والخمص مصدر خمصه الجوع: أضمره. وخمص البطن - مثلث الميم-أي خلا والخيوطة - بالتاء- كالخيوط، والأخياط: جمع خيط. والماري: كساء صغير لخطوط مرسلة، وإزار الساقي من الصوف المخطط. وتغار: يحكم فتلها. ف "الحوايا" مفعول "أطوي" أي: أشد الأمعاء على جوعها فتنطوي كما انطوت خيوط الكساء، والإزار الماري في حال كونها تفتل ويحكم فتلها، وانطواء الخيوط في حالة الغزل على المغزل في غاية الانضمام والتداخل. فيستفاد من تشبيه طي الأمعاء به شدة جوعها، وفرط خلائها من الغذاء والرطوبات، واستيلاء اليبس عليها، فتضمر وتنضم ولا كانضمام الخيوط عند إحكام الفتل.
وأغدو إلى القوت الزهيد كما غدا ... أزل تهاداه التنائف أطحل
القوت: ما يمسك الرمق. والزهيد: القليل والضيق، أو المرغوب عنه، بمعنى المزهود فيه، المحتقر. فهذا يناسب قوله: "وأستف ترب الأرض. . . البيت" والأزل: الذئب القليل لحم الألية، وخصه لأن ذلك أشد لوثوبه وسرعة سيره. والأطحل: ذو الطحلة-بالضم-وهي لون بين الغبرة والبياض والتنائف، جمع تنوفة وهي المفازة. وهل وزن التنوفة "فعولة" أو "تفعلة"؟ خلاف ذكرناه في "فرائد التبيان في شرح قلائد العقيان" "وتهاداه": أصله تتهاداه بتاءين مضارع "تهادته" أي أهده بعضها إلى البعض. وهو استعارة لخروجه من بعضها إلى ما يليه في سيره لطلب قوته، وهذه الاستعارة تسمى تبعية لأنها في الفعل، وسميت بذلك لكونها بالتبع لمصدر الفعل، بمعنى أن المصدر محل التشبيه الذي انبنت عليه الاستعارة، فجرى أولا ذلك في المصدر، ثم تبعه في الفعل.
ومعنى البيت: وأسير غدوة مثلا إلى محل القوت المزهود فيه فرارا من الذم سيرا حثيثا شبيها بسير الذئب القليل لحم العجز، المغبر اللون إلى قوته في ذلك الوقت في حال كونه تتهاداه المفاوز، وتتدفعه أولاها إلى ما يليه وهكذا.
وغدو الذئب في طلب قوته بالغ الغاية في الإبعاد والسرعة، لاسيما إذا كان أزل. فتشبيه غدوه بغدو الذئب لبيان حاله في الغدو في طلب القوت الذي ينجيه من المقت المحقق، لشدة اجتنابه من الذم. فمضمون هذا البيت، والذي قبله، الاحتجاج على ما ادعاه فيما قبلهما من اجتناب المذمات وأنفته من الدنيات.
ثم أخذ يشرح أحوال الذئب في سيره على القوت ليتعلم منها حاله هو في الطلب لكونها مثلها، فقال:
غدا طاويا يعارض الريح حافيا ... يخوت بأذناب الشعاب ويعسل.
الطاوي: الذي طوى يطوي: أي لم يأكل شيئًا متعمدًا لذلك والمعارضة: المباراة. ويخوت-بالخاء المعجمة-يسرع هنا، من خوت البازي والعقاب: أي انقضاضهما، هو أسرع ما يكون. وأذناب الشعاب: أسافلها، وعسلان الذئب، كعسله: خببه في مشيته.
فجملة "غدا" استئنافية لا محل لها - لأجل ذلك - من الإعراب، ويجب فصلها عن التي قبلها المقتضية سؤالا يجاب عنه بالثانية، وبيان ذلك أن قوله: "كما غدا" اقتضى أن يقال: كيف غدا؟ فيقال: غدا طاويا، ولو تحقق السؤال لوجب فصل الجواب عنه، فكذلك يجب فصل الجواب عما يتضمن ذلك السؤال، ويسمى الفصل استئنافيًا كالجملة المستأنف بها.
والمعنى: غدا الذئب لطلب القوت في حال كونه جائعا، وهذه الحالة لازمة له، ولذلك يقولون: "رماه الله بداء الذئب"، أي الجوع، وغدا أيضًا حالة كونه يباري الريح في السرعة، وفي حال كونه ينحدر في أسافل الشعاب مسرعا كما ينقض البازي، وفي حال كونه يضطرب في مشيته من شدة السرعة. وواحد الشعاب، شعبة: وهي مسيل الماء إلى الوادي.
فلما لواه القوت من حيث أمه ... دعا فأجابته نظائر نحل.
لويت فلانا: مطلته بحقه وهو هنا استعارة لعدم وجدان الذئب القوت في المحل الذي أمه: أي قصده. ولما لم يجد ذلك عوى من خيبته في مطلبه فأجابته نظائر: أي؟ أشباه له، في حالة من الجوع ومن طلب القوت على الحال الذي وصف، ناحلة مهزولة من أجل ذلك.
مهللة شيب الوجوه كأنها ... قداح بكفي ياسر تتقلقل.
المهللة: التي تشبه الهلال، وهذا استعمال غريب مخل بفصاحة الكلمة، إذ لم يعهد استعمال "فعل" بالتشديد في التشبيه. ونظير "مهللة" هنا "مسرج" في قول العجاج:
وفاحمًا ومرسنًا مسرجًا
1 / 7