ذلك لأن التفكير المتعمق في مشكلات البيئة يبين أن هذه المشكلات يصعب حلها من جذورها ما دام الهدف من النشاط الاقتصادي هو التنافس على الربح، ففي ظل هدف كهذا تكون الحلول جزئية فقط، ولا يؤخذ بها إلا بقدر ما يمكن إدماجها في إطار اقتصاد السوق، أما إذا تعارضت مع هذا الاقتصاد فإنها تهمل. ولما كان هذا الاقتصاد ميالا بطبيعته إلى التوسع والوصول إلى الحدود القصوى الممكنة للإنتاج فإن الحلول الجذرية لمشكلات البيئة فيه تكاد تكون مستحيلة. وهكذا يرتبط موضوع البيئة بنوع القيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ويتضح أن إيجاد حل حقيقي يحفظ للإنسان توازن بيئته، يحتاج إلى تغيير أساسي في قيم المجتمع، لا تعود فيه مرتكزة على التنافس بل على التعاون والتعايش؛ أي إن المسألة ترتد في واقع الأمر إلى نوع الأنظمة التي يختارها الإنسان لمجتمعه. ومن هنا اعتقد البعض - عن حق في رأيي - أن مشكلات البيئة لا تجد حلولها الحقيقية إلا على مستوى عالمي شامل.
والواقع أن مسار العلاقة بين الإنسان والبيئة كان موازيا - إلى حد بعيد - للعلاقة بين الإنسان وناتج عمله؛ فقد تصور الإنسان في وقت ما أن ما ينتجه يفلت زمامه من يده، ويخضع لقوى مجهولة تسير في طريقها الخاص دون أن يستطيع أحد أن يوقفه أو يعيد توجيهه، وكان ينظر إلى التلوث الناجم عن هذا التقدم على أنه الضريبة الحتمية التي ينبغي أن يدفعها الإنسان كلما ازداد سيطرة على الطبيعة؛ أي إن ثمن التقدم العلمي والتكنولوجي هو إفساد البيئة الطبيعية التي يستظل بها الإنسان. ولكن التفكير بدأ يتجه في السنوات الأخيرة اتجاها مخالفا؛ هو أن قدرة الإنسان على فهم قوانين الطبيعة واستغلالها لصالحه لا ينبغي على الإطلاق أن تؤدي إلى تشويه الإنسان لبيئته الطبيعية؛ فالعلم والتكنولوجيا هما - قبل كل شيء - وسائل اصطنعها الإنسان لكي يبني لنفسه حياة أفضل؛ ومن ثم كان من الضروري توظيفها من أجل صيانة البيئة الطبيعية لا تلويثها.
ويمكن القول إن الوعي العالمي بمشكلات البيئة قد ظهر متأخرا، ولكنه نما بسرعة هائلة، بحيث أصبح الإنسان - بعد مضي سنوات قلائل - حريصا على دراسة تأثير أي نشاط يقوم به في بيئته الطبيعية، وأخذ يضع من القوانين ويتخذ من الاحتياطات ما يعتقد أنه كفيل بصيانة هذه البيئة من أخطار التدخل الزائد في توازنها الطبيعي. ولكن لا يمكن القول إننا اقتربنا من المرحلة التي نستطيع فيها التوفيق بين تحقيق التقدم الاقتصادي الواسع النطاق، والمحافظة على نقاء الطبيعة وضمان سعادة متكاملة للإنسان في عالم يتطلع إلى الإنتاج الوفير.
ولكن ما موقف المنطقة التي نعيش فيها من مشكلات البيئة؟ من الواضح أن هذه المشكلات قد ظهرت أصلا في بلاد صناعية متقدمة، والاهتمام الذي أبدي بها، والضجة التي أثيرت حولها، والاتجاه المفاجئ إلى دراستها علميا وتطبيقيا، إنما كان في هذه البلاد. ولما كانت بلادنا في عمومها مفتقرة إلى التصنيع الثقيل على نطاق واسع، فيبدو أن مشكلات البيئة لا تمسها مساسا مباشرا. كذلك فإن عملية استهلاك الموارد الطبيعية إلى حد الاستنفاد لم تحدث بعد في معظم بلاد العالم الثالث؛ ومن ثم فإن الخوف من أخطار النفايات الصناعية ليس له حتى الآن ما يبرره.
ومع ذلك فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن تقف بلادنا مكتوفة الأيدي حتى يجيء الوقت الذي تداهمها فيه أخطار التلوث أو انعدام التوازن البيئي؛ فمن الواجب أن نفيد من تجربة البلاد الأخرى التي سبقتنا في مجال التصنيع وفي التكنولوجيا الزراعية المتقدمة، ولنتذكر أن من أهم عوامل التلوث البيئي ازدحام المدن، وأن حركة الانتقال إلى حياة المدن تسير في بلاد العالم الثالث بسرعة وبغير تخطيط؛ مما يساعد على ظهور كثير من المشكلات المتعلقة بالبيئة.
وهنا ينبغي علينا أن نعود إلى الكلام عن جانب آخر من جوانب مشكلة البيئة أصبح في الآونة الأخيرة يشغل قدرا كبيرا من اهتمام المشتغلين بهذا الموضوع، وأعني به الجانب الجمالي للبيئة. فليست المشكلة الوحيدة المتعلقة بعلاقة الإنسان ببيئته الطبيعية هي المشكلة المادية الناجمة من تدخله الزائد في الطبيعة وسوء استخدامه لطاقاتها ومواردها، بل إن البيئة الجمالية بدورها ينبغي أن تكون موضوعا لاهتمامنا وعنايتنا. فالطفل الذي ينشأ في بيئة تتسم بالقبح، ولا يرى حوله مظهرا من مظاهر الجمال أو الذوق أو التناسق والانسجام، يكون قد افتقد عنصرا هاما من عناصر إنسانيته. وفي وسعنا أن نقول: إن هذا القبح يمكن أن ينتج عن الثراء المفرط، أو عن الفقر المدقع؛ ففي البلاد ذات الاقتصاد المتقدم والإنتاج الوفير، يكون السعي إلى الضخامة في البناء متعارضا - في أحيان كثيرة - مع البحث عن الجمال؛ وعند حدوث هذا التعارض فإن الطرف الذي يضحى به - في الغالب - هو الجمال. وهكذا فإن كثيرا من المدن الصناعية الكبرى - التي تنتج ثروات اقتصادية هائلة ويتعامل أهلها بأموال طائلة - تفتقر إلى الجمال الذي قد نجده بدرجة تفوقها بكثير في بلدة صغيرة بسيطة البناء متواضعة الموارد، ولكن القبح يوجد أيضا على الطرف الآخر في السلم الاقتصادي، وهو أمر طبيعي تماما؛ ففي البلاد الفقيرة لا يكون هناك مجال للاهتمام بالجمال، وحيث تسود الأزمات الاقتصادية ويتكدس الناس في بيوت متهالكة وتضيق الأرض بمن عليها لا تتوقع من أحد أن يحرص على وجود لمسات جمالية في البيئة، أو على ترك مساحات خضراء واسعة لتنقية الهواء وتنقية النفوس معا، ما دامت لقمة العيش هي الشغل الشاغل للجميع.
هذا العامل الجمالي يمثل العنصر الأهم من عناصر مشكلة البيئة في بلاد العالم الثالث، ومن حسن حظ كثير من هذه الدول أن لديها تراثا حضاريا عريقا ما زالت آثاره قائمة في أرجائها على نطاق واسع، وهذه الآثار - فضلا عن الطابع التقليدي العريق للعمران في هذه البلاد - يمكن أن تكون عنصرا أساسيا في المحافظة على الجانب الجمالي للبيئة، وما يستتبعه ذلك من إعلاء للجوانب المعنوية في حياة الإنسان. ومن هنا كان حرص الكثيرين على صيانة الآثار العريقة في البلاد الفقيرة؛ لكي يكون فيها تعويض عما تعجز هذه البلاد عن تحقيقه بمواردها الاقتصادية المحدودة.
غير أن ضرورات التنمية وإدخال الأساليب التكنولوجية الحديثة في الحياة كثيرا ما تتعارض مع الحرص على الطابع الجمالي التقليدي للبيئة في البلاد النامية. بل إنه ليبدو - في بعض الأحيان - أن أصوات أولئك «الزوار الأجانب» الذين ينصحون أهل هذه البلاد بالمحافظة على الطابع التقليدي لبيئتهم، وبعدم الانسياق وراء إغراءات الحياة العصرية، هي في حقيقتها دعوة (مقصودة أو صادرة عن نية حسنة) إلى أن تظل هذه البلاد «متحفا» أثريا يستمتع به المتفرجون وحدهم. وهكذا تبدو هذه النظرة «المتحفية» إلى البيئة - في بعض الأحيان - عائقا في وجه تطور المجتمع نحو الأخذ بأساليب التقدم الحديثة. وعلى أية حال فإن التحدي الحقيقي أمام بلادنا النامية - فيما يتعلق بالمشكلة التي نتحدث عنها ها هنا - هو في الوصول إلى الصيغة الملائمة التي توفق بين المحافظة على الهوية الأصيلة للبيئة من جهة، واللحاق بموكب التقدم العلمي والتكنولوجي من جهة أخرى. (2-3) مشكلة الموارد الطبيعية
لهذه المشكلة وجه نعرفه في بلادنا العربية حق المعرفة، هو الوجه المتعلق بأزمة الطاقة؛ فمصادر الطاقة - وعلى رأسها البترول - أصبحت في وقتنا الراهن موضوعا من أهم الموضوعات التي تبحثها المؤتمرات العلمية والتجمعات السياسية، والتي تتغير بسببها الاستراتيجيات وتتشكل الأحلاف وتنشب النزاعات وتحاك المؤامرات. والمشكلة التي يواجهها العالم - والتي أصبح على وعي تام بها في أيامنا هذه - هي أن مصادر الطاقة التقليدية - وخاصة البترول - محدودة، وأن التقدم التكنولوجي يدفع العالم رغما عنه إلى التوسع في استهلاكها؛ ومن ثم فإنه سيواجه في وقت غير بعيد بموقف يجد فيه بتروله قد نفد؛ فيعجز عن استغلال كافة موارده الطبيعية الأخرى.
على أن الأمر المؤكد هو أن العلم لا يقف مكتوف الأيدي أمام هذا الاحتمال المخيف؛ فالبحث لا يتوقف لحظة واحدة عن مصادر بديلة للطاقة، وعلى رأسها الطاقة الذرية التي قطعت الدول المتقدمة شوطا بعيدا في استخدامها، وكذلك الطاقة الشمسية التي استغلت بدورها ولكن على نطاق أضيق. كما أن ثمة تفكيرا جادا في استغلال طاقة الحرارة الأرضية، وطاقة المد والجزر على نطاق عالمي واسع، ولكن المشكلة في هذه الطاقات البديلة هي أنها لم تصبح بعد اقتصادية إلى الحد الذي يبرر استخدامها على نطاق واسع، وكل الآمال تتركز - بطبيعة الحال - على خفض تكاليف إنتاجها إلى حدود معقولة بحيث تصبح بديلا عن الطاقة البترولية حينما تنفد.
Bilinmeyen sayfa