الباب الثاني
في ذكر أجناس الموجودات وموضع الإنسان منها
إعلم أن الله تعالى هو الواجب الوجود الذي لا سبب لوجوده بل هو سبب كل موجود. وكلُّ موجود فمنه وبه تعالى وجوده. والموجودات ضربان: المعقولات العلوية والمحسوسات السفلية، وإيجاده تعالى للمعقولات العلوية قبل إيجاده للمحسوسات السفلية، كما رُوي أنه أول ما خلق الله تعالى القلم ثم اللوح، وقال: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة. وروي أنه أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل. فأقبل ثم قال له: أدبر. فأدبر فقال: بعزتي وجلالي ما خلقتُ خلقًا أكرمَ عليَّ منك بك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب وليس المراد بالعقل ههنا العقول البشرية بل الإشارة به إلى جوهر شريف عنه تنبعث العقول البشرية. وقال قوم: " العقل ههنا عبارة عن القلم المذكور في الخبر الآخر " والله أعلم.
ثم أوجد الله تعالى الروحانيات الذين لا يستكبرون عن عبادته
1 / 22
ولا يستحسرون، وإيجاد هذه الأشياء على سبيل الإبداع. والإبداع هو إيجاد الشيء لا عن شيءٍ موجود من قبل. ثم خلق الأركان الأربعة والجمادات والناميات والحيوانات، وختم بالصورة الإنسانية كما دل عليه النبي ﷺ بقوله: " خلق الله تعالى يوم الأحد كذا ويوم الاثنين كذا إلى أن قال خلق الإنسان يوم الجمعة آخر نهار ". والخلق في أكثر الأحوال يقال في إيجاد الشيءِ من الشيءِ قبله كخلق الإنسان من التراب، ويقتضي تركيبًا ولذلك قال اله تعالى: (ومن كل شيءٍ خَلَقنا زوجين لعلكم تذكَّرون) . وإلى الأشياء المركَّبة أشار بقوله تعالى: (أو لم يروا إلى الأَرضِ كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) . واعلم أن كل شيءٍ من المبدعات فتامٌّ لا نقص فيه، ولو كان فيه نقص لدل ذلك على نقصان مبدعه وصانعه، فأَما المخلوق الذي هو مركب من شيء فقد يحتمل أن يكون فيه نقص ويكون نقصه عارضًا من جهة ما تركب منه لا من جهة مركِبه وفاعله، فلهذا صارت المبدعات من الأشياء العلوية معرّاة عن اعتراض الفساد فيها حالًا فحالًا، بل تبقى على حالتها إلى أن يشاء الله تعالى أن يرفع العالم.
والإنسان إنسانان: أحدهما آدم الذي هو أبو البشر، ويجري هو من سائر الناس مجرى البَذر الذي منه أنشئ غيره، والباري تعالى قد تولى بنفسه إيجاده وتربيته وتعليمه كما نبَّه عليه بقوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ) . وقوله تعالى: (وَعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها) والثاني بنوه وموجدهم أيضًا الباري تعالى، ولكن جعل
1 / 23
انشاءَهم وتربيتهم وتعليمهم بوسائط جسمانية وروحانية، فالجسماني كالأبوين والروحاني كالملائكة المدّبرات والمقسّمات الذين يتولون انشاءَه وتربيته، كما روي في الخبر: الولد يكون أربعين يومًا نطفةً، ثم يصير علقة، ثم يصير مضغة، ثم يبعث الله ملكًا فينفخ فيه الروح، إلى غير ذلك من الأخبار. ولكون الأبوين سببًا في وجود الولد عظَّم الله تعالى حقهما وألزم بعد شكره شكرهما فقال: (اشكر لي ولوالديك) . ويسمى الولد ابنًا وهو مشتق من بنيتُ البنية تنبيهًا على أنه جار للأب مجرى البناءِ للباني.
1 / 24
الباب الثالث
في ذكر العناصر التي منها أُوجد الإنسان
ذكر الله تعالى العناصر التي خلق منها آدم ﵇، ونبَّه على أنه جعله إنسانًا في سبع درجات. وأشار إلى ذلك في مواضع مختلفة حسب ما اقتضته الحكمة، فقال في موضعٍ خَلَقَه من تراب إشارةً إلى المبدأ الأول. وفي آخر من طين إشارة إلى الجمع بين التراب والماء. وفي آخر من حمإٍ مسنون إشارة إلى الطين المتغير بالهواء أدنى تغير. وفي آخر من طين لازب إشارة إلى الطين المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول الصورة. وفي آخر من صلصال من حمإٍ مسنون إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه، وفي آخر من صلصال كالفخار، وهو الذي قد أُصلح بأَثر من النار فصار كالزخرف، وبهذه القوة النارية حصل في الإنسان أثر من الشيطنة وعلى هذا المعنى دلَّ بقوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخَّار وخلق الجانَّ من مارج من نار) . فنبه على أن الإنسان فيه من القوة الشيطانية بقدر ما في الفخار من أثر النار وأن الشيطان ذاته من المارج الذي لا استقرار
1 / 25
له. ثم نبه الله على تكميل الإنسان بنفخ الروح فيه فقال: (إني خالق بشرًا من طين فإذا سوَّيتُه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) . فهذه سبع درجات نبه عليها كما ترى. ثم دلَّ على تكميل نفسه بالعلوم والآداب بقوله تعالى: (وعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها) ثم ذكر خلق بني آدم وعناصرهم التي أوجدها حالةً بعد حالة، فنبه على أنه جعلهم أناسًا في سبع درجات حسب ما جعل آدم ﵇ فقال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأْناه خَلْقًا آخرَ أشار به إلى ما جعل من له من قوة العقل والفكر والنطق. فإن قيل فلم قال فكسونا العظام لحمًا ولم يقل فخلقنا منه لحمًا كما قال في الأول. قيل إشارة منه تعالى إلى لطيفة من صنعه وهو أن النطفة انتهت إلى صورة العظم، ثم أنشأ الله اللحم إنشاءًا آخر لا من النطفة، وأجراها مجرى الكسوة التي قد يخلعها الإنسان ويجدّدُها، ولذلك إذا قطع من الحيوان لحمٌ عاد ولم يكن كالعظم الذي لا يعود بعد قطعه فإن قيل كيف حكُم على جميع الناس أنه خلقهم من سلالة من طين والمخلوق منها هو آدم دون أولاده. قيل أن ذلك على وجهين: أحدهما أنه لما خلق آدم من دون أولاده. قيل أن ذلك على وجهين: أجدهما أنه لما خلق آدم من سلالة من طين فأولاده الذين منه هو أيضًا منها. والثاني أن الإنسان يتكوَّن من النطفة ويتربى بدم الطمث، وهما يتكوَّنان من الغذاءِ
1 / 26
والغذاءُ يتكوَّن من الحيوان، والحيوان من النبات، والنبات من سلالة من طين، فإذًا الإنسان على الحقيقة من سلالة من طين، وعلى هذا نبَّه الله تعالى بقوله: (إِنا صببنا الماءَ صبًّا ثم شققنا الأرض شقًّا فأنبتنا فيها حبًا وعنبًا وقضبًا) . وقوله: (خلقكم من تراب ثم من نطفة) . فجعله الله تعالى من تراب على هذا الوجه. وقال: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشرٌ تنتشرون) .
وفي آخر: (خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماءٍ مهين) . وعني بالإنسان ههنا آدم ولذلك قال: ثم جعل نسله. فاقتصر ههنا على النطفة دون المبدأ الأول الذي هو التراب. وإنما ذكر هذه المبادئ متفرقةً لحكمةٍ اقتضت تخصيص ذكر كل واحد من ذلك في موضعه مما يليق بهذا الكتاب.
1 / 27
الباب الرابع
في ذكر قوى الأشياء التي جمعت في الإنسان
الإنسان قد جمع فيه قوى العالم، وأوجد بعد وجود الأشياء التي جمعت فيه، وعلى هذا نبه الله تعالى بقوله: (الذي أحسن كل شيءٍ خَلْقَه وبدأَ خَلق الإنسان من طين) . وقول النبي ﷺ الذي تقدم ذكره. وقد جمع الله تعالى في الإنسان قوى بسائط العالم ومركباته وروحانياته وجسمانياته ومبدعاته ومكوّناته. فالإنسان من حيث أنه بوساطة العالم حصل ومن أركانه وقواه أوجد هو العالم. ومن حيث أنه صغُر شكله وجمع فيه قواه كالمختصر من العالم فإن المختصر من الكتاب هو الذي قُلّل لفظه، وأستوفي معناه. والإنسان هكذا هو إذا اعتبر بالعالم. ومن حيث أنه جعل من صفوة العالم ولبابه وخلاصته وثمرته، فهو كالزُبْد من المخيض والدهن من السمسم، فما من شيءٍ إلا والإنسان يشبهه من وجه، فإنه كالأركان من حيث ما فيه من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وكالمعادن من حيث ما هو
1 / 28
جسم، وكالنبات من حيث ما يتغذى ويتربى، وكالبهيمة من حيث ما يحس ويتوهم ويتخيل ويلتذ ويتألم، وكالسبع من حيث ما يحرض ويغضب، وكالشيطان من حيث ما يغوي ويضل، وكالملائكة من حيث ما يعرف الله تعالى ويعبده ويخلفه، وكاللوح المحفوظ من حيث قد جعله الله مجمع الحكم التي كتبها فيه على الاختصار - فقد ذكر بعض الحكماء في بدن الإنسان أربعة آلاف حكمة، وفي نفسه قريبًا من ذلك. وكالقلم من حيث ما يثبت بكلامه صور الأشياء في قلوب الناس كما أن القلم يثبت الحكم في اللوح المحفوظ. ولكون الإنسان من قوى مختلفة قال الله تعالى: (اناّ خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) أي مختلطة من قوى أشياء مختلفة. ولكون العالم والإنسان متشابهين إذا اعتبر قيل الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير ولذلك قال الله تعالى: (ما خَلْقكم ولا بعثكم الاّ كنفس واحدة) . فأشار بالنفس الواحدة إلى ذات العالم. ولما كان كل مركب من أشياء مختلفة يحصل باجتماعهنَّ معنى ليس بموجود فيهن على انفرادهن كالمركبّات من الأدوية والأطعمة، كذلك في نفس الإنسان حصل معنى ليس فس شيءٍ من موجودات العالم، وذلك المعنى هو ما يختص به من خصائصه التي بها تميَّز عن غيره من هيئات له، كانتصاب القامة وعرض الظُّفر، وانفعالات له كالضحك والحياء، وأفعال كتصور المعقولات وتعلم الصناعات واكتساب الأخلاق.
1 / 29
الباب الخامس
في تكوين الإنسان شيئًا فشيئًا حتى يصير إنسانًا كاملًا الإنسان يكون أولًا جمادًا ميتًا قال الله تعالى: (وكنتم أمواتًا فأحياكم) وذلك حيث كان ترابًا وطينًا وصلصالًا ونحوها. ثم يصير نباتًا ناميًا كما قال الله تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتًا) وذلك حيث ما كان نطفة وعلقة ومضغة ونحوها. ثم يصير حيوانًا وذلك حيث ما يتبع بطبعه بعض ما ينفعه ويحترز من بعض ما يضره. ثم يصير إنسانًا مختصًا بالأفعال الإنسانية وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع نحو قوله: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة) . وقوله: (أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوَّاك رجلًا) . فأول ما يظهر فيه قوة النزاع الموجودة في النبات والحيوان، ثم قوة تناول الموافق ودفع المخالف، ثم الحس ثم التخيل ثم التصور ثم التفكر ثم العقل، فهو لم يصر إنسانًا إلاّ بالفكر والعقل
1 / 30
الذي يميز بين الخير والشر والجميل والقبيح. وإلى العقل أشار الله تعالى بقوله: (وصوَّركم فأحسن صوَرَكم) . فالإنسان بعقله صار معدن العلم ومركز الحكمة. ووجود العقل فيه إبتداء الأمر بالقوة كوجود النار في الحجر المحتاج في أن يري إلى الاقتداح، وكوجود النخل في النوى المحتاجة في أن تثمر إلى غرس وسقي. وكوجود الماء تحت الأرض المحتاجة في الاستقاءِ منه إلى حفره ونفس الإنسان واقعة بين قوتين: قوة الشهوة وقوة العقل، فبقوة الشهوة يحرص على تناول اللذات البدنية البهيمية كالغذاء والسفاد والتغالب وسائر اللذات العاجلة، وبقوة العقل يحرص على تناول العلوم والأفعال الجميلة والأمور المحمودة العاقبة، وإلى هاتين القوتين أشار الله تعالى بقوله: (إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورا) . وبقوله: (وهديناه النَّجْدَين) .
ولما كان من جبلة الإنسان أن يتحرى ما فيه اللذة، وكانت اللذات على ضربين: أحدهما محسوس كلذة المذوقات والملموسات والمشمومات والمسموعات والمبصرات وهي من توابع الشهوة الحيوانية، والثاني معقول كلذة العلم وتعاطي الخير وفعل الجميل. واللذات المحسوسة أغلب علينا لكونها أقدم وجودًا فينا، لأنها توجد في الإنسان قبل أن يولد، وهي ضرورية في الوقت ولذلك قال الله تعالى: (يحبون العاجلة ويذرون الآخرة) ولذلك يكره أكثر الناس ما يأمر به العقل ويميل إلى ما يأمر به الهوى حتى قيل: " العقل
1 / 31
صديق مقطوع والهوى عدوّ متبوع ". ولذلك قال النبي ﷺ " حُفَّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " ولذلك يحتاج الإنسان أن يقاد في بدءِ أمره إلى مصالحه بضرب من القهر حتى قال ﷺ: " يا عجبًا لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ". فحقُّ الإنسان أن يجاهد هواه إلى أن يقتحم العقبة فيتخلص حينئذٍ من أذاه.
وللنفس نظران: نظرٌ إلى فوق نحو العقل، ومنه تستمد المعارف، وتميز بين المحاسن والقبائح، فتعرف كيف تتحرى المحاسن وتتجنب القبائح. ونظرٌ إلى تحت نحو الهوى، وبه تنسى الحقائق وتألف الخسيسات بل القاذورات. والنفس متى كانت شريفة أَدامت النظر إلى فوق كما ذكرنا، ولا تنظر إلى ما دونها إلا عند الضرورة، ولا تتناول اللذات البدنية إلا بحسب ما يرسمه العقل المستمد من الشرع، أو إذا كانت دنيَّة أكثرت الميل إلى الشهوات البدنية، فيحدث ذلك لها إذعانًا وانقيادًا لللشهوات فيستعبدها الهوى كما قال الله تعالى: (أَفرأَيْتَ مَن اتخذ إلهه هواه وأَضلَّه الله على علْم) وإنما أضله بعد أن اتخذ إلهه هواه وجعله عبدًا لأغراض دنيوية كما قال النبي ﷺ: " تعس عبد الدرهم ". الخبر. ومن هذه العبودية استعاذ إبراهيم الخليل ﵇ حيث قال: (واجْنُبني وبَنيَّ أَن نعبد الأصنام) .
1 / 32
الباب السادس
في ظهور الإنسان في شعار الموجودات وتخصيصه بقوة شيء فشيء منها ذات الإنسان من حيث ما اجتمع فيه قوى الموجودات صار وعاء معاني العالم وطينة صوره ومعدن آثاره ومجمع حقائقه، وكأنه مركب من جمادات ونباتات وبهائم وسباع وشياطين وملائكة، ولذلك قد يظهر في شعار كل واحد من ذلك فيجري تارة مجرى الجمادات في الكسل وقلة التحرك والإنبعاث، وعلى هذا نبه الله تعالى بقوله: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوة) وقد يظهر في شعار النباتات الحميدة أو الذميمة فيصير إِما كالأُترج الذي يطيب حمله ونَوْره وعوده وورقه أو كالنخل والكرم فيما يؤتي من النفع، أو كالكشوث في عدم الخير، أو
1 / 33
كالحنظل في خبث المذاق، وعلى هذا نبه الله تعالى بقوله: (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجْتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار) . ويظهر تارة في شعار الحيوانات المحمودة والمذمومة، فيصير أما كالنحل في كثرة منافعه وقلة مضاره وفي حسن سياسته. قال الله تعالى: (وأَوحى ربك إلى النحل أَن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون) أو كالطير المسمى بأبي الوفا، أو كالخنزير في الشره، أو كالذئب في العيث، أو كالكلب في الحرص، أو كالنمل في الجمع، أو كالفأر في السرقة، أو كالثعلب في المراوغة، أو كالقرد في المحاكاة، أو كالحمار في البلادة، أو كالثور في الفظاظة، وعلى هذا النحو من المشابهات دلَّ الله بقوله: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أُمم أمثالكم ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ ثم إلى ربهم يحشرون) ويظهر تارة في شعار الشياطين فيغوي ويضل ويسول بالباطل في صورة الحق كما دل الله تعالى بقوله: (شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) وإنما يكون إنسانًا إذا وضع كل واحد من هذه الأشياء في موضعه حسب ما يقتضيه العقل المرتضي المستبصر بنور الشرع.
1 / 34
الباب السابع
في ماهية الإنسان
ماهية كل شيءٍ تحصل بصورته التي يتميز بها عن أغياره، كصورة السكين والسيف والمنجل ونحوها. ولما كان الإنسان جزئين بدن محسوس وروح معقول كما نبه الله تعالى عليه بقوله: (إني خالق بشرًا من طين فإذا سوَّيته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين) كان له بحسب كل واحد من الجزئين صورة، فصورته المحسوسة البدنية انتصاب القامة وعرض الظفر وتعري البشرة عن الشعر والضحك. وصورته المعقولة الروحانية العقل والفكر والرويّة والنطق. قالوا فالإنسان هو الحيوان الناطق، ولم يعنوا بالناطق اللفظ المعبر به فقط، بل عنوا به المعاني المختصة بالإنسان فعبروا عن كل ذلك بالنطق فقد يعبر عن جملة الشيء بأخص ما فيه أو بأشرفه أو بأوله، كقولك سورة الرحمن وسورة يوسف وسورة لإيلاف ونحو ذلك، فالإنسان يقال على ضربين عام وخاص فالعام أن يقال لكل منتصب القامة مختص بقوة الفكر واستفادة العلم، والخاص أن يقال
1 / 35
لمن عرف الحق فاعتقده والخير فعمله بحسب وسعه، وهذا معنى يتفاضل فيه الناس ويتفاوتون فيه تفاوتًا بعيدًا، وبحسب تحصيله يستحق الإنسانية وهي تعاطي الفعل المختص بالإنسان فيقال فلان أكثر إنسانية. وكما يقال الإنسان على وجهين يقال له الحيوان الناطق على وجهين عام ويراد به مَنْ في قوة نوعه استفادة الحق والخير، كقولك الإنسان هو الكاتب دون الفرس والحمار، أي هو الذي في قوته استفادة الكتابة. وكذا يقال له عبد الله على وجهين: عام ويراد به الحيوان المتعرض لارتسام أوامر الله ارتسم أو لم يرتسم وهو المشار إليه بقوله تعالى: (إِن كل من في السموات والأرض الاّ آتي الرحمن عبدًا) وخاصٌّ وهو المرتسم لأوامر الله تعالى كما قال سبحانه: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وكذا يقال له حيٌّ وسميع وبصير ومتكلم وعاقل كل ذلك على وجهين: يقال عامًا وهو لمن له الحياة الحيوانية التي بها الحس والتخيل والنزوع والشهوة ولمن سمع الأصوات ولمن يدرك الألوان، ولمن يُفهم الكافة بما يريده، ولمن له القوة التي يتبعها التكليف، والثاني يقال له خاصًا وهو لمن له الحياة التي هي العلم المقصود بقول الله تعالى: (لِيُنْذِر مَن كان حيًا) وله السمع الذي به يسمع حقائق المعقولات، والبصيرة التي بها يدرك الاعتبارات، واللسان الذي به يورد التحقيقات، وهي التي نفاها عن الجهلة الكفرة في قوله تعالى: (صمٌّ بكمٌّ عميٌ فهم لا يعقلون) .
1 / 36
الباب الثامن
في كون الإنسان مستصلحًا للدارين الإنسان من بين الموجودات مخلوق خلقة تصلح للدارين، وذلك أن الله تعالى قد أوجد ثلاثة أنواع من الأحياء، نوعًا لدار الدنيا وهي الحيوانات، ونعًا للدار الآخرة وهو الملأ الأعلى، ونوعًا للدارين وهو الإنسان، فالإنسان واسطة بين جوهرين وضيع وهو الحيوانات، ورفيع وهو الملائكة، فجمع فيه قوى العالمين وجعله كالحيوانات في الشهوة البدنية والغذاء والتناسل والمهارشة والمنازعة وغير ذلك من أوصاف الحيوانات. وكالملائكة في العقل والعلم وعبادة الرب والصدق والوفاءِ، ونحو ذلك من الأخلاق الشريفة ووجه الحكمة في ذلك أنه تعالى لما رشحه لعبادته وخلافته وعمارة أرضه وهيأه مع ذلك لمجاورته في جنته اقتضت الحكمة أن يجمع له القوتين، فإنه لو خُلق كالبهيمة معرىّ عن العقل لما صلح لعبادة الله تعالى وخلافته، كما لم يصلح لذلك البهائم ولا لمجاورته ودخول جنته.
1 / 37
ولو خلق كالملائكة معرىّ عن الحاجة البدنية لم يصلح لعمارة أرضه كما لم يصلح لذلك الملائكة حيث قال تعالى في جوابهم: (إِني أعلمُ ما لا تعلمون) فاقتضت الحكمة الإلهية أن تجمع له القوتان، وفي اعتبار هذه الجملة تنبيه على أن الإنسان دنيويٌّ وآخرويٌّ، وأنه لم يُخلق عبثًا كما نبه الله عليه بقوله: (أَفحسبتم أَنما خلقناكم عبثًا وأَنكم إلينا لا ترجعون) .
1 / 38
الباب التاسع
في تمثيل ذات الإنسان وتصويره
قد ذكر الحكماء لذات الإنسان وقواها مثالًا صوَّرها بها، فيتمثل كل ما لا يدرك إلا بالعقل بتصور الحس ليقرب من الفهم، فقالوا: ذات الإنسان لما كان عالمًا صغيرًا كما تقدم جرى مجرى بلد أحكم بناؤه، وشيد بنيانه، وحُصّن سوره، وخُطَّت شوارعه، وقسمت محاله وعُمرت بالسكان دوره، وسلكت سبله،، اجريت أنهاره، وفتحت أسواقه، واستعملت صناعه، وجعل فيه ملك مدبر، وللملك وزير وصاحب بريد وأصحاب أخبار وخازن وترجمان وكاتب وفي البلد أخيار وأشرار. فصناعها هي القوى السبعة التي يقال لها الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والنامية والغاذية والمصورة والملك العقل ومنبعه من القلب. والوزير القوة المفكرة ومسكنها وسط الدماغ. وصاحب البريد القوة المتخيلة ومسكنها مقدم الدماغ. وأصحاب الأخبار الحواس الخمس ومسكنها الأعضاء
1 / 39
الخمسة. والخازن القوة الحافظة ومسكنها الدماغ. والترجمان القوة الناطقة وآلتها اللسان. والكاتب القوة الكاتبة وآلتها اليد، وسكانها الأخيار والأشرار هي القوى التي منها الأخلاق الجميلة والأخلاق القبيحة، وكما أن الوالي إذا تزكى وساس الناس بسياسة الله صار ظل الله في الأرض كما روي أن النبي ﷺ قال: " السلطان ظل الله في الأرض ويجب على الكافة طاعته " كما قال الله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) كذلك متى جُعل العقل سائسًا وجب على سائر قوى النفس أن تطيعه. وكما أن الله تعالى جعل الناس متفاوتين كما نبه الله تعالى عليه بقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا) . كذلك جعل قوى النفس متفاوتة وجعل من حق كل واحدة أن تكون داخلة في سلطان ما فوقها ومتأمرة على ما دونها. فحق القوة الشهوانية أن تكون مؤتمرة للقوة العاقلة، وحق القوة العاقلة أن تكون مستضيئة بنور الشرع ومؤتمرة لمراسمه، حتى تصير هذه القوى متظاهرة غير متعادية كما قال الله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ إخوانًا على سُرُرٍ متقابلين) . وكما لا ينفك أشرار العالم من أن يطلبوا في العالم الفساد ويعادوا الأخيار كما قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الأنس والجن) . كذلك في نفس الإنسان قوى رديئة من الهوى والشهوة والحسد تطلب الفساد وتعادي العقل والفكر. وكما نبه أنه يجب للوالي أن يتبع الحق ولا
1 / 40
يُصغي إلى الأشرار ولا يعتمدهم كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم..) . وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) . وقال: (وأَن احكم بينهم بما أَنزل الله ولا تَتَّبعْ أهواءهم واحذَرْهم أَن يفتنوك) . كذلك يجب للعقل والفكر أن لا يعتمد القوى الذميمة.
وكما أنه يجب للوالي أن يجاهد اعداء المسلمين كما قال تعالى: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوَّ الله وعدوكم) . وكذلك يجب للعقل أن يعادي الهوى فإن الهوى من اعداء الله بدلالة قول النبي ﷺ: " ما في الأرض معبود ابغض الى الله من الهوى " ثم تلا (أفرأيت من أتخذ آلهة هواه) وكما أن من استحوذ عليه الشيطان انساه ذكر الله، وكذلك العقل إذا استحوذ عليه الهوى. كما أنه يجب للوالي أن يسالم اعاديه إذا لم يقو عليهم كما قال الله تعالى: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) وان لا يركن اليهم وان سالمهم كما قال الله تعالى: (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار) كذلك يجب للعقل ان يسالم الاشرار من قوى النفس اذا عجز عنها وان لا يركن اليها.
وكما ان الوالي اذا احس بقوة احتاج الى ان يعدل الى نقض العهد واظهار المعاداة كما قال الله تعالى: (فإذا انسلخ الاشهر الحرُمُ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخُذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلَّ مرصد) . كذلك حق العقل اذا قوي على قوى النفس ان لا يداهنها. وكما ان شياطين الانس والجن يضعف كيدهم على من
1 / 41