فسلطان الطبيعة كان عظيما في كل أرض، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الأرض التي التقى فيها الشمال والجنوب، والتي غنت للطبيعة وقدستها وحفظت من غنائها لها وتقديسها إياها ثمالة شائعة في فنونها وعباداتها إلى اليوم.
وسلطان الكنيسة كان عظيما في كل أمة، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الأمة التي قامت عليها أركان «الدولة المقدسة» وسيطرت عليها الكهانة حتى دفعت بها إلى ثورة الإصلاح.
وسلطان القلعة كان عظيما في كل بلد، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في البلاد التي تقسمها الأمراء دويلات دويلات، وانقسمت فيها الدويلات أقاليم أقاليم، وطال فيها عهد الإقطاع إلى القرن العشرين، وأصبح فيها توقير النبلاء دينا إلى جانب الدين؛ حتى شكا نبلاء سكسونية مرة من تعميد أبنائهم بالماء الذي يعمد به أبناء الوضعاء!
وسلطان المدينة كان عظيما في كل دولة، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الدولة التي اشتهرت فيها «المدن الحرة» واستقلت فيها بالمصالح والنظم والدساتير.
وثورة الفرد على المدينة كانت معرضا للدراسة النفسية في كل بيئة، ولكنها لم تكن قط أغنى بمسائل البحث مما كانت في البلاد التي خرجت فيها النزعة الفردية مزيجا من ثورة الطبيعة وثورة الكنيسة وثورة القلعة وثورة المدينة وثورة الأفراد، وقلما امتزجت ثورات خمس في نفس واحدة إلا بدت للعين كأنها ضرب من السكون!
وبحق كان «هيجل» فيلسوفا ألمانيا ينظر إلى العالم من خلال النفس الألمانية، وبحق فسر التاريخ كله بالصراع الدائم بين فكرتين تتصارعان ما تكاد إحداهما تغلب الأخرى حتى تتصدى لها فكرة جديدة تنازعها أسلاب الغلب وتأبى عليها قرار الراحة؛ فقد كانت النفس الألمانية ميدانا بقيت فيه بقية من كل صراع وغنيمة من كل غالب وكل مغلوب، وانتهت بها النهاية في هذه الصفة إلى إنسان جامع للثورات التي هي أشبه بالسكون، أو للسكون الذي هو أشبه بالثورات، ونعني به «جيتي» شاعر الألمان الكبير ومحور الكلام في هذه الرسالة؛ فهو من ثم الألماني في الألمانيين، وهو سليل الكنيسة الثائرة على الطبيعة، والقلعة الثائرة على الكنيسة، والمدينة الثائرة على القلعة، والفرد الثائر على المدينة!
النفس الألمانية
النفس الإنسانية لغز خفي على الرغم منها، ولكنك إذا شارفت النفس الألمانية خيل إليك أنها لغز خفي باختيارها؛ لأنها تحب الألغاز والخفايا وتعيش فيها! وما من نقيضة في تلك النفس العجيبة تستعصي على التفسير إلا كان تفسيرها القريب في هذه الحقيقة الشاملة ... فالعلم بهذه الحقيقة زاد لا يستغني عنه المسافر في مجاهل الحياة الألمانية، من باطنة وظاهرة، ومن قومية وفردية، ومن قديمة وحديثة.
اشتهر الألمان بالتدين والفلسفة والسحر والموسيقى والأناشيد والأحلام، وكل سمة من هذه السمات راجعة في قرارتها إلى الإيمان بالغيب والولع بالأسرار.
ولك أن تقول: إن التدين والفلسفة والسحر إخوة ثلاثة يختلفون في العرق والحسن والطهارة، فالغيب الذي يبحث عنه التدين هو سر القلب والضمير، والغيب الذي تبحث عنه الفلسفة هو سر الفكر والبصيرة، والغيب الذي يبحث عنه السحر هو سر القوى الجاهلة والغرائز العمياء، ولكنها كلها لا تولد إلا في مهد الخفايا ولا توجد إلا حيث يكون التصديق بالأسرار.
Bilinmeyen sayfa