التدريب في الفقه الشافعي
المسمى بـ «تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي»
تصنيف
الإمام الفقيه الكبير سراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان البلقيني الشافعي - رحمه الله تعالى -
ومعه
«تتمة التدريب»
لعلم الدين صالح ابن الشيخ سراج الدين البلقيني ﵀
حققه وعلق عليه
أبو يعقوب نشأت بن كمال المصري
[الجزء الأول]
Bilinmeyen sayfa
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة
الطبعة الأولى
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
دَار الْقبْلَتَيْنِ
المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - الرياض
جوال: ٠٥٠٦٦٣٩٣٨٠ - تليفاكس: ٠١٤٤٩٧٢١٦
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخاتم رسله وخليله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ٧٠].
1 / 3
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام اللَّه، وخير الهدي هدي محمَّد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فهذا كتاب "تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي" في الفقه الشافعي، أتشرف بتقديمه اليوم إلى طلاب العلم عمومًا والمهتمين بالفقه الشافعي خصوصًا.
وتأتي أهمية هذا الكتاب من كونه قد عرض الفقه الشافعي على طريقة مبتكرة جديدة لم يسبق إليها البلقيني إلا ما كان من المحاملي في كتابه "اللباب" ولكن كتاب المحاملي مختصر جدًّا، مما أدى إلى تركه لكثير من المسائل والفروع التي نبَّه عليها البلقينيُّ ﵀.
وكذلك تأتي أهمية هذا الكتاب من كون مؤلفه هو الإِمام سراج الدين البلقينيُّ، وهو علمٌ من أعلامِ الفقه الشافعي، فقد رحل إليه طلَّاب العلم من أقطار مصر المختلفة، وكان أحفظ الناس لمذهب الشافعي، واشتهر بذلك مع وجود مشايخه، وقد اعترفوا بفضله، وتصدَّى للإفتاء والتدريس والتعليم، حتى صارَ معول الناس عليه، وكان صحيح الحفظ قليل النسيان، صاحب اختيارات في المذهب.
والجدير بالذكر أنَّه كان كثير التصنيف؛ مما أدَّى إلى أنه لم يكمل بعض كتبه ككتابه "التدريب" ومع هذا صنَّف له مختصرًا وهو "التأديب في مختصر التدريب"، وقد أكمل أحد أبنائه كتاب أبيه التدريب، وهو علم الدين صالح البلقيني، وسماه "تتمة التدريب" ولم أر هذه التتمة إلَّا في النسخة الأزهرية فقط، وتبدأ هذه التتمة من كتاب النفقات إلى آخر الكتاب.
فالحمد للَّه على توفيقه وعونه، وأسأله تعالى القبول في الدنيا والآخرة.
وقد قدمت لهذا الكتاب بمقدمةٍ تشتملُ على عناصر، وهي كما يلي:
١ - أهمية الفقه الإِسلامي.
1 / 4
٢ - نشأة المذهب الشافعي وتطوره وأبرز علمائه.
٣ - دراسة كتاب التدريب، وتشتمل على:
أ - ترجمة المصنف.
ب - اسم الكتاب وأصله.
جـ - صحة نسبة الكتاب لمصنفه.
د - قيمة الكتاب العلمية.
هـ - منهج تحقيق الكتاب.
و- وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وصورها.
* * *
1 / 5
(١) مقدمة عن علم الفقه وأهميته
ما هو الفقه؟
أولًا الفقه في اللغة: الفهم. قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤]. وقال تعالى: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٧٨]. وقال ابن القيم الفقه: فهم المعنى المراد. قال تعالى: ﴿قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾ [هود: ٩١]. وقيل الفقه: الفهم الدقيق. قال ﷺ لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين" متفق عليه. فلا تقول فقهت أن الاثنين أكثر من الواحد.
ثانيًا الفقه في الاصطلاح: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية.
كيف نشأ الفقه؟
نشأ الفقه من نزول الشرع على رسول اللَّه ﷺ وتعليمه للصحابة، وحث المستمعين على التبليغ فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثم كان الصحابة يأتون فيسألون النبي ﷺ فيجبهم، وكذا كان الصحابة والتابعون يسألون العلماء فيجيبونهم، وقد برز من الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس وابن مسعود وعائشة وغيرهم.
ثم برزت ظاهرة في عصر التابعين، وهي ظهور فقهاء في مدينة رسول اللَّه ﷺ، وعددهم سبعة، وهم: عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد.
ثم برز الأئمة الأربعة: أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل الشيباني.
وقد نشأت مدرستان في الفقه، وهما مدرسة الحجاز أهل الحديث، ومدرسة
1 / 6
الكوفة أهل الرأي.
أما مدرسة الحجاز فقد أخذت عن زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن عمر ثم سعيد بن المسيب وسالم بن عبد اللَّه بن عمر والقاسم بن محمد، ومن أئمتها الإِمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد.
أما مدرسة الكوفة فقد أخذت عن عمر بن الخطاب وعبد اللَّه بن مسعود ثم إبراهيم النخعي، ومن أئمتها الإِمام أبو حنيفة.
أهمية علم الفقه:
إن معرفة الفقه الإِسلامي وأدلة الأحكام، ومعرفة فقهاء الإِسلام الذين يرجع إليهم في هذا الباب -من الأمور المهمة التي ينبغي لأهل العلم العناية بها، وإيضاحها للناس؛ لأن اللَّه سبحانه خلق الثقلين لعبادته، ولا يمكن أن تعرف هذه العبادة إلا بمعرفة الفقه الإِسلامي وأدلته، وأحكام الإِسلام وأدلته، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة العلماء الذين يعتمد عليهم في هذا الباب من أئمة الحديث والفقه الإِسلامي.
فعلم الفقه هو الذي يعرفك الحلال فتفعله والحرام فتجتنبه، وهو العلم الذي يرشدك إلى شروط صحة العبادات لكي تحققها، وهوالعلم الذي يرشدك إلى مبطلات العبادات فتتجنبها، وهو العلم الذي يبين لك المعاملات الصحيحة من الباطلة، وهو العلم الذي يبين لك الأحكام الشرعية المتعلقة بأحكام الأسرة والأحوال الشخصية، وهو العلم الذي يوضح لك أحكام الأطعمة والذبائح والصيد ما يحل منها وما يحرم، وهو العلم الذي يوضح لك أحكام الأيمان وما يكَفر منها وما لا كفارة له، هو العلم الذي يوضح لك أحكام الجنايات والديات والحدود التي حدها اللَّه ﵎، وهو العلم الذي يبين لك كيف تحكم بين الناس في المنازعات والخصومات، وهو العلم الذي يعرفك كيف توزع المواريث توزيعًا شرعيًّا عادلًا.
1 / 7
والفقه في الدين: هو الفقه في كتاب اللَّه ﷿، والفقه في سنة رسول اللَّه ﷺ، وهو الفقه في الإِسلام، من جهة أصل الشريعة، ومن جهة أحكام اللَّه التي أمرنا بها، ومن جهة ما نهانا عنه ﷾، ومن جهة البصيرة بما يجب على العبد من حق اللَّه وحق عباده، ومن جهة خشية اللَّه وتعظيمه ومراقبته، فإن رأس العلم خشية اللَّه ﷾، وتعظيم حرماته، ومراقبته ﷿ فيما يأتي العبد ويذر.
وبما ذكرنا يعرف المؤمن فضل فقهاء الإِسلام، وأنهم قد أوتوا خيرًا كثيرًا، وقد فازوا بحظ عظيم من أسباب السعادة وطرق الهداية؛ لأن العلم النافع من أسباب الهداية، ومن حرم العلم حرم خيرًا كثيرًا، ومن رزق العلم النافع فقد رزق أسباب السعادة، إذا عمل بذلك واتقى اللَّه في ذلك.
وعلى رأس العلماء بعد الرسل أصحاب الرسول ﵊، فإفهم هم الفقهاء على الكمال، الذين تلقوا العلم عن رسول اللَّه ﷺ، وتفقهوا في كتاب ربهم وسنة نبيهم ﷺ، ونقلوا ذلك إلى من بعدهم غضًّا طريًّا، تفقهوا وعملوا، ونقلوا العلم إلى من بعدهم من التابعين، نقلوا كتاب اللَّه إلى من بعدهم لفظًا وتفسيرًا وقراءة إلى غير ذلك، ونقلوا إلى من بعدهم أيضًا ما بينه لهم نبيهم ﵊ من معنى كلام اللَّه ﷿، ونقلوا أيضًا لمن بعدهم أحاديث الرسول ﷺ التي سمعوها منه، والتي رأوها منه ﵊، والتي أقرهم عليها، نقلوها إلى من بعدهم بغاية الأمانة والصدق، نقلوها إلى الأمة بواسطة الثقات من التابعين، حتى نقلت إلينا بالطرق المحفوظة الثابتة التي لا يتطرق إليها الشك، نقلها الثقات عن الثقات، والثقات عن الثقات، حتى وصلت إلى هذا القرن وما بعد.
وهذا من إقامة الحجة من اللَّه ﷿ على عباده، فإن نقل العلم من طرق الثقات عن الرسول ﷺ ثم عن الصحابة إلى من بعدهم، إقامة للحجة، وإيضاح للمحجة، ودعوة إلى الحق، وتحذير من الباطل، وتبصير للعباد بما خلقوا له من عبادة اللَّه وطاعته جل وعلا.
1 / 8
وبهذا يعلم أن لهم من الحق على من بعدهم: الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والرضا، والحرص على الاستفادة من علومهم، وما جمعوه وألفوه من العلوم النافعة، فإنهم سبقوا إلى خير عظيم، وإلى علم جم، سبقوا إلى الفقه في كتاب اللَّه، وإلى الفقه في سنة رسول اللَّه ﷺ، ونقلوا إلينا ما وصل إليهم من علم باللَّه، وبكتابه، وبسنة رسوله ﷺ.
فوجب علينا أن نعرف لهم قدرهم، وأن نشكرهم على علمهم العظيم، وعلى ما قاموا به من حفظ رسالة اللَّه وتفقيه الناس في دين اللَّه، وأن نستعين بما دونوه، وخلفوه من الكتب المفيدة والعلوم النافعة، حتى نعرف بذلك معاني كلام اللَّه، ومعاني كلام رسوله ﵊.
وإن من أعظم الفائدة، ومن أكبر الخير الذي نقلوه إلينا أن حفظوا علينا سنة نبينا ﷺ، ونقلوها إلينا طرية غضة سليمة محفوظة، وفيها تفسير كتاب اللَّه، وفيها بيان ما أجمل في كتاب اللَّه، وفيها بيان الأحكام التي جاء بها الوحي الثاني إلى رسول اللَّه ﷺ، وهو الوحي من اللَّه له إلى النبي ﷺ، وهو السنة المطهرة، فإن اللَّه جل وعلا أعطى نبيه ﷺ القرآن ومثله معه، كما قال النبي الكريم ﵊: ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه فعلى أهل العلم أن ينقلوا ما جاءت به السنة، وأن يوضحوا ذلك للناس، وأن يرشدوهم إلى معاني كلام ربهم وسنة نبيهم ﵊، في الخطب والمواعظ والدروس وحلقات العلم، وغير هذا من أسباب التوجيه والتعليم والإرشاد.
ولهذا ارتحل العلماء إلى الأمصار، واتصلوا بالعلماء في كل قطر؛ للفائدة والعلم، ففي عهد الصحابة سافر بعض الصحابة من المدينة إلى مصر والشام، وإلى العراق واليمن، وإلى غير ذلك، للفائدة ولنقل العلم، فتجد الصحابة ﵃ -وهم أفضل الناس بعد الأنبياء- ينتقلون من بلاد إلى بلاد، ليسألوا عن سنة من من رسول اللَّه ﷺ فاتتهم ولم يحفظوها، فبلغهم ذلك عن صحابي آخر فيسافر أحدهم إليه؛ ليسمع ذلك منه، ولينتفع بذلك، ولينقله إلى غيره من إخوانه في اللَّه التابعين لهم
1 / 9
بإحسان.
ثم جاء العلماء بعدهم من التابعين، هكذا فعلوا، ارتحلوا في العلم، وساروا في طلب العلم، وتبصروا في دين اللَّه، وتفقهوا على الصحابة وسألوهم ﵃ وأرضاهم- عما أشكل عليهم، وعملوا بذلك، ثم نقلوا ذلك إلى من بعدهم من أتباع التابعين رواية ودراية، ثم هكذا أتباع التابعين نقلوه لمن بعدهم، ثم ألفوا كتبا عظيمة في الحديث والتفسير واللغة العربية. . . وغير هذا من أنواع العلوم الشرعية، حتى بصروا الناس، وحتى أرشدوا إلى الطريق السوي، وحتى علموهم القواعد الشرعية التي بها يعرف كتاب اللَّه، وبها تعلم معانيه، وبها تحفظ السنة، وبها تعلم معانيها.
وبذلك يحصل العمل بكتاب اللَّه، وسنة رسوله ﷺ على بصيرة وعلى هدى وعلى نور، فجزاهم اللَّه عن ذلك خيرًا وضاعف لهم الأجور، وضاعف لهم الحسنات، ونفعنا بعلومهم جميعًا، وأعاذنا جميعًا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا (١).
* * *
_________
(١) باختصار وتصرف من "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" للشيخ ابن باز. . الجزء التاسع ص ١٢٨ - ١٤١.
1 / 10
المذهب الشافعي نشأته وتطوره وأئمته ومصنفاتهم
مراحل تطور المذهب:
لقد مرَّ المذهبُ الشافعي بعدة مراحل شأنه في ذلك شأن بقية المذاهب، وقد قسم بعض أهل العلم المراحل التي مرَّ بها المذهب إلى أربع مراحل، وبعضهم أوصلها إلى خمس، وبعضهم رفعها إلى ست، وهكذا، والاختلاف بينهم نشأ من طريقتهم في تحديد المرحلة وضوابطها، وقد مشيت ههنا على تقسيم هذه المراحل إلى أربع مراحل، وهي: المرحلة الأولى: مرحلة البناء والتأسيس، المرحلة الثانية: مرحلة التبليغ والتعريف بالمذهب، المرحلة الثالثة: مرحلة التخصص والانتشار، والمرحلة الرابعة مرحلة الاستقرار.
(١) المرحلة الأولى: مرحلة البناء والتأسيس
وهي تنقسم إلى قسمين:
١ - المذهب القديم ٢ - المذهب الجديد.
١ - المذهب القديم:
كان الإِمام الشافعي ﵀ قد جمع بين المدارس الفقهية التي سبقته، فقد أخذ العلم في سِني الصبا عن إمام مكة -شرفها اللَّه- ومُفتيها مسلم بن خالد الزنجي، والإمام سفيان بن عيينة، ولازم الشافعي علماء مكة حتى بلغ من الشباب، فقد سافر إلى المدينة المنورة وقد جاوز العشرين بقليل، والتقى شيخها ومفتيها الإِمام مالك بن أنس صاحب المذهب المشهور، ولازمه حتى توفي الإِمام مالك سنة ١٧٩، ثم قدر اللَّه تعالى له أن يجتمع بالإمام محمد بن الحسن الشيباني وارث علم مدرسة الحنفية (مدرسة الرأي) وقد لازمه مدة من الزمن جمع فيها الكثير من علم هذه المدرسة، ولما رجع الإِمام الشافعي إلى مكة جلس يدرِّس فيها، وصار شيخها الذي لا يُجارى، واجتمع إليه طلبة العلم، وبدأ ينثر علمه، ثم سافر إلى بغداد، وجلس يدرس ويفتي، وجلس إليه الأئمة ينهلون من علومه
1 / 11
كالإمام أحمد والإمام إسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة، وسُمِّيت اجتهادات الإِمام في هذه المرحلة بما اصطلح على تسميته بالمذهب القديم.
٢ - المذهب الجديد:
بدا للإمام ﵀ أن يسافر إلى مصر ليعلم أهلها ويطلع على مذهب الإِمام الليث بن سعد شيخ مصر، من خلال تلاميذه، فسافر إليها سنة ١٩٩ في أواخر سِني حياته، واجتمع إليه علماء مصر وأعيانها، وبقي الإِمام فيها حتى وافته المنية، وكان في تلك المدة قد اطلع على فقه الإِمام الليث، ومسائل متفقه الإِمام الأوزاعي، واستفاد منها، وكتب كتبه الجديدة، التي اصطلح على تسميتها بالمذهب الجديد.
(٢) المرحلة الثانية: مرحلة التبليغ والتعريف بالمذهب
لقد قام الإِمام الشافعي ﵀ بنشر مذهبه، ووضعَ أصوله وطرقه في الاستدلال والاستنباط بيده، فقد كتب الرسالة الأولى، ثم الثانية، وكتب كتبه التي تعتبر بمثابة إسقاطات عملية لهذه الأصول والضوابط، وقد بذل جهدًا كبيرًا لا سيما في أواخر سِني حياته في نقل علمه إلى طلابه في مصر، فقد كان ﵀ يواصل الليل بالنهار بحثًا وكتابةً وتعليمًا، ويسر اللَّه تعالى له مجموعة من طلاب العلم حملوا علمه وبلّغوه، وقد كان لهؤلاء الطلبة دور كبير في نشر المذهب وحفظه.
تلاميذ الشافعي وناشرو علمه:
١ - تلاميذه بمكة:
* أبو بكر عبد اللَّه بن الزبير بن عيسى الحميدي القرشي: عبد اللَّه بن الزبير بن عيسى بن عبيد اللَّه القرشي الأسدي الإِمام أبو بكر الحميدي المكي، صاحب الشافعي، ورفيقه في الرحلة إلى الديار المصرية، وقد أخذ عن شيوخ الشافعي، وقال يعقوب بن سفيان: ما رأيت أنصح للإسلام وأهله منه، وقال الحاكم: الحميدي مفتي أهل مكة ومحدثهم وهو لأهل الحجاز في السنة كأحمد بن حنبل
1 / 12
لأهل العراق، روى عنه البخاري بها صحيحه، وله مسند مشهور، مات بمكة سنة تسع عشرة ومائتين، وقيل سنة عشرين.
طبقات الفقهاء للشيرازي ٩٩ و١٠٠ طبقات الشافعية الكبرى ١٤٠ - ١٤٣ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٦٦ السير ١٠/ ٦١٦ تذكرة الحفاظ ٢/ ٤١٣ العقد الثمين ٥/ ١٦٠.
* أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي: ابن عم الإِمام الشافعي، روى عن الشافعي والفضيل بن عياض وجده لأمه محمد بن على بن شافع والمنكدر بن محمد بن المنكدر وحماد بن زيد وابن عيينة وطائفة، روى عنه ابن ماجه بها سننه وأحمد بن سيار المروزي وأبو بكر بن أبي عاصم وبقي بن مخلد ومطين وغيرهم، قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي والدارقطني: ثقة، وكان ينشر مذهب الشافعي بين الناس. . مات سنة سبع ويقال: ثمان وثلاثين ومائتين.
طبقات الشافعية الكبرى ٢/ ٨٠، الجرح والتعديل ٢/ ١٢٩، تهذيب الكمال ٢/ ١٧٥.
* أبو الوليد موسى بن أبي الجارود: موسى بن أبي الجارود أبو الوليد المكي الفقيه راوي كتاب الأمالي وغيره عن الشافعي، روى عنه الترمذي بها آخر الجامع أقوال الشافعي، قال الدارقطني: روى عن الشافعي حديثًا كثيرًا وكان يفتي بمكة على مذهب الشافعي، لم يذكروا وفاته. . قال الذهبي: أظنه قديم الموت، وله رواية عن سفيان بن عيينة، نقل عنه الرافعي بها باب زكاة الذهب أنه روى عن الشافعي تحريم تحلية السرج واللجام.
طبقات الفقهاء للشيرازي ١٠٠، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ١٦١ - ١٦٢ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٧٠.
٢ - تلاميذه بالعراق:
* أحمد بن حنبل: وترجمته شهيرة معروفة، وهي أكبر من أن ينبه عليها ههنا، ولكن سأذكر طرفًا يسيرًا منها، الإمام أبو عبد اللَّه أحمد بن محمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي أمير المؤمنين في الحديث. ومناقبه لا تُحَد ولا تُحصر، قال
1 / 13
الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني: ما قرأت على الشافعي حرفًا إلا وأحمد حاضر، وما ذهبت إلى الشافعي مجلسًا إلا وجدت أحمد فيه. وقال إبراهيم الحربي: الشافعي أستاذ الأستاذين، أليس هو أستاذ أحمد؟ وقال صالح بن أحمد: مشى أبي مع بغلة الشافعي فبعث إليه يحيى بن معين فقال: أما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته؟ فقال: يا أبا زكريا، ولو مشيتَ إلى الجانب الآخر كان أنفع لك.
طبقات الفقهاء للشيرازي ١٠٠، طبقات الشافعية الكبرى ٢٧ - ٦٣ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٥٦.
* الحسن بن محمد بن الحسين الصباح الزعفراني؛ هو أبو علي الحسن بن محمَّد بن الحسين الزعفراني، منسوب إلى زعفرانة، قرية بقرب بغداد، وكان إمامًا في اللغة، وهو أثبت رواة القديم، قال ابن حبان في الثقات: كان راويًا للشافعي وكان يحضر أحمد وأبو ثور عند الشافعي وهو الذي يتولى القراءة عليه وقال الزعفراني: لما قرأت كتاب الرسالة على الشافعي قال لي: من أي العرب أنت؟ فقلت: ما أنا بعربي، وما أنا إلا من قرية يقال لها الزعفرانية، قال: فأنت سيد هذه القرية، وقال الساجي: سمعت الزعفراني يقول: إني لأقرأ كتب الشافعي وتقرأ علي منذ خمسين سنة. قال السمعاني: مات في الربيع الآخر سنة تسع وأربعين ومائتين، وقال ابن خلكان: في شعبان سنة ستين ومائتين، وقال النووي في تهذيبه: في رمضان في السنة.
طبقات الفقهاء للشيرازي ١٠٠، طبقات الشافعية الكبرى ١١٤ - ١١٧.
* الحسين بن علي الكرابيسي: الحسين بن علي بن يزيد أبو علي البغدادي الكرابيسي، أخذ الفقه عن الشافعي، وكان أولًا على مذهب أهل الرأي، قال ابن عدي: وله كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس في المسائل، وكان حافظًا له، وذكر في كتبه أخبارًا كثيرة وقال الشيخ أبو إسحاق: كان متكلمًا عارفًا بالحديث له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، وقال العبادي: لم يتخرج على يدي الشافعي بالعراق مثل الحسين، قال الإسنوي: وكتاب القديم الذي رواه الكرابيسي عن الشافعي مجلد ضخم. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين، وقيل
1 / 14
سنة ثمان وأربعين، ورجحه الذهبي، وسمي بالكرابيسي لأنه كان يبيع الكرابيس وهي الثياب الغليظة.
وفيات الأعيان ١: ١٤٥ والانتقاء ١٠٦ وفيه: وفاته سنة ٢٥٦. وتهذيب التهذيب، وتاريخ بغداد ٨: ٦٤ وفيه اختلافه مع الإِمام أحمد بن حنبل.
* إبراهيم بن خالد البغدادي: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور، وقيل كنيته أبو عبد اللَّه، ولقبه أبو ثور، الكلبي البغدادي الفقيه العلامة، أخذ الفقه عن الشافعي وغيره، قال أبو بكر الأعين: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة وهو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، وقال غيره، إن رجلًا سأل أحمد عن مسألة، فقال: سل غيرنا سل أبا ثور، وقال الخطيب البغدادي: كان أحد الثقات المأمونين ومن الأئمة الأعلام في الدين وله كتب مصنفة في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه. قال: وكان أولًا يتفقه بالرأي ويذهب إلى قول أهل العراق حتى قدم الشافعي بغداد، فاختلف إليه، ورجع عن الرأي إلى الحديث، توفي في صفر سنة أربعين ومائتين، وهو أحد رواة القديم، وقال الرافعي في باب الغضب: أبو ثور وإن كان معدودًا وداخلًا في طبقة أصحاب الشافعي فله مذهب مستقل ولا يعد تفرده وجهًا.
التاريخ الصغير ٢/ ٣٧٢، الجرح والتعديل ٢/ ٩٧، ٩٨، الفهرست: ٢٦٥، تاريخ بغداد ٦/ ٦٥، ٦٩، طبقات الفقهاء للشيرازي: ٧٥، طبقات الشافعية للسبكي ٢/ ٧٤، ٨٠.
٣ - تلاميذه بمصر:
* أبو يعقوب: يوسف بن يحيى البويطي فهو من بويط من صعيد مصر، وهو أكبر أصحاب الشَّافعيّ المصريين، كَانَ إمامًا جليلًا عابدًا زاهدًا فقيهًا عظيمًا مناظرًا، جبلًا من جبال العلم والدين، تفقّه على الشَّافعي واختص بصحبته. وله من الكتب "المختصر"، اختصره من كلام الشَّافعي ﵁ قال أبو عاصم: هو في غاية الحسن.
طبقات الفقهاء للشيرازي ٩٨ طبقات الشافعية الكبرى ١٦٢ - ١٧٠ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٧٠ السير ١٢/ ٥٨.
1 / 15
* المزني: أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى المزني، ناصر المذهب، وبدر سمائه، وكان جبل علم، مناظرًا محججًا، قال الشَّافعي ﵁ في وصفه: (لو ناظر الشيطان لغلبه)، وكان زاهدًا ورعًا، متقللًا من الدنيا، وقال الشَّافعي: (المزني ناصر مذهبي).
وصنّف كتبًا كثيرة: منها: "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير"، "المختصر"، "المنثور"، "المسائل المعتبرة"، "الترغيب في العلم"، "الوثائق"، "العقارب"، "ونهاية المختصر".
وأخذ عن المزني خلائق من علماء خراسان والعراق والشام "كتاب المختصر" وهو الَّذي اشتهر باسم "مختصر المزني" والذي سار في الناس مسيرة الشمس في الآفاق، فبلغ من الشهرة، أَن المرأة عندما كانت تزف إِلى زوجها كَانَ لا بد من وجود مختصر المزني في جهازها، ولقد كثرت شروحه، وتعددت، ومعظم شروحه تعتبر من الموسوعات الفقهية في المذهب والخلاف، كـ "الحاوي"، للمارودي، و"التعليقة" لأبي حامد الاسفرائيني، و"النهاية" لإمام الحرمين.
طبقات الفقهاء للشيرازي ٩٧، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٩٣ - ١٠٩ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٥٨ السير ١٢/ ٤٩٢ وفيات الأعيان ١/ ٢١٧.
* الربيع: أبو محمَّد، الربيع بن سليمان المرادي مولاهم، المؤذن، ولد سنة ١٧٤ هـ واتصل بخدمة الشَّافعي، وحمل عنه الكثير، وحدّث عنه، وكان ثقة فيما يرويه، وكان مؤذنًا بالمسجد الجامع بفسطاط مصر المعروف بجامع عَمْرو بن العاص، وكان الشَّافعي يحبه، وهو راوية كتبه، وقد أجمع أصحاب الشَّافعي أَن أوثق من روى كتب الشَّافعي صاحبه وخادمه: الربيع بن سليمان المرادي.
طبقات الفقهاء للشيرازي ٩٨، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ١٣٢ - ١٣٩، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٦٥ السير ١٢/ ٥٨٧ تذكرة الحفاظ ٢/ ٥٨٦.
* ابن عبد الحكم: أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن الحكم، ولد سنة ١٨٢ هـ،
1 / 16
ونزل الشَّافعي على أبيه حين قدم مصر، وكان عالمًا جليلًا وجيهًا من شيوخ المالكية في مصر، وترك محمَّد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم مذهب الشَّافعي وعاد إِلى مذهب مالك بسبب خلاف مع البويطي فيمن يخلف الشَّافعي.
طبقات الفقهاء للشيرازي ٩٩ طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٦٧ - ١٧١ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٦٩ السير ١٢/ ٤٩٧ تذكرة الحفاظ ٢/ ٥٤٦ الوافي بالوفيات ٣/ ٣٣٨ الديباج المذهب ٢٣١.
* أبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد اللَّه بن حرملة بن عمران التُجِيْبي: ولد سنة ست وستين ومائة، كان إمامًا جليلًا رفيع الشأن، وكان من أكثر الناس رواية عن ابن وهب، قال أبو عمر الكندي: لم يكن بمصر أحدٌ أَكْتَبَ منه عن ابن وهب، وذلك لأن ابن وهب أقام في منزلهم سنة وستة أشهر مستخفيا من عباد لما طلبه يوليه قضاء مصر. وتوفي بمصر سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وكان حافظًا للحديث، صنف "المبسوط" و"المختصر".
طبقات الفقهاء للشيرازي ٩٩ طبقات الشافعية الكبرى ١٢٧ - ١٣١ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ٦١/ ١.
* أبو موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري المقري: الإِمام الكبير، ولد سنة ١٧٠. انتهت إليه رياسة العلم بديار مصر. ورُويَ عن الشافعي أنه قال: "ما رأيت بمصر أحدًا أعقل من يونس بن عبد الأعلى" وقال يحيى بن حسان: "يُونُسكُم هذا من أركان الإِسلام" وكان يونس من جملة الذين يتعاطون الشهادة، أقام يشهد عند الحكام ستين سنة، قال النسائي: يونس ثقة. مات سنة أربع وستين ومائتين، السنة التي مات فيها المزني.
طبقات الفقهاء للشيرازي ٩٩ طبقات الشافعية الكبرى ١٧٠ - ١٨٠ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٧٢، السير ١٢/ ٣٤٨ تذكرة الحفاظ ٢/ ٥٢٧ تهذيب التهذيب ٤/ ١٩٤.
(٣) المرحلة الثالثة: مرحلة التخصص والانتشار
وتنقسم إلى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أصحاب الأصحاب: نشط أصحاب أصحاب الإِمام الشافعي في نشر المذهب، وهذه الثلة كان لها أكبر الأثر في رفع لواء المذهب
1 / 17
ونشره، وهم على أربعة أقسام:
القسم الأول: من تلقّى المذهب وبرع فيه لكنه وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق.
الثاني: من اجتهد واختار لنفسه بعض الاختيارات.
الثالث: من عكف على دراسة المذهب، وأخذ على نفسه همّ نشره.
الرابع: قوم برعوا في علوم شتّى كالحديث النبوي واللغة وغير ذلك، وأخذوا عن أصحاب الشافعي.
المرتبة الثانية: التخصص والبناء: هذه المرتبة تعتبر بمثابة العمود الفقري للمذهب، ففيها بدأ يتشكل المذهب كبناء له معالمه الواضحة، ورجاله الذين تخصصوا فيه، وصاروا يدافعون عنه، وظهرت فيه كتابات متميزة، وعُين مجموعة من الشافعية في قضاء الولايات والأقاليم، وظهر أثر الإمام ابن سريج والأنماطي فيها واضحا على بعض أبناء هذه الطبقة والطبقات التي تليها.
المرتبة الثالثة: المشار المذهب وظهوره على بقية المذاهب: هذه المرتبة امتداد للمرتبة التي سبقتها لكنها تفترق عنها زمانيا، وامتازت بكثرة المصنفات، وبالامتداد الجغرافي الواسع للمذهب، ففي هذه المرتبة بلغ انتشار المذهب كل البلاد الإِسلامية تقريبًا، باستثناء شمال إفريقيا والأندلس بما فيها المغرب العربي التي حافظ أهلها على المذهب المالكي، ولما وليها المعزّ بن باديس سنة ٤٠٧ حمل أهلها على اتباع المذهب المالكي، وبقيت تلك البلاد تتبع المذهب المالكي إلى أيامنا هذه، فهو الغالب على تلك البلاد.
* * *
من ميزات فقه الإِمام الشافعي
الشَّافعي ﵁ محدثٌ يُكثر في كتبه من الاستدلال بالحديث، وهو قيَّاس كبير يكثر من استعمال القياس.
وقد تأثر الشَّافعي ﵁ بمدرسة الحجاز، ومدرسة العراق؛ لأنَّه كَانَ في أوّل
1 / 18
أمره تلميذًا للإمام مالك، ومتّبعًا لمذهبه، واحد رجال مدرسته، وما زال كذلك إلى سنة ١٩٥ هـ حيث قدم بغداد قدمته الأخيرة، فهناك كَانَ قد بلغ مؤسس مذهب يدعو إليه.
وكان أقوى ما أثّر فيه اتصاله بأصحاب الإِمام أَبي حنيفة واستفادته من كتب محمَّد بن الحسن، وعلمه بطريقة أهل العراق، إذ رأى أَنَّ طريقتهم ومنهجهم لا يحسن أخذها كلّها ولا تركها كلَها، فعندهم القياس وهو منهج صحيح، ولكن في نظر الشَّافعي ليس على إطلاقه، بل لا بد أَن يتأخر القياس عن الأحاديث الصحيحة حتى ما كَانَ منها خبر آحاد، وعندهم طريقة تفريع المسائل الكثيرة من أصولها، والاستدلال بالعدالة والمصلحة والاستحسان، وإلحاق الشبيه بالشبيه، وما بين الأشياء من موافقات وفروق، والوثوب إِلى المناظرة وتأليف الحجج والبراهين والأدلة، فاقتبس من ذلك أحسنه وأضافه إِلى ثروته الحجازية من اللغة والأدب أولًا، والحديث والإجماع وطريقة الحجازيين في الاستنباط ثانيًا، فألّف بينهما بشخصيته الفذّة، فأخرج مذهبه في العراق ودعا إِليه.
وتوسّع في استعمال الحديث والاستدلال به أكثر مما فعل مالك وأَبو حنيفة، وقد حَدَّ من الرأي والقياس، وضيّق سلطتهما، ولذلك كَانَ من أنصاره أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية من كبار المحدِّثين، كما أَنه كَانَ أقرب إلى نفوس الحنفية من المحدَّثين وفقهائهم، لأنَّه لم ينكر القياس جملة، بل أخذ به وقعّد له القواعد حتى عَدَلَ بعضُ فقهاء العراق عن مذهب أَبي حنيفة إلى مذهبه.
وكان الشَّافعيُّ أول من أعطى للحديث مكانته الأولى في الفقه، وأَلَّح إلحاحًا شديدًا في الاستدلال بالحديث، فكانت نظريته حدثًا تاريخيًا جعل الناس يتجهون للرجوع للحديث بعد أَن كَانَ الاتجاه قبله في التشريع نحو العمل المجمع عليه حينًا، وأقوال الصَّحابة والتابعين والرأي حينًا آخر، ومنذ ذلك الوقت أَخذ الفقه والحديث مسلكا جديدًا في المذاهب الفقهية.
* * *
1 / 19
القول القديم والقول الجديد
ولتغير البيئة والزمان والأعراف عند قدومه إلى مصر، ولظهور أدلة جديدة من السنَّة النبوية لم تصل إِليه سابقًا، ولحرص الإِمام الشَّافعيُّ ﵀ على العمل بالسنَّة النبوية الصحيحة وعدم ردها بتعللات واهية كما يفعل غيره، وتطبيقًا لأصوله وقواعده الَّتي قرّرها في التّمسك بالكتاب والسنَّة حتى أثر عنه قوله: "إِذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، وفي رواية: "إِذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول اللَّه ﷺ فقولوا بها، ودعوا ما قلته" أفتى وعمل بما توفّر لديه من الأدلة بمصر، وعدل عن بعض آرائه وفتاويه السابقة في بغداد، فسمى ما كَانَ في بغداد بـ "القول القديم" وسمى ما دوّنه بمصر بـ "القول الجديد".
القول القديم:
ما قاله بالعراق إفتًاء وتصنيفًا، ومن كتبه القديمة: "الحجّة"، و"الأمالي"، و"مجمع الكافي"، و"عين المسائل"، و"البحر المحيط".
القول الجديد:
ما قاله بمصر إفتًاء وتصنيفًا، فإنه لما قدم مصر سنة ١٩٩ هـ وأقام بها ظهرت له أدلة لم تكن حاصلة له من قبل، وبلغته أحاديث لم تبلغه حين تدوينه المذهب القديم في بغداد، فاعتمد الجديد، وعليه كتاب "الأم"، و"الإملاء"، و"البويطي"، و"مختصر المزني"، ودوّن مذهبه الجديد في مصر، وترك مذهبه القديم في بغداد. فالجديد هو المذهب الصحيح، وعليه العمل والفتوى عند الشَّافعيّة، أما القديم فإنه يعتبر مرجوعًا عنه، ولا يعمل الشَّافعية إلَّا بمسائل قليلة منه.
* * *
انتشار المذهب الشَّافعيّ في أقطار العالم
كانت مصر هي الموطن الأوَّل للمذهب الشَّافعيّ الجديد، حيث قضى الإِمام
1 / 20