كلا! لأن قصة فرتر نفسها في بساطتها وصفائها تشبه الآثار الإغريقية ولا تمت بآصرة قريبة إلى المدرسة المجازية.
ثم إن جيتي كان لوثريا في مذهبه شكوكيا في عقيدته؛ فحماسته للكنيسة الكاثوليكية تناقض غير معقول، فهل معنى ذلك أنه يناقض المجازيين في كل شيء أو في كل طور من أطواره؟ كلا! فإن الألغاز والأسرار تتردد في الجزء الثاني من فوست وهو الجزء الذي كتبه في دوره الأخير، وتتردد كذلك في رواية «ولهلم ميستر» ومعظمها من آثار أيامه الوسطى.
وقد نظم جيتي ديوانه الشرقي في أيامه الأخيرة، وقد رأينا أن المجازيين كانوا يحبون الموضوعات الشرقية، فهل معنى ذلك أن الشاعر آمن في شيخوخته بالمدرسة المجازية التي استهوته أول شبابه.
كلا! فما تناول جيتي موضوعات الشرق إلا كما يتناولها طالب الحس لا طالب الأسرار، فهو بالإغريق هنا أشبه منه بالمجازيين، وكل ما في الديوان من التصوف الذي يحكي به السعدي وحافظا وأمثالهما لا يخرج به عن هذا النطاق.
وقد امتلأ الجزء الثاني من فوست بأساطير الإغريق ومناظر الإغريق، فهل معنى ذلك أنه خلو من خفايا المجازيين ومأثورات الدين؟
كلا! فربما كان هذا الجزء أدخل في أساليب المدرسة المجازية من أي كتاب كتبه جيتي في إبان الشباب.
وقس على ذلك كل ما يقال عن آثار جيتي ومؤثراته وأطواره وأقسام حياته.
ولعله قطع بالقول الفصل في هذا الباب حين قال عن مآخذه ومصادر أدبه يرد على من يتهمونه بالسرقة والاقتباس: «هذا مضحك! فعلى هذا النحو يجوز لنا أن نسأل الرجل القوي عن الثيران والغنم والخنازير التي أكلها فأعطته القوة! وصحيح أننا نولد وفينا كفاءاتنا ولكننا مدينون في تكويننا لألوف المؤثرات التي تحتويها هذه الدنيا الواسعة التي نأخذ منها ما يوائمنا ويدخل في قدرتنا، وإنني لمدين بالكثير للإغريق والفرنسيين ومدين بما لا حد له لشكسبير وسترن وجولد سمث، ولكنني إذا قلت هذا فليس معناه أنني أكشف للناس عن ينابيع ثقافتي؛ إذ هذا عمل لا آخر له ولا طائل تحته، وكفى المرء أن يكون ذا نفس تحب الحق وتقبسه حيثما كان.»
والنقاد يخطئون في تقدير المشاهد التي رآها جيتي وأثرت في تأليفه كما يخطئون في تقدير المصادر التي رجع إليها واقتبس منها: مثال ذلك رحلتاه إلى إيطاليا اللتان زعم النقاد ما زعموا عن أثرهما في مؤلفاته، فلا خلاف في أن آثار إيطاليا وبلاد اليونان قد زادته علما بالفن القديم وفن النهضة وغيرت نظرته إلى أدب الشمال وأدب الجنوب. ولكن هل معنى ذلك أن زيارة تلك البلاد أفادته في إنتاجه الذهني تلك الفوائد التي يزعمونها؟ كلا بل لعلها بلبلت أفكاره وشغلته بالبحث عن القواعد والنظريات فكلفته التوفيق زمنا بين آرائه وأعماله، ولم تكن هذه الزيارة لازمة لإنشاء قصائده أو أشجانه الرومانية التي اشتهرت بين أشعاره الغنائية، فقد كان في وسعه أن ينظمها وهو في داره على مقربة من زوجه التي أوحت إليه معظم معانيها، فلولا نفحات عارضة لما أنتجت الرحلتان معا غير التفكير والمقارنة، ولولا تسديد شيلر إياه وتوجيهه إلى العمل بعد ذلك لطال بقاؤه في تلك المتاهة.
فصفوة القول فيه أنه كان صاحب عبقرية يقظى تتلقى كل ما يصادفها ولا يعنيها مما تلقاه إلا أن تلمس الحقيقة المباشرة وتتملى الحياة الجميلة، واقتصاره على لمس الحقيقة المباشرة بغير ألفاف ولا مراسم، وعلى تملي الحياة الجميلة بغير خوف ولا تعسف، هو هو الروح الإغريقي الذي لزمه طول حياته في جميع مؤلفاته، فحتى مقاربته للألغاز الدينية ومخلفات القرون الوسطى إنما هي مقاربة الإغريقي القديم لو عاد إلى الحياة ينظر في القرن الثامن عشر إلى بقايا تلك الألغاز والمخلفات. ولكن ينبغي أن نذكر ولا ننسى أبدا أن جيتي لا يكون جيتي حقا إلا في عالم الفن الإغريقي دون الفلسفة الإغريقية، فإذا دخل عالم الفلسفة فربما تركها تتعمق فيه لتبرز في ثوب الفن والجمال، أما هو فلا يتعمق فيها بحال ولا يرضى جهد التعمق في أي مجال. •••
Bilinmeyen sayfa