وقد لقي هذا العمل أكثر مما كنت أقدر له من الارتياح والقبول عند الذين يغارون على اللغة العربية، ويهمهم جدا أن يظل كل ما يكتب فيها مستكملا شروط الفصاحة والبلاغة، وخاليا من آثار السخف والضعف. وكثيرون منهم كتبوا إلي يشكرون لي هذا الصنيع، ويستحثونني على مواصلته، ويستزيدون ما ينشر منه كل أسبوع في المجلة.
ولما عرض للمجلة ما قضى بذبول غصنها النضير المورق وأفول بدرها المنير المشرق، آسف قراؤها على احتجابها لانقطاعها عن مواصلتهم بأشهى المباحث والمطالب، وحرمانهم الاستفادة من مطالعة «تذكرة الكاتب». وألح علي غير واحد منهم في أن أكمل ما بدأته من النقد، وأنشره أخيرا في كتاب يقرب تناوله ويسهل تداوله. فجمعت كل ما عثرت عليه من الخطأ في أثناء مطالعاتي لأكثر الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية، وبعض الكتب ودواوين الشعر وغيرها، وأضفته إلى ما نشرته قبلا في «مجلة المضمار»، وأعددته للطبع بعنوانه الأصلي ومقدمته المختصرة البسيطة. وقد شغل ما سبق نشره في «المضمار» بضع عشرة صفحة من هذا الكتاب، إلى آخر الكلام عن «إيردات الحكومة ومصروفاتها».
وأول ما أوجه إليه التفات القارئ أن هذه الألفاظ والتراكيب التي انتقدتها مأخوذة كلها تقريبا من أقوال الكتاب والشعراء الذين يشار إليهم بالبنان، ولكني اجتنبت ذكر أسمائهم مخافة الاتهام بالغض منهم. فإذا طالع أحدهم كتابي هذا ووقف فيه على إصلاح بعض غلطاته، فلا تأخذنه سورة الحنق، وليذكر أني لم أحاول بما كتبته أن أعلم الكاتب شيئا يجهله، بل إنما أردت أن أذكره شيئا نسيه، ولذلك سميته: «تذكرة الكاتب». فعملي كله مسوق على سبيل التنبيه والتذكير، لا بقصد التبجح بمعرفة ما لم يعرفه غيري، ولا على نية التنقص والوقيعة؛ لأني في مقدمة من يسهو وينسى، ومعاذ الله أن أدعي لنفسي أقل شيء من العصمة التي هي لله وحده. وغايتي العظمى أن أخدم اللغة بما يعين على حفظها نقية الجوهر صفية الكوثر.
خطة الإصلاح في هذا الكتاب
ثم إني رأيت بعض الذين تقدموني في هذه الخدمة، يقتصرون في الغالب على ذكر الخطأ من غير أن يبينوا وجهه ويشفعوه بصوابه. وهو بالحقيقة نصف الإصلاح المروم، بل أقل من نصفه؛ لأن معاشر الكتاب في هذه الأيام - ولا سيما الذين لم يعل لهم في صناعة الإنشاء كعب، ولا رسخ لهم في حذاقة الكتابة قدم - يجتنون بعض الفائدة من قولك لهم: «هذه الكلمة غلط» و«ذلك التركيب خطأ»، فيتنكبون هذا ويتجنبون تلك. ولكنهم يحرزون الفائدة كلها إذا أتبعته بيان وجه الخطأ وألحقته بذكر صوابه، كأن تقول لهم مثلا: «يقولون: (صادق على الشيء) وهو خطأ؛ لأن معنى (صادق): صار صديقا. فالصواب أن يقال: (أجاز الشيء) أو (أقره) أو (أمضاه) أو (وافق عليه)». وقد بذلت جهدي في تدارك هذا النقص، فلم أشر إلى خطأ إلا أبنت سببه وقرنته بإصلاحه.
ورأيت فريقا منهم يركبون أحيانا متن الغلو في التلحين والتغليط، فيجاوزون حد التنبيه على الخطأ إلى تخطئة الصحيح وتفنيد الصواب. وبعضهم يتعمدون الجري على هذه الخطة في نقد الكتب والمقالات والقصائد، فيشوبون جمال التجرد لخدمة اللغة بعيب السعي في قضاء شهوة التشفي والنيل ممن ينتقدون كلامه. فتحريت السير في جادة القصد والإنصاف، محترزا كل الاحتراز من تخطئة شيء قبل تحقق خطأه أو اعتقادي أن خطأه راجح لصوابه. وإني مذ الآن أستغفر الله وأعتذر إلى كل كاتب، عما أنكرت عليه استعماله وهو صحيح، أو له من الصحة وجه يرجح وجه لحنه أو يعدله.
ولست أدعي أن ما جمعته في هذه التذكرة يشمل كل ما تضل في مسالكه الأفهام وتزل في مزالقه الأقلام؛ لأن هفوات اللسان وعثرات اليراع مما يذكر ويعد لا مما يحصر ويحد ما دام الكتاب، حتى أطولهم باعا وأوسعهم اطلاعا لا يملكون العصمة من خطأ الوهم وغلط النسيان المعرض لهما كل إنسان. ولكني أرجو أن أكون قد توقفت إلى جمع أكبر جانب من الكلمات والتعابير التي يكثر استعمالنا لها على خلاف الصواب. وقد ألحقتها بفهرس يتضمن بيانها مرتبة على حروف المعجم، تسهيلا لمراجعة كل ما تمس الحاجة إليه.
لماذا يكثر وقوع الخطأ؟
وقد يقول بعضهم: لماذا يكثر وقوع هذه الغلطات حتى من الذين استوفوا قسطهم من تعلم اللغة والتعمق في معرفة قواعدها، وهم لا ينفكون منذ وقت طويل يواصلون المطالعة ويزاولون الكتابة؟ والجواب: أن عوامل استدراج الكتاب إلى الخطأ من حيث لا يدرون كثيرة، أهمها أربعة:
أولا:
Bilinmeyen sayfa