للظواهر، أعني تفسير ظواهر الطبيعة من خلال «الغايات» التي تحققها هذه الظواهر للبشر، فنحن نتصور - مثلا - أن الشمس تطلع كل صباح لكي تدفئ أجسامنا، وأن القمر والنجوم تظهر كل مساء لكي تنير أو تهدي التائهين منا في الليل. ونحن نعتقد أن المطر ينزل لكي يروي الزرع، وأن رقبة الزرافة طويلة لكي تستطيع أن تصل إلى أوراق الأشجار الحالية وتتغذى بها. وهكذا نتصور أن للحوادث الطبيعية أغراضا وغايات، ونعتقد أن التفسير الحقيقي لهذه الحوادث إنما يكمن في تلك الأغراض والغايات.
وإذا كان مبدأ «حيوية الطبيعة» - أي وصف الطبيعة بصفات الكائنات الحية ولا سيما الإنسان - هو - كما قلنا من قبل - المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الفكر الأسطوري، فمن السهل أن ندرك أن فكرة «الغائية» في تفسير الطبيعة إنما هي تطبيق مباشر لهذا المبدأ أو امتداد له؛ ذلك لأن الغايات تقوم بدور أساسي في عالم الإنسان، وهي في هذا العالم تؤدي وظيفة طبيعية لا يستطيع أحد أن يزعم بأنها تتعارض مع العلم؛ فالإنسان يوجه سلوكه بالفعل نحو غايات معينة؛ أي إنه يستذكر دروسه لكي ينجح، ويطهو الطعام لكي يأكل، ويخرج إلى الشارع لكي يتنزه. ولو سألت هذا الشخص في الحالات السابقة: لماذا ذاكرت؟ أو لماذا خرجت ... إلخ؟ لكان الجواب الطبيعي: لكي أفعل كذا. أي إن التعليل الطبيعي لتصرفاتنا - في هذه الحالات - يأتي عن طريق الإشارة إلى الغاية منها. ومن هنا كان للغائية دور أساسي في المجال البشري، وكان من الممكن تحليل كثير من أفعال الإنسان عن طريق الغايات المقصودة منها.
ولكن الخطأ الذي وقع فيه المفكرون والعلماء أنفسهم أحيانا - خلال عصور طويلة ماضية - هو أنهم نقلوا هذه الفكرة بحذافيرها من مجال الإنسان إلى مجال الطبيعة، وتصوروا أن الحوادث الطبيعية يمكن تعليلها بغاياتها، قياسا على ما يحدث في عالم الإنسان. وهكذا فإنك إذا سألت: لماذا يسقط المطر؟ كان رد أنصار التفكير الغائي هو: لكي يروي الزرع. وإذا سألت: لماذا يحدث الزلزال أو الفيضان؟ كان الرد: لكي يعاقب أناسا ظالمين. وهكذا يتصور هؤلاء أن مسلك الطبيعة مماثل لمسالك الإنسان، فيقعون بذلك في شرك التفكير الأسطوري.
والواقع أن الطبيعة لا تعرف «غايات» بالمعنى الذي نفهم به نحن هذا اللفظ، بل إن حوادثها تحكمها الضرورة فحسب، ولا يحدث فيها شيء - كسقوط المطر أو وقوع فيضان ... إلخ - إلا إذا توافرت الأسباب الطبيعية المؤدية إليه، وعندما تتوافر هذه الأسباب يكون حدوث الظاهرة أمرا حتميا. أما الغايات فإننا نحن الذين نخلقها، ونستغل من أجلها حوادث الطبيعة؛ فنحن قد وجدنا المطر بالفعل ثم اكتشفنا بالتجربة فائدته في ري الزرع، فخلقنا هذه الغاية له، أما المطر ذاته فكان سيسقط سواء روينا به زرعنا أم لم نروه، وقس على ذلك بقية الحالات.
والدليل الواضح على إخفاق التعليل الغائي للظواهر الطبيعية، هو أن هذا التعليل كثيرا ما يتخبط ويتناقض؛ ففي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن المطر يسقط من أجل ري زراعته، يرى البعض الآخر أنه يسقط لكي يروي ظمأه أو ظمأ ماشيته، ويرى غيرهم أنه يسقط لكي يصنع بركة يستحم فيها، بينما يرى صاحب الكوخ الهش أن سقوط المطر نقمة عليه، وحتى الفيضان أو الزلزال - الذي يبدو أنه لا يمكن أن يفسر إلا بأنه نقمة - لا يصيب الأشرار وحدهم، وإنما تضيع فيه أرواح بريئة كما تضيع فيه أرواح آثمة، بل إن الأرواح البريئة - كما في حالة الأطفال والمسنين مثلا - ربما كانت أكثر تعرضا للضياع فيه من الأرواح الآثمة ... هذا فضلا عن أن حادثا مؤلما كهذا لا يخلو من النفع لبعض الناس، كمتعهدي نقل الموتى مثلا! وهكذا تتباين الغايات التي يمكننا أن ننسبها إلى الظاهرة الواحدة حسب مصالحنا ووجهات نظرنا الخاصة، ويتضح لنا أن تفسير ظواهر الطبيعة على أساس غايات مستمدة من المجال البشري هو تفسير باطل لا يخلو من التخبط والتناقض؛ ولذا لم يكن من المستغرب أن يتخلى التفكير العلمي عن فكرة «الغائية» ويعدها امتدادا للطريقة الأسطورية في فهم العالم، وإن يكن التفسير الغائي للظواهر أشد خفاء وأصعب تفنيدا من التفسير الأسطوري المباشر.
وهكذا أصبح العلم يقتصر - في فهمه للظواهر الطبيعية - على الأسباب التي تؤدي إلى حدوث هذه الظواهر؛ أي على ما يطلق عليه اسم «العلل أو الأسباب الفاعلة»، وهي الشروط الضرورية التي لا يحدث الشيء إلا إذا توافرت، ولا بد إذا توافرت من أن يحدث الشيء. وهذا النوع من الأسباب يتعلق بالمقدمات التي تمهد لحدوث الظاهرة، والتي تسبقها في الزمان، أي إن الماضي هو الذي يتحكم في الحاضر في حالة الظواهر الطبيعية، أما في حالة الظواهر البشرية - التي يمكن أن يكون للغايات وجود فيها - فإن «المستقبل» أيضا، بالإضافة إلى الماضي، يمكن أن يكون سببا للأحداث؛ فالإنسان لا يتصرف بناء على سوابق ماضية فحسب، بل يتصرف أيضا لأنه يخطط لهدف أو لمشروع في المستقبل، ولكن هذه صفة ينفرد بها الإنسان ولا تعرفها الطبيعة، وربما كانت هي التي أعطت الإنسان مركزه الفريد في الكون.
على أنه إذا جاز لنا أن نقول إن الفكر الأسطوري - في مجمله - قد اختفى باختفاء العصر الذي كانت فيه الأسطورة تحل محل العلم، فإن الفكر الخرافي ظل يعايش العلم فترة طويلة، وما زال يمارس تأثيره على عقول الناس حتى يومنا هذا. ولقد عاشت البشرية أمدا طويلا وهي حائرة بين الخرافة والعلم؛ لأن الخط الفاصل بينهما لم يكن في البداية واضحا كما هو اليوم، وخلال هذه الفترة كانت الأمور مختلطة ومتداخلة، وكان كثير من العلماء يجمعون بين عناصر من الخرافة وعناصر من البحث العلمي في مركب واحد لا يشعرون بأنه ينطوي على أي تنافر.
ولنضرب لذلك مثلا من ميدان التنجيم وعلم الفلك؛ فممارسة التنجيم كانت تتطلب معرفة واسعة بالحقائق الفلكية، و«الأبراج» التي يقول المنجمون إنهم يعرفون بها الطالع هي أشبه ما تكون بخريطة كبرى للسماء، تضم كثيرا من المعلومات الفلكية الصحيحة. واسم التنجيم ذاته يفترض معرفة بالنجوم، ومن ثم كان تداخله مع علم الفلك، بل إن كبار الفلكيين كانوا في الوقت ذاته منجمين، وهذا ينطبق على العصور القديمة والعصور الوسطى الإسلامية والأوروبية، بل وعلى أوائل العصر الحديث أيضا. فحتى كبلر ذاته - أعني ذلك العالم الألماني العظيم الذي حدد المدارات البيضاوية للكواكب واهتدى إلى مجموعة من أعظم القوانين الفلكية الرياضية - كان يؤمن بالتنجيم ويمارسه، ولم يكن يعتقد أن ممارسته له تتعارض على أي نحو مع عمله العلمي الدقيق. بل إن السعي إلى جعل التنجيم والتنبؤ بالطالع أدق ربما كان واحدا من أهم الأسباب التي حفزت العلماء على الاشتغال بعلم الفلك، والتي جعلت هذا العلم - الذي يتناول ظواهر تبدو بعيدة كل البعد عن اهتمام الإنسان على هذه الأرض - يصبح واحدا من أقدم العلوم البشرية عهدا ومن أدقها منهجا، ولولا أن الحكام كانوا يحرصون على معرفة طالعها، ويستشيرون المنجمين في قراراتهم الهامة لما أولوا علم الفلك ذلك الاهتمام وقدموا إليه ذلك التشجيع الذي أدى إلى نهوضه منذ وقت مبكر.
ولدينا مثل آخر في ظاهرة السحر، فقد تداخلت الممارسات السحرية مع الممارسات العلمية وقتا طويلا، وبالرغم من أن السحر كان مبنيا على معتقدات خرافية لا صلة لها بالعلم، فقد كان السحرة يلجئون، في كثير من الأحيان، إلى التعامل مع مواد الطبيعة وعناصرها على نحو يؤدي بهم إلى الكشف عن كثير من أسرارها، مما دعا بعض مؤرخي العلم إلى النظر إلى السحر بوصفه ممهدا للعلم التجريبي ولعلوم الكيمياء والأحياء بوجه خاص. ومع ذلك فقد نشبت معركة حامية بين العلم والسحر في مطلع العصر الأوروبي الحديث، ولم يكن رجال الكنيسة بمعزل عن هذه المعركة، وإن كانوا قد وقفوا موقفا معاديا للطرفين معا؛ فالسحرة في نظرهم تتقمصهم أرواح شريرة؛ ومن ثم كان من الواجب حرقهم. أما العلماء فهم ينادون بتعاليم مضادة لما تقول به الكنيسة، ومن ثم فمن الواجب اضطهادهم، وفي بعض الأحيان كان العلماء يتهمون بالسحر؛ حتى تكون إدانتهم أيسر، وبالفعل راح عدد غير قليل من الباحثين في العلوم الحديثة ضحية الاتهام بالسحر.
على أن هذا التداخل والاختلاط بين النظرة الخرافية والنظرة العلمية لم يدم وقتا طويلا، بل إن معالم النظرتين قد أخذت تتضح بالتدريج، وبدأت الطريقة العلمية في النظر إلى الأمور تثبت تفوقها الساحق على الطريقة الخرافية؛ وذلك لسببين؛ أولهما أن فهم قوانين الطبيعة من خلال العلم يتيح للإنسان سيطرة حقيقية على ظواهرها، ويمكنه من تغيير مجرى حوادثها لصالحه، على حين أن النظرة الخرافية تجعله يقف من الطبيعة موقفا سلبيا عاجزا، وحين بدأت ثمار التطبيقات العلمية تصبح متاحة للجميع، وأثبت العلم - بطريقة ملموسة - قدرته على السيطرة على الطبيعة بطريقة لا يحلم بها الساحر ذاته، لم يعد هناك مبرر لبقاء الطريقة السحرية الخرافية.
Bilinmeyen sayfa