ولو أمعن المرء النظر في الفلسفات المتحكمة في الإعلام المعاصر؛ لتبين له أنه لا يكاد يكون هناك اعتراف بالقيمة المطلقة «للحقيقة»، تلك الحقيقة التي تعلو على أي اعتبار آخر، سواء أكان ذلك مصلحة طبقة أو حزب أو حتى مصلحة مجتمع كامل؛ فالحقيقة أصبحت «موظفة»، بمعنى أنها وسيلة لغاية أخرى، ويكاد يختفي من الإعلام الحالي ذلك المبدأ الذي يتمسك بالحقيقة أولا، مهما كانت النتائج، ويحل محله مبدأ آخر يطبقه الجميع في النظام الاشتراكي وفي النظام الرأسمالي وفي العالم الثالث، هو أن الحادث الواحد ينبغي أن يعرض ويفسر وفقا لمصلحة الوضع القائم، وأن حقيقة الإنسان الرأسمالي بطلان في نظر الاشتراكي والعكس بالعكس.
من هنا كان الإعلام المضلل عقبة كبرى في وجه التفكير العلمي في عالمنا المعاصر؛ إذ إن التفكير العلمي لا يعترف إلا بحقيقة واحدة، لا تتلون أو يتغير تفسيرها وفقا للمصالح، وصحيح أن وسائط الإعلام تضلل عندما يكون الأمر متعلقا بمصالح سياسية أو اقتصادية، ولا تلجأ كثيرا إلى التضليل في بقية الميادين، ولكن هذا الميدان حيوي، والتزييف فيه يؤثر تأثيرا كبيرا على طريقة تفكير الإنسان؛ لأنه أولا يحول بين الناس وبين فهم أنفسهم ومجتمعهم بطريقة علمية، والأهم من ذلك أنه يعودهم الاستسلام للمغالطات ويسلبهم القدرة على مقاومتها؛ ومن ثم فإنه ينتزع من عقل الإنسان أهم ملكة يحتاج إليها لكي يفكر تفكيرا علميا، وأعني بها ملكة النقد والتساؤل.
ولست أود أن أختتم هذا الفصل من الكتاب من غير أن أشير - بإيجاز شديد - إلى الوضع الخاص لهذه العقبات التي تعترض طريق التفكير العلمي في عالمنا العربي بالذات؛ ذلك لأنه على الرغم من أن أمثلة كثيرة من تلك التي وردت عند الحديث عن هذه العقبات كانت متعلقة بالعالم العربي، فإن من المفيد أن نختم عرضنا لهذا الموضوع بإشارة خاصة إلى دور هذه العقبات في بلادنا، وحسبنا أن نعود بذاكرتنا إلى هذه العقبات واحدة بعد الأخرى؛ لكي نجد أن لها في عالمنا العربي دورا لا يستهان به، وأن معوقات التفكير العلمي في بلادنا كانت ولا تزال ذات سطوة هائلة على العقول.
فالأسطورة والخرافة تحتل في تفكير الناس - في بلادنا العربية - مكانة لا يزال من الصعب زعزعتها، وإني لأذكر - من تجربتي الخاصة - أنني في كل مرة كنت أتحدث فيها عن الحسد أو «العمل» (السحري) بوصفه خرافة، كنت ألقى مقاومة شديدة من عدد كبير من طلاب الجامعة، وهم في مجتمعنا فئة مميزة أتيح لها من فرص التعليم ما لم يتح للغالبية الساحقة من أبناء الشعب، وكانت القصص التي يوردها هؤلاء الطلاب - للتدليل بها على «صحة» الحسد وفعالية «العمل» - نماذج صارخة للتفكير المضاد للعلم، أو للتفكير الذي لم يسمع عن شيء اسمه العلم، بل إنني صادفت أكثر من حالة كان فيها أساتذة جامعيون يدافعون بحرارة عن «كرامات» إنسان طيب من أصدقائهم، يستطيع أن يحقق أمنياته بمجرد التفكير فيها، أو يعرف الحالة الصحية لقريب يسكن بلدا بعيدا دون أن يتصل به، أو يجعل السيارة تسير مسافة كبيرة وهي خالية من الوقود! فإذا كان هذا هو حال «الصفوة» (وأنا لا أعمم بطبيعة الحال) فماذا يكون حال البسطاء من الناس؟ وكيف نأمل في بناء مجتمع يساير العصر بعقول تعشش فيها أمثال هذه الخرافات؟
أما عقبة «السلطة» فلها في مجتمعنا العربي دور لا يستهان به، وربما كان من أسباب رسوخ فكرة السلطة أن مجتمعاتنا العربية - في أصلها - إما زراعية وإما قبلية، وفي الحالتين يكون المجتمع «تقليديا» ميالا إلى التقيد الحرفي بسلطة القديم والموروث والشائع والمشهور، وينظر إلى التجديد على أنه «بدعة»، وإلى تحدي التقاليد على أنه هرطقة وتجديد، وليس في وسع أحد أن ينكر أن الانهيار التام للسلطة - في المجتمعات الغربية الحديثة - قد ولد تفككا وانحلالا يشكو منه المفكرون في تلك البلاد ذاتها مر الشكوى؛ ومن ثم فإن وجود قدر معين من السلطة - في الأسرة مثلا - هو أمر مرغوب فيه، ولكني أخشى أن أقول: إن الخضوع للسلطة - في بعض المجالات - يفوق في مجتمعنا الحد اللازم من أجل تحقيق التماسك وتجنب الانحلال. فالسلطة في المجال الاجتماعي والسياسي والفكري ما زال لها في بلادنا دور يزيد عما هو مطلوب في عصر يتسم - سواء رضينا أم كرهنا - بالتجديد والتغير السريع الإيقاع. وهناك خوف حقيقي من أن تتحول فضيلة الترابط والتماسك - التي يبعثها وجود سلطة تفرض على الآخرين الخضوع لها - إلى رذيلة، أو على أحسن الفروض إلى سد منيع يقف حائلا دون اكتساب العقول لذلك القدر من المرونة والتحرر الذي لا بد منه لقيام نهضة علمية في أي شعب.
فإذا انتقلنا إلى عقبة «إنكار قدرة العقل» وجدنا هذه العقبة تصول وتجول في عالمنا العربي. ومن المؤسف أن تأثير هذه العقبة لا يرجع إلى أننا نتمسك بقوة أخرى - كالحدس مثلا - نعدها منافسة للعقل، أو نؤكد أهمية التجربة الشخصية المباشرة على حساب المعرفة العلمية الموضوعية اللاشخصية. بل إننا نتأثر بهذه العقبة بمعناها الفج؛ أعني بمعنى عدم الإيمان بأن العقل قادر على تحصيل العلم أو عدم الإيمان بقيمة العلم ذاته. وهناك فئة من الكتاب يجدون متعة كبرى في الحط من قدر هذا العقل الذي هو أعظم ملكاتنا، وهو الذي يميزنا عن سائر الكائنات، وهو الذي صنع للإنسان حضارة وتاريخا، وجعل له هذا المركز المميز للكون؛ هؤلاء الكتاب - في اتجاههم هذا - هم أشبه بضحايا مرض «تعذيب الذات
masochism » الذين يستمتعون كلما ألحقوا الأذى بأنفسهم، بل إننا لنجد منهم من يجهد «عقله» ويتفنن في إيراد «الأدلة» و«الشواهد» و«البراهين» - وكلها من صنع «العقل» نفسه - لكي يحط من شأن العقل! وكل ما يجنيه هؤلاء هو أن يسود بين الناس اعتقاد بأن الغموض والسر يحيط بكل شيء، وبأن الاستسلام والعجز عن الفهم والتفسير هو الحالة المثلى للإنسان، وهكذا تشيع الجهالة، ويصبح الإنسان أعزل أمام شتى أنواع الدجل والشعوذة الفكرية التي يتطوع الكثيرون بتقديمها بديلا عن التفكير العقلي المنظم. ولو شئنا أن نكون منصفين لأنفسنا أمناء على مستقبل أبنائنا؛ لطبقنا على أصحاب هذه الدعوات نفس الأحكام التي نطبقها على تجار المخدرات؛ لأنهم بالفعل لا يزيدون عن أن يكونوا مروجين للمخدرات والمسكرات الفكرية!
أما عقبة «التعصب» فقد كان من حسن حظ العرب أن دينهم وحضارتهم ظلت بمنأى عن هذا الداء الوبيل، بحيث أصبحت الأمة العربية تزهو على سائر الأمم بتسامحها وسعة صدرها. ولا يعني ذلك أن تاريخنا قد خلا خلوا تاما من التعصب؛ فقد ظهرت بالفعل حالات هنا أو هناك، ولكنها كانت خروجا عن التيار العام للتاريخ العربي، لم تكن تطل برأسها إلا في عهود الضعف وانفلات الزمام، ومع ذلك فإننا نعاني - في وقتنا الراهن - من لون آخر من ألوان التعصب، هو الاعتقاد الباطل بأن الموضوع الواحد لا يمكن أن يكون فيه إلا رأي واحد، وبأن كل ما عداه باطل، وإذا كان هذا الاعتقاد مفهوما في ميدان الحقائق العلمية فإنه غير مفهوم في ميدان الحياة السياسية والاجتماعية؛ حيث يعد الاختلاف في الرأي «رحمة» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وحيث ينبغي أن تسود روح الحوار بين الأطراف المتعددة، حتى تتكشف الجوانب المختلفة لتلك الحقيقة المعقدة التي يشكلها الواقع السياسي والاجتماعي، ولكن ما أسرع ما تضيق صدورنا - في العالم العربي - بالمعارضة! وما أسهل اتهام أصحاب الرأي الآخر بالعمالة والخيانة وربما الكفر؛ لمجرد أنهم لا يسيرون في الركاب السلطاني للرأي الواحد، هذا هو نوع التعصب الذي تستفحل شروره في عالمنا العربي المعاصر، والذي يعد عقبة كبرى في طريق التفكير العلمي في ميدان من أهم ميادين الحياة، ألا وهو تنظيم المجتمع.
وأخيرا، فإن عقبة الإعلام المضلل تشكل - في مجتمعنا العربي - خطرا داهما على عقولنا وقدرتنا على التفكير الموضوعي؛ فأجهزة الإعلام عندنا لا تعبر - في معظم الأحيان - إلا عن ذلك «الرأي الواحد» الذي كنا نتحدث عنه في صدد العقبة السابقة، وهي لا تكتفي بالتضليل، بل تشجع التفاهة وترعاها بكل عناية، وهكذا نتصور أن وسائل الإعلام الجماهيرية - كالإذاعة والتلفزيون - أدوات للترفيه فحسب، وننسى دورها الجبار في نشر الثقافة الجادة وتشجيع القيم الفكرية الأصيلة، وخاصة بين أبناء شعب يحتاج إلى هذه القيم احتياجا شديدا لكي يعوض تخلفه الطويل.
وخلاصة القول: إن قدرتنا على أن نفكر في الأمور - سواء منها ما يتعلق بالعلم أو بحياة الإنسان ومجتمعه - تفكيرا علميا سليما مهددة تهديدا خطرا بتلك العقبات التي لا تزال تمارس تأثيرها الضار في عقل الإنسان العربي دون كابح أو ضابط. ولقد سبق لكاتب هذه السطور أن دعا مرارا إلى أن نحمي الأجيال الجديدة من أبنائنا - إن كنا يائسين من الأجيال القديمة - من هذه العقبات عن طريق إدخال المبادئ الأولية للتفكير العلمي - بطريقة شديدة التبسيط - في برامجنا التعليمية، بحيث ينتبه النشء منذ صغره إلى خطورة المظاهر التي يراها في المجتمع المحيط به للخرافة والسلطة المتطرفة وكراهية العقل ... إلخ. وهأنذا أنتهز الفرصة لأعيد ترديد هذه الدعوة، آملا أن يتأثر بكلماتي هذه مسئول ذو نفوذ، ومتمنيا أن يكون هذا المسئول من الاستنارة بحيث يدرك مدى أهمية الموضوع الذي أدعو إليه، وهي أمنية أرجو ألا تكون عزيزة المنال!
Bilinmeyen sayfa