قوله: "فألحقت" الفاء للترتيب الذكري، لأن إلحاق أولى الخرق بأخراه نفس قطعه لا غيره، رتب عليه، وعطفه عليه لتفصيله إجمال القطع، لأن في إلحاق الأولى بالأخرى تنصيصا على أنه استوعب بالسير، ولم يترك منه شيئا، والقطع له محتمل لغير ذلك من الاقتصار على معظمه مثلا، والله أعلم سبحانه.
والمعنى أنه فعل ما ذكر من إلحاق إحدى الغايتين بالأخرى في حال كونه مشرفا على رأس جبل، ربيئة، وفي حال كونه يجلس على أليتيه مرارا، وينتصب مرارا أخرى، قائما يقعي إذا خاف أن يفطن له ويعلم بمكانه، وينتصب إذا أمن من ذلك ليشرف على من تحته ليرصده للغارة، إن أمكنته فرصة انتهزها. ومن جملة أحواله في إشرافه على القنة ما قرره بقوله:
ترود الأراوي الصحم حولي كأنها ... عذارى عليهن الملاء المذيل.
ترود: أي تجيء وتذهب، وتقبل وتدبر في طلب ما تأكله. وواحد الأراوي: أروية وهي الشياه الجبلية. وإملاء، اسم جمع، وهي الريطة والملحفة. والمذيل: المطال. والصحم، جمع أصحم وصمحاء: وهو ما في لونه صحمة-بضم الصاد-أي صفرة تضرب إلى السواد.
والمعنى إن إيفاءه على القنة كما كان في حال إقعائه مرة ومثوله أخرى، كان أيضًا في حال رود شياه الجبل الصحم حوله.
والمقصود انه ارتقى إلى موضع من الجبل ليس فيه إلا الأروية فهي تجي وتذهب، غير مكترثة به لأمنها من أن تؤتى هنالك بمكروه، أو لأنها ألفته وأنست به فهي لذلك لا تنفر منه، وقد شبهها في حالة رودها حوله-بالأبكار اللائي لبست الملاحف المذيلة.
ويدل لما قلن له آنفًا من أن ترددها حوله سببه الإلف والأنس قوله:
ويركدن بلآصال حولي كأنني ... من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل.
فإنه صريح في ذلك. وركود الروية: ربوضها، أي بروكها ساكنة. والآصال، جمع أصيل: وهو العشي. والعصم، جمع اعصم، وعصماء: وهو ما في معاصمه بياض من الوعول والظباء. والأدفى الذي طال قرناه وانعطفا إلى ظهره حتى كادا يمسان عجزه. والأعقل: الذي تدانت رجلاه، والانتحاء: القصد. والكيح-بالكاف المكسورة فالياء فالحاء المهملة-: سفح الجبل وسنده.
فقوله: "كأنني من العصم" في محل نصب على الحال من الياء في "حولي". و"من العصم" حال من "أدفى"، وهو في الصل نعت له، فلما قدم عيه انتصب على الحال كغيره من نعوت النكرة المتقدم عليها. وأعقل ك "ينتحي الكيح" نعتان ل "أدفى".
والمعنى: أن الأروية-من فرط أنسهن بي-يرقدن فيما قرب مني عند العشي حتى أشبهت بمخالطتهن لي، وعدم استيحاشهن بمكاني، وعلا طال قرناه، وانعطفا إلى ناحية أليتيه في حال كونه من الأروية التي ابيضت معاصمها موصوفا بتداني الرجلين، ويقصد سفح الجبل.
جعل الله إليه قصدنا، وحصر في قصده مقاصدنا، آمين، والحمد لله أجل مقصود، وأعظم محمود، على تمام ما قصدنا من شرح "لامية العرب"، والشكر له على ما يسره من ذلك وسناه، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على أفصح العرب قاطبة، سيدنا محمد، الذي فصاحة كل فصيح من فصاحته راهبة، وعلى أله وأصحابه المقتبسين من فصاحته ما امتطوا إليه سنام البيان وغاربه، ووافق تمام تبيضه عشية الخميس لليال خلت من ربيع النبوي سنة اثنتي عشرة ومئة وألف. وكتب مؤلفه محمد بن قاسم ابن محمد بن عبد الواحد بين زاكور.
قال ﵀: بلغت المطالعة برسم التحرير، والحمد لله العلي الكبير، وفي يوم الخميس التالي لما قبله عرفنا الله خيره وخير ما بعده، ووقانا ضير ذلك آمين، وصلى الله وسلم على النبي محمد الآمين، وعلى أله وحبه، ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين، وكتب محمد بن قاسم بن محمد بن عبد الواحد ابن زاكور وكان الله له آمين ولجميع المؤمنين.
انتهى بحمد الله تعالى وحسن عونه وتوفيقه الجميل على يد كاتبه لنفسه، ثم لمن شاء الله من بعده، أحمد بن المؤلف المذكور صبيحة يوم الخميس من محرم الحرام مفتتح عام ثلاثة وعشرين ومئة وألف والحمد لله على ذلك، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
لامية العرب
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل.
فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل.
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول.
1 / 17