ذلك لأن العقل - في نظر هؤلاء - يعيبه أنه يسير دائما بخطوات متدرجة، ولا يستطيع أن يتقدم خطوة إلا بعد التأكد - بالبرهان - من صحة الخطوة السابقة، وهو فضلا عن ذلك «عام»؛ أي إنه لا يعطينا معرفة إلا بالصفات المشتركة بين الأشياء، وهي تلك الصفات التي يستطيع «الجميع» أن يدركوها، وهو يلجأ دائما إلى المقارنة وكشف العلاقات بين الظواهر، ومعنى ذلك - في رأي أصحاب هذا الاتجاه - أنه لا يكشف لنا إلا عن علاقات سطحية، ولا ينفذ بنا إلى الجوهر الباطن للأشياء.
وحين يصبح الحدس - عند أصحاب هذا الاتجاه - قوة لا مضادة للعقل، فهنا ينبغي علينا أن ننبه إلى الخطأ الذي يقعون فيه، ولكن من حسن الحظ أنهم ليسوا جميعا من خصوم العقل؛ فهناك مفكرون يدافعون عن الحدس من حيث هو قوة «مكملة» للعقل لا تتعارض معه، بل تتوج جهوده وتوصلها إلى نتائجها القصوى، وهذه نظرة إلى الحدس لا تشكل أية عقبة في طريق التفكير العلمي؛ ومن ثم فلن نركز عليها حديثنا الآن.
أما العقبة الحقيقية فتتمثل في أولئك الذين ينكرون دور العقل، أو يقللون من أهميته ويضيقون المجال الذي ينطبق عليه، وذلك لحساب تلك القوة الأخرى التي قد يسمونها بالحدس أو «الغريزة» أو «سورة الحياة» أو غير ذلك من الأسماء. ولقد وجدت أمثلة لهؤلاء المفكرين في مختلف عصور التاريخ، وكان رأيهم يختلف - في جزئياته - تبعا للعصر الذي يعيشون فيه، وتبعا للدور الذي يؤديه العقل - خصمهم الأول - في ذلك العصر، وما زلنا نجد لهم أمثلة في حياتنا المعاصرة، في كتابات أولئك الذين لا هم لهم إلا أن يحطوا من شأن العقل ويقللوا من قيمة نتائجه، ولا هدف لهم إلا أن يثبتوا قصور المعرفة البشرية وعجز العلم ذاته عن الوصول إلى حقيقة الأشياء.
ويتبع خصوم العقل هؤلاء أسلوبا متشابها: فهم يبدءون من مقدمة صحيحة، ثم يستنتجون منها نتيجة باطلة. أما المقدمة الصحيحة فهي أن العقل ما زال عاجزا عن كشف كثير من أسرار الكون، وأن هناك مشكلات كثيرة يعجز العقل عن حلها، ويتضح لنا فيها أن قدرته محدودة، وأما النتيجة الباطلة - التي يستنتجونها مما سبق - فهي أن العقل «بطبيعته» عاجز، وأنه سيظل إلى الأبد قوة محدودة قاصرة، ومن ثم فلا بد من الاعتماد على قوة أخرى غيره.
هذا الأسلوب الخادع في مهاجمة العقل ينطلي - للأسف - على الكثيرين؛ لأنهم حين يجدون المقدمة صحيحة - والشواهد تؤيدها بالفعل - يتصورون أن النتيجة مترتبة عليها حقا، ولا بد أن تكون بدورها صحيحة؛ ومن ثم فإنهم يفقدون ثقتهم بالعقل من حيث هو أداة لاكتساب المعرفة وبلوغ الحقيقة، ولكن الواقع أن الاستنتاج باطل من أساسه، وأن ما نلمسه حولنا من عجز العقل عن حل مشكلات كثيرة لا يثبت - على الإطلاق - أن العقل «في ذاته» قاصر.
ذلك لأن أصحاب هذه الحجة الباطلة ينكرون تماما دور التاريخ، سواء في الماضي أم في المستقبل. فلو قارنا حالة المعرفة البشرية منذ خمسمائة عام مثلا بما هي عليه الآن؛ لاتضح لنا أن العقل قد حقق إنجازات رائعة بحق، ولو قارنا نمط الحياة البشرية منذ مائة عام فقط بحالتها الراهنة؛ لتبين لنا أن العقل قد غير وجه حياتنا تغييرا تاما في هذه الفترة التي تعد - بالمقاييس التاريخية - فترة قصيرة. ومن المؤكد أن مراجعة سجل الإنجازات العقلية في الماضي تثبت لنا أن العقل حقق أشياء ضخمة بحق، وأنه ليس على الإطلاق تلك القوة المحدودة القاصرة التي يصوره بها الكثيرون. أما بالنسبة إلى المستقبل فإن الأمل في اتساع قدرة العقل هو أمل لا حدود له؛ فلو تخيلنا ما سيكون عليه العالم بعد خمسمائة سنة أخرى، مع عمل حساب التزايد المطرد في معدل نمو الإنجازات العقلية العلمية، فإن الصورة التي سنكونها عندئذ أبعد ما تكون عن صورة ذلك العقل العاجز الذي يتحدثون عنه. صحيح أن العقل ما زال يجهل الكثير، وما زال يعجز عن الكثير، ولكنه أفضل أداة نملكها لكي نعرف عالمنا ونسيطر على مشاكلنا، وبفضل هذه الأداة حققنا حتى الآن أشياء رائعة، وتغلبنا على مشكلات كنا نتصور في الماضي أنها لا تحل إلا بالسحر أو الخيال (بساط الريح أو الصندوق المتكلم من أقصى أطراف الأرض على سبيل المثال)، وهو يواصل سيره، فيخطئ حينا ويصيب حينا، ولكن الحصيلة العامة لمسيرته تمثل انتصارا رائعا للإنسان. وحسبنا أن نقارن بين القرون الأربعة التي استخدم فيها الإنسان عقله أداة لبلوغ المعرفة (من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين) وبين القرون السبعة عشرة التي سبقت ذلك، والتي كانت أداة المعرفة المستخدمة فيها واحدة من تلك التي يدعو إليها خصوم العقل. حسبنا أن نجري هذه المقارنة لكي ندرك أن قضية إنكار قدرة العقل - لمجرد كونه لم يتوصل حتى الآن إلى كل شيء - هي في صميمها قضية خاسرة.
على أن خصوم العقل لا يتخذون جميعا هذا الموقف الفج، بل إن منهم من يحاولون أن يصبغوا الملكة التي يدافعون عنها ضد العقل - أعني الحدس - بصبغة أكثر تعمقا، ويضفون على مهاجمتهم للعقل طابعا أكثر منطقية. وبغض النظر عن التناقض الواضح في مهاجمة العقل بطريقة تعتمد على «منطق سليم» - أي على منهج «عقلي» - فإن رأي هؤلاء بدوره - وإن كان في مظهره أدعى إلى الاحترام من الرأي السابق - لا يقل عن غيره تهافتا.
والمثل الواضح على هذا هو موقف الفيلسوف الفرنسي «هنري برجسون» الذي مات في الأربعينيات من هذا القرن، والذي شهد انتصارات حاسمة للعقل منذ بداية القرن العشرين. فقد دافع برجسون بحماسة فائقة عن «الحدس»، الذي هو في نظره الملكة القادرة على النفاذ بنا إلى العمق الباطن للأشياء، فنعرف بذلك «ما هو فريد منها؛ ومن ثم ما يند فيها عن كل تعبير». أما العقل فلا يكشف لنا إلا عن السطح الظاهر للأشياء؛ والدليل على ذلك أنه يستخدم في التعبير عن قوانينه لغة الرياضيات، والرياضيات لا تتضمن إلا تجريدات شديدة العمومية. فالعقل إذن يقدم إلينا معرفة بأعم صفات الأشياء، وهو يجرد موضوعاته من مضمونها الحي الملموس؛ لكي يحولها إلى صيغ وأرقام ومعادلات عجفاء باردة. والفرق بين معرفة الحدس ومعرفة العقل أشبه بالفرق بين الإنسان النابض بالحياة وهيكله العظمي. ولكي نكون منصفين فإن برجسون لا ينكر العلم المعتمد على العقل، بل يراه غير كاف، ويضع إلى جواره ذلك النوع الآخر من المعرفة، الذي اعتقد أنه أعمق من المعرفة العقلية بكثير.
والمشكلة في هذا النوع من المفكرين هي أنهم يخلطون - على نحو مؤسف - بين مقتضيات الحياة الشخصية والتجارب الفنية والشعرية من جانب ومقتضيات المعرفة العلمية من جانب آخر. فكل ما يقوله برجسون صحيح، ولكن في مجال معين لا يتعداه؛ ذلك لأنني حين أكون بصدد تجربة شخصية - كتجربة صداقة أو حب - يكون الحدس عنصرا أساسيا في معرفتي بالآخر؛ لأني لا أريد أن أعرف عنه «معلومات» فحسب، بل أريد أن أحس به كإنسان، وأن أنفذ إلى ما هو عميق وفريد فيه. وأمثال هذه التجارب هي التي يتخذها الشعراء والفنانون موضوعات لأعمالهم الفنية. بل إن هؤلاء الأخيرين يمرون بتجارب كهذه حتى مع «الأشياء»؛ فالشجرة التي يصفها الشاعر هي شجرة يقيم معها علاقة حميمة خاصة، وليست على الإطلاق هي الشجرة التي يمر عليها عابر السبيل أو يصف العالم خصائصها العامة ويحدد فصيلتها النباتية ... إلخ. والمصور ينفذ بعينيه إلى أعماق الطبيعة التي يصورها في لوحاته، فيكتشف في الجماد صفات فريدة تخفى على العين التي لا تتعامل مع هذا الجماد إلا من حيث هو «أداة» فحسب .
وإذن فقد كان برجسون وغيره من أنصار الحدس يتحدثون بالفعل عن نوع خاص من المعرفة، نوع ينطبق على مجالات معينة، ويحتاج الإنسان إليه بالفعل في مواقف معينة من حياته. وإلى هذا الحد لا يملك أحد أن يعترض عليهم بشيء، ولكن المشكلة هي أنهم يقارنون بين هذا النوع وبين المعرفة العقلية في العلم، ويتهمون هذه الأخيرة بالقصور، اعتمادا على أن المعرفة الحدسية أعمق منها، ولو كانوا قد اقتصروا على تحديد المجال الذي يسري عليه كل من نوعي المعرفة هذين، لما كان لنا عليهم أي مأخذ.
Bilinmeyen sayfa