوقوف على قدر الله أو في الأخريين من الموت الإرادي والفناء الحقيقي لعدم الوقوف على قوة الاستعداد وضعفه فيقع عاجلا، أم ضرب الله له غاية وأجلا هو { عالم الغيب } وحده { فلا } يطلع { على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول } أي: أعده في الفطرة الأولى وزكاه وصفاه من رسول القوة القدسية { فإنه يسلك من بين يديه } أي: من جانبه الإلهي { ومن خلفه } وجهته البدنية { رصدا } حفظة أما من جهة الله التي إليها وجهه فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية، وأما من جهة البدن فالملكات الفاضلة والهيئات النورية الحاصة من هياكل الطاعات والعبادات يحفظونه من تخبيط الجن وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات بمعارفها اليقينية ومعانيها القدسية والواردات الغيبية والكشوف الحقيقية.
{ ليعلم أن قد أبلغوا } ليظهر علمه تعالى في مظاهر الرسل مما كان مكنونا في استعدادهم فيكملوا وكملوا بما أمكنهم حمله من رسالاته وإبلاغه { وأحاط بما لديهم } من العقل الفرقاني والمعاني المكنونة في فطرتهم أزلا فأظهرها { وأحصى كل شيء } أي: ضبط كل شيء بالعقل الفرقاني وإبراز الكمال التام جملة وتفصيلا كليا وجزئيا، أو ضبط عدد كل شيء مطلقا في القضاء والقدر كليا وجزئيا، والله تعالى أعلم.
[73 - سورة المزمل]
[73.1-4]
{ يا أيها المزمل } أي: المتلفف في غواشي البدن وملابسه { قم } من نوم الغفلة سائرا في سبيل الله، سالكا مسالك بيداء النفس ومراحل مفازة القلب إلى الله، ليل مقام النفس واستيلاء الطبع { إلا قليلا } بحكم الضرورة للاستراحة والأكل والشرب ومصالح البدن ومهماته التي لا يمكن التعيش بدونها وذلك هو نصفه، أي: نصف كونه في مقام الطبيعة من الزمان بأسره ليكون الربع من الدورة التامة التي هي أربع وعشرون ساعة للاستراحة والربع لضروريات البدن { أو انقص منه قليلا } إن كنت من الأقوياء حتى يبقى الثلث فيكون السدس للاستراحة والسدس لضروريات المعاش.
{ أو زد عليه } قليلا إن كنت من الضعفاء حتى يصير إلى الثلثين فيكون الثلث للاستراحة والثلث للضروريات والثلث للاشتغال بالله والسير في طريقه. { ورتل القرآن } أي: فصل ما في فطرتك من المعاني والحقائق مجموعة، وفي استعدادك مكنونة بإظهارها وإبرازها بالتزكية والتصفية.
[73.5-11]
{ إنا سنلقي عليك } بتأييدك بروح القدس وإفاضة نوره عليك حتى يخرج ما فيك بالقوة إلى الفعل من المعاني والحكم { قولا ثقيلا } ذا وزن واعتبار { إن ناشئة الليل } أي: النفس المنبعثة من مقام الطبيعة ومقيل الغفلة { هي أشد } موافقة للقلب وأصوب، قولا صادرا من العلم لا من التخيل والظن والوهم { إن لك } في نهار مقام القلب وزمان طلوع شمس الروح { سبحا } أي: سيرا وتصرفا وتقلبا في الصفات الإلهية ومقامات الطريق { طويلا } بلا أمد ونهاية.
{ واذكر اسم ربك } الذي هو أنت، أي: اعرف نفسك واذكرها ولا تنساها فينساك الله، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها { وتبتل } وانقطع إلى الله بالإعراض عما سواه انقطاعا تاما معتدا به { رب المشرق والمغرب } أي: الذي ظهر عليك نوره فطلع من أفق وجودك بإيجادك، والمغرب الذي اختفى بوجودك وغرب نوره فيك واحتجب بك { لا إله } في الوجود { إلا هو } أي: لا شيء في الوجود يعبد غيره، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن { فاتخذه وكيلا } أي: انسلخ عن فعلك وتدبيرك برؤية جميع الأفعال منه فيكون أمرك موكولا إليه يدبر أمرك ويفعل بك ما يشاء فكنت متوكلا.
{ واصبر على ما يقولون } واحبس نفسك عن الطيش والاضطراب والحركة في طلب الرزق والاهتمام به على ما توسوس إليك قوى نفسك وتلقي إليك من خواطر الوهم ودواعي الشهوة ونوازغ الهوى فتبعثك وتتعبك في حوائجك { واهجرهم } بالإعراض عنهم { هجرا } مبنيا على العلم الشرعي والعقلي لا على الهوى والرعونة { وذرني } وإياهم فإنهم المكذبون بمقام التوكل وتكفلي بحوائجك لاحتجابهم بما أنعمت عليهم من نعمة الإدراك والشعور والقدرة والإرادة عني فلا يشعرون إلا بقواهم وقدرهم ولا يصدقون قولي { ومهلهم قليلا } ريثما أسلب عنهم القوة والقدرة بتجلي الصفات فيظهرعجزهم.
[73.12-20]
{ إن لدينا } قيودا شرعية وتكاليف مانعة لهم عن أفعالها { وجحيما } من حر نار التعب في الطلب { وطعاما ذا غصة } من مخالفات طباعهم وحقوقهم بدل حظوظهم { وعذابا أليما } من أنواع الرياضة والمجاهدة.
{ يوم ترجف } أرض النفس باستيلاء إشراقات أنوار التجليات في القلب فتقشعر وتضطرب، وجبال هيئاتها وصفاتها فتندك.
{ وكانت الجبال كثيبا مهيلا } فتنمحى وتذهب. أو ريثما يهيج أعصير انحراف المزاج وغلبة بعض الكيفيات بعضا إن لدينا أنكالا من الهيئات المنكرة والصور المعذبة المؤذية وجحيما من نيران الطبيعة وطعاما ذا غصة مما لا تستلذه من أنواع الغسلين والزقوم والضريع، وعذابا أليما بتلك النيران والصور يوم ترجف أرض البدن بزهوق الروح وسكرات الموت وجبال الأعضاء فتتفتت وتصير كثيبا مهيلا، والله أعلم.
[74 - سورة المدثر]
[74.1-7]
{ يا أيها المدثر } أي: المتلبس بدثار البدن، المحتجب بصورته { قم } عن ما ركنت إليه وتلبست به من أشغال الطبيعة وانتبه عن رقدة الغفلة { فأنذر } نفسك وقواك وجميع من عداك عذاب يوم عظيم { وربك فكبر } أي: إن كنت تكبر شيئا وتعظم قدره فخصص ربك بالتعظيم والتكبير لا يعظم في عينك غيره ويصغر في قلبك كل ما سواه بمشاهدة كبريائه { وثيابك فطهر } اي: ظاهرك طهره أولا قبل تطهير باطنك عن مدانس الأخلاق وقبائح الأفعال ومذام العادات ورجز الهيولى المؤدي إلى العذاب { فاهجر } أي: جرد باطنك عن اللواحق المادية والهيئات الجسمانية الغاسقة والغواشي الظلمانية الهيولانية { ولا تمنن تستكثر } ولا تعطي المال عند تجردك عنه مستغزرا طالبا للأغواض والثواب الكثير به، فإن ذلك احتجاب بالنعمة عن المنعم وقصور همة، بل خالصا لوجه الله افعل ما تفعل صابرا على الفضيلة له لا لشيء آخر، وهذا معنى قوله:
{ ولربك فاصبر } أو لا تعط ما أعطيت في الزهد والطاعة والترك والتجريد مستكثرا رائيا إياه كثيرا فتحتجب برؤية فضيلتك وتبتلى بالعجب فيكون ذنب رؤية الفضيلة أعظم من ذنب الرذية، كما قال عليه السلام:
" لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أشد من الذنب، العجب العجب العجب "
، بل اصبر على الفضيلة خالصا لوجه ربك لا لغرض آخر هاربا عن الرذيلة بالطبع لا فضيلة لها أصلا، فلا تبتهج برؤية زينتها بالفضيلة بل بفضل الله عليك فتتذلل وتخضع لا تتعزز وتستكثر.
[74.8-28]
{ فإذا نقر في الناقور } أي: نزع الروح عن الجسد فتنقر الهيئات الروحانية ومحاسن الصور والملاذ والإدراكات عنه ويؤثر بالتفريق والتبديد في ذلك المنقور، وذلك عبارة عن النفخة الأولى للإماتة أو ينقر في البدن المبعوث فتنتقش فيها الهيئات المكتسبة المردية الموجبة للعذاب أو الحسنة المنجية الموجبة للثواب، فيكون عبارة عن النفخة الثانية التي للإحياء وهو الأظهر، فلا يخفى عسر ذلك اليوم على المحجوبين على أحد وإن خفي يسره على غيرهم إلا على المحققين من أهل الكشف والعيان.
{ سأصليه سقر } بدل من قوله:
سأرهقه صعودا
[المدثر، الآية:17] والصعود: عقبة شاقة المصعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا "
وهو والله أعلم إشارة إلى طور النفس الذي هو أعظم أطوارها أي: أفقها الذي يلي الفطرة الإنسانية يصعد إليه سنين متطاولة في صورة التعذيب وبرازخ الاحتجاب يهلك ويحترق فيها كما قال عليه السلام:
" يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت ويهوي فيه إلى أسفل سافلين "
كذلك ينتقل دركة دركة في برازخ متنوعة أبدا فذلك الصعود هو سقر الطبيعة من أعلى طبقاتها إلى أسفلها سأصليه إياها لا تبقى فيها شيئا إلا أهلكته وأفنته وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد فأهلكته مرة أخرى هكذا دائما.
[74.29-31]
{ لواحة للبشر } مغيرة لظواهر الأجساد إلى لون سواد خطاياهم وهيئات سيئاتهم وذلك من خاصية تلك النار كما تغير النار الجسمانية الألوان والهيئات { عليها تسعة عشر } هي الملكوت الأرضية التي تلازم المادة من روحانيات الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر الموكلة بتدبير العالم السفلي المؤثرة فيه تقمعهم بسياط التأثير وتردهم في مهاويها.
{ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } لتغلبهم وتقهرهم فإن عالم الملك في قهر عالم الملكوت وتسخيره { وما جعلنا عدتهم إلا } لابتلاء المحجوبين وتعذيبهم وزيادة احتجابهم وارتيابهم.
{ ليستيقن الذين أوتوا } كتاب العقل الفرقاني { ويزداد الذين آمنوا } الإيمان اليقيني العلمي { إيمانا } بالكشف والعيان فلا يرتابوا كما ارتاب الجاهلون بالجهل البسيط المحجوبون. أو ليستيقن الذين اوتوا الكتاب من المقلدين ويزداد المحققون تحقيقهم ولا يرتابوا كما ارتاب الجاهلون الذي لا اعتقاد لهم تحقيقا ولا تقليدا { وليقول الذين في قلوبهم مرض } نفاق وشك من الجاهلين بالجهل البسيط { والكافرون } المحجوبون باعتقاداتهم الفاسدة من الجاهلين بالجهل المركب { ماذا أراد الله بهذا مثلا } أي: شيئا عجيبا كالمثل المستغرب المتعجب منه أي: ما ذكرنا عدتهم وما جعلناها كذلك إلا ليكون سببا لظهور ضلال الضالين وهداية المهتدين كسائر الأسباب الموجبة لضلال من ضل وهداية من اهتدى مثل ذلك المذكور { يضل الله من يشاء } من أهل الشقاوة الأصلية { ويهدي من يشاء من أهل السعادة الأزلية { وما يعلم جنود ربك } عددها وكميتها وكيفيتها وحقيقتها إلا هو لإحاطة علمه بالماهيات وأحوالها { وما هي } أي: وما سقر متصل بقوله: سأصليه سقر من تتمة أوصافه.
وقوله: { وما جعلنا } إلى قوله: { إلا هو } اعتراض لبيان حال الزبانية { إلا } تذكرة للبشر.
[74.32-42]
{ كلا } إنكار أن يكون تذكيرا لهم مطلقا، فإن أكثرهم غير مستعدين مطبوع على قلوبهم محكوم بشقاوتهم فلا يتعظون به، ثم أقسم بالقمر أي: بالقلب المستعد الصافي القابل للإنذار المتعظ به المنتفع بتذكيره تعظيما له وبليل ظلمة النفس { إذ أدبر } أي: ذهب بانقشاع ظلمتها عن القلب بانشقاق نور الروح عليه وتلألؤ طوالعه وبصبح طلوع ذلك النور إذا أسفر فزالت الظلمة بكليتها وتنور القلب { إنها } أي: سقر الطبيعة { لإحدى } الدواهي { الكبر } العظيمة أوحدية منها فردة لا نظير لها من جملتها كقولك: إنه أحد الرجال وإنها لإحدى النساء تريد فردا منهم، منذرة { للبشر } أو إنذارا أي: فردا في الإنذار لهم لا لكلهم بل للمستعدين القابلين الذين إن شاؤوا تقدموا باكتساب الفضائل والخيرات والكمالات إلى مقام القلب والروح وإن شاؤوا تأخروا بالميل إلى البدن وشهواته ولذاته فوقعوا فيها.
{ كل نفس } بمكسوبها { رهينة } عند الله لا فكاك لها لاستيلاء هيئات أعمالها وآثار أفعالها عليها ولزومها إياها وعدم انفكاكها عنها { إلا أصحاب اليمين } من السعداء الذين تجردوا عن الهيئات الجسدانية وخلصوا إلى مقام الفطرة ففكوا رقابهم عن الرهن هم { في جنات } من جنات الصفات والأفعال يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين لاطلاعهم عليها وما أوجب تعذيبهم وبقاءهم في سقر الطبيعة، فأجاب المسؤولون بأنا سألناهم عن حالهم بقولنا: { ما سلككم في سقر }.
[74.43-56]
{ قالوا } بلسان الحال أو القال: إنا كنا موصوفين بهذه الرذائل من اختيار الراحات البدنية ومحبة المال وترك العبادات البدنية والحالية والرياضات والخوض في الباطل والهزؤ والهذيانات والتكذيب بالجزاء وإنكار المعاد التي هي رذائل القوى الثلاث الموجبة للانغمار في نار الطبيعة الهيولانية { حتى أتانا اليقين } أي: الموت فرأينا به ما كنا ننكره عيانا { فما تنفعهم شفاعة } شافع من نبي أو ملك لو قدر على سبيل فرض المحال لأنهم غير قابلين لها، فلا إذن في الشفاعة فلذلك فلا شفاعة فلا نفع فإن الشفاعة هناك إفاضة النور وإمداد الفيض ولا يمكن إلا عند قبول المحل بالصفاء. ثم بين امتناع قبولهم لذلك وانتفاعهم بالشفاعة بإعراضهم عن التذكرة وبلادة قلوبهم كقلوب الحمر وتمنياتهم الباطلة لعنادهم ولجاجهم وعدم خوفهم من الآخرة لعدم اعتقادهم وكل ذلك بمشيئة الله وقدره، والله تعالى أعلم.
[75 - سورة القيامة]
[75.1-4]
{ لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة } جمع بين القيامة والنفس اللوامة في القسم بهما تعظيما لشأنهما وتناسبا بينهما، إذ النفس اللوامة هي المصدقة بها، المقرة بوقوعها، المهيئة لأسبابها لأنها تلوم نفسها أبدا في التقصير والتقاعد عن الخيرات وإن أحسنت لحرصها على الزيادة في الخير وأعمال البر تيقنا بالجزاء فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت منها بادرة غفلة ونسيانا. وحذف جواب القسم لدلالة قوله: { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه } عليه وهو: لتبعثن. والمراد بالقيامة ها هنا الصغرى لهذه الدلالة بعينها { بلى } أي: بلى نجمعها { قادري على } تسوية بنانه التي هي أطراف خلقته وتمامها بان نعدلها كما كانت. وقيل في بعض التفاسير الظاهرة: على أن نضمها فنجعلها مسواة شيئا واحدا كحافر الحمير وخف البعير.
[75.5-19]
{ بل يريد الإنسان } ليدوم على الفجور بالميل إلى اللذات البدنية والشهوات البهيمية غارزا رأسه فيها فيما بين يديه من الزمان الحاضر والمستقبل، فيغفل عن القيامة لقصور نظره عنها كونه مقصورا على اللذات العاجلة وفرط تهالكه عليها واحتجابه بها عن الآجلة سائلا عنها متعنتا مستبعدا إياها بقوله: { أيان يوم القيامة } { فإذا برق البصر } أي: تحير ودهش شاخصا من فزع الموت { وخسف } قمر القلب لذهاب نور العقل عنه { وجمع } شمس الروح وقمر القلب بأن جعلا شيئا واحدا طالعا عن مغرب البدن لا يعتبر له رتبتان كما كان حال الحياة بل اتحدا روحا واحدا { يقول الإنسان يومئذ أين المفر } أي : يطلب مهربا ومحيصا { كلا } ردع له عن طلب المفر { لا وزر } لا ملجأ { إلى ربك يومئذ } خاصة مستقر من نار أو جنة مفوض إليه لا إلى غيره ولا إلى اختياره أو إليه خاصة استقراره ورجوعه كقوله:
إن إلى ربك الرجعى
[العلق، الآية:8].
{ ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم } من عمله الذي يوجب نجاته وثوابه من الخيرات والصالحات { وأخر } ففرط وقصر فيه ولم يعمله { بل الإنسان على نفسه بصيرة } حجة بينة يشهد بعمله لبقاء هيئات أعماله المكتوبة عليه في نفسه ورسوخها في ذاته وصيرورة صفاته صورة أعضائه، فلا حاجة إلى أن ينبأ من خارج { ولو ألقى معاذيره } أي: أرخى ستوره فاختفى بها عند ارتكاب تلك الأعمال. أو ولو ألقى أعذاره مجادلا عن نفسه بكل معذرة.
{ ولا تحرك به لسانك } أي: الإنسان عجول بالطبع كما قال:
خلق الإنسان من عجل
[الأنبياء، الآية:37] فلذلك اختار العاجلة واحتجب بها عن الآجلة. ألا ترى أنك مع وفور سكينتك وكمال وقارك بالله تعجل عند إلقائنا الوحي إليك فتظهر نفسك لتتلقفه وهو ذنب حالك وحجاب وجودك، وهو معنى قوله: { بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة } فلا تفعل ولا تحرك لسانك به، فظهور نفسك واضطرابها عجلة به ولتكن قواك هادية ونفسك غائبة عن مورد الوحي وقلبك سالما عن صفاتها خالصا في التوجه آمنا عن حركة النفس.
{ إن علينا جمعه وقرآنه } إن علينا جمعه فيك وقرآنه أي: ليكن جمعه في مقام الوحدة وقراءتك إياه بنا فانيا عن ذاتك وفي عين الجمع حيث لم يكن لك وجود ولا بقية ولا عين ولا أثر { فإذا قرأناه } أوجدناه حال فنائك فينا { فاتبع قرآنه } بالرجوع إلى مقام البقاء بعد اللفناء وظهور القلب والنفس في، ثم عند كونك في مقام التفصيل { إن علينا بيانه } وإظهار معانيه في حيز قلبك ونفسك مفصلة مشروحة.
[75.20-40]
{ كلا } ردع له عن العجلة { بل تحبون العاجلة } سواء حالك وحالهم بحكم البشرية ومقتضى الطبيعة والنفس الطياشة.
{ وجوه يومئذ ناضرة } للتنور بنور القدس والاتصال بعالم النور والسرور والنعيم الدائم متبجحة بزينة معارفها وهيئاتها، مبتهجة ببهجة ذاوتها منخرطة في سلك الملكوت والجبروت { إلى ربها ناظرة } أي: إلى حضرة الذات خاصة متوجهة متوقعة للرحمة التامة في مقام أنوار الصفات أو ناضرة بنوره إلى وجهه خاصة، ناظرة مشاهدة إياه لا تلتفت إلى ما سواه مشاهدة لجمال ذاته وسبحات وجهه أو مطالعة لحسن صفاته لا تشتغل بغيره { باسرة } كالحة لجهامة هيئاتها وظلمة ما بها من الجحيم والنيران وسماجة ما تراه مما هناك من الأهوال وأنواع العذاب والخسران { تظن أن يفعل بها } داهية تفصل فقار الظهر لشدتها وسوء حالها ووبالها، وشتان ما بين المرتبتين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[76 - سورة الانسان]
[76.1-2]
{ هل أتى } أي: قد أتى { على الإنسان حين من الدهر لم يكن } فيه { شيئا مذكورا } أي: على وجه التقرير والتقريب، أي: كان شيئا في علم الله بل في نفس الأمر لقدم روحه ولكنه لم يذكر فيما بين الناس لكونه في عالم الغيب وعدم شعور من في عالم الشهادة به.
[76.3-8]
{ إنا هديناه } سبيل الحق بأدلة العقل والسمع في حالتي كونه شاكرا مهتديا مستعملا لنعم المشاعر والآلات والوسايط فيما ينبغي أن يستعمل من الطاعات متوصلا بها إلى المنعم { أو كفورا } محتجبا بالنعم عن المنعم مستعملا لها في غير ما يحب أن يستعمل من المعاصي { إنا أعتدنا للكافرين } المحتجبين بالنعم { سلاسل } الميول والمحبات إلى المشتهيات الجسمانية الموجبة لتقيدهم بها والحرمان عن المقاصد الحقيقية في النيران وأغلال الصور والهيئات المانعة عن الحركة في طلب المراد وسعير التعذيب في قعر الطبيعة وقهر الحرمان.
{ إن الأبرار } أي: السعداء الذين برزوا عن حجاب الآثار والأفعال واحتجبوا بحجب الصفات غير واقفين معها بل متوجهين إلى عين الذات مع البقاء في عالم الصفات وهم المتوسطون في السلوك { يشربون من كأس } محبة حسن الصفات لا صرفا بل كان في شرابهم مزج من لذة محبة الذات وهي العين الكافورية المفيدة للذة برد اليقين وبياض النورية وتفريح القلب المحترق بحرارة الشوق وتقويته، فإن للكافور خاصية التبريد والتفريح والبياض. والكافور عين { يشرب بها } صرفة { عباد الله } الذين هم خاصته من أهل الوحدة الذاتية المخصوص محبتهم بعين الذات دون الصفات، لا يفرقون بين القهر واللطف والرفق والعنف والبلاء والشدة والرخاء بل تستقر محبتهم مع الأضداد وتستمر لذاتهم في النعماء والسراء والرحمة والزحمة كما قال أحدهم:
هواي له فرض تعطف أم جفا
ومشربه عذب تكدر أم صفا
وكلت إلى المحبوب أمري كله
فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا
وأما الأبرار فلما كانوا يحبون المنعم واللطيف والرحيم لم تبق محبتهم عند تجلي القهار والمبلي والمنتقم بحالها ولا لذتهم بل يكرهون ذلك { يفجرونها تفجيرا } لأنهم منابعها لا اثنينية ثمة ولا غيرية، وإلا لم يكن كافور الظلمة حجاب الأنائية والاثنينية وسواده.
{ يوفون بالنذر } أي:الأبرار يوفون العهد الذي كان بينهم وبين الله صبيحة يوم الأزل بأنهم إذا وجدوا التمكن بالآلات والأسباب أبرزوا ما في مكامن استعداداتهم وغيوب فطرتهم من الحقائق والمعارف والعلوم والفضائل وأخرجوها إلى الفعل بالتزكية والتصفية { ويخافون } يوم تجلي صفة القهر والسخط والانتقام لكونهم وصفيين { يوما كان شره } فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ باستيلاء الهيئات المظلمة والحجب الساترة للنور من صفات النفس على القلب وهو نهاية مبالغ الشر.
{ ويطعمون الطعام على حبه } أي: يتجردون عن المنافع المالية ويزكون أنفسهم عن الرذائل خصوصا عن الشح لكون محبة المال أكثف الحجب فيتصفون بفضيلة الإيثار ويطعمون الطعام في حالة احتياجهم إليه لسد خله جوع من يستحقه، ويؤثرون به غيرهم على أنفسهم كما هو المشهور من قصة علي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام في شأن نزول الآية من الإيثار بالفطور على المستحقين الثلاثة والصبر على الجوع والصوم ثلاثة أيام أو يزكون أنفسهم عن رذيلة الجهل فيطعمون الطعام الروحاني من الحكم والشرائع مع كونه محبوبا في نفسه على حب الله المسكين الدائم السكون إلى تراب البدن واليتيم المنقطع عن تربية أبيه الحقيقي الذي هو روح القدس والأسير المحبوس في أسر الطبيعة وقيود صفات النفس.
[76.9-14]
{ إنما نطعمكم لوجه الله } أي: قائلين في أنفسهم ذلك، ناوين بالإطعام رضا الله، فإن الأبرار يقصدون الخيرات مراضي الله لا الثواب لكونهم بارزين عن حجاب الأفعال إلى الصفات أو لذات الله ومحبتها إذ الوجه عبارة عن الذات مع الصفات لكونهم سالكين سائرين في بيداء الصفات إلى مقصد الذات، غير واقفين معها { لا نريد منكم جزاء } مكافأة { ولا شكورا } وثناء لعدم احتجابنا بالأغراض والأعراض.
{ إنا نخاف من ربنا } يوم تجلي السخط والغضب وظهوره في صفة العبوس والقهر { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } بتجليه في صورة الرضا واللطف { ولقاهم } نضرة الرضوان وسرور النعيم الدائم { وجزاهم } بصبرهم عن اللذات النفسانية والتزيينات الشيطانية في جنان الأفعال مع أنوار الصفات جنة الذات وحرير ملابس الصفات الإلهية النورانية اللطيفة.
{ متكئين } في تلك الجنة على أرائك الأسماء التي هي الذات مع الصفات بحسب مقاماتهم ومراتبهم ودرجاتهم منها { لا يرون فيها } شمس حرارة الشوق إليها مع الحرمان ولا زمهرير برودة الوقوف مع الأكوان، فإن الوقوف مع الكون برد قاسر وثقل عاصر.
{ ودانية عليهم } ظلال الصفات قريبة منهم ساترة إياهم لاتصافهم بها وكونهم في روحها { وذللت } لهم { قطوفها } من ثمارعلوم توحيد الذات وتوحيد الصفات والأحوال والمواهب { تذليلا } تاما كلما شاؤوا جنوها وتلذذوا وتفكهوا بها.
[76.15-18]
{ ويطاف عليهم بآنية من فضة } هي مظاهر حسن الصفات من محاسن الصور وكونها من فضة نوريتها وبياضها وزينتها وبهاؤها { وأكواب } من صور أوصاف المجردات اللطيفة والجواهر المقدسة لكونها بلا عرى التعلق بالمواد فلا يمكن قبضها بالعرى من غير الاتصال بذواتها ولكونها من عالم الغيب لم تكن مكشوفة الرأس كالأواني { كانت قوارير } لصفائها وتلألؤ نور الذات من ورائها، وكما قال في تشبيه القلب بالزجاجة:
الزجاجة كأنها كوكب دري
[النور، الآية:35] أي: في صفاء الزجاجة وضياء الكوكب فكذلك ها هنا قال: { قوارير من فضة } أي: هي في صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة وبريقها { قدروها تقديرا } أي: على حسب استعداداتهم ومبالغ ربهم على قدر أشواقهم وإرادتهم كما قدروا في أنفسهم وجدوها كما قيل: لا تغيض ولا تفيض.
{ ويسقون فيها كأسا كان مزاجها } زنجبيل لذة الاشتياق، فإنهم لا شوق لهم ليكون شرابهم الزنجبيل الصرف الذي هو غاية حرارة الطلب لوصولهم، ولكن لهم الاشتياق للسير في الصفات وامتناع وصولهم على جميعها فلا تصفو محبتهم من لذة حرارة الطلب كما صفت لذة محبة المستغرقين في عين جميع الذات فكان شرابهم العين الكافورية الصرفة { عينا } بدل من زنجبيلا أي: هو عين في الجنة لكون حرارة الشوق عين المحبة الناشئة من منبع الوحدة مع الهجران { تسمى سلسبيلا } لسلاستها في الحلق وذوقها. فإن العشاق المهجورين الطالبين السالكين سبيل الوصال في ذوق وسكر من حرارة عشقهم لا يقاس به ذوق.
[76.19-22]
{ ويطوف عليهم ولدان مخلدون } من فيوض الأسماء الإلهية المتجلية عليهم في عالم القدس وهي الأنوار الملكوتية والجبروتية المنكشفة عليهم في حضرات الصفات وجناتها. ولو كانت جنانهم من جنان الأفعال لطافت عليهم الحور مكان الولدان، لأن الأسماء مؤثرة في الأفعال والصفات مصادرها ومبادئ الآثار والهيئات وكونهم مخلدين بقاؤهم على التجرد أبدا { إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } لنوريتهم وصفائهم وبساطة جواهرهم.
{ عاليهم ثياب سندس خضر } أي: تعلوهم ملابس سندس الأحوال والمواهب اللطيفة من أنوار الصفات البهيجة. والخضرة عبارة عن البهجة والنضرة وإستبرق الاخلاق الإلهية { وحلوا أساور من فضة } أي: زينوا بزينة المعاني المعقولة المنورة بنور الوجدان { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } من لذة محبة الذات والعشق الحقيقي الصرف الصافي عن كدر الغيرية واثنينية الصفات الطاهر عن دنس ظهور الأنائية والبقية.
{ إن هذا } المذكور من الجنة والأواني والولدان والشراب { كان لكم جزاء } لقيامكم بحق تجليات الصفات { وكان سعيكم } من الأعمال القلبية في مقامها كالخشية والهيبة عند تجلي العظمة والخضوع والأنس عند تلجي صفة الرحمة والإخلاص في طلب تجلي الوحدة وأمثال ذلك { مشكورا } بهذا الجزاء.
[76.23-28]
{ إنا نحن نزلنا عليك القرآن } بذاتنا دون من عدانا { فاصبر لحكم } التجلي الأحدي الذاتي في مقام الفناء مع بلاء ظهور الأنائية والبقية، فإن الرب في مقام نزول الصفات هو الذات وحدها { ولا تطع منهم آثما } محتجبا بالصفات والأحوال أو بذاته عن الذات وبصفات نفسه وهيئاتها عن الصفات { أو كفورا } محتجبا بالأفعال والآثار واقفا معها بأفعاله ومكسوباته عن الأفعال فتحتجب بموافقتهم.
{ واذكر اسم ربك } أي: ذاتك الذي هو الاسم الأعظم من أسمائه بالقيام بحقوقه وإظهار كمالاته { بكرة وأصيلا } في المبدأ والمنتهى بالصفات الفطرية من وقت طلوع النور الإلهي بإيجادها في الأزل وإيداع كمالاته فيها وغروبه بتعيينها واحتجابه بها وإظهارها مع كمالاتها.
{ ومن الليل } وخصص مقام النفس أو القلب حال البقاء بعد الفناء والرجوع إلى الخلق للتشريع بسجود الفناء والعبادة الحقانية فإن الدعوة لا تمكن إلا بحجاب القلب ووجود النفس { فاسجد له } سجود الفناء برؤية بقاء نفسك بالحق وفناء البشرية بالكلية فتكون موجودا به لا بها، ونزهه عن المعية والاثنينية والأنائية وظهور البقية { ليلا طويلا } بقاء دائما أبديا ما دمت في ذلك المقام.
{ إن هؤلاء } أي: المحتجبين بالآثار والأفعال أو الصفات { يحبون العاجلة } أي: شاهدهم الحاضر من الذوق الناقص { ويذرون وراءهم } يوم التجلي الذاتي، أي: القيامة الكبرى الشاق المعتبر الذي لا يحتمله أحد.
{ نحن خلقناهم } بتعيين استعداداتهم { وشددنا أسرهم } قويناهم بالميثاق الأزلي والاتصال الحقيقي { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم } بأن نسلب أفعالهم بأفعالنا ونمحو صفاتهم بصفاتنا، ونفني ذواتهم بذواتنا فيكون أبدالا.
[76.29-31]
{ إن هذه } تذكير لسلوك طريقي والسير في { فمن شاء اتخذ } سبيلا إلي { وما تشاؤون إلا } بمشيئتي بأن أريدهم فيريدوني فتكون إرادتهم مسبوقة بإرادتي، بل عين إرادتي الظاهرة في مظاهرهم { إن الله كان عليما } بما أودع فيهم من العلوم { حكيما } بكيفية إيداعها وإبرازها فيهم بإظهار كمالهم.
{ يدخل من يشاء في رحمته } بإفاضة ذلك الكمال المودع فيه عليه وإظهاره { والظالمين } الباخسين حقهم الناقصين حظهم منها بالاحتجاب عنها، أو الواضعين نور فطرتهم الذي هو النور الإلهي الأصلي الحاصل من اسمه المبدىء في غير موضعه من محبة الأنداد والاحتجاب بالآثار وعبادة الأغيار { أعد لهم عذابا } بالوقف على الرب لوقوفهم مع الغير ثم على النار لوقوفهم مع الآثار مؤلما إيلاما شديدا.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-6]
{ والمرسلات عرفا } أقسم سبحانه بأنوار القهر واللطف الموجبة للكمال والوقوف على أحوال القيامة فقال: { والمرسلات } ، أي: الأنوار القاهرة التي أرسلت إلى النفوس الإنسانية { عرفا } أي: متتالية متتابعة بواده ولوائح ولوامع وطوالع من قولهم: جاؤوا عرفا، ثم تشتد وتقوى كالرياح العاصفة فتعصف بالصفات النفسانية والقوى البدنية والروحانية بتجليات صفات العظموت والجبروت فتقهرها وتذريها. وإن فسر العرف بالذي هو ضد النكر فمعناه: والمرسلات للإحسان فإن هذا القهر في ضمنه لطف خفي كما قال:
" سبقت رحمتي غضبي "
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته.
{ والناشرات } والأنوار التي تنشر وتحيي ما أهلكته وأفنته العاصفات من تجليات صفات المحبة والرحموت، فتفرق بينها بإقامة كل في مقامها ليتميز بعضها من بعض وتفصل بين الحق والباطل من أفعالها، فتلقي الذكر أي: العلم والحكمة لأن العلم يستدعي دعاء وجوديا ظاهريا فلا يمكن فيضانه في حال الفناء بالتجلي القهري ولا قبله وإلا لكان فكريا مستنبطا بالعقل المشوب بالوهم فكان شيطنة وشبها مختلطا فيها الحق بالباطل.
{ عذرا أو نذرا } كلاهما بدل من ذكرا أي: عذرا للمستغفرين المتصلين ومحوا لسيئاتهم وهيئات نفوسهم وصفاتهم وإنذارا للمنغمسين في ملابس الطبيعة والبدن المحجوبين بغواشيها ولذاتها وشهواتها عن الحق أو مفعول لهما أي: لمحو سيئات الأولين وذنوب صفاتهم وأفعالهم وإنذار الآخرين أو حالان أي: فيلقين ذكرا عاذرات ومنذرات.
[77.7-14]
{ إنما توعدون } من أحوال القيامة الصغرى والكبرى { لواقع * فإذا النجوم } أي: الحواس { طمست } ومحيت بالموت { وإذا السماء } أي: الروح الحيوانية { فرجت } وشققت وانفلقت من الروح الإنسانية { وإذا الجبال } أي: الأعضاء { نسفت } أي: فنيت وأذريت { وإذا الرسل } أي: ملائكة الثواب والعقاب { أقتت } عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لها، إما لإيصال البشرى والروح والراحة وإما لإيصال العذاب والكرب والذلة { لأي يوم أجلت } أي: ليوم عظيم أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب في وقت الأعمال أو رسل البشر وهم اللأنبياء، عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لهم للفرق بين المطيع والعاصي والسعيد والشقي فإن الرسل يعرفون كلا بسيماهم.
{ ليوم الفصل } بين السعداء والأشقياء، وإن فسرت القيامة الكبرى فإذا نجوم القوى النفسانية محيت بالعاصفات، وإذا سماء العقل فرجت وشقت بتأثير نور الروح فيها، وإذا جبال صفات النفس نسفت بالتجليات الوصفية في القيامة الوسطى، بل جبال النفس والقلب والعقل والروح وكل ما عليها بالتجلي الذاتي، وإذا الرسل الناشرات بالإحياء في حال البقاء بعد الفناء عينت لوقت الفرق بعد الجمع وهو حال البقاء أي وقت الرجوع من الجمع إلى التفصيل المسمى يوم الفصل أخرت من وقت الجمع الذي هو الفناء إلى ذلك الوقت.
[77.15-40]
{ ويل يومئذ للمكذبين } بإحدى القيامتين المحجوبين عن الجزاء، وقوله: { ويل يومئذ للمكذبين } وما بعده يدل على أن المراد بما توعدون هو القيامة الصغرى.
{ انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } أي: ظل شجرة الزقوم وهي النفس الخبيثة الملعونة الإنسانية إذا احتجبت بصفاتها وانقطعت عن نور الوحدة بظلمة ذاتها فبقيت راسخة في أرض البدن نابتة ناشئة في نار الطبيعة متشعبة إلى شعب النفوس الثلاثة البهيمية والسبعية والشيطانية وهي القوة الملكوتية المغلوبة بالوهم العاملة بمقتضى هوى النفس { لا ظليل } كظل شجرة طوبى، أي: حالها في إفادة الروح والراحة بخلاف حال تلك وهي النفس الطيبة المتنورة بنور الوحدة الوحدانية في أفعالها الصادرة عن العقل الغير المتشعبة إلى الشعب المختلفة المتضادة { ولا يغني } من لهب نار الهوى وتعب طلب ما لا يبقى.
{ إنها ترمي بشرر } الدواعي العظيمة التمنيات الباطلة كالجبال النارية مع الحرمان. عن المتمنيات.
{ هذا يوم لا ينطقون } لفقدان آلات النطق وعدم الإذن فيه بالختم على الأفواه فلا يعتذرون لأنهم لا يتمكنون من الاعتذار وذلك اليوم يوم طويل لا نهاية لطوله والمواقف فيه مختلفة ففي بعض المواقف لا ينطقون وفي بعضها يمكنهم النطلق.
{ هذا يوم الفصل جمعناكم } بالحشر العام في عين جمع الوجود مع الأولين ثم فرقنا بين السعداء منكم والأشقياء أو فصلنا بينكم بتمييزكم من السعداء وجمعناكم مع الأولين من الأشقياء المتوفين قبلكم في النار { فإن كان لكم كيد فكيدون } تعجيز لهم وبيان لمقهوريتهم وعدم حيلتهم في رفع العذاب.
[77.41-48]
{ إن المتقين } المتزكين عن صفات النفوس وهيئات الأعمال المتجردين عنها { في ظلال } من الصفات الإلهية { وعيون } من العلوم والمعارف والحكم والحقائق المستفادة من تجلياتها.
{ وفواكه } من لذات المحبات والمدركات { مما يشتهون } على حسب إرادتهم مقولا لهم { كلوا واشربوا } أي: كلوا من تلك الفواكه واشربوا من تلك العيون أكلا هنيئا وشربا هنيئا سائغا رافها { بما كنتم تعملون } من الأعمال الزكية والرياضات القلبية والقالبية.
{ إنا كذلك نجزي المحسنين } الذين يعبدون الله في مقام مشاهدة الصفات والذات من ورائها لقوله:
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ".
{ وإذا قيل لهم اركعوا } انخفضوا واخشعوا بالانكسار وتواضعوا لقبول الفيض بترك التجبر والاستكبار لا يقبلون ولا ينقادون وذلك إجرامهم الموجب لهلاكهم.
[78 - سورة النبإ]
[78.1-18]
{ عم يتساءلون * عن النبأ العظيم } النبأ العظيم هو القيامة الكبرى، ولذلك قيل في أمير المؤمنين علي عليه السلام:
هو النبأ العظيم وفلك نوح
أي: الجمع والتفصيل باعتبار الحقيقة والشريعة لكونه جامعا لهما.
{ إن يوم الفصل } أي: يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء وبين كل طائفة من الفريقين باعتبار تفاوت الهيئات والصور والأخلاق والأعمال وتناسبها { كان } عند الله وفي علمه وحكمه { ميقاتا } حدا معينا ووقتا موقتا ينتهي الخلق إليه.
{ يوم ينفخ في الصور } باتصال الأرواح بالأجساد ورجوعها بها إلى الحياة { فتأتون أفواجا } فرقا مختلفة كل فرقة مع إمامهم على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.
" وعن معاذ رضي الله عنه أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا معاذ! سألت عن أمر عظيم من الأمور " ثم أرسل عينيه وقال: " يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عميا وبعضهم صما بكما وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكسون على وجههم فأكلة الربا، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين بتعبون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم، وأما الذين يلبسوا الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء "
، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[78.19-30]
{ وفتحت } سماء الروح عند العود إلى البدن بأبواب الحواس الظاهرة والباطنة { فكانت أبوابا } أي: ذات أبواب كثيرة هي طرق الشعور كأنه كلها أبوابها لكثرتها.
{ وسيرت } جبال الحجب الساترة لهيئاتهم وصفاتهم عن الأعين الحاجزة عن ظهورها من الأبدان والأعضاء العارضة دون تلك الهيئات التي ظهرت في المحشر { فكانت سرابا } كقوله تعالى:
فكانت هبآء منبثا
[الواقعة، الآية:6] أي: صارت شيئا كلا شيء في انبثاثها وتفرق أجزائها.
{ إن جهنم } الطبيعة { كانت مرصادا } حدا يرصد فيه كل أحد، يرصدهم عندها الملائكة، أما السعداء فلمجاوزتهم وممرهم عليها لقوله تعالى:
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا
[مريم، الآيات:71 - 72].
" وعن الصادق عليه السلام أنه سئل عن الآية فقيل له: أنتم أيضا واردوها؟ فقال: " جزناها وهي خامدة "
وأما الأشقياء فلكونها مآبهم كما قال: { للطاغين مآبا } وكقوله:
ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم، الآية:72].
{ لابثين فيها أحقابا } أزمنة متطاولة متتابعة إما غير متناهية إن كانت الاعتقادات باطلة فاسدة أو متناهية بحسب رسوخ الهيئات إن كانت الأعمال سيئة مع عدم الاعتقاد أو مع الاعتقاد الصحيح. { لايذوقون فيها بردا } روحا وراحة من أثر اليقين { ولا شرابا } من ذوق المحبة ولذتها { إلا حميما } من أثر الجهل المركب { وغساقا } من ظلمة هيئات محبة الجواهر الفاسقة والميل إليها { جزاء } موافقا لما ارتكبوه من الأعمال وقدموه من العقائد والأخلاق.
{ إنهم كانوا لا يرجون حسابا } أي: ذلك العذاب لأنهم كانوا موصوفين بهذا الرذائل من عدم توقع المكافآت والتكذيب بالآيات والصفات أي: لفساد العمل والعلم فلم يعملوا صالحا رجاء الجزاء ولم يعلموا علما فيصدقوا بالآيات.
{ وكل شيء } من صور أعمالهم وهيئات عقائدهم ضبطناه ضبطا بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم وصحائف النفوس السماوية.
{ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } أي: بسببها ذوقوا عذابا يوازيها لا مزيد عليه فإنها بعينها معذبة لكم دون ما عداها. والمعنى: فذوقوا عذابها فإننا لن نزيدكم عليها شيئا إلا التعذيب بها الذي ذهلتهم عنه.
[78.31-36]
{ إن للمتقين } المقابلين للطاغين المتعدين في أفعالهم حد العدالة مما عينه الشرع والعقل وهم المتزكون عن الرذائل وهيئات السوء من الأفعال { مفازا } فوزا ونجاة من النار التي هي مآب الطاغين { حدائق } من جنان الأخلاق { وأعنابا } من ثمرات الأفعال وهيئاتها { وكواعب } من صور آثار الأسماء في جنة الأفعال { أترابا } متساوية في الرتب { وكأسا } من لذة محبة الآثار مترعة ممزوجة بالزنجيبل والكافور لأن أهل جنة الآثار والأفعال لا مطمح لهم إلى ما وراءها فهم محجوبون بالآثار عن المؤثر وبالعطاء عن المعطي { عطاء حسابا } كافيا يكفيهم بحسب هممهم ومطامح أبصارهم لأنهم لقصور استعدادتهم لا يشتاقون إلى ما وراء ذلك فلا شيء ألذ لهم بحسب أذواقهم مما هم فيه.
[78.37-40]
{ رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن } أي: ربهم المعطي إياهم ذلك العطاء هو الرحمن لأن عطاياهم من النعم الظاهرة الجليلة دون الباطنة الدقيقة، فمشربهم من اسم الرحمن دون غيره { لا يملكون منه خطابا } لأنهم لم يصلوا إلى مقام الصفات فلا حظ لهم من المكالمة.
{ يوم يقوم الروح } الإنساني وملائكة القوى في مراتبهم صافين أي: مرتبة كل في مقامه كقوله:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات، الآية:164] { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } يسر له بأن هيأ له استعداد المكالمة في الأزل ووفقه لإخراج ذلك الاستعداد إلى الفعل بالتزكية { وقال صوابا } قولا حقا لا باطلا.
{ إنا أنذرناكم عذابا } هو عذاب الهيئات الفاسقة من الأعمال الفاسدة دون ما هو أبعد منه من عذاب القهر والسخط وهو ما قدمت أيدهم، والله تعالى أعلم.
[79 - سورة النازعات]
[79.1-5]
أقسم بالنفوس المشتقاة التي غلب عليها النزوع إلى جناب الحق، غريقة في بحر الشوق والمحبة التي تنشط من مقر النفس وأسر الطبيعة أي: تخرج من قيود صفاتها وعلائق البدن كقوله: ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد، أو من قولهم: نشط من عقاله. والتي تسبح في بحار الصفات فتسبق إلى عين الذات ومقام الفناء في الوحدة فتدبر بالرجوع إلى الكثرة أمر الدعوة إلى الحق والهداية وأمر النظام في مقام التفصيل بعد الجمع، وبالكواكب السيارة التي تنزع من المشرق إلى المغرب مفرقة في سيرها إلى أقصى المغرب وتخرج من برج إلى برج وتسبح في أفلاكها فيسبق بعضها بعضا في السير وتدبر أمر العالم فيما نيط بها وبسيرها، أو بالملائكة من النفوس الفلكية التي تنزع الأرواح البشرية من الأجساد إغراقا في النزع من أقاصي البدن، أنامله وأظفاره، والتي تخرجها من الأبدان من قولهم: نشط الدلو من البئر، إذا أخرجها. والتي تسبح في جريها فيما أمرت به فتسبق إليه فتدبر المأمور به على الوجه الذي أمر به. والمقسم عليه محذوف كما ذكر غير مرة أي: لتبعثن.
[79.6-14]
ويدل عليه قوله: { يوم ترجف الراجفة } أي: تقع الواقعة التي ترجف لها أرض الجسد وجبال الأعضاء وهي النفخة الأولى أو وقت زهوق الروح { تتبعها الرادفة } أي: النفخة الثانية وهي الإحياء بالبعث.
{ قلوب يومئذ } أي: وقت وقوع الرجفة في حال النزع { واجفة } مضطربة { أبصارها خاشعة } ذليلة { يقولون } المحجوبون المنكرون البعث على سبيل الإنكار { أئنا لمردودون } في الطريقة الأولى من الحياة بعد صيرورتنا عظاما بالية فنحن إذا خاسرون إن صح ذلك { فإنما هي } أي: الرادفة التي هي الرجفة إلى الحياة بالبعث { زجرة } أي: صيحة { واحدة } هي تأثير الروح الإسرافيلي في تعلق هذه الروح المفارقة بالمادة القابلة لها دفعة فتحيا وذلك يوم القيامة الصغرى.
{ فإذا هم } أي: فاجؤوا الحصول { بالساهرة } وقت هذه النفخة أي: النفخ والكون بالساهرة في آن واحد، والساهرة أرض بيضاء مستوية أي: عالم الروح الإنساني المفارق الغير الكامل، فإنها أرض بالنسبة إلى اسماء عالم القدس الذي هو مأوى الكمل، سميت بالساهرة لنوريتها وبساطتها أو الروح الحيواني لاتصال الأرواح الإنسية الناقصة بها عند البعث فتلبثها بها ضرورة انجاذبها إلى المادة ويمكن أن يكون إشارة إلى المحل الذي تتصل به الروح عند البعث لبياضه واستواء أجزائه.
[79.15-33]
{ إذ ناداه ربه بالواد المقدس } الوادي المقدس هو عالم الروح المجرد لتقدسه عن التعلق بالمواد واسمه { طوى } لانطواء الموجودات كلها من الأجسام والنفوس تحته وفي طيه وقهره وهو عالم الصفات ومقام المكالمة من تجلياتها، فلذلك ناداه بهذا الوادي. ونهاية هذا العالم هو الأفق الأعلى الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده جبريل على صورته { طغى } أي: ظهر بأنائيته، وذلك أن فرعون كان ذا نفس قوية حكيما عالما سلك وادي الأفعال وقطع بوادي الصفات واحتجب بأنائيته وانتحل صفات الربوبية ونسبها إلى نفسه وذلك تفرعنه وجبروته وطغيانه فكان ممن قال فيه صلى الله عليه وسلم:
" شر الناس من قامت القيامة عليه وهو حي "
لقيامه بنفسه وهواها في مقام توحيد الصفات وذلك من أقوى الحجب.
{ هل لك إلى أن تزكى } بالفناء عن أنائيتك { وأهديك إلى } الوحدة الذاتية بالمعرفة الحقيقية { فتخشى } وتلين أنائيتك فتفنى.
{ فأراه الآية الكبرى } أي: الهوية الحقيقية بالتوحيد العلمي والهداية الحقانية فلم يرها لقوة حجابه ورسوخ توهمه فكذبه في أن وراء ما بلغ من المقام رتبة { وعصى } أمره لتفرعنه وعتوه { ثم أدبر } عن مقام توحيد الصفات الذي هو فيه لذنب حاله وتوجه إلى مقام النفس بالكلية لعناده واستيلاء نفسه وشدة ظهورها بالدعوى { يسعى } في دفع موسى بالمكايد الشيطانية والحيل النفسانية فرد عن جناب القدس مطرودا وازداد حجابه فتظاهر بقوله: { أنا ربكم الأعلى } أو نازع الحق لشدة ظهور أنائيته رداء الكبرياء فقهر وقذف في النار ملعونا كما قال تعالى:
" العظمة أزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار "
ويروى: قصمته، وذلك القهر هو معنى قوله: { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } فيخشع وتلين نفسه وتنكسر فلا تظهر.
[79.34-46]
{ فإذا جاءت الطامة الكبرى } أي: تجلى نور الوحدة الذاتية الذي يطم على كل شيء فيطمسه ويمحوه.
{ يوم يتذكر الإنسان } سعيه في الأطوار من مبدأ فطرته إلى فنائه وسلوكه في المقامات والدرجات حتى وصل إلى ما وصل فيشكره.
{ وبرزت الجحيم } أي: نار الطبيعة الآثارية { لمن يرى } ممن بصر بنور الله وبرز من الحجاب لله دون العمي المحجوبين الذين يحترقون بناره ولا يرونه، فيومئذ يصير الناس في شهوده قسمين. { فأما من طغا } أي: تعدى طور الفطرة الإنسانية وجاوز حد العدالة والشريعة إلى الرتبة البهيمية أو السبعية وأفرط في تعديه { وآثر الحياة } الحسية على الحقيقية بمحبة اللذات السفلية { فإن الجحيم } مأواه ومرجعه.
{ وأما من خاف مقام ربه } بالترقي إلى مقام القلب ومشاهدة قيوميته تعالى على نفسه { ونهى النفس } لخوف عقابه أو قهره { عن } هواها { فإن الجنة } مأواه على حسب درجاته { إلى ربك منتهاها } أي: في أي شيء أنت من علمها، وذكرها إنما إلى ربك ينتهي علمها فإن من عرف القيامة هو الذي انمحى علمه أولا بعلمه تعالى ثم فنيت ذاته في ذاته فكيف يعلمها ولا علم له ولا ذات، فمن أين أنت وغيرك من علمها بل لا يعلمها إلا الله وحده.
{ إنما أنت منذر من يخشاها } لإيمانه بها تقليدا { لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } أي: وقت غروب نور الحق في الأجساد أو وقت طلوعه من مغربه، أي: وقت رؤيتهم القيامة بالفناء في الوحدة تيقنوا أن لم يكن لهم وجود قط إلا توهما باللبث في عالم الأجسام والاحتجاب بالحس أو في عالم الأرواح والاحتجاب بالعقل وهما المراد بقول من قال: خطوتين وقد وصلت، أي: إذا جزت هذين الكونين فقد وصلت، والله أعلم.
[80 - سورة عبس]
[80.1-10]
{ عبس وتولى } كان صلى الله عليه وسلم في حجر تربية ربه لكونه حبيبا فكلما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق حتى تحرك بنفسه لا بالله. عوتب وأدب كما قال:
" أدبني ربي فأحسن تأديبي "
، إلى أن تخلق بأخلاقه تعالى. فإن التخلق بأخلاقه كان بعد الوصول والفناء والتحقق به حال البقاء وهو الاستقامة وقت التمكين وانتفاء التلوين، فلما نظر بظاهر الحال إلى الكبراء وعظم في عينه غنى الأغنياء وأعرض عن الفقير اعتناء بالقوم وتقوى الإسلام بهم إن آمنوا، واحتقارا للفقير وإيمانه، نبه بأن مثلك لا ينبغي أن ينظر إلى ظاهر الحال فيتشاغل عن المستعد الطالب الضعيف بالغني القوي بل يجب أن يكون نظرك مقصورا على الاستعداد وقبول الإيمان فتعتبر ذلك دون غيره ولا تحتجب بالظاهر عن الباطن عسى أن يكون الفقير المتلهى عنه عاملا بالتزكية والتحلية بالغا حد الكمال، فيصير مهديا هاديا لغيره. والغني المتصدى له لم يؤمن لعدم استعداده أو لاستكباره وعناده.
[80.11-32]
{ وما عليك } بأس في امتناعه عن الإسلام { كلا } ردع له عن ذلك، ولهذا روي أنه ما تعبس بعد نزول هذه الآية في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني { في صحف مكرمة } عند الله هي ألواح النفوس السماوية التي نزل القرآن إليها أولا من اللوح المحفوظ كما ذكر { مرفوعة } القدر والمكان { مطهرة } عن دنس الطبائع وتغيراتها.
{ بأيدي سفرة } أي: كتبة هي العقول المقدسة المؤثرة في تلك الألواح { كرام } لشرفها وقربها من الله { بررة } أتقياء لتقدسها عن المواد ونزاهة جوهرها عن التعلقات. ثم لما بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين تعجب من كفران الإنسان واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير وعدم النعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحسن من مبادىء خلقته وأحواله في نفسه وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به وقرر أنه مع اجتماع الدليلين أي النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن { لما يقض } في الزمان المتطاول { ما أمره } الله به من شكر نعمته باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل والتوصل بها إلى المنعم، بل احتجب بها وبنفسه عنه.
[80.33-42]
{ فإذا جاءت الصاخة } أي: النفخة الأولى المذهبة للعقل والحواس { يوم } يهتم كل أحد بأمر نفسه لا يتفرغ إلى غيره لشدة ما به واشتغاله بما يظهر عليه من أحوال نفسه، انقسم الناس قسمين: السعداء المسفرة وجوههم المضيئة المتهللة بنورية ذواتهم وصفائها المستبشرة بما لقوا من هيئات أعمالهم ونعيم جنانهم، والأشقياء المسودة وجوههم بسواد كفرهم وظلمة ذواتهم المغبرة بغبار هيئات فجورهم وقتام آثار أعمالهم.
{ أولئك هم الكفرة الفجرة } أي: اجتماع كفرهم وفجورهم هو السبب في اجتماع السواد والغبرة على وجوههم.
[81 - سورة التكوير]
[81.1-9]
{ إذا الشمس كورت } أي: إذا كورت شمس الروح بطيء ضوئها الذي هو الحياة وقبضها عن البدن وإزالتها، وإذا انكدرت نجوم الحواس بذهاب نورها، وإذا سيرت جبال الأعضاء بتفتيتها وجعلها هباء، وإذا عطلت عشار الأرجل المنتفع بها في السير عن الاستعمال في المشي وترك الانتفاع بها أو الأموال النفيسة المنتفع بها فإن العشار أنفس أموال العرب، وإذا حشرت وحوش القوى الحيوانية بأن هلكت وأفنيت من قولهم: حشرتهم السنة إذا بالغت في إهلاكهم أو حشرت بالإحياء عند البعث. وإذا سجرت أي: ملئت بحار العناصر بأن فجر بعضها إلى بعض واتصل كل جزء بأصله فصار بحرا واحدا، وإذا زوجت النفوس بأن تحشر كل نفس إلى ما تجانسه وتشاكله من صنف فصنفت أصنافا من السعداء والأشقياء كل مع قرنائه، وإذا سئلت موؤودة النفس الناطقة التي أثقلتها وائدة النفس الحيوانية في قبر البدن وأهلكتها { بأي ذنب قتلت } أي: طلب إظهار الذنب الذي به استولت النفس الحيوانية على الناطقة من الغضب أو الشهوة أو غيرهما فمنعتها عن خواصها وأفعالها وأهلكتها فأظهر فكنى عن طلب إظهاره بالسؤال، ولهذا قال عليه السلام:
" الوائد والموؤدة في النار "
، لأن النفس الناطقة في العذاب مقارنة للنفس الحيوانية، وفي الحديث سر آخر ليس هذا موضع ذكره.
[81.10-22]
{ وإذا الصحف نشرت } أي: صحائف القوى والنفوس التي فيها هيئات الأعمال تطوى عند الموت وتكور شمس الروح وتنشر عند البعث والعود إلى البدن.
{ وإذا السماء } أي: الروح الحيوانية أو العقل { كشطت } أزيلت وأذهبت.
{ وإذا الجحيم } أي: نار آثار الغضب والقهر في جهنم الطبيعة { سعرت } أوقدت للمحجوبين.
{ وإذا الجنة } أي: نعيم آثار الرضا واللطف { أزلفت } قربت للمتقين { علمت } كل { نفس } ما أحضرته ووقفت عليه بعد نسيانها وذهولها عنه.
{ فلا أقسم بالخنس } أي: الرواجع من الكواكب السيارة { الكنس } التي تدخل في بروجها كالوحوش في كناسها أو النفوس الرواجع إلى الأبدان الجارية الداخلة مواضعها.
{ والليل } أي: ليل ظلمة الجسد الميت { إذا عسعس } أي: أدبر بابتداء ذهاب ظلمته بنور الحياة عند تعلق الروح به وطلوع نور شمسه عليه.
{ والصبح } أي: أثر نور طلوع تلك الشمس { إذا تنفس } وانتشر في البدن بإفادة الحياة { إنه لقول رسول كريم } أي: روح القدس النافث في روع الإنسان.
[81.23-29]
{ ولقد رآه بالأفق المبين } أي: نهاية طور القلب الذي يلي الروح وهو مكان إلقاء النافث القدسي { وما هو على الغيب بضنين } أي: ما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجن التخيل عليه فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهمي والخيالي لأن عقله ما ستر بل صفى عن شوب الوهم { وما هو } من إلقاء شيطان الوهم المرجوم بنور الروح فيكون كله وهميا لما ذكر.
{ فأين تذهبون } أي: بعد هذا الكلام من إلقاء الوهم ومزجه وصاحبه من الجنة بما لا يخفى على أحد، فمن سلك هذه الطرق ونسبه إلى أحد الأمور الثلاثة فقد بعد عن الصواب بما لا يضبط ولا تقرب إليه بوجه، كمن سلك طريقا يبعده عن سمت مقصده فيقال: أين تذهب.
{ لمن شاء منكم } من جملة العالمين الاستقامة في طريق السلوك، والصراط المستقيم هو الطريق الذي عليه الحق لقوله: { إن ربي على صراط مستقيم } ، فما يشاء أحد سلوكها إلا بمشيئة الله فإن طريقه لا يسلك إلا بإرادته، والله تعالى أعلم.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1-19]
{ إذا السماء انفطرت } أي: إذا انفطرت سماء الروح الحيوانية بانفراجها عن الروح الإنساني وزوالها.
{ وإذا الكواكب } أي: الحواس { انتثرت } بالموت وذهبت.
{ وإذا البحار } أي: الأجسام العنصرية { فجرت } بعضها في بعض بزوال البرازخ الحاجزة عن ذهاب كل إلى أصله وهي الأرواح الحيوانية المانعة عن خراب البدن ورجوع أجزائه إلى أصلها.
{ وإذا القبور } أي: الأبدان { بعثرت } بحثت وأخرج ما فيها من الأرواح والقوى.
{ ما غرك } إنكار للغرور بكرمه، أي: إن كان كونه كريما يسوغ الغرور ويسهله لكن له من النعم الكثيرة والمنن العظيمة والقدرة الكاملة ما يمنع من ذلك أكثر من تجويز الكرم إياه، والكرام الكاتبون هم النفوس السماوية والقوى الفلكية المنتقشة بما يصدرعنهم من الأفعال، أي: ارتدعوا عن الغرور بالكلام بل إنما عصيانهم للتكذيب بالجزاء أصلا الذي هو أعظم من الغرور. وإن الكرام الأشراف التي كرمت عن الكون والفساد يحفظون أفعالكم ويكتبونها عليكم فضلا عن الملكين الموكلين بكم، كما قال تعالى:
عن اليمين وعن الشمال قعيد
[ق ، الآية:17] فكيف تجترئون على المعاصي وقد تكتب عليكم في السماء والأرض، والله تعالى أعلم.
[83 - سورة المطففين]
[83.1-11]
{ ويل للمطففين } الباخسين حقوق الناس في الكيل والوزن، يمكن أن يحمل بعد الظاهر على التطفيف في الميزان الحقيقي الذي هو العدل، والموزونات به هي الأخلاق والأعمال، والمطففون هم الذين إذا اعتبروا كمالات أنفسهم متفضلين { على الناس يستوفون } يستكثرونها ويزيدون على حقوقهم في إظهار الفضائل العلمية والعملية أكثر مما لهم عجبا وتكبرا.
{ وإذا } اعتبروا كمالات الناس بالنسبة إلى كمالاتهم أخسروها واستحقروها ولم يراعوا العدالة في الحالين لرعونة أنفسهم ومحبة التفضل على الناس كقوله تعالى:
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا
[آل عمران، الآية:188].
{ ألا يظن أولئك } الموصوفون بهذه الرذيلة التي هي أفحش أنواع الظلم، أي: ليس في ظنهم { أنهم مبعوثون } فيظهر ما في أنفسهم من الفضائل والرذائل، أو يحاسب عليه ويرتدع فضلا عن العلم { ليوم عظيم } لا يقدر أحد فيه أن يظهر ما ليس فيه ولا أن يكتم ما فيه لانقلاب باطنه ظاهره وصفته صورته فيستحيي ويذوق وبال رذيلته.
{ يوم يقوم الناس } عن مراقد أبدانهم { لرب العالمين } بارزين له لا يخفى عليه منهم شيء.
{ كلا } ردع عن هذه الرذيلة { إن كتاب الفجار } أي: ما كتب من أعمال المرتكبين للرذائل الذين فجروا بخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها الشرع والعقل { لفي سجين } في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة يزحفون على بطونهم كالسلاحف والحيات والعقارب أذلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها وهو ديوان أعمال أهل الشر ولذلك فسر بقوله: { كتاب مرقوم } أي: ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم.
[83.12-26]
{ وما يكذب به إلا كل معتد } مجاوز طور الفطرة الإنسانية بتجاوزه حد العدالة إلى الإفراط والتفريط في أفعاله { أثيم } محتجب بذنوب هيئات صفاته.
{ كلا } ردع عن هاتين الرذيلتين { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } أي: صار صدأ عليها بالرسوخ فيها وكدر جوهرها وغيرها عن طباعها، والرين حد من تراكم الذنب على الذنب ورسوخه تحقق عنده الحجاب وانغلق باب المغفرة، نعوذ بالله منه ولذلك قال: { كلا } أي: ارتدعوا عن الرين { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } لامتناع قبول قلوبهم للنور وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري كالماء الكبريتي مثلا، إذ لو روق أو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة لاستحالة جوهرها بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته، ولهذا استحقوا الخلود في العذاب وحكم عليهم بقوله: { ثم إنهم لصالوا الجحيم }.
{ إن كتاب الأبرار لفي عليين } أي: ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة في عليين وهو مقابل للسجين في علوه وارتفاع درجته وكونه ديوان أعمال أهل الخير كما قال: { كتاب مرقوم } أي: محل شريف رقم بصور أعمالهم من جرم سماوي أو عنصري إنساني { يشهده المقربون } أي: يحضر ذلك المحل أهل الله الخاصة من أهل التوحيد الذاتي.
{ إن الأبرار } السعداء الأتقياء عن دون صفات النفوس { لفي نعيم } من جنان الصفات والأفعال { على الأرائك } التي هي مقاماتهم من الأسماء الإلهية في حجال عالم القدس الخفي عن أعين الإنس { ينظرون } إلى جميع مراتب الوجود ويشاهدون أهل الجنة والنار وما هم فيه من النعيم والعذاب لا تحجب حجالهم عنه شيئا وتحجب أغيارهم عنهم { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } بهجته ونوريته وآثار سروره { يسقون من رحيق } خمر صرف من المحبة الروحانية الغير الممزوجة بحب النفس للجواهر الجسمانية { مختوم } بختم الشرع لئلا تمتزج به النجاسات الشيطانية من المحبات الوهمية المحرمة والشهوات النفسانية المهيئة.
{ ختامه مسك } هو حكم الشرع بالمباحات المطيبة للنفوس المقوية للقلوب.
{ وفي ذلك } أي: في شرب رحيق المحبة الروحانية الصرفة المقيدة بقيد الشريعة ولذتها الصافية { فليتنافس المتنافسون } فإنه أعز من الكبريت الأحمر.
[83.27-36]
{ ومزاجه من تسنيم } أي: مزاج خمر الأبرار من تسنيم العشق الحقيقي الصرف وهو محبة الذات المعبر عنها بالكافور باعتبار الخاصية حال الجمع عبر عنها بالتسنيم باعتبار المرتبة حال التفصيل فإنه في أعلى رتب الوجود ويجري كما قيل في غير أخدود لتجرده عن المحل والتعين بصورة وصفه، أي: لهم مع محبة الصفات في مقامها محبة الذات الصرفة بل ممزوجة بشرابهم لمشاهدتهم الذات من وراء حجب الصفات.
{ عينا يشرب بها المقربون } أي: التسنيم عين يشرب بها المقربون صرفة وهم الكاملون الواصلون إلى توحيد الذات من أهل التمكين القائمين بالله في مقام التفصيل بالاستقامة، ففرق بين أهل الاستقامة في مقام التفصيل وأهل الاستغراق في مقام الجمع باختلاف اسمهم واسم شرابهم مع إيجاد حقيقتهم وحقيقة شرابهم بأن سماهم مقربين للإشعار بالفرق مع القرب، وسمى شرابهم التسنيم للإشعار بعلو الرتبة بالنسبة إلى سائر الرتب، وسمى أهل الاستغراق بعباد الله للإشعار بالمقهورية مع الاختصاص المؤذنة بالفناء، وسمى شرابهم بالكافور للإشعار بالوحدة الصرفة والبياض الخالص بلا نسبة وفرق.
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1-15]
{ إذا السماء انشقت } كقوله: انفطرت { وأذنت لربها } أي: انقادت لأمره بانفراجها عن الروح الإنساني انقياد السامع المطيع لآمره المطاع { وحقت } أي: حق لها ووجب أن تنقاد لأمر القادر المطلق ولا تمتنع وهي حقيقة بذلك.
{ وإذا } أرض البدن { مدت } وبسطت بنزع الروح عنها { وألقت ما فيها } من الروح والقوى { وتخلت } تكلفت في الخلو عن كل ما فيها من الآثار والأعراض كالحياة والمزاج والتركيب والشكل بتبعية خلوها عن الروح.
{ إنك كادح إلى ربك } ساع مجتهد في الذهاب إليه بالموت، أي: تسير مع أنفاسك سريعا كما قيل: أنفاسك خطاك إلى أجلك، أو مجتهد مجد في العمل خيرا أو شرا ذاهبا إلى ربك { فملاقيه } ضررة، والضمير إما للرب وإما للكدح.
{ فأما من أوتي كتابه بيمينه } بأن جعل من أصحاب اليمين في الصورة الإنسانية آخذا كتاب نفسه أو بدنه بيمين عقله، قارئا ما فيه من معاني العقل القرآني { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } بأن تمحى سيئاته ويعفى عنه ويثاب بحسناته دفعة واحدة لبقاء فطرته على صفائها ونوريتها الأصلية { وينقلب إلى أهله } ممن يجانسة ويقارنه من أصحاب اليمين مسرورا فرحا بصحتهم ومرافقتهم وبما أوتي من حظوظه.
{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } أي: جهته التي تلي الظلمة من الروح الحيوانية بالجسد، فإن وجه الإنسان جهته التي إلى الحق وخلفه جهته التي إلى البدن الظلماني بأن رد إلى الظمات في صور الحيوانات.
{ فسوف يدعو ثبورا } لكونه في ورطة هلاك الروح وعذاب البدن { ويصلى سعيرا } أي: سعير نار الآثار في مهاوي الطبيعة.
{ إنه كان في أهله مسرورا } أي: ذلك لأنه كان بطرا في أهله بالنعم محتجبا بها عن المنعم، ظانا أنه لن رجع إلى ربه أو إلى الحياة بالبعث لاعتقاده أنه يحيا ويموت ولا يهلكه إلا الدهر.
{ بلى } ليحورن { إن ربه كان به بصيرا } فيجازيه على حسب حاله.
[84.16-25]
{ فلا أقسم بالشفق } أي: النورية الباقية من الفطرة الإنسانية بعد غروبها واحتجابها في أفق البدن الممزوجة بظلمة النفس عظمها بالإقسام بها لإمكان كسب الكمال والترقي في الدرجات بها.
{ والليل } أي: وليل ظلمة البدن { وما } جمعه من القوى والآلا والاستعدادات التي يمكن بها اكتساب العلوم والفضائل والترقي في المقامات ونيل المواهب والكمالات.
{ والقمر } أي: قمر القلب الصافي عن خسوف النفس { إذا اتسق } أي: اجتمع وتم نوره وصار كاملا.
{ لتركبن طبقا عن طبق } أي: مراتب مجاوزة عن مراتب وطبقات وأطوار مرتبة بالموت وما بعده من مواطن البعث والنشور { فما لهم لا يؤمنون } بها.
{ وإذا قرىء عليهم القرآن } بتذكير هذه الأطوار والمراتب لا يخضعون ولا ينقادون { بل } المحجبون عن الحق محجوبون بالضرورة عن الدين.
{ والله أعلم بما يوعون } في وعاء أنفسهم وبواطنهم من الاعتقادات الفاسدة والهيئات الفاسقة.
{ فبشرهم بعذاب أليم } من نيران الآثار وحرمان الأنوار مؤلم غاية الإيلام لكن { الذين آمنوا } الإيمان العلمي بتصفية قلوبهم عن كدر صفات النفس وتزكيتها { وعملوا الصالحات } باكتساب الفضائل { لهم أجر } ثواب الآثار والصفات في جنة النفس والقلب غير مقطوع لبراءته عن الكون والفساد وتجرده عن المواد والله سبحانه وتعالى أعلم.
[85 - سورة البروج]
[85.1-7]
{ والسماء ذات البروج } أي: الروح الإنساني ذات المقامات في الترقي والدرجات { واليوم الموعود } أي: القيامة الكبرى التي هي آخر درجاته من كشف التوحيد الذاتي { وشاهد } أي: الذي شهد الشهود الذاتي في عين الجمع { ومشهود } أي: الذات الأحدية ومعنى التنكير التعظيم، أي: شاهد لا يعرفه أحد ولا يقدر قدره إلا الله لفنائه فيه وانتفاء عينه وأثره فكيف يعرف؟!، ومشهود لا يعلمه أحد إلا هو. ولعمري إنه عين الشاهد لا فرق إلا بالاعتبار وجواب القسم محذوف مدلول عليه بقوله: { قتل } أي: لتحجبن أو لتلعنن.
{ قتل أصحاب الأخدود } أي: لعن البدنيون المحجوبون بصفات النفس في شقوق أرض البدن وأوهادها { النار ذات الوقود } بدل الاشتمال من الأخدود لملازمتها إياه وهي الطبيعة الآثارية المحرقة أربابها بالشهوات والأماني { إذ هم عليها } أي: على تلك النار { قعود } عاكفون ملازمون لا يبرحون فيتنفسوا في فضاء القدس ويذوقوا روح النفحات الإلهية { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين } الموحدين أهل الكشف والعيان من الأزدراء والاستحقار والاستهزاء والاستنكار { شهود } يشهد بعضهم على بعض بذلك.
[85.8-10]
{ وما نقموا منهم } أي: وما أنكروا منهم { إلا } الإيمان { بالله العزيز } الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام والحجب والحرمان { الحميد } المنعم على أوليائه بالهداية بالإيقان.
{ الذي له ملك السموت والأرض } يحتجب بهما عن الأشقياء ويتجلى فيهما على الأولياء { والله على كل شيء شهيد } حاضر يظهر ويتجلى على أوليائه على كل ذرة، فلهذا آمن من آمن وأنكر من أنكر.
{ إن } المحجوبين { الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } من قلوب أهل الشهود ونفوسهم بالإنكار والاحتقار { ثم لم يتوبوا } أي: بقوا في الحجاب ولم يستبصروا فيرجعوا { فلهم عذاب جهنم } أي: من تأثير نار الطبيعة السفلية { ولهم عذاب } حريق القهر من نار الصفات فوق نار الآثار وذلك لشوقهم عند خراب البدن إلى أنوار الصفات في عالم القدس وحرمانهم وطردهم بقهر الحق فعذبوا بالنارين جميعا.
[85.11-22]
{ إن الذين آمنوا } الإيمان العيني الحقي { وعملوا الصالحات } في مقام الاستقامة من الأفعال الإلهية المقتضية لتكميل الخلق وضبط النظام { لهم جنات } من الجنان الثلاث { تجري من تحتها } أنهار علوم توحيد الأفعال والصفات والذات وأحكام تجلياتها { ذلك الفوز الكبير } التام الذي لا فوز أكبر منه.
{ إن بطش ربك } بالقهر الحقيقي والإفناء { لشديد } لا يبقي بقية ولا أثرا { إنه هو يبدىء } البطش { ويعيد } أي: يكرره، يبدىء أولا بإفناء الأفعال ثم يعيد بإفناء الصفات ثم بالذات { وهو الغفور } يستر ذنوب وجودات المحبين وبقاياهم بنوره { الودود } للمحبوبين بإيصالهم إلى جنابه وتنعيمهم وإكرامهم بكمالاته من غير رياضة { ذو العرش } أي: المستوي على عرش قلوب أحبائه من العرفاء { المجيد } ذو العظمة المتجلي بصفات الكمال من الجمال والجلال { فعال لما يريد } على مظاهرهم لاستقامتهم فيختارون اختياره في أفعالهم أو يحجب من يريد بجلاله كالمنكرين ويتجلى لمن يريد بجماله كالعارفين.
{ هل أتاك حديث } المحجوبين إما بالأنائية كفرعون ومن يدين بدينه أو بالآثار والأغيار كثمود ومن يتصل بهم { بل الذين كفروا } حجبوا مطلقا في أي مقام كان وبأي شيء كان { في تكذيب } لأهل الحق لوقوفهم مع حالهم { والله من ورائهم } فوق حالهم وحجابهم { محيط } يسع كل شيء وهم حصروه في شاهدهم وما شهدوا إحاطته فلذلك أنكروا { بل هو } أي: هذا العلم { قرآن } جامع لكل العلوم { مجيد } لعظمته وإحاطته.
{ في لوح } هو القلب المحمدي { محفوظ } عن التبديل والتغيير وإلقاء الشياطين بالتخييل والتزوير هذا إذا حل اليوم الموعود على القيامة الكبرى، فأما إذا أول بالصغرى فمعناها: الروح ذات الأبدان فإن الأبدان للأرواح كالأبراج أو الحواس فإنها تخرج منها كالحمام من البروج وشاهد لعلمه وما عمل. وجواب القسم ليهلكن البدنيون، { قتل أصحاب الأخدود } ، أي: أهلك القوى النفسانية الملازمة لأخدود البدن إذ هم عليها عاكفون وهم على ما يفعلون بمؤمني القوى الروحانية من الاستيلاء عليهم وحجبهم عن مقاصدهم الشريفة وكمالاتهم النفيسة واستعبادهم في أهوائهم وشهواتهم شهود بألسنة أحوالهم وما أنكر هذه القوى المحجوبة عن الكمالات المعنوية من الروحانيين إلا الإيمان بالله المجرد عن الأين والجهة الغالب على المحجوبين بالقهر الحميد المنعم على المهتدين بالهداية المحتجب بظواهر ملك السماوات والأرض الشهيد الظاهر على كل شيء. إن هؤلاء الفاتنين بالاستيلاء والاستخدام لمؤمني العقول ومؤمنات النفوس ثم لم يرجعوا بالرياضة واكتساب الملكات الفاضلة والانقياد لهم فلهم عذاب جهنم الآثار والطبيعة وعذاب حريق الشوق إلى المألوفات مع الحرمان عنها. إن الذين آمنوا الإيمان العلمي من الروحانيين وعملوا الصالحات من الفضائل والأخلاق الحميدة لهم جنات من جنان الأفعال والصفات وهي جنات النفوس والقلوب. ذلك الفوز أي: النجاة من النار والوصول إلى المقصود الكبير بالنسبة إلى الحالة الأولى، { إن بطش ربك } أي: أخذه للمحجوبين بالإهلاك والتعذيب لشديد، فإنه هو يبدئهم ويهلكهم ثم يعيدهم للعذاب وهو الغفور للتائبين المؤمنين من الروحانيين يستر لهم ذنوب هيئات السوء بنور الرحمة الودود لهم بالمحبة الأزيلة فيكرمهم بإفاضة الكمالات والفضائل، ذو العرش المستولي على القلب المجيد المنور بنوره جميع القوى، فعال لما يريد، المتجلي بالأفعال على مظاهر الملك للقلب فيصحح مقام التوكل بالفناء في توحيد الأفعال، والله تعالى أعلم.
[86 - سورة الطارق]
[86.1-17]
{ والسماء والطارق } أي: والروح الإنساني والعقل الذي يظهر في ظلمة النفس وهو النجم الذي يثقب ظلمتها وينفذ فيها فيبصر بنوره ويهتدي به كما قال:
وبالنجم هم يهتدون
[النحل، الآية:16].
{ إن كل نفس لما عليها حافظ } مهيمن رقيب يحفظها وهو الله تعالى، إن أريد بالنفس الجملة وإن أريد بها النفس المصطلح عليها من القوة الحيوانية فحافظها الروح الإنساني { إنه } أي: إن الله على رجع الإنسان في النشأة الثانية لقادر كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى.
{ يوم تبلى السرائر } تظهر وتعرف خفيات الضمائر بالمفارقة عن الأبدان وجعل الباطن ظاهرا { فما له من قوة } في نفسه يمتنع بها على قدرته { ولا ناصر } يمنعه وينصره على الامتناع.
{ والسماء ذات الرجع } أي: والروح ذات الرجع في النشأة الثانية { والأرض } أي: والبدن { ذات الصدع } بالانشقاق عن الروح وقت زهوقه أو الشق وقت اتصاله به.
{ إنه } أي: القرآن { لقول فصل } فارق بين الحق والباطل بين أي عقل فرقاني ظهر بعدما كان قرآنيا { وما هو بالهزل } بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب والله القادر، والله أعلم.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1-5]
{ سبح اسم ربك الأعلى } اسمه الأعلى والأعظم هو الذات مع جميع الصفات، أي: نزه ذاتك بالتجرد عما سوى الحق وقطع النظر عن الغير ليظهر عليها الكمالات الحقانية بأسرها، وهو تسبيحه الخاص به في مقام الفناء لأن الاستعداد التام القابل لجميع الصفات الإلهية لم يكن إلا له، فذاته هو الاسم الأعلى عند بلوغ كماله ولكل شيء تسبيح خاص يسبح به اسما خاصا من أسماء ربه.
{ الذي خلق } أنشأ ظاهرك { فسوى } أي: عدل بنيتك على وجه قبلت بمزاجه الخاص الروح الأتم المستعد لجميع الكمالات.
{ والذي قدر } فيك الكمال النوعي التام { فهدى } إلى إبرازه وإظهاره وإخراجه إلى الفعل بالتزكية والتصفية.
{ والذي أخرج المرعى } أي: زينة الحياة الدنيا ومنافعها ومآكلها ومشاربها فإنها مرعى النفس الحيوانية ومرتع بهائم القوى.
{ فجعله غثاء أحوى } أي: سريع الفناء وشيك الزوال كالهشيم والحطام البالي المسود فلا تلتفت إليه ولا تشتغل به فيمنعك عن تسبيحك الخاص من تنزيه ذاتك وتجريدها فتحتجب به عن كمالك المقدر فيك ولا تعد عيناك عنه إليه، فإنه الفاني وذلك هو الباقي أبدا لا يزال.
[87.6-12]
{ سنقرئك } نجعلك قارئا لما في كتاب استعدادك الذي هو العقل القرآني من القرآن الجامع للحقائق فتذكره ولا تنساه أبدا { إلا ما شاء الله } أن ينسيك ويذهلك عنها فيدخر للمقام المحمود إذا بعثت فيه { إنه يعلم الجهر } أي: ما ظهر فيك من الكمال { وما يخفى } بعد بالقوة.
{ ونيسرك لليسرى } أي: نوفقك للطريقة اليسرى أي: الشريعة السمحة السهلة التي هي أيسر الطرق إلى الله وهو عطف على سنقرئك أي: نكملك بالكمال العلمي والعملي التام وفوق التام الذي هو التكميل وهي الحكمة البالغة والقدرة الكاملة.
{ فذكر إن نفعت الذكرى } أي: كمل الخلق بالدعوة إن كانوا قابلين متسعدين لقبول التذكرة فتنفعهم، يعني: أن التذكير وإن كان عاما لا ينفع الخلق كلهم بل هو مشروط بشرط الاستعداد، فمن استعد قبل انتفع به، ومن لا فلا، أجمل في قوله: { إن نفعت الذكرى } ، ثم فصل بقوله: { سيذكر من يخشى } أي: يتذكر ويتعظ وينتفع به من كان لين القلب سليم الفطرة مستعدا لقبوله يتأثر به لنوريته وصفائه.
{ وتجنبها الأشقى } أي: يتحاماه المحجوب عن الرب، العديم الاستعداد، النائي القلب الذي هو أشقى من المستعد الذي زال استعداده واحتجب بظلمة صفات نفسه { الذي يصلى النار الكبرى } التي هي نار الحجاب عن الرب بالشرك والوقوف مع الغير، ونار القهر في مقام الصفات ونار الغضب والسخط في مقام الأفعال ونار جهنم الآثار في المواقف الأربعة من موقف الملك والملكوت والجبروت وحضرة للاهوت أبد الآبدين فما أكبر ناره. وأما الثاني فلا يصلى إلا بنار الآثار.
[87.13-19]
{ ثم لا يموت فيها } لامتناع انعدامه { ولا يحيى } بالحقيقة لهلاكه الروحاني أي: يتعذب دائما سرمدا في حالة يتمنى عندها الموت وكلما احترق وهلك أعيد إلى الحياة وعذب، فلا يكون ميتا مطلقا ولا حيا مطلقا.
{ قد أفلح من تزكى } أي: فاز وظفر من تطهر عن صفات نفسه وظلمات بدنه بعد حصول استعداده { وذكر اسم ربه } أي: الاسم الخاص الذي يربه به بإفاضة كماله الذي يسأل ربه بلسان استعداده كالعليم للجاهل والهادي للضال والغفار للمذنب وهو في الحقيقة عين ذاته التي غفل هو عنها بحجاب الآثار والهيئات وصفات النفس وسائر الظلمات، كما قال تعالى:
نسوا الله فأنساهم أنفسهم
[الحشر، الآية:19]. وذكره تعرفه وطلب كماله المخصوص به بالتأييد الرباني والتوفيق الإلهي { فصلى } فعبد معبوده الذي هو الحق المتلجي له في صورة ذلك الاسم الخاص الذي يعرف ربه به بعد رؤيته بكماله المقدر له.
{ بل تؤثرون الحياة الدنيا } أي: تغفلون وتحتجبون عن ذكر ذلك الاسم وصلاة الرب بالحياة الحسية وطيباتها وزخارفها لعدم التزكية وتؤثرونها بالمحبة على الحياة الحقيقية الدائمة الروحانية وهي أفضل وأدوم.
{ إن هذا } المعنى من انتفاع المستعد بالتذكير وعدم انتفاع العديم الاستعداد وتعذبه بالنار الكبرى وفلاح أهل التزكية والتحلية من المستعدين وهلاك المؤثرين للحياة الحسية منهم { لفي الصحف } القديمة المنزهة عن التبديل والتغيير المحفوظة عند الله من الألواح النورية المجردة التي اطلع عليها النبيان المذكوران ونزل عليهما الظهورعلى مظاهرها والسلام، والله أعلم.
[88 - سورة الغاشية]
[88.1-12]
{ الغاشية } الداهية التي تغشى الناس بشدائدها أي: القيامة الكبرى التي تغشى الذوات وتفنيها بنور التجلي الذاتي، فينكشف الناس يوم إذ غشيت على من غشيته منقسمين أشقياء وسعداء، والصغرى التي تغشى العقل بشدة السكرات وتلبس المغشي أهوالها فيكون الناس يوم إذ غشيتهم إما أشقياء وإما سعداء.
{ وجوه يومئذ } أي: ذوات { خاشعة } أي: ذليلة خائفة { عاملة ناصبة } تعمل دائبا أعمالا صعبة تتعب فيها كالهوي في دركات النار والارتقاء في عقباتها وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضرب بها في الدنيا وإتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب { تصلى نارا } من نيران آثار الطبيعة { حامية } مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال { تسقى من عين آنية } من الجهل المركب الذي هو مشربهم والاعتقاد الفاسد المؤذي.
{ ليس لهم طعام إلا من ضريع } الشبه والعلوم الغير المنتفع بها المؤذية كالمغالطات والخلافيات والسفسطة وما يجري مجراها { لا يسمن } أي: لا يقوي النفس { ولا يغني من جوع } ولا يسكن داعية النفس ونهم الحرص على تعلمها والمباحثة عنها ويمكن أن يحشر بعض الأشقياء على صور طعامهم الشبرق اليابس كالزقوم لبعضهم والغسلين لبعضهم.
{ وجوه يومئذ ناعمة } تظهر عليها نضرة النعيم من اللطافة والنورية لتجردهم { لسعيها } وجدها في طريق البر واكتساب الفضائل والسير في الله { راضية } شاكرة لا تندم ولا تتحسر ولا تتجرد عما فعلت كالأولى { في جنة } من جنان الصفات وحضرة القدس { عالية } رفيعة القدر من علو المكانة { لا تسمع فيها لاغية } لأن كلامهم الحكمة والمعرفة والتسبيح والتحميد { فيها عين جارية } من عيون مياه علوم المعارف والذوق والكشف والوجدان والتوحيد.
[88.13-26]
{ فيها سرر مرفوعة } من مراتب الأسماء الإلهية التي بلغوها بالاتصاف بصفاته رفعت قدرها عن مراتب الجسمانية { وأكواب } من أوصاف الذوات المجردة ومحاسنها التي هي ظروف خمور المحبة { موضوعة } لثباتها على حالها في محالها { ونمارق } من مقاماتهم ومقاعدهم في مراتب الصفات، فإن لكل صفة من ابتداء تجليها وطوالع أنوارها وكونها حالا إلى كمال الاتصاف بها وكونها ملكا ومقاما مواضع أقدام ومقاعد فإذا استوفى السالك حظه منها بحسب استعداده وبلغ غاية مبلغه حتى تم سيره فيها وصارت ملكا له كان مقامه منها نمرقة على تلك الأريكة التي هي موضع ذلك الوصف مع الذات { مصفوفة } مرتبة { وزاربي } من مقامات تجليات الأفعال التي تحت مقامات الصفات كالتوكل تحت الرضا { مبثوثة } مبسوطة تحتهم.
{ أفلا ينظرون } إلى الآثار الظاهرة بالحس فيعتبرون ويعبرون عنها إلى تجلي الوصل إلى تجلي الصفات.
{ فذكر } عسى أن يكون فيهم مستعد يتذكر ويتعظ فيرتقي في السلم المنخلعة إلى جناب الحق لا من أعرض واحتجب بهذه الآثار عن المؤثر { فيعذبه الله العذاب الأكبر } وهو النارالكبرى المشار إليها في سورة (الأعلى) المعدة للمحجوب المطلق في جميع مراتب الوجود وقوله: { إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر } اعتراض أي: ما إليك إلا التذكير لا الغلبة والقهر كقوله:
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص، الآية:56]،
ومآ أنت عليهم بجبار
[ق، الآية:45].
{ إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } أي: خاصة إلينا إيابهم لا إلى غيرنا، فإنا نحاسبهم ونعذبهم بالعذاب الأكبر فإن القهر والغلبة لنا لا لك.
[89 - سورة الفجر]
[89.1-5]
أقسم بابتداء ظهور نور الروح على مادة البدن عند أول أثر تعلقه به { وليال عشر } ومحال الحواس العشرة الظاهرة والباطنة التي تتعين عند تعلقه به لكونها أسباب تحصيل الكمال وآلاتها { والشفع } أي: الروح والبدن عند اجتماعهما وتمام وجود الإنسان الذي يمكن به الوصول { والوتر } أي: الروح المجرد إذا فارق.
{ والليل إذا يسر } أي: ظلمة البدن إذ ذهبت وزالت بتجرد الروح فيكون الإقسام بالمبتدأ والمنتهى أو بالقيامة الكبرى وآثارها أي: والفجر الذي هو مبتدأ طلوع نور الحق وتأثيره في ليلة النفس وليال عشر من الحواس الراكدة الهادئة المظلمة المتعطلة عن أشغالها عند تجلي النور الإلهي والشفع الذي هو الشاهد والمشهود قبل تجلي الفناء التام حال المشاهدة في مقام الصفات، والوتر أي: الذات الأحدية عند الفناء التام وارتفاع الاثنينية، والليل أي: ظلمة الأنائية إذا ذهبت وزالت بزوال البقية أو بالقيامة الصغرى أي: فجر ابتداء ظهور نور الشمس الطالعة من مغربها. { وليال عشر } أي: الحواس المتكدرة المظلمة عند الموت، { والشفع } أي: الروح والبدن، { والوتر } أي: الروح المفارق إذا تجرد، { والليل إذا يسر } ، والبدن إذا انقشع ظلامه عن الروح وزال بالموت.
{ هل في ذلك قسم لذي حجر } استفهام في معنى الإنكار، أي: هل عاقل يهتدي إلى الإقسام بهذه الأشياء ووجه تعظيمها بالقسم بها وحكمة انتظامها في قسم واحد وتناسبها فإن عقول أهل الدنيا المشوبة بالوهم لا تهتدي إلى ذلك.
[89.6-14]
وجواب القسم ليعذبن المحجوبون لدلالة قوله: { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } إلى قوله: { لبالمرصاد } عليه أو في معنى التقرير أي: إنما يهتدي إلى ذلك أولو الألباب الصافية المجردة عن شوب الوهم. وجواب القسم: ليثابن العقلاء المعتبرون بحال المحجوبين دونهم.
[89.15-26]
{ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } أي: الإنسان يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمان لقوله:
" الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر "
، لأن الله تعالى لا يخلو من أن يبتليه إما بالنعم والرخاء فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه ولا يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول: إن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده، ويترفه في الأكل ويحتجب بمحبة المال ويمنع المستحقين، أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول: إن الله أهانني، فربما كان ذلك إكراما له بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق كما ان الأول ربما كان استدراجا منه.
{ إذا دكت الأرض } أي: البدن بالموت { دكا دكا } متفتتا { وجاء ربك } أي: ظهر في صورة القهر لمن برز عن حجاب البدن بالمفارقة { والملك صفا صفا } أي: ظهر تأثير الملائكة من النفوس السماوية والأرضية المترتبة في مراتبهم في تعذيبه بعدما كان محتبجا عنهم بشواغل البدن.
{ وجيء يومئذ بجهنم } أي: برزت نار الطبيعة وأحضرت للمعذبين.
{ يومئذ يتذكر الإنسان } خلاف ما اعتقده في الدنيا وصار هيئة في نفسه من مقتضيات فطرته فإن ظهور الباري بصفة القهر والملائكة بصفة التعذيب لا يكون إلا لمن اعتقد خلاف ما ظهر عليه مما هو في نفس الأمر كالمنكر والنكير { وأنى له } فائدة { الذكرى } ومنفعته فإن الاعتقاد الراسخ يمنع نفع هذا التذكير.
[89.27-30]
{ يا أيتها النفس المطمئنة } التي نزلت عليها السكينة وتنورت بنور اليقين فاطمأنت إلى الله من الاضطراب { ارجعي إلى ربك } في حال الرضا، أي: إذا تم لك كمال الصفات فلا تسكني إليه وارجعي إلى الذات في حال الرضا الذي هو كمال مقام الصفات والرضا عن الله لا يكون إلا بعد رضا الله عنها، كما قال:
رضى الله عنهم ورضوا عنه
[المائدة، الآية:119].
{ فادخلي في عباي } في زمرة عبادي المخصوصين بي من أهل التوحيد الذاتي { وادخلي جنتي } المخصوصة بي أي: جنة الذات وقرىء في عبدي وقرىء في جسد عبدي أي: حالة البعث والنشور ورد الأرواح إلى الأجساد، والله أعلم.
[90 - سورة البلد]
[90.1-7]
أقسم بالبلد الحرام الذي هو البلد القدسي النازل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأفق الأعلى والوادي المقدس { وأنت حل } مطلق { بهذا البلد } تفعل به ما تشاء غير مقيد بقيود صفات النفس والعادات { ووالد وما ولد } أي: روح القدس الذي هو الأب الحقيقي للنفوس الإنسانية كقول عيسى عليه السلام: " إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي " ، وقوله: " تشبهوا بأبيكم السماوي ونفسك التي ولدها هو " أي: بروح القدس ونفسك الناطقة.
{ لقد خلقنا الإنسان في } مكابدة ومشقة من نفسه وهواه أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب إذ الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفساده وحجاب القلب وفساده من هذه القوة فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.
{ أيحسب } لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة { أن لن يقدر عليه أحد * يقول أهلكت مالا لبدا } كثيرا، أي: في المكارم للافتخار والمباهاة كقول العرب: خسرت عليه كذا، إذا أنفق عليه يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله ولهذا قال: { أيحسب أن لم يره أحد } أي: أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة.
[90.8-20]
{ ألم نجعل له عينين } ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال ليبصر ما يعتبر به ويسأل عما لا يعلم ويتكلم فيه { وهديناه } إلى طريقي الخير والشر.
{ فلا اقتحم العقبة } أي: عقبة النفس وهواها الحاجبة للقلب بالرياضة والمجاهدة، وأي عقبة كؤود هي لا يدري كنه مشقتها { فك رقبة } أي: العقبة التي يجب اقتحامها تخليص رقبة القلب الأسير في قيد هوى النفس وفكها عن أسرها بالتجريد عن الميول الطبيعية بالكلية فإن لم يكن الفك بالكلية بالرياضة وإماتة القوى وقهر النفس فتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها حتى يصير التطبع طباعا وهو معنى قوله:
{ أو إطعام في يوم ذي مسغبة } إلى قوله: { وتواصوا بالمرحمة } فإن الإطعام خصوصا وقت شدة الاحتياج للمستحق الذي هو وضع في موضعه من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها وهو الإيمان العلمي اليقيني والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة وأخره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين، والمرحمة أي: التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة فانظر كيف عدد أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل وعبر عنها بمعظم أنواعها وأخص خصالها الذي هو السخاء، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس وجاء بلفظة ثم لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلو وعبر عن الحكمة به لكونه أم سائر مراتبها وأنواعها ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين وأخر العدالة التي هي نهايتها واستغنى بذكر المرحمة التي هي صفة الرحمن عن سائر أنواعها كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.
{ أولئك أصحاب الميمنة } أي: الموصوفون بهذه الفضائل هم السعداء أصحاب اليمين وسكان عالم القدس { والذين كفروا بآياتنا } أي: حجبوا عن هذه الصفات التي هي آيات الله الحقيقية التي تعرف بها ذاته { هم أصحاب } الشؤم وسكان عالم الرجس { عليهم } تستولي نار الطبيعة الآثارية مطبقة عليهم أبوابها محبوسين فيها ممنوعين عن الروح والمراتب أبد الآبدين، والله أعلم.
[91 - سورة الشمس]
[91.1-8]
{ والشمس } أقسم بشمس الروح وضوئها المنتشرة في البدن الساطع على النفس.
{ والقمر } أي: قمر القلب إذا تلى الروح في التنور بها وإقباله نحوها واستضاءته بنورها ولم يتبع النفس فينخسف بظلمتها.
{ والنهار } ونهار استيلاء نور الروح وقيام سلطانها واستواء نورها { إذا جلاها } وأبرزها في غاية الظهور كالنهار عند الاستواء في تجلية الشمس.
{ والليل إذا يغشاها } أي: ليل ظلمة النفس إذا سترت الروح فإن وجود القلب الذي هو محل المعرفة وعرش الرحمن لا يكون إلا بامتزاج نور الروح وظلمة النفس كأنه موجود مركب منهما متولد من اجتماعهما ولولا ظلمة النفس لم تستبن المعاني في القلب، فلم تضبط كما في حيز الروح لغاية صفائها ونوريتها وإن كانت الثلاثة حقيقة واحدة تختلف أسماؤها بحسب اختلاف مراتبها.
{ والسماء } أي: الروح الحيوانية التي هي سماء هذا الوجود والقادر الذي بناها.
{ والأرض } أي: البدن والخالق الذي طحاها.
{ ونفس } أي: القوة الحيوانية المنطبعة في الروح الحيوانية المسماة باصطلاح أهل الشرع والتصوف النفس مطلقا أو الجملة أو النفس الناطقة والحكيم الذي { سواها } عدلها بين جهتي الربوبية والسفالة لا في ظلمة الجسم وكثافته ولا في ضوء الروح ولطافته كما قال:
لا شرقية ولا غربية
[النور، الآية:35] على الأول، وعد مزاجها وتركيبها على الثاني، وأعدها لقبول الكمال ووسطها بين العالمين على الثالث.
{ فألهمها فجورها وتقواها } أي: أفهمها إياهما وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني.
[91.9-15]
{ قد أفلح } بالوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى { من زكاها } وطهرها. { وقد خاب من دساها } وأخفاها في تراب البدن عن نور الحق ورحمته وجواب القسم محذوف، أي: ليهلكن المحجوبون المكذبون للنبي بطغيانهم كما أهلكت ثمود لتكذيبهم نبيهم بطغيانهم لعدم قبول ذلك الإلهام وبقائهم على الفجور واحتجاب العقل واستيلاء ظلمة النفس وقد مر تأويل الناقة وسقياها والله تعالى أعلم.
[92 - سورة الليل]
[92.1-7]
أقسم بليل ظلمة النفس إذا ستر نور الروح وبنهار نور الروح { إذا تجلى } فظهر من اجتماعهما وجود القلب الذي هو عرش الرحمن فإن القلب يظهر باجتماع هذين له وجه إلى الروح يسمى الفؤاد يتلقى به المعارف والحقائق ووجه إلى النفس يسمى الصدر يحفظ به السرائر ويتمثل فيه المعاني والقادر العظيم القدرة الحكيم الباهر الحكمة الذي { خلق الذكر } الذي هو الروح { والأنثى } التي هي النفس فولد القلب.
{ إن سعيكم لشتى } أشتات مختلفة لانجذاب بعضكم إلى جانب الروح والتوجه إلى الخير لغلبة النورية وميل بعضكم إلى جانب النفس والانهماك في الشر لغلبة الظلمة وتفصيل ذلك في قوله: { فأما من أعطى واتقى } أي: آثر الترك والتجريد فرفض ما يشغله عن الحق وتكره بالسهولة واتقى عن هيئات النفس فجردها عن الميل إلى ما رفض والاتفات نحوه { وصدق } بالفضيلة { بالحسنى } التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلمي إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي { فسنيسيره لليسرى } أي فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى التي هي السلوك في الله لقطع علائقه وقوة يقينه.
[92.8-18]
{ وأما من بخل واستغنى } آثر محبة المال وجمعه ومنعه واستغنى به عن كسب الفضيلة لاحتجابه به عن الحق { وكذب بالحسنى } بوجود مرتبة الكمال والفضيلة لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم النور والآخرة { فسنيسره للعسرى } فسنهيئه بالخذلان للطريقة العسرى التي هي الانحطاط عن رتبة الفطرة إلى قعر الطبيعة ودركات أسفل سافلين مأوى الحشرات والديدان والحيلولة بينه وبين شهواته بالحرمان.
{ وما يغني عنه ماله } الذي تعب في تحصيله وأفنى عمره في حظه { إذا تردى } إذا وقع في قعر بئر جهنم وعمق الهاوية وهلك.
{ إن علينا للهدى } بالإرشاد إلينا بنور العقل والحس والجمع بين الأدلة العقلية والسمعية والتمكين على الاستدلال والاستبصار.
{ وإن لنا للآخرة والأولى } أي: نعطيهما من توجه إلينا فلا نحرم التارك المجرد عن ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة فإن من آثر الأشرف يكون الأخس تحت قدمه بالضرورة كقوله:
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة، الآية:66].
{ فأنذرتكم نارا تلظى } أي: نارا عظيمة يبلغ لظاها جميع مراتب الوجود وهي النار الكبرى الشاملة للحجاب والقهر والسخط والتعذيب بالآثار، ولهذا قال: { لا يصلاها إلا الأشقى } العديم الاستعداد، الخبيث الجوهر، المشرك بالله في المواقف الأربعة.
{ الذي كذب } بالله لشركه { وتولى } وأعرض عن الدين لعناده { وسيجنبها الأتقى } أي: يتحاماها ويبعد عنها في جميع مراتبها { الذي } اتقى ما عدا الله من ذاته وصفاته وأفعاله وكل شيء من الأغيار والآثار بالاستغراق في عين الجمع وهو الأتقى المطلق الذي لم يقف مع غير الله فيوقف على الله ويعذب ببعض النيران. وأما التقي فقد لا يجنب جميع مراتبها كالمتجرد من الهيئات والأفعال، الواقف مع الصفات فإنه وإن كان مغفورا ذنوبه فقد حرم عن روح الذات ولذة المقربين في حجاب وجوده.
{ الذي يؤتي ماله يتزكى } الذي يعطيه في حالة كونه متطهرا عن لوث محبة الأنداد وتعلق الأغيار والالتفات إلى ما سوى الله والاشتغال به مزكيا نفسه عن الشرك الخفي.
[92.19-21]
{ وما لأحد عنده من نعمة تجزى } أي: لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة { إلا ابتغاء وجه ربه } باجتناب ما عداه ولكونه على أعلى مراتب التقوى لأن الله تعالى بحسب كل اسم له وجه يتجلى به لمن يدعوه بلسان حاله بذلك الاسم ويعبده باستعداده والوجه الأعلى هو الذي له بحسب اسمه الأعلى الشامل لجميع الأسماء وإن جعلته وصفا لربه، فالرب هو ذلك الاسم.
{ ولسوف يرضى } بالوصول إليه في عين الجمع والشهود الذاتي ثم مشاهدة ذلك الوجه في مقام التفصيل حال البقاء بعد الفناء لاستدعاء الرضا وجوده مع الوصف، والله تعالى أعلم.
[93 - سورة الضحى]
[93.1-3]
أقسم بالنور والظلمة الصرفة القارة على حالها الذين هما أصل الوجود الإنساني وجماع الكونين على ان ربك ما تركك ترك مودع في عالم النور وحضرة القدس مع بقاء المحبة والشوق في مقام الصفات محجوبا عن الذات، فإن المودع لا بد له من محبة وشوق { وما قلى } أي: وما قلاك في عالم الظلمة والوقوف مع الكون بلا محبة وشوق في مقام النفس محجوبا عن الرب وصفاته وأفعاله ترك قال مبغض وذلك أن المحبوب الذي يسبق كشفه اجتهاده إذا كوشف بالتوحيد الذاتي ورفع غطاؤه ليعشق رد إلى الحجاب وسد طريقه إلى حضرة تجلي الذات ليشتد شوقه ويلطف سره وتذوب أنائيته بنار الشوق ثم فتح طريقه ورفع حجابه بالكلية وكوشف بالحق الصرف ليكون ذوقه أتم وكشفه أكمل، وكان صلى الله عليه وسلم في هذا الاحتجاب يصعد الجبال ليرى بنفسه فإذا نفدت طاقته رفع الحجاب ونزل.
[93.4-11]
{ وللآخرة } أي: وللحالة الآخرة التي هي التجلي بعد الاحتجاب واشتداد الشوق { خير لك من } الحالة { الأولى } لأمنك في الحالة الثانية عن التلوين بوجود البقية ظهور الأنائية { ولسوف يعطيك ربك } الوجود الحقاني لهداية الخلق والدعوة إلى الحق بعد هذا الفناء الصرف { فترضى } به حيث ما رضيت بالوجود البشري والرضا لا يكون إلا حال الوجود.
{ ألم يجدك يتيما } منفردا محجوبا بصفات النفس عن نور أبيك الحقيقي الذي هو روح القدس منقطعا عنه ضائعا { فآوى } أي: فآواك إلى جنابه ورباك في حجر تربيته وتأديبه وكفلك أباك ليعلمك ويزكيك { ووجدك ضالا } عن التوحيد الذاتي عند كونك في عالم أبيك محتجبا بالصفات عن الذات فهداك بنفسه إلى عين الذات { ووجدك عائلا } فقيرا عديما فانيا فيه بالفقر الذي هو سواد الوجه في الدارين الذي هو الفناء المحض بعد الفقر الذي هو فخره أي: فناء الصفات كما قال: " الفقر فخري " فأغناك بما أعطاك من الوجود الموهوب الموصوف بصفات الكمال الحقاني المتخلق بالأخلاق الربانية، فإذا تم كمالك فتخلق بأخلاقي وافعل بعبادي ما فعلت بك لتكون عبدا شكورا أي: قائما بشكر نعمتي.
{ فأما اليتيم } أي: المنفرد المنكسر القلب، المنقطع عن نور القدس، المحتجب بحجاب النفس { فلا تقهر } والطف به بالمداراة والرفق وآوه إلى نفسك بالدعو بالحكمة والموعظة الحسنة كما آوتيك { وأما السائل } أي: المستعد المحجوب الضال عن طريق مقصده الطالب إياه { فلا تنهر } ولا تمنعه عن السؤال واهده كما هديتكم { وأما بنعمة ربك } من العلم والحكمة الفائض عليك في مقام البقاء { فحدث } بتعليم الناس وإغنائهم بالخير الحقيقي كما أغنيتك، والله تعالى أعلم.
[94 - سورة الشرح]
[94.1-8]
{ ألم نشرح لك صدرك } استفهام بمعنى إنكار انتفاء الشرح ليفيد ثبوته، أي: شرحنا لك صدرك وذلك لأن الموحد في مقام الفناء محجوب بالحق عن الخلق لفنائه وضيق الفاني عن كل شيء إذ العدم لا يقبل الوجود كما كان قبل الفناء محجوبا بالخلق عن الحق لضيق وعائه الوجودي وامتناع قبول وجود التجلي الذاتي الإلهي، فإذا رد إلى الخلق بالوجود الحقاني الموهوب ورجع إلى التفصيل وسع صدره الحق والخلق لكونه وجودا حقيا وذلك انشراح الصدر أي: شرحناه بنورنا للدعوة والقيام بحقائق الأنباء والوزر الذي يحمل ظهره على النقيض وهو صوت الكسر، أي: يكسره بثقله هو وزر النبوة والقيام بأعبائها لأنه في مقام الشهود لم يجد للخلق وجودا فضلا عن الفعل ولم يفرق بين فعل وفعل لشهوده لأفعاله تعالى، فكيف يثبت خيرا وشرا ويأمر وينهى وهو لا يرى إلا الحق وحده فإذا رد إلى مقام النبوة عن مقام الولاية وحجب بحجاب القلب ثقل ذلك عليه وكاد أن يقصم ظهره لاحتجابه عن الشهود الذاتي حينئذ، فوهب التمكين في مقام البقاء حتى لم يحتجب بالكثرة عن الوحدة وشاهد الجمع في عين التفصيل، ولم يغب عن شوده بالدعوة وذلك هو شرح الصدر وهو بعينه وضع الوزر المذكور ورفع الذكر لأن الفاني في الجمع لا يكون شيئا فضلا عن أن يكون مذكورا، ولو بقى في عين الجمع لما صح محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قولنا: لا إله إلا الله لفنائه ولما تم الإسلام لصحته بهما.
{ فإن مع العسر } أي: الاحتجاب الأول بالخلق عن الحق { يسرا } وأي يسر هو كشف الذات ومقام الولاية { إن مع العسر } أي: الاحتجاب الثاني بالحق عن الخلق { يسرا } وأي يسر هو شرح الصدر بالوجود الموهوب الحقاني ومقام النبوة.
{ فإذا فرغت } عن السير بالله وفي الله وعن الله { فانصب } في طريق الاستقامة والسير إلى الله واجتهد في دعوة الخلق { فارغب } إليه خاصة في الدعوة إليه، أي: لا ترغب إلا إلى ذاته دون ثواب أو غرض آخر لتكون دعوتك وهدايتك به إليه وإلا لما كنت قائما به مستقيما إليه به بل زائغا عنه قائما بالنفس، والله تعالى أعلم.
[95 - سورة التين]
[95.1-5]
{ والتين } أي: المعاني الكلية المنتزعة عن الجزئيات التي هي مدركات القلب، شبهها بالتين لكونها غير مادية معقولة صرفة مطابقة لجزئياتها مقوية للنفس لذيذة كالتين الذي لا نوى له بل هو لب كله مشتمل على حبات كالجزئيات التي هي في ضمن الكليات، مسمن للبدن فيه غذائية وتفكه { والزيتون } أي: المعاني الجزئية التي هي مدركات النفس شبهها بالزيتون لكونها مادية معدة للنفس لإدراك الكليات كالزيتون الذي له نوى وهو دابغ لآلات الغذاء مثله { وطور سينين } أي: الدماغ الذي هو معدن الحس والتخيل المرتفع من أرض البدن كالجبل { وهذا البلد الأمين } أي: القلب الحافظ ما فيه من المعاني الكلية أو المأمون فساده وفناؤه لتجرده عن اختلاف الاشتقاق من الأمانة والأمن.
أقسم بما يحصل به كمال الإنسان ووجوده من المعاني الكلية والجزئية والقلب والنفس أي: المدركين ومدركاتهما تعظيما للإنسان وإظهارا لشرفه وتكريما على أنه خلق الإنسان.
{ في أحسن تقويم } أي: تعديل من جمع الظلمة والنور فيه والجمع بين الأضداد والموافقة بينها وجعله واسطة بين العالمين جامعا لهما، وتسوية خلقه وخلقه وتحسين صورته ومعناه: في أعدل مزاج وأكمل نوع وأفضل مخلوق.
{ ثم رددناه } لاحتجابه بالظلمة عن النور والوقوف مع رذائل الأخلاق والإعراض عن الفضائل { أسفل } من سفل خلقا ورتبة من أهل الدركات، وأقبح من قبح صورة وتركيبا وأشوهه خلقة وشكلا ومنظرا وهم أصحاب النار في سجين الطبيعة.
[95.6-8]
{ إلا الذين آمنوا } بتغليب نور القلب على ظلمة النفس والكلي على الجزئي، وكسبوا الفضائل والخيرات أي: حصلوا الكمال العلمي والعملي فإنهم في درجات عالية من عالم القدس { فلهم أجر } من ثواب جنات القلوب والنفوس { غير ممنون } لاتصال مدده من عالم القدس وبراءته عن الكون والفساد وأبدية وجوده، فما يجعلك كاذبا بسبب الجزاء أيها الإنسان بأن تكذب به فتكون كاذبا بعد وقوفك على هذا الخلق العجيب الجامع لمراتب الوجود أسفلها وأعلاها الحاصل لكمالات الكونين أشرفهما وأخسهما.
{ أليس الله بأحكم الحاكمين } فيحكم عليه بالوقف في أي مرتبة من المراتب شاء في أعلاها فيثيبه أو أسفلها فيعاقبه.
[96 - سورة العلق]
[96.1-2]
{ اقرأ باسم ربك } نزلت في أول رتبة رده عليه السلام عن الجمع إلى التفصيل ولهذا قيل: هي أول سورة نزلت من القرآن، ومعنى الباء في باسم: الاستعانة كما في قوله: كتبت بالقلم، لأنه إذا رجع إلى الخلق عن الحق كان موجودا بالوجود الحقاني بعد الفناء عن وجوده موصوفا بصفاته، فكان اسما من أسمائه لأن الاسم هو الذات مع الصفة، أي: اقرأ بالوجود الذاتي الذي هو اسمه الأعظم فهو الآمر باعتبار الجمع والمأمور باعتبار التفصيل ولهذا وصف الرب ب { الذي خلق } أي: احتجب بصورة الخلق، يعني ظهرت بصورتك فقم بي في صورة الخلق وارجع عن الحقية إلى الخلقية وكن خلقا بالحق. ولما رده إلى الخلقية في صورة الجمعية الإنسانية وأمره بالاحتجاب بها لتمكن الوحي والتنزيل والنبوة خص الخلق بعد تعميمه بالإنسان فقال: { خلق الإنسان من علق }.
[96.3-14]
{ اقرأ } باسم { وربك الأكرم } أي: البالغ إلى النهاية في الكرم الذي لا يمكن فوق غايته كرم لجوده بذاته وصفاته وهب لك ذاته وصفاته فهو أكرم من أن يدعك فانيا في عين الجمع فلا يعوض وجودك بنفسك شيئا ولو أبقاك على حال الفناء لم يظهر له صفة فضلا عن الكرم، ومن قضية أكرميته أنه الذي آثرك بأشرف صفاته الذي هو العلم وما ادخر عنك شيئا من كمالاته، فلهذا وصف الأكرم ب { الذي علم بالقلم } أي: القلم الأعلى الذي هو الروح الأول الأعظم أي: علم بسببه وواسطته ثم لما كان في أول حال البقاء ولم يصل إلى التمكين أراد أن يمكنه ويحفظه عن التلوين بظهور أنائيته وانتحال صفة الله فقال: { علم الإنسان ما لم يعلم } أي: لم يكن له علم فعلمه بعلمه ووهب له صفة عالميته لئلا يرى ذاته موصوفة بصفة الكمال فيطغى بظهور الأنائية ولهذا ردعه عن مقام الطغيان بقوله: { كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى } أي: بسبب رؤيته نفسه مستغنيا بكماله { إن إلى ربك الرجعى } بالفناء الذاتي فلا ذات لك ولا صفة فارتدع عليه السلام متأدبا بأدب حاله وقال: لست بقارىء، أي ما أنا بقارىء إنما القارىء أنت.
{ أرأيت الذي } أي: المحجوب الجاهل المستغني بحاله وماله وقومه عن الحق { ينهى * عبدا } أي عبد عن صلاة الحضور والعبادة في مقام الاستقامة بطغيانه { إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى } في شركه ودعوته إلى الشرك فرضا وتقديرا كما زعم أو { إن كذب } بالحق لكفره وأعرض عن الدين المستقيم لعناده وطغيانه كما هو في نفس الأمر { ألم يعلم بأن الله } يراه في الحالتين فيجازيه.
[96.15-19]
{ كلا } ردع عن النهي عن الصلاة وإثبات للقسم الثاني من الشرطية بنفي القسم الأول بالوعيد عليه { لئن لم ينته } عنه وعن نسبة الكذب والخطأ إليه على أبلغ وجه وآكده، وبيان احتجابه بقومه واتكاله على قوتهم وغفلته عن قهر الحق وسخطه بتسليط الملكوت السماوية والأرضية الفعالة في عالم الطبيعة عليه التي لا يمكن أحدا مقاومتها.
{ كلا لا تطعه } أي: لا توافقه ودم على ما أنت عليه من مخالفته بملازمة التوحيد { واسجد } سجود الفناء في صلاة الحضور { واقترب } إليه بالفناء في الأفعال ثم في الصفات ثم في الذات أي: دم على حالة فنائك التام في مقام الاستقامة والدعوة حتى تكون في حالة البقاء به فانيا عنك ولا يظهر فيك تلوين بوجود بقية من إحدى الثلاث، ولهذا قرأ عليه السلام في هذه السجدة:
" أعوذ بعفوك من عقابك "
أي: بفعل لك من فعل لك،
" وأعوذ برضاك من سخطك "
أي: بصفة لك من صفة لك،
" وأعوذ بك منك "
أي: بذاتك من ذاتك وهو معنى اقترابه بالسجود، وفي الحديث:
" أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد "
، والله تعالى أعلم.
[97 - سورة القدر]
[97.1-3]
{ إنا أنزلناه في ليلة القدر } ليلة القدر هي البنية المحمدية حال احتجابه عليه السلام في مقام القلب بعد الشهود الذاتي لان الإنزال لا يمكن إلا في هذه البنية في هذه الحالة، والقدر هو خطره عليه السلام وشرفه إذ لا يظهر قدره ولا يعرفه هو إلا فيها، ثم عظمها بقوله: { وما أدراك ما ليلة القدر } أي: أي شيء عرفت كنه قدرها وشرفها.
{ خير من ألف شهر } قد مر أن اليوم يعبر به عن الحادث كقوله:
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم، الآية:5] فلكل كائن يوم، وإذا بنى على هذه الاستعارة كان كل نوع شهرا لاشتماله على الأيام والليالي اشتمال النوع على الأشخاص، وكل جنس سنة لاشتمالها على الشهور اشتمال الجنس على الأنواع.
[97.4-5]
والألف هو العدد التام الذي لا كثرة فوقه إلا بالتكرار والإضافة، فيكنى به عن الكل، أي: هذا الشخص وحده خير من كل الأنواع. ثم بين وجه تفضيله وسبب خيريته فقال: { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم } أي: القوة الروحانية والنفسانية بل الملكوت السماوية والأرضية والروح { من كل أمر } أي: من جهة كل أمر هو معرفة جميع الأشياء ووجوداتها وذواتها وصفاتها وخواصها وأحكامها وأحوالها وتدبيرها وتسخيرها.
{ سلام هي } سلام عن جميع النقائص والعيوب { حتى } وقت طلوع فجر الشمس الطالعة من مغربها وقرب الموت، فحيئنذ لا تكون سلامة أي سالمة أو سلام في نفسها لكثرة السلام عليها من الله والملائكة والناس أجمعين.
[98 - سورة البينة]
[98.1]
{ لم يكن الذين كفروا } أي حجبوا إما عن الدين وطريق الوصول إلى الحق كأهل الكتاب وإما عن الحق أيضا كالمشركين { منفكين } عما هم فيه من الضلالة { حتى تأتيهم البينة } أي: الحجة الواضحة الموصلة إلى المطلوب وذلك أن الفرق المختلفة المحتجبة بأهوائهم وضلالاتهم من اليهود والنصارى والمشركين كانوا يتخاصمون ويتعاندون ويدعي كل حزب حقية ما عليه ويدعو صاحبه إليه وينسب دينه إلى الباطل، ثم يتفقون على أنا لا ننفك عما نحن فيه حتى يخرج النبي الموعود في الكتابين المأمور باتباعه فيهما فنتبعه ونتفق على الحق على كلمة واحدة كما عليه الآن بعينه حال هؤلاء المتعصبين من أهل المذاهب المتفرقة وانتظارهم خروج المهدي في آخر الزمان ووعدهم على اتباعه متفقين على كلمة واحدة. ولا أحسب حالهم إلا مثل حال أولئك إذا خرج، أعاذنا الله من ذلك، فحكى الله قولهم وبين أنهم ما تفرقوا تفرقا قويا وما اشتد اختلافهم وتعاندهم إلا من بعدما جاءتهم البينة بخروجه لأن كل فرقة، بل كل شخص، توهم أنه يوافق هواه ويصوب رأيه لاحتجابه بدينه، فلما ظهر خلاف ذلك ازداد كفره وعناده واشتدت شكيمته وضغينته.
[98.2-8]
{ رسول } بدل من البينة أي: الحجة القائمة الواضحة { رسول من الله يتلو صحفا } من ألواح العقول والنفوس السماوية لاتصاله بها بتجرده { مطهرة } من دنس الطبائع وكدر العناصر ودنس المواد وتحريف العباد { فيها كتب قيمة } أي: مكتوبات ثابتة أبدية مستقيمة ناطقة بالحق والعدل لا تتغير ولا تتبدل أبدا هي أصول الدين القيم.
{ وما أمروا } أي: أهل الكتابين المحجوبون بأهوائهم عن الدين بما أمروا فيهما { إلا } لأن يخصصوا العبادة بالله { مخلصين له الدين } عن شوب الباطل والالتفات إلى الغير.
{ حنفاء } عن كل طريق غير موصل إليه وعن كل ما سواه ويتوصلوا إليه بالعبادات البدنية والمالية، أي: ما أمروا بما أمروا إلا للالتزام بأصول ثلاثة التوحيد على الإخلاص وقطع النظر عن الغير في الطاعة والإعراض عما سواه والقيام بالعبادات البدنية من الأعمال المزكية كالصلاة التي هي العمدة في بابها كقوله عليه السلام:
" الصلاة عماد الدين "
، والقيام بحقائق الزهد من الترك والتجريد كالزكاة التي هي أساسها وذلك بعينه دين الكتب القيمة التي يتلوها هذا الرسول. فالملة الحقيقية الحنيفية واحدة من لدن آدم إلى يومنا هذا، وهي ملازمة التوحيد وسلوك طريق العدالة الشاملة للأصلين الآخرين فلو لم يحتجبوا بأهوائهم ولم يحرفوا كتبهم ويتعصبوا بظهور نفوسهم السبعية ولم يقفوا مع شهواتهم ولم يحتجبوا بتوهماتهم وتصوراتهم بظواهر أوضاعهم وعاداتهم وأمانيهم ومراداتهم عن حقائق ما في كتبهم لكان دينهم هذا الدين بعينه. فالحاصل أن المحجوبين من أي الفرق كانوا هم شر البرية في نار جهنم الآثار قعر بئر الطبيعة والموحدين بالتوحيد العلمي العاملين على قانون العدالة في اكتساب الفضائل { هم خير البرية } في جنان الخلد بحسب درجاتهم من جنات الأفعال والصفات وأعلى درجاتهم مقام كمال الصفات الذي هو الرضا { ذلك لمن خشي ربه } أي: ذلك المقام مخصوص بمن علته الخشية الربانية عند تجليه بصفة العظمة لأنه إذا تجلى الرب على القلب بصفة العظمة استولت الخشية على العبد وذلك ليس هو الخوف المنافي لمقام الرضا بل هو حكم التجلي وأثره في النفس، وكما أثبت القدر المشترك للمحجوبين من النار دون النار الكبرى التي للأشقين أثبت القدر المشترك للموحدين من الجنة دون الجنة العليا التي للعارفين الأتقين فلذلك كان أعلى درجاتها الرضا والسلام.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1-5]
{ إذا زلزلت } أرض البدن عند نزع الروح الإنساني باضطراب الروح الحيواني والقوى { زلزالها } الذي استوجبته في تلك الحالة المؤذنة بخرابها وانتقاض بنيتها.
{ وأخرجت الأرض أثقالها } أي: متاعها التي هي بها ذات قدر من القوى والأرواح وهيئات الأعمال والاعتقادات الراسخة في القلب جمع ثقل وهو متاع البيت.
{ وقال الإنسان ما لها } أي: ما لها زلزلت واضطربت ما طبها، ما داؤها؟ ألانحراف المزاج أم لغلبة الأخلاط.
{ يومئذ تحدث أخبارها } بلسان حالها { بأن ربك } أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال عند زهوق الروح وتحقق الموت.
[99.6-8]
{ يومئذ يصدر الناس } عن مراقدهم ومخارج أبدانهم إلى مواثيقهم ومواطن حسابهم وجزائهم { أشتاتا } متفرقين سعداء وأشقياء { ليروا أعمالهم } أي: جزاءها بما أثبت في صحائف نفوسهم من صورها وهيئاتها.
{ فمن يعمل } من السعداء { مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل } من الأشقياء { مثقال ذرة شرا يره } والمخصص لعموم من في، فمن يعمل في الموضعين. قوله أشتاتا لأن خيرات الأشقياء محبطة بالكفر والاحتجاب وشرور السعداء معفوة بالإيمان والتوبة وغلبة الخيرات وسلامة الفطرة.
[100 - سورة العاديات]
[100.1-5]
{ والعاديات } أي: النفوس المجتهدة السائرة في سبيل الله التي تعدو من شدة سيرها ورياضتها وجدها في سعيها كالخيل العادية تتنفس الصعداء من برحاء الشوق.
{ فالموريات قدحا } فتوري نارا بقداح النتائج والاشتغال بنور العقل الفعال بقدح زناد النظر وتركيب المعلومات بالفكر.
{ فالمغيرات صبحا } أي: التي تغير ما يتعلق بها مما في ظواهرها وخارجها من الماليات، ومما في بواطنها وداخلها من هيئات صفات النفوس وآثار الأفعال وميول الشهوات واللذات ووساوس الوهم والخيال بنور صبح التجلي الإلهي وأثر الطوالع ومبادىء الوصول تركا وتجريدا.
{ فأثرن به } بنور ذلك التجلي وصبح يوم القيامة الكبرى ونقع تراب البدن بإنهاكه وتلطيفه وتنحيفه بالرياضة ومنع الحظوظ لشدة التوجه إلى الحق والإقبال إليه بالعشق وانزعاج القوى في مشايعة القلب والروح عن جانب البدن واشتغالها عنه بتلقي الأنوار كما يقال: أثار عنه الغبار، أي: أفناه وأهلكه وجعله كالغبار في التلاشي.
{ فوسطن به } أي: بذلك الصبح ونوره جمع عين الذات فاستغرقن فيه أي: لطفن كثافة تراب البدن حتى يصير كالنقع في اللطافة، فوسطن بذلك النقع جمع الذات فإن الوصول إنما يكون بالأبدان كمعراجه عليه السلام فإنه كان بالبدن، أي: العالمات العاملات التاركات المجردات بنور التجلي المنهكات للأبدان بالرياضة فالواصلات .
[100.6-11]
{ إن الإنسان لربه لكنود } أقسم بحرمة الشاكرين لأنعمه الواصلين إليه بتواصلها على أن الإنسان لكفور لربه باحتجابه بنعمه عنه ووقوفه معها وعدم استعماله لها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.
{ وإنه على ذلك لشهيد } لعلمه باحتجابه وشهادة عقله ونور فطرته أنه لا يقوم بحقوق نعم الله ويقصر في جنب الله بكفرانه.
{ وإنه لحب الخير لشديد } أي: وإنه لحب المال لقوي أو لأجل حب المال بخيل، فلذلك يحتجب به غارزا رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه مشغولا به عن الحق معرضا عن جنابه، أو أنه لحب الخير الموصل إلى الحق منقبض غير هش منبسط.
{ أفلا يعلم } أي: أبعد هذا الاحتجاب ومخالفة العقل لا يعلم بنور فطرته وقوة عقله { إذا بعثر } أي: بعث ما في قبور أبدانهم من النفوس والأرواح { وحصل } ما في صدورهم أي: أظهر ما في قلوبهم من هيئات أعمالهم وصفاتهم وأسرارهم ونياتهم المكتومة فيها { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم وظواهرهم فيجازيهم على حسبها.
[101 - سورة القارعة]
[101.1-5]
{ القارعة } الداهية التي تقرع الناس وتهلكهم وهي إما القيامة الكبرى أو الصغرى، فإن كانت الكبرى فمعناها الحالة التي تفني المقروع من تجلي الذات الأحدية وإفناء البشرية بالكلية وهي حالة لا يعرف كنهها ولا يقدر قدرها، تقرعهم.
{ يوم يكون الناس كالفراش } أي: يكونون في ذلك الشهود في الذلة وتفرق الوجهة كالفراش المنتثر وأحقر وأذل لأنه لا قدر ولا وقع لهم في عين الموحد كقوله: لن يكمل إيمان المرء حتى يكون الناس عنده كالأباعر أو كالفراش { المبثوث } إذا احترق وانبث بالنار لنظره إليهم بعين الفناء.
{ وتكون الجبال } أي: الأكوان ومراتب الوجود على اختلاف أصنافها وأنواعها { كالعهن المنفوش } لصيرورتها هباء منبثا وانتقاعها وتلاشيها بالتجلي وإن كان المراد بالناس المقروعين من أهل الكبرى فمعناها: كالفراش المبثوث المتحرق بنور التجلي المتلاشي لا غير، وتكون الجبال أي: ذواتهم وصفاتهم مع اختلاف مراتبها وألوانها { كالعهن المنفوش } في التلاشي، إلا أن قوله: { فأما من ثقلت موازينه } { وأما من خفت موازينه } لا يساعده لانتفاء التفصيل هناك. واعلم أن ميزان الحق بخلاف ميزان الخلق، إذ صعود الموزونات وارتفاعها فيه هو الثقل وهبوطها وانحطاطها هو الخفة لأن ميزانه تعالى هو العدل والموزونات الثقيلة أي: المعتبرة الراجحة عند الله التي لها قدر ووزن عنده هي الباقيات الصالحات ولا ثقل أرجح من البقاء الأبدي، والخفيفة التي لا وزن لها ولا قدر ولا اعتبار عند الله هي الفانيات الفاسدات من اللذات الحسية والشهوات. ولا خفة أخف من الفناء الصرف.
[101.6-11]
{ فأما من ثقلت موازينه } بأن كانت من العلوم الحقيقية والفضائل النفسانية والكمالات القلبية والروحانية { فهو في عيشة } ذات رضا، أي: حياة حقيقية في جنان الصفات فوق جنان الأفعال.
{ وأما من خفت موازينه } بأن كانت من الأعمال السيئة والرذائل النفسانية { فأمه هاوية } أي: مأواه قعر بئر جهنم الطبيعة الجسمانية التي تهوي فيها أهلها { وما أدراك } حقيقتها وكنه حالها إنها { نار } آثارية { حامية } بالغة إلى نهاية الإحراق. ويكون معنى: أمه هاوية، إنه هالك، وما أدراك ما الداهية التي يهلك بها نار حامية وإن كانوا من أهل الصغرى فمعناها الحالة الي تقرع الناس بشدتها وهي الموت يوم يكون الناس بفراقهم عن الأبدان وانبعاثهم من مراقدها وقصدهم إلى ضوء عالم النور وذلتهم وخشوعهم وتفرق مقاصدهم وتحيرهم بحسب تفرق عقائدهم وأهوائهم كالفراش المبثوث وتكون جبال الأعضاء في اختلاف ألوانها وأصنافها وتفرق أجزائها وتفتتها وصيرورتها هباء كالعهن المنفوش والباقي بحاله كما ذكر، والله أعلم.
[102 - سورة التكاثر]
[102.1-4]
{ ألهاكم التكاثر } أي: شغلتكم اللذات الحسية والخيالية الفانية من نعيم الحياة الدنيا التي احتجبتم بها وحبستم كمالكم فيها وأذهبتم طيباتكم من نور الاستعداد وصفاء الفطرة والعقل والمعقولات فيها عن اللذات العقلية والكمالات المعنوية الباقية من نعيم الآخرة وذهب بكم المفاخرة والمباهاة بهذه الأمور الفانية من كثرة الأموال والأولاد وشرف الآباء والأجداد كل مذهب { حتى } ما اكتفيتم بالموجودات منها وارتكبتم المفاخرة بالمعدومات السالفة من العظام البالية لشدة الحجاب وغلبة لذة الخيال وسلطنة شيطان الوهم أو حتى متم وأفنيتم عمركم فيها وما تنبهتم طول عمركم على ما هو سبب نجاتكم.
{ كلا } ردع عن الاشتغال بها وتنبيه على وخامة عاقبتها { سوف تعلمون } عند خراب الأبدان وكشف غطاء الأكوان حين لا ينفعكم العلم لانعدام الأسباب والآلات التي يمكن بها الاستكمال بالموت وخامة عاقبة الاشتغال بهذه الحسيات والوهميات السريعة الزوال العظيمة الوبال لبقاء تبعاتها وتعذبكم بهيئاتها واستيلاء نار آثارها { ثم كلا سوف تعلمون } تكرارا للوعيد.
[102.5-8]
{ كلا لو تعلمون علم اليقين } أي: لو ذقتم اللذات الحقيقية من العلوم اليقينية والإدراكات النورية المستعلية على هذه الحسيات والخياليات الفانية لكان ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر على فوات العمر العزيز فيها والذهول عنها بها { لترون الجحيم } أي: والله لترون بسبب احتجابكم بهذه المحسوسات نار جحيم الطبيعة الآثارية.
{ ثم } لتذوقنها عيانا يقينيا بالذوق والوجدان فوق العلم { ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم } أي: شيء هو الدنيوي ولذاته الفانية الذي هذه عاقبته ومآله وتبعته، أم الأخروي الباقي أبدا على حاله الذي كنتم تنكرونه. ويجوز أن يكون قوله: { لترون الجحيم } ، سادا مسد جواب لولا أن القسم والشرط إذا اجتمعا اتحد جوابهما معنى وخص بالقسم لفظا سادا مسد جواب الشرط كقوله:
وإن أطعتموهم إنكم لمشركون
[الأنعام، الآية:121] أي: والله لو علمتم علم اليقين ووصلتم إلى مرتبته لرأيتم نار جحيم الطبيعة المخصوصة بالمحجوبين بهذه الرذائل من الانغماس في الشهوات واللذات الوهمية والخيالية والكمالات الحسية والبدنية التي غرزتم رؤوسكم فيها وتهالكتم عليها فانتهيتم عنها الانتهاء البالغ ثم ما وقفتم على مرتبة العلم اليقيني لوجدانكم ذوقه ومعرفتكم لذته وبقاءه وحسنه وشرفه وبهاءه وبقاء تبعة ما أنتم الآن فيه وفنائه وقبحه وخسته ووباله، فترقيتم إلى رتبة العيان والمشاهدة، فعاينتم الحقائق على ما هي عليه من الأنوار القدسية والصفات الإلهية فشاهدتم بنور العيان حقيقة الجحيم ووبال هذه اللذات وما لها من آلام الهيئات وعذاب النيران والحرمان. { ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم } أي شيء هو، أهذا الذي أنتم الآن فيه من النعيم الأخروي أم ذاك النعيم الدنيوي؟ أو لو تعلمون العلم اليقيني أيها المحجوبون بهذه الزخارف والخرافات لترون الجحيم من شدة الشوق واستيلاء نار العشق، ثم لترقون بذلك الشوق إلى رتبة عين اليقين والمشاهدة فترون حقيقة نار العشق عيانا، ثم لتسئلن بعد هذا الذوق عن النعيم الذي هو حق اليقين ما هو، أي: ثم لتجدن ذوق الوصول وأثر مرتبة حق اليقين فيمكنكم الإخبار عنها، والله تعالى أعلم.
[103 - سورة العصر]
[103.1-3]
أقسم بالعصر أي: بامتداد بقاء الزمان وما فيه وما يحدث معه بمبدعه وعلته الذي هو الدهر. الناس يضيفون تغيرات الأمور والأحوال إليه ويجعلونه مؤثرا فيه عقولهم:
وما يهلكنآ إلا الدهر
[الجاثية، الآية:24]. والمؤثر بالحقيقة هو الله تعالى كما قال عليه السلام:
" لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر "
، تعظيما له لظهوره تعالى بصفاته وأفعاله في مظهره على أن المحجوب به عنه في خسر وهو الإنسان لخسارته برأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية من الاستعداد الأزلي باختيار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر وإضاعة الباقي في الفاني.
{ إلا الذين آمنوا } بالله الإيمان العلمي اليقيني وعرفوا أن لا مؤثر إلا الله وبرزوا عن حجاب الدهر { وعملوا الصالحات } الباقيات من الفضائل والخيرات، أي: اكتسبوها فربحوا بزيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم { وتواصوا بالحق } أي: الثابت الدائم الباقي على حاله أبدا من التوحيد والعدل، أي: التوحيد الذاتي والوصفي والفعلي فإنه الحق الثابت فحسب { وتواصوا بالصبر } معه وعليه عن كل ما سواه بالتمكين والاستقامة، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة في العبودية فأعز من الكبريت الأحمر والغراب الأبيض، فالفحوى أن نوع الإنسان في خسر إلا الكاملين في العلم والعمل، المكملين بهما. ويجوز أن يؤخذ العصر بمعنى المصدر من عصر يعصر أي: وعصر الله الإنسان بالبلاء والمجاهدة والرياضة حتى تصفو نقاوته، إن الإنسان الباقي مع الثفل الواقف مع حجاب البشرية في خسر إلا الذين اتصفوا بالعلم والعمل وتواصوا بالحق الثابت الذي هو الاعتقاد اليقيني اللازم للصفاوة الباقية بعد ذهاب الثفل وتواصوا بالصبر على العصر والانعصار بالبلاء والرياضة، ولهذا قال عليه السلام:
" البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل "
، وقال:
" البلاء سوط من سياط الله يسوق به عباده إليه ".
[104 - سورة الهمزة]
[104.1-3]
{ ويل لكل همزة لمزة } أي: الذي تعود بالرذيلتين وضري بهما، فإن هذه الصيغة للعادة. والهمز أي: الكسر من أعراض الناس، واللمز أي: الطعن فيهم، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها فينسب العيب والرذيلة إليهم ليظهر فضله عليهم ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة وأن عدم الرذيلة ليس بفضيلة، فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية. ثم أبدل منه الوصف برذيلة القوة الشهوانية بقوله: { الذي جمع مالا وعدده } وفي { عدده } إشارة أيضا إلى الجهل لأن الذي جعل المال عدة للنوائب لا يعلم أن نفس ذلك المال يجر إليه النوائب لاقتضاء حكمة الله تفريقه بالنائبات فكيف يدفعها وكذا في قوله: { أيحسب أن ماله أخلده } أي: لا يشعر أن المقتنيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنه مخدوع بطول الأمل مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل، والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية أصل جميع الرذائل ومستلزم لها فلا جرم أنه يستحق صاحبها المغمور فيها العذاب الأبدي المستولي على القلب المبطل لجوهره.
[104.4-9]
{ كلا } ردع عن حسبان وقوع الممتنع { لينبذن } أي: ليسقطن عن مرتبة فطرته إلى رتبة الطبيعة الغالبة وهي الحطمة التي عادتها كسر كل ما وقع في رتبتها باستيلاء قوتها عليه وهي النار الروحانية المنافية لجوهر القلب المؤلمة له إيلاما لا يوصف كنهه المستعلية عليه النافذة في أشرف وجهه وباطنه، وأعلاه الذي هو الفؤاد المتصل بالروح.
{ إنها عليهم مؤصدة } أي: مطبقة مغلقة الأبواب لاحتجاب القلب في محلها بالمواد الجسمانية واستحكام الهيئات المظلمة واللواحق الهيولانية والصور البهيمية والسبعية والشيطانية فيه، وامتناع تخلصه منها إلى عالم القدس { في عمد ممدة } من محيط فلك القمر إلى المركز وهي الطبائع العنصرية التي صار مربوطا بها بالتعلق وسلاسل الميل والمحبة، والله أعلم.
[105 - سورة الفيل]
[105.1-2]
{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } قصة أصحاب الفيل مشهورة وواقعتهم كانت قريبة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي إحدى آيات قدرة الله وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر، ومن اطلع على عالم القدرة وكشف له حجاب الحكمة عرف لمية أمثال هذه، وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة ابيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر وهي لا تقبل التأويل كأحوال القيامة وأمثالها. وأما التطبيق فاعلم أن أبرهة النفس الحبشية لما قصد تخريب كعبة القلب الذي هو بيت الله بالحقيقة والاستيلاء عليها وأراد أن يصرف حجاج القوى الروحانية إلى قلس الطبيعة الجسمانية التي بناها وأراد تعظيمها فخرأ فيها قرشي العاقلة العملية بإلقاء فضلة الغذاء العقلي فيها من صور التأديب المخصوص بالأمور الطبيعية كالعادات الجميلة والآداب المحمودة أوقع فيها شرارا من نار الشوق التي أوقدها عير قريش القوى الروحانية فأحرقها بالرياضة فساق جنوده وعبى جيوشه من جنس القوى النفسانية وصفاتها الظلمانية بالطبع كالغضب والشهوة وأمثال ذلك، وقدم فيل شيطان الوهم الذي لا ينهزم عن جنود العقل ويعارضه في الحرب والشيطان أكثر ما يتشكل يكون بصورة الفيل كما رآه معاذ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال عليه السلام:
" إن الشيطان ليضع خرطومه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس ".
[105.3-5]
جعل الله كيدهم في تضييع. { وأرسل عليهم } طيور الأفكار والأذكار بيضاء منورة بنور الروح { أبابيل } أي: خرابق جماعات كصور القياسات وكثرة الأذكار { ترميهم بحجارة من سجيل } أي: رياضة مما سجل وخص بكل واحد منهم كتب على كل واحد منها اسم المرمي بها بقلم الشرع والعقل وعين أن هذه الرياضة مزجرة للقوة الفلانية مهلكة لها كالانقهار والتسخر للغضب والصوم للشهوة والضعة للتكبر والذلة للتجبر وأمثال ذلك { فجعلهم } هلكى هامدة لا حراك بها { كعصف مأكول } أي: كقوى نباتية أميتت وذهبت قوتها وخاصيتها ووقفت عن فعلها لضعفها بالرياضة، والله تعالى أعلم.
[106 - سورة قريش]
[106.1-4]
{ لإيلاف قريش } القوى الروحانية وإيقاع مؤالفتها وموافقتها ومسالمتها في اكتساب الفضائل واتحادها في التوجه نحو الكمال في الرحلتين { رحلة الشتاء } وبعد شمس الروح عن سمت رؤوسهم والأوي إلى غور البدن وترتيب مصالح المعاش وإصلاح أحوال البدن والقيام بضرورياته وعمارته ورحلة صيف قرب تلك الشمس من سمت رؤوسهم والرقي إلى أنجاد عالم القدس والتلقي لروح اليقين.
{ فليعبدوا رب هذا البيت } بالتوحيد وتخصيص العبادة به والتوجه نحوه بعد معرفته { الذي أطعمهم } أطعمة المعاني اليقينية والمعارف الحقيقية والحقائق الإلهية { من جوع } داعية الاستعداد وتقاضي الفطرة في سنة الجهل البسيط { وآمنهم من خوف } استيلاء حبشة القوى النفسانية وتخطفهم إياهم ومنعهم عن الانقياد والسعي في تخريب الديار والأسر عن الاختيار والاستئصال بالدمار والبوار والله الموفق. والسورتان كانتا في مصحف أبي سورة واحدة وبعض كبار الصحابة قرأهما في ثانية المغرب معا والسلام.
[107 - سورة الماعون]
[107.1-3]
{ أرأيت الذي يكذب بالدين } أي: هل عرفت الجاهل المحجوب عن الجزاء من هوان لم تعرفه { فذلك } هو المرتكب جميع أصناف الرذائل، المنهمك فيها لأن الجهل والاحتجاب الذي هو رذيلة القوة النطقية أصل جميعها { الذي يدع اليتيم } يؤذي الضعيف ويدفعه بعنف وخشونة لاستيلاء النفس السبعية وإفراطها { ولا يحض } أهله { على طعام المسكين } ويمنع المعروف عن المستحق لاستيلاء النفس البهيمية وبمحبة المال واستحكام رذيلة البخل في نفسه.
[107.4-7]
{ فويل } لهم أي: للموصوفين بهذه الصفات الذين إن صلوا غفلوا عن صلاتهم لاحتجابهم عن حقيقتها بجهلهم وعدم حضورهم، والمصلين من باب وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب لعدم ما هي به معتبرة من الحضور والإخلاص. وأورد على صيغة الجمع لأن المراد بالذي يكذب هو الجنس.
{ الذين هم يراؤون } لاحتجابهم بالخلق عن الحق { ويمنعون الماعون } الذي يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به لكون الحجاب حاكما عليهم بالاستئثار بالمنافع وحرمانهم عن النظر التوحيدي واحتجابهم بالمطالب الجزئية عن الكلية وعدم اعتقادهم بالجزاء، فلا محبة لهم للحق للركون إلى عالم التضاد والهبوط إلى طبيعة الكون والفساد والاحتجاب عن حقيقة الاتحاد ولا عدالة في أنفسهم للاتصاف بالرذائل والبعد عن الفضائل ولا خوف ولا رجاء لغفلتهم عن الكمال والجهل بالمعاد فلا يعاونون أحدا فلن يفلحوا أبدا، والله أعلم.
[108 - سورة الكوثر]
[108.1-3]
{ إنا أعطيناك الكوثر } أي: معرفة الكثرة بالوحدة وعلم التوحيد التفصيلي وشهود الوحدة في عين الكثرة بتجلي الواحد الكثير والكثير الواحد وهو نهر في الجنة من شرب منه لم يظمأ أبدا { فصل لربك } أي: إذا شاهدت الواحد في عين الكثرة فصل بالاستقامة الصلاة التامة بشهود الروح وحضور القلب وانقياد النفس وطاعة البدن بالتقلب في هياكل العبادات فإنها الصلاة الكاملة الوافية بحقوق الجمع والتفصيل { وانحر } بدنة أنائيتك لئلا تظهر في شهودك بالتلوين وتسلبك مقام التمكين، وكن مع الحق بالفناء الصرف، باقيا ببقائه أبدا، فلا تكون أبتر في وصولك وحالك واتصال أمتك الذين هم ذريتك بك { إن } مبغضك الذي على خلاف حالك المنقطع عن الحق { هو الأبتر } لا أنت، فإنك الباقي ببقائه الدائم المتصل بك ذرياتك الحقيقية من أهل الإيمان أبد الآبدين المذكور فيهم دهر الداهرين وهو الفاني بالحقيقة الهالك الذي لا يوجد ولا يذكر ولا ينسب إليه ولد حقيقة، والله أعلم.
[109 - سورة الكافرون]
[109.1-6]
{ قل يا أيها الكافرون } الذين ستروا نور استعدادهم الأصلي بظلمة صفات النفوس وآثار الطبيعة، فحجبوا عن الحق بالغير { لا أعبد } أبدا وأنا شاهد للحق بالشهود الذاتي { ما تعبدون } من الآلهة المجعولة بهواكم، المصورة بخيالكم والممثلة المعينة بعقولكم لمكان حجابكم.
{ ولا أنتم عابدون } أبدا وأنتم أنتم أي: على حالكم وما أنتم عليه من احتجابكم { ما أعبد } لامتناع معرفة الحق من الذين طبع على قلوبهم بالرين { ولا أنا } قط { عابد } في الزمان الماضي قبل الكمال والوصول التام بحسب الاستعداد الأول والفطرة الأولى أي: الذات المجردة وحدها { ما عبدتم } فيه بحسب استعداداتكم الأولية قبل الاحتجاب والرين لكمال استعدادي في الأزل وتوجهه إلى الحق في الفطرة ونقصان استعداداتكم أزلا { ولا أنتم عابدون } بحسب ذلك الاستعداد { ما أعبد } أي: ولا يمكنكم عبادة معبودي بحسب الفطرة لنقصها الذاتي، والحاصل إن عبادتي معبودكم وعبادتكم معبودي على الحال التي نحن فيها من الاستعداد الثاني الذي هو كمالي واحتجابكم كلاهما محال في الحال والاستقبال، وكذا قبل هذا الاستعداد حال الاستعداد الأولي أيضا بحسب الذوات والأعيان أنفسها كان غير ممكن في الأزل لوفور استعدادي وقصور استعداداتكم، ومعناه: سلب الإمكان الاستقبالي والوصفي والذاتي والأزلي ليفيد ضرورة السلب الأزلية.
{ لكم دينكم } من عبادة معبوداتكم { ولي دين } من عبادة معبودي أي: لما لم يكن الوفاق بيننا تركتكم ودينكم فاتركوني وديني، والله أعلم.
[110 - سورة النصر]
[110.1-3]
{ إذا جاء نصر الله } أي:المدد الملكوتي والتأييد القدسي بتجليات الأسماء والصفات { والفتح } المطلق الذي لا فتح وراءه وهو فتح باب الحضرة الأحدية والكشف الذاتي بعد الفتح المبين في مقام الروح بالمشاهدة.
{ ورأيت الناس يدخلون في دين الله } أي: التوحيد والسلوك على الصراط المستقيم بتأثير نورك فيهم عند فراغك من تكميل نفسك { أفواجا } مجتمعين كأنهم نفس واحدة تستفيض من فيض ذاتك قائمة مقام نفسك وهم المستعدون الذين كانت بين نفسه عليه السلام وأنفسهم علاقة مناسبة ورابطة جنسية توجب اتصالهم به بقبول فيضه.
{ فسبح } أي: نزه ذاتك من الاحتجاب بمقام القلب الذي هو معدن النبوة بقطع علاقة البدن والترقي إلى مقام حق اليقين الذي هو معدن الولاية { بحمد ربك } أي: حامدا له بإظهار كمالاته وأوصافه التامة عند التجريد بالحمد الفعلي { واستغفره } واطلب ستره ذاتك بذاته كما كان حال الفناء قبل الرجوع إلى الخلق أبدا { إنه كان توابا } قابلا لرجوع من رجع إليه بإفنائه بنوره، ولما كمل الدين واستقرت دعوته التي كانت بعثته لأجلها أمره بالرجوع إلى مقام حق اليقين الذي لا يستمر إلا بعد الموت، ولذلك
" لما نزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشر الأصحاب وبكى ابن عباس فقال صلى الله عليه وسلم: " ما يبكيك؟ " قال: نعيت إليك نفسك! فقال عليه السلام: " لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا ".
" وروي أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله " ، فعلم أبو بكر رضي الله عنه فقال: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا ".
" وعنه أنه دعا فاطمة عليها السلام فقال: " يا بنتاه! نعيت إلي نفسي " فبكت فقال: " لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقا بي " ، فضحكت "
وتسمى هذه السورة (سورة التوديع)، وروي أنه عاش بعدها سنتين ونزلت في حجة الوداع.
[111 - سورة المسد]
[111.1-5]
{ تبت يدا أبي لهب وتب } أي: هلك ما هو سبب عمله الخبيث الذي استحق به الجهنمي الملازم لنار الهلاك وهلك ذاته الخبيثة لاستحقاقها بحسب استعدادها، أي: استحق النار بذاته وبوصفه نارا على نار ولذلك ذكره بكنيته الدالة على لزومه إياها { ما أغنى عنه ماله وما كسب } أي: ما نفعه ماله الأصلي من العلم الاستعدادي الفطري ولا مكسوبه لعدم مطابقة اعتقاده لما في نفس الأمر وكلاهما متعاونان في تعذيبه وما يجدي له أحدهما.
{ سيصلى نارا } عظيمة لاحتجابه بالشرك { ذات لهب } زائد على أصله لخبث أعماله وهيئاتها فيصلى بالاعتقاد الفاسد والعمل السيىء هو { وامرأته } متقارنين فيها { حمالة الحطب } أي: التي تحمل أوزار آثامها وهيئات أعمالها الخبيثة التي هي وقود نار جهنم وحطبها.
{ في جيدها حبل } قوي مما مسد، أي: فتل فتلا قويا من سلاسل النار لمحبتها الرذائل والفواحش فربطت هيئاتها وآثامها بذلك الحبل إلى عنقها تعذيبا لها بما يجانس خطاياها، والله اعلم.
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1]
{ قل هو الله أحد } قل، أمر من عين الجمع وارد على مظهر التفصيل هو عبارة عن الحقيقة الأحدية الصرفة أي: الذات من حيث هي بلا اعتبار صفة لا يعرفها إلا هو، والله بدل منه وهو اسم الذات مع جميع الصفات دال بالإبدال على أن صفاته تعالى ليست بزائدة على ذاته بل هي عين الذات لا فرق إلا بالاعتبار العقلي ولهذا سميت سورة (الإخلاص) لأن الإخلاص تمحيص الحقيقة الأحدية عن شائبة الكثرة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه " ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، وإياه عنى من قال: صفاته تعالى لا هو ولا غيره، أي: لا هو باعتبار العقل ولا غيره بحسب الحقيقة. وأحد: خبر المبتدأ، والفرق بين الأحد والواحد أن الأحد هو الذات وحدها بلا اعتبار كثرة فيها أي: الحقيقة المحضة التي هي منبع العين الكافوري بل العين الكافوري نفسه وهو الوجود من حيث هو وجود بلا قيد عموم وخصوص وشرط عروض ولا عروض، والواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات وهي الحضرة الأسمائية لكون الاسم هو الذات مع الصفة فعبر عن الحقيقة المحضة الغير المعلومة إلا له ب " هو " ، وأبدل عنها الذات مع جميع الصفات دلالة على أنها عين الذات وحدها في الحقيقة وأخبر عنها بالأحدية ليدل على أن الكثرة الاعتبارية ليست بشيء في الحقيقة وما أبطلت أحديته وما أثرت في وحدته، بل الحضرة الواحدية هي بعينها الحضرة الأحدية بحسب الحقيقة كتوهم القطرات في البحر مثلا.
[112.2-4]
{ الله الصمد } أي: الذات في الحضرة الواحدية بحسب اعتبار الأسماء هو السند المطلق لكل الأشياء لافتقار كل ممكن إليه وكونه به فهو الغني المطلق المحتاج إليه كل شيء كما قال:
والله الغني وأنتم الفقرآء
[محمد، الآية:38]. ولما كان كل ما سواه موجودا بوجوده ليس بشيء في نفسه لأن الإمكان اللازم للماهية لا يقتضي الوجود فلا يجانسه ولا يماثله شيء في الوجود.
{ لم يلد } إذ معلولاته ليست موجودة معه بل به فهي به هي وبنفسها ليست شيئا { ولم يولد } لصمديته المطلقة، فلم يكن محتاجا في الوجود إلى شيء ولما كانت هويته الأحدية غير قابلة للكثرة والانقسام ولم يمكن مقارنة الوحدة الذاتية لغيرها إذ ما عدا الوجود المطلق ليس إلا العدم المحض فلا يكافئه أحد. { ولم يكن له كفوا أحد } إذ لا يكافىء العدم الصرف الوجود المحض، ولهذا سميت سورة الأساس، إذ أساس الدين على التوحيد بل أساس الوجود. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد "
وهو معنى صمديته.
[113 - سورة الفلق]
[113.1-5]
{ قل أعوذ برب الفلق } أي: ألتجىء إلى الاسم الهادي وألوذ به بالاتصاف به والاتصال بروح القدس في الحضرة الأسمائية لأن الفلق هو نور الصبح المقدم على طلوع الشمس، أي: برب نور صبح تجلي الصفات الذي هو مقدمة طلوع نور الذات، ورب نور صبح الصفات هو الاسم الهادي وكذا معنى كل مستعيذ بربه من شر شيء فإنه يستعيذ بالاسم المخصوص بذلك الشيء كاستعاذة المريض مثلا بربه فإنه يستعيذ بالشافي، وكاستعاذة الجاهل من جهله بالعليم.
{ من شر ما خلق } أي: من شر الاحتجاب بالخلق وتأثيرهم فيه فإن من اتصل بعالم القدس في حضرة الأسماء واتصف بصفاته تعالى أثر في كل مخلوق ولم يتأثر من أحد لأنهم في عالم الآثار ومقام الأفعال وقد ارتقى هو عن مقام الأفعال إلى مباديها من الصفات. { ومن شر غاسق إذا وقب } أي: من شر الاحتجاب بالبدن المظلم إذا دخل ظلامه كل شيء واستولى وأثر بتغيرات أحواله وانحراف مزاجه في القلب لمحبة القلب له وميله إليه وانجذابه نحوه.
{ ومن شر النفاثات } أي: القوى النفسانية من الوهم والتخيل والغضب والشهوة ونحوها التي تنفث في عقد عزائم السالكين بإيهانها بالدواعي الشيطانية وحلها ونكثها بالوساوس والهواجس.
{ ومن شر حاسد إذا حسد } أي: النفس إذا حسدت تنور القلب فانتحلت صفاته ومعارفه باستراق السمع، فطغت وظهرت عليه وحجبته وذلك هو التلوين في مقام القلب. ويجوز أن يكون الغاسق هو النفس المستولية الحاجبة بظلمة صفاتها للقلب والحاسد هو القلب إذا ظهر في مقام الشهود، فإن تلوين مقام الشهود بوجود القلب كما أن تلوين مقام القلب بوجود النفس وتخصيص هذه الثلاثة بالاستعاذة منها بعد الاستعاذة من المخلوقات عموما إنما كان لأن أكثر الاحتجاب منها دون ما عداها من المخلوقات عموما لاتصالها به وتعلقه بها، والله تعالى أعلم.
[114 - سورة الناس]
[114.1-6]
{ قل أعوذ برب الناس } رب الناس هو الذات مع جميع الصفات لأن الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود ربه الذي أوجده وأفاض عليه كماله هو الذات باعتبار جميع الأسماء بحسب البداية المعبر عنها بالله، ولهذا قال تعالى :
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
[ص، الآية:75] بالمتقابلين من الصفات كاللطف والقهر والجمال والجلال الشاملين لجميعها تعوذ بوجهه بعدما تعوذ بصفاته ولهذا تأخرت هذه السورة عن المعوذة الأولى إذ فيها تعوذ في مقام الصفات باسمه الهادي فهداه إلى ذاته.
ثم بين رب الناس بملك الناس على أنه عطف بيان لأن الملك هو الذي يملك رقابهم وأمورهم باعتبار حال فنائهم فيه من قوله:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر، الآية:16] فالملك بالحقيقة هو الواحد القهار الذي قهر كل شيء بظهوره ثم عطف عليه { إله الناس } لبيان حال بقائهم بعد الفناء لأن الإله هو المعبود المطلق وذلك هو الذات مع جميع الصفات باعتبار النهاية. استعاذ بجنابه المطلق ففني فيه فظهر كونه ملكا ثم رده إلى الوجود لمقام العبودية فكان معبودا دائما فتم استعاذته به.
{ من شر الوسواس } لأن الوسوسة تقتضي محلا وجوديا كما قال: { الذي يوسوس في صدور الناس } ولا وجود في حال الفناء فلا صدور ولا وسواس ولا موسوس بل إن ظهر هناك تلوين بوجود الأنائية فقل: أعوذ بك منك، فلما صار معبودا بوجود العابد ظهر الشيطان بظهور العابد كما كان أولا موجودا بوجوده. والوسواس اسم للوسوسة سمي به الموسوس لدوام وسوسته كأن نفسه وسواس، وإنما استعاذ منه بالإله دون بعض أسمائه كما في السورة الأولى لأن الشيطان هو الذي يقابل الرحمن ويستولي على الصورة الجمعية الإنسانية ويظهر في صور جميع الأسماء ويتمثل بها إلا بالله، فلم تكف الاستعاذة منه بالهادي والعليم والقدير وغير ذلك فلهذا لما تعوذ من الاحتجاب والضلالة تعوذ برب الفلق وها هنا تعوذ برب الناس ومن هذا يفهم معنى قوله عليه السلام:
" من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي "
الخناس، أي: الرجاع لأنه لا يوسوس إلا مع الغفلة وكلما تنبه العبد وذكر الله خنس فالخنوس عادة له كالوسواس. عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، وإذا غفل وسوس إليه.
قوله: { من الجنة والناس } بيان للذي يوسوس، فإن الموسوس من الشيطان جنسان: جني غير محسوس كالوهم، وإنسي محسوس كالمضلين من أفراد الإنسان أما في صورة الهادي كقوله تعالى:
إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين
[الصافات، الآية:28] وأما في صورة غيره من صور الأسماء فلا يتم أيضا الاستعاذة منه إلا بالله، والله العاصم.
Bilinmeyen sayfa